الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المستحيل بضرب مثل له، دون أن يذكره بعينه، وجهه أن الله قال:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، يعني: فافعل، بدلًا من أن يقول: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإنهم لن يؤمنوا، ولأن هذا هو المتوقع، لكن الله تعالى ضرب مثلًا حتى يكون مقنعًا للرسول عليه الصلاة والسلام ولغيره أيضًا.
الفائدة الرابعة: طلب الشواهد لصحة ما يقول الإنسان: قد يكون من الأرض، وقد يكون من السماء؛ لأن الله إنما قال له: ذلك لا لأجل أن يلجأ، ولكن من أجل أن يأتي بما يشهد له، ولهذا قال:{فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} .
الفائدة الخامسة: أنه
لا بد لكل نبي من آية
وهذا من حكمة الله عز وجل، أرأيت لو جاء رجل في غير هذه الأمة، وادعى أنه رسول، وقال: أنا رسول ومنهجي كذا، وعقيدتي كذا، وعبادتي كذا، فأطيعوني بدون أي آية، هل يكون هذا من الحكمة؛ ليس من الحكمة، ومن كذّبه فهو معذور، وإلا لكان كل كاذب دجال يدير أنه نبي، وربما يدير أنه رب، فالآيات فيها نصر للرسل، ورحمة بالمرسل إليهم حتى يؤمنوا عن يقين.
الفائدة السادسة: أن الهداية والضلالة بيد الله عز وجل لقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} .
الفائدة السابعة: إثبات مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر وهي المشيئة، وأن الله تعالى قد شاء جميع أفعال عباده، و
مراتب القدر
أربعة، وهي:(العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق) مجموعة في قول الشاعر:
عِلْمٌ كِتَابَةُ مولانا مَشِيْئَتُهُ
…
وخَلْقُهُ وَهْوَ إيجادٌ وتكوينُ
الفائدة الثامنة: حكمة الله عز وجل في جعل الناس صنفين: مؤمنين وكافرين، وهذا أمر لا بد منه؛ لأنه لولا الكفر لم يعرف فضل الإيمان، ولولا الإيمانُ لم يعرف قبح الكفر، كما أنه لولا الحلو ما عرف المر، وهذا واضح، فإن لم يكن هناك أشياء متضادة ما عرف فضل الأشياء المحمودة، ثم إنه لولا اختلاف الناس في الإيمان والكفر ما قامت راية الجهاد؛ لأنهم كلهم إما مؤمنون وإما كافرون، فمن يُجَاهِدُ؟ فلولا هذا الاختلاف ما قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس سيكونون كلهم إما على منكر وإما على معروف، لولا هذا الاختلاف ما قامت الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين كلهم لم يحتاجوا إلى دعوة، وإن كانوا كافرين ما دعوا، إذاً فمن الحكمة أن الله جعل الخلق صنفين.
لكن قد يقول قائل: إذا كان أحد الناس من الصنف الآخر الكافر أفلا يكون في هذا ظلم له؟ وهذا قد يرد على النفس، ما دمنا نقول: إن الكفر بمشيئة الله، وأن الله عز وجل بحكمته قَسَّمَ الناس إلى قسمين، أفلا يقول الكافر إن في هذا ظلمًا لي؟
فالجواب: لا، كما قال بعض أهل السُّنَّة وهو يجادل معتزليًا حين قال له: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى عليَّ الردى أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(1)
.
(1)
جرى ذلك في مناظرة بين أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، وذكرها تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية (4/ 261 - 262)، والتفتازاني مختصرًا في شرح المقاصد (4/ 275)، والطبري في تاريخه (8/ 125).
ونقول - أيضًا - لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى؛ لأن العاصي يقدم على المعصية باختياره، من غير أن يعلم أن الله تعالى قَدَّرها عليه، إذ لا يعلم أحد بقدر الله إلا بعد وقوع مقدوره {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، فكيف يصح الاحتجاج بحجة لا يعلمها المحتج حين إقدامه على ما اعتذر بها عنه، وقد أبطل الله تعالى هذه الحجة بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام: 148].
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لماذا لم تُقْدِم على الطاعة مقدرًا أن الله تعالى قد كتبها لك، فإنه لا فرق بينها وبين المعصية في الجهل بالمقدور قبل صدور الفعل منك! ولهذا لمَّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة "بأن كل واحد قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، قالوا: أفلا نتكل وناع العمل؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له"
(1)
.
ونقول للعاصي المحتج بالقدر: لو كنت تريد السفر إلى مكان معين وكان له طريقان أخبرك صادق عنهما، أحدهما مخوف صعب، والثاني آمن سهل، فإنك ستسلك الثاني، ولا يمكن أن تسلك الأول وتقول إنه مقدَّر على وإلَّا عدَّك الناس في قسم المجانين.
(1)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} (4945)، ومسلم، كتاب القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (2647).
ونقول له أيضًا: إذا أُصبت بمرض جسمي فإنك تطرق باب كل طبيب لعلاجك، وتصبر على ما ينالك من ألم عملية الجراحة وعلى مداواة الداء، فلماذا لا تفعل مثل ذلك في مرض قلبك بالمعاصي؟
* قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)} [الأنعام: 36].
قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} يستجيب ويجيب معناهما واحد، والجملة فيها حصر، طريقه {إِنَّمَا} ، يعني: ما يستجيب لدعوتك يا محمد إلا الذين يسمعون، والمراد بالسماع هنا سماع الانقياد والقبول، وليس سماع الإدراك؛ لأن سماع الإدراك يدخل فيه البر والفاجر والمؤمن والكافر، ويدل على التفريق بين سماع القبول والإذعان، وسماع الإدراك قول الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)} [الأنفال: 21]، أي: لا يستجيبون وينقادون.
قوله: {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} {الَّذِينَ} فاعلُ {يَسْتَجِيبُ} .
قوله: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} هذه جملة مستأنفة لا يصح أن تعطف على ما سبق، {وَالْمَوْتَى} جمع ميت، وهل المراد موتى القلوب أو موتى الأجسام؛ في ذلك قولان للعلماء، بعضهم قال:{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} ، أي: موتى القلوب وهم الكفار يبعثهم الله فيجازيهم، وبعضهم قال: الموتى موتى الأجساد، يبعثهم الله ردًا على الذين ينكرون البعث، وإذا كانت الآية تحتمل معنيين ليس أحدهما أظهر من الآخر ولا منافاة بينهما فالقاعدة أن تحمل