الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة العاشرة: قوة عظمة الله وسلطانه عز وجل، حيث إنه لا مبدل لكلماته، أما غير الله فمهما بلغ من السلطان والقدرة والقوة والجنود، فإن كلماته تبدل.
فإن قال قائل: وما تقولون في النسخ، أليس فيه تبديل؟
قلنا: بلى، فيه تبديل، لكن مَنْ بدله؟ إنه الله عز وجل وكلماته الناسخة لا مبدل لها، فلا يمكن أن نلغي الناسخة؛ لأنها كلمات الله عز وجل، قال الله عز وجل:{وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} .
الفائدة الحادية عشرة: إثبات أن الله يتكلم، وهذا قد مُلئ منه القرآن، وقد جاءت الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] مؤكدة ذلك؛ لأن {تَكْلِيمًا} مصدرَ مؤكَّد، و
المصدر المؤكد ينفي احتمال المجاز
.
وهل كلمات الله عز وجل بحروف، أم بغير حروف، وبأصوات، أم بغير أصوات؟
الجواب: بأصوات، فالله عز وجل يتكلم بصوتٍ مسموعٍ، ولا يمكن أن يكون الكلام معنىً قائمًا في النفس؛ لأن المعنى القائم في النفس لا يسمى كلامًا، بل يسمى حديثَ نفس، فالكلام ما نطق به اللسان وليس ما حل بالجنان، ولهذا إذا أراد الله عز وجل حديث النفس عبر عنه كما في قوله:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8].
وقد خالف في الكلام طوائفُ - كما بيناه في شرح النونية -، من أبينها وأبرزها: مذهب المعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله أصواتٌ مخلوقةٌ، خلق الله أصواتًا كما خلق أصوات الرعد
والصواعق، فهي مخلوقة وبائنة عن الله، وإنما نسبت إلى الله تشريفًا لها، كما في قوله:(ناقة الله، وبيت الله، ومساجد الله) وما أشبه ذلك.
الطائفة الثانية: الأشاعرة الذين يدَّعون أنهم هم الذين جادلوا المعتزلة، قالوا: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه لا يسمع، وليس له صوت، ولا حروف، ولكنه خلق أصواتًا وحروفًا لتعبر عما في نفسه.
بالله! أهناك فرق بين مذهبهم ومذهب المعتزلة؟ لا فرق، كما قال بعض علمائهم: إنه لا فرق بيننا وبين مذهب المعتزلة؛ لأننا متفقون على أن ما في هذا المصحف مخلوق، لكن المعتزلة، قالوا: هو مخلوق حقيقة، وهو كلام الله حقيقة، وأولئك الأشعرية قالوا: ليس كلام الله حقيقة، فكلام الله هو القائم بنفسه، وهذا عبارة عن كلام الله، فأيهما أقرب إلى الصواب من حيث القواعد؟ المعتزلة أقرب إلى الصواب، أما أهل الحق السلف وأتباعهم من الأئمة فقالوا: إن الله عز وجل نفسه يتكلم بكلام مسموع بحرف مرتب، ولا يعقل الكلام إلا على هذا الوجه.
فإذا قال قائل: هل كل ما خلقه الله قليلًا، أو كثيرًا يكون بكلمة (كن)؟
الجواب: ظاهر النصوص أن كل ما خلقه الله يقول له: كن، ولهذا كانت كلمات الله لا نفاد لها، قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، ويحتمل أنه عز وجل قال:
(كن) في أول الأمر، وصار المخاطب يقوم بما أمر به، كما قال:"للقلم اكتب ما هو كائن"
(1)
، فكتب ما هو كائن.
الفائدة الثانية عشرة: إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، كما ثبتت رسالاتُ مَن قبله لقوله:{وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} .
الفائدة الثالثة عشرة: تأكيد رسالة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، وذلك بالقسم و (اللام) و (قد).
الفائدة الرابعة عشرة: أن القرآن الكريم يُراعى فيه فواصل الآيات لقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} ، وقال في آية أخرى:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، ومراعاة الفواصل ظاهر في القرآن الكريم، انظر إلى سورة طه، وانظر إلى سورة القمر:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} حتى قال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)} [القمر: 13] دسر: جمع دسار، وهو المسمار كل ذلك لأجل أن تتناسب السورة في فواصل الآيات، وذلك؛ لأن هذا من البلاغة، ولأن هذا مما تصغي له الأسماع، ولأن ذلك مما تطرب له القلوب، فهذه ثلاث فوائد لتناسب الآيات الكريمة.
