الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} نهيٌ مؤكد بنون التوكيد، يعني: ينهاه الله عز وجل نهيًا مؤكدًا، فأنت يا محمد لست جاهلًا حتى يكبر عليك إعراضهم، وحتى تحزن لعدم إيمانهم؛ لأن ذلك من حكمة الله عز وجل، والجهل نوعان: جهل سفاهة، وجهل انتفاء علم، والمراد هنا هو النوع الثاني، ومثال الجهل الذي هو السفاهة قول الله عز وجل:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، أي: بسفاهة وليس المراد بالجهالة انتفاء العلم؛ لأن انتفاء العلم يرتفع به الحرج والإثم، إذًا قوله:{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، أي: من ذوي الجهل الذين لا يعرفون سنن الله عز وجل في خلقه.
فإن قال قائل: هل يلزم من هذا النهي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعل الجاهلين؟
الجواب: لا، كما في قوله تعالى:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، وقال عز وجل:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)} [يونس: 94]، فلا يلزم من هذا الشرط أن يقع المشروط.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه إعراض المدعوين إلى الإسلام، وهل هذا انتصار لنفسه، أم رغبة في هداية عباد الله؟ الثاني بلا شك، وهذا من تمام نصحه صلى الله عليه وسلم للأمة عليه الصلاة والسلام.
الفائدة الثانية: أن الإنسان ينبغي له ألا يهون عليه إعراض الناس، بل يكون كبيرًا في نفسه، لكن لا تعصبًا لما هو عليه، ولكن من أجل مصلحة الآخرين، فإذا رأينا مثلًا رجلًا عالمًا عابدًا كريمًا، لكنه في الأسماء والصفات على غير ما يرام، فهل يشق علينا هذا أو لا؟ لا شكَّ أنَّه يشق علينا هذا، وإذا نظرنا إليه بعين القدر رحمناه، وقلنا: سبحان الله! كيف يكون هذا الرجل الففيضل على عقيدة غير سليمة؛ نرحمه حقيقة؛ لأنه محروم، لكن إذا نظرنا إليه بعين الشرع فإننا نجادله، فإن رجع إلى الحق فهذا المطلوب، وإن لم يرجع فإننا نفعل به كما قال الشافعي رحمه الله:"حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة، وأقبل على علم الكلام"
(1)
، وكذلك لو زنا رجل وهو من علية القوم ومن أهل الخير، إذا نظرنا إليه بعين القدر رحمناه ورققنا له، كيف يصدر الزنا من هذا؟ لكن إذا نظرنا إليه بعين الشرع أقمنا عليه الحد ولا نرأف به، كما قال عز وجل:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} ، لم يقل في قدر الله بل قال:{فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]، ولهذا جاء في الحديث - وإن كان فيه نظر -:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود"
(2)
.
الفائدة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى قد يبين الشيء
(1)
ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 209).
(2)
رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب: في الحد يشفع فيه (4375)، والإمام أحمد في مسنده (24946).