الفائدة الخامسة عشرة: أنه قد يكون فيها إشارة إلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل لقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} ، يعني: الذين أرسلوا، فإن صح أخذ هذه الفائدة من هذه الآية، وإلا فهو خاتم النبيين، وهذا أمر مجمع عليه، نص عليه القرآن
(1)
أخرجه أحمد (5/ 317)، رقم (22757)؟ والترمذي: كتاب القدر باب (17)، وقال: حديث غريب.
الكريم في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] اللهم صلِّ وسلم عليه.
* قال الله عز وجل {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} [الأنعام: 35].
قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} لا شك أن (كان) تحتاج إلى اسم وخبر، و (كبُرَ) تحتاج إلى فاعل، فهل نقول إن اسم كان ضمير الشأن مستتر، و {كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} خبرها، أو نقول إن:{إِعْرَاضُهُمْ} تنازع فيه (كان) و (كبر)، ف (كان) يطلبه اسمًا و (كبر) يطلبه فاعلًا، يحتمل هذا وهذا، لكن الأول أوجه، والمعنى: فإن كان الشأن في هذا الأمر أنه كبر عليك إعراضهم، أي: عَظُمَ عليك إعراضهم، وذلك بما كان في نفسك من الحزن والأسى فحاول أن يهتدوا على يدك {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، يعني: فافعل، ولكن ليس عليك إلا الصبر.
وجملة {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أتى بعدها جملة شرطية أخرى {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} ، وهذا من تداخل الجملتين الشرطيتين، فتكون الجملة الثانية في محل جزم جواب الجملة الأولى، وهذا يوجد في القرآن وفي كلام العرب، أما في القرآن كهذه الآية وكما في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)} [الواقعة: 86، 87]، فهذا شرط داخل شرط، ومنه في قول شاعر العرب
(1)
:
إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِنَا إِنْ تُذْعَرُوا تَجِدُوا
…
مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانَها كَرَمُ
فِعْلُ الشرط الأول، ثم الثاني قَيْدٌ فيه، و (تجدوا) جواب الشرط.
المهم أن قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} جملة شرطية في ضمن جملة شرطية، الجملة الأولى:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} ، والثانية:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} ، وجواب الجملة الثانية محذوف تقديره:(فافعل) ولن يمكنك ذلك، فإذا كان لا يمكنك فإنه لا يمكنك أن تأتي بالآيات التي اقترحوها، وإذا كان لا يمكنك فلا تحزن عليهم؛ لأن الإنسان لا يحزن إلَّا على شيء يمكنه أن يفعله ولم يفعله.
وقوله: {كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} ، أي: عظم عليك وشق عليك.
وقوله: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} ، أي: قدرت على أن تبتغي نفقًا في الأرض، أي: تطلب نفقًا في الأرض، والنفق هو السرداب يحفر في الأرض ويدخل الإنسان فيه ليصل إلى أعماق الأرض، {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ} تبتغي سلمًا، أي: مصعدًا تصعد به إلى الجو {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} ، فبيَّن الله عز وجل لهم النزول والارتفاع، فلا يستطيع أن ينزل إلى نفق في الأرض فيستخرج الآيات، ولا أن يصعد إلى السماء فيأتي بالآيات، والمعنى واضح.
(1)
البيت في "الخزانة"(11/ 358) ولا يعرف قائله، وكذلك ذكره الأشموني في شرحه الألفية (3/ 596)، والسيوطي في الهمع (2/ 63).
فإذا كان لا يمكنك هذا وَهو معلوم للجميع فإنه لا يمكنك أن تأتي بما اقترحوه من الآيات، كما قال عز وجل في آية أخرى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)} [العنكبوت: 50].
قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (لو) شرطية، وفعل الشرط (شاء)، وجوابه {لَجَمَعَهُمْ} ، لكن أين المفعول في (شاء)، هل نقدِّره مطابقًا للفظ الجواب، أو نقدره بمعنى آخر؟ قَدَّره بعضهم بقوله: لو شاء الله هدايتهم لجمعهم على الهدى، وقدره آخرون بقولهم: ولو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم على الهدى، لكن أيهما أنسب الثاني أم الأول؟
الجواب: الثاني أنسب، وهو أن نقدر المحذوف مطابقًا للموجود، أي: ولو شاء الله أن يجمعهم على الهدى، وجَمْعُهم على الهدى أعظم من مجرد الهداية؛ لأنهم قد يهتدون ولا يجتمعون، وينبغي أن نطرد هذا في كل ما كان مشابهًا، كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] فماذا نُقدِّر؟ نُقَدِّر ولو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا فتقدير الشيء مطابقًا للموجود أولى من تقدير شيء غير مطابق، ولا نعلم هل أراده الله أم لا، فما بين أيدينا هو المتعين.
إذًا ولو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]، أي: على دين الإسلام، وكقوله:{لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ لأن الأمر كله بيده عز وجل.