الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية عشر: أنه يجب على أمته صلى الله عليه وسلم أن يحبوه
قال اللَّه- تعالى-: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [ (1) ]، قال القاضي عياض: يكفي بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم إذ قرّع تعالى من كان ماله، وأهله، وولده، أحب إليه من اللَّه ورسوله، وأوعدهم بقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثم [فسقهم][ (2) ] بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده اللَّه [ (3) ] .
[ (1) ] التوبة: 24.
[ (2) ] في (الأصل) : «خشعهم» وصوبناها من (الشفا) .
[ (3) ](الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 2/ 14- 15، الباب الثاني في لزوم محبته صلى الله عليه وسلم. قال الملا على القاري في (شرح الشفا) : واعلم أن المراد بالحب هنا ليس الحب الطبيعي التابع لهوى النفس، فإن محبة الإنسان لنفسه من حيث الطبع أشد من محبة غيره، وكذا محبة ولده ووالده أشد من محبة غيرهما، وهذا الحب ليس بداخل تحت اختيار الشخص، بل خارج عن حد الاستطاعة، فلا مؤاخذة به لقوله- تعالى-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بل المراد الحب العقلي الاختياري، الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل رجحانه، وإن كان على خلاف الطبع، ألا ترى أن المريض يكره الدواء المر بطبعه، ومع ذلك يميل إليه باختياره ويهوى تناوله بمقتضى عقله، لما علم أو ظنّ أن صلاحه فيه؟.
وكذلك المؤمن إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح دينه، ودنياه، وآخرته، وعقباه، وتيقن أنه صلى الله عليه وسلم أشفق الناس عليه وألطفهم إليه، وحينئذ يرجح جانب أمره بمقتضى عقله على أمر غيره، وهذا أول درجات الإيمان.
وأما كماله: فهو أن يصير طبعه تابعا لعقله في حبه صلى الله عليه وسلم. قيل: ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصر سنته، والذب عن شريعته، والاقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم. (شرح الشفا) : 2/ 34.
خرّج مسلم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن علية، وعبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد، وفي حديث عبد الوارث: الرجل، حتى أكون أحب إليه من أهله، وماله، والناس أجمعين.
وخرّج من حديث شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين [ (2) ] .
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 2/ 374- 375، كتاب الإيمان، باب (16) وجوب محبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل، والولد، والوالد، والناس أجمعين، وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة، حديث رقم (69) .
[ (2) ](المرجع السابق) حديث رقم (70) . قال الإمام أبو سليمان الخطابي: لم يرد به حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان نفسه طبع، ولا سبيل إلى قلبه. قال: فمعناه: لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك.
هذا كلام الخطابيّ.
وقال ابن بطال، والقاضي عياض، وغيرهما- رحمة اللَّه عليهم-: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام، كمحبة الوالد، ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع أصناف المحبة في محبته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن بطال- رحمه الله: ومعنى الحديث: أن كل من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار، وهدينا من الضلال.
قال القاضي عياض- رحمه الله: ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمنى حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. قال: وإذا تبين ما ذكرناه، تبين أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد، وولد، ومحسن، ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه، فليس بمؤمن، هذا كلام القاضي عياض- رحمه الله واللَّه تبارك وتعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) .
وخرّج البخاريّ من حديث ابن علية، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين [ (1) ] .
ذكره في باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وخرّج فيه من طريق شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: والّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده [ (2) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 1/ 80، كتاب الإيمان، باب (8) حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حديث رقم (15) .
[ (2) ](المرجع السابق) : حديث رقم (14) ، وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما، على وجوهه المختلف حالا ومالا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الّذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة، وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبديّ، في النعيم السرمديّ، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره. لأن النفع الّذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه.
ولا شك أن حظ الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، واللَّه الموفق.
وقال القرطبيّ: كل من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحد الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات، محجوبا في الغفلات، أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته، بحيث لا يؤثرها على أهله، وولده، وماله، ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما
وخرّج في كتاب الأيمان والنذور [ (1) ] من طريق ابن وهب قال: أخبرني حيوة قال: حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد اللَّه بن هشام، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال عمر: يا رسول اللَّه، لأنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والّذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن واللَّه لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر.
وذكره أيضا بهذا الإسناد في مناقب عمر [ (2) ] ، وفي كتاب الاستئذان [ (3) ]، وانتهى منه إلى قوله: بيد عمر بن الخطاب.
وخرّج البخاريّ ومسلم من حديث عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان اللَّه ورسوله أحب عليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا
[ () ] ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، واللَّه المستعان. (فتح الباري) .
[ (1) ](فتح الباري) : 11/ 641- 642، كتاب الإيمان والنذور، باب (3) كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم؟
وقال سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده» ،
وقال أبو قتادة: قال أبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم: لاها اللَّه إذا. يقال: واللَّه، باللَّه، وتاللَّه، حديث رقم (6632) .
قال الخطابيّ: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد- عليه السلام حب الاختيار، إذا لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه.
قال الحافظ: فعلى هذا فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله صلى الله عليه وسلم:«الآن يا عمر» أي الآن عرفت فنطقت بما يحب. (فتح الباري) .
[ (2) ](فتح الباري) : 7/ 53، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشيّ العدويّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-، حديث رقم (3694) .
[ (3) ](فتح الباري) : 11/ 64، كتاب الاستئذان، باب (27) المصافحة، حديث رقم (6264) .
يحبه إلا للَّه، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه، كما يكره أن يقذف في النار [ (1) ] .
وقال البخاريّ [ (2) ] : أن يكون اللَّه ورسوله، ولم يقل: بعد أن أنقذه اللَّه منه.
وأخرجاه من حديث شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان، من كان يحب المرء لا يحبه إلا للَّه، ومن كان اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواها، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه اللَّه منه [ (3) ] .
وقال البخاريّ: وجد حلاوة الإيمان، ومن كان اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا اللَّه، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه اللَّه كما يكره أن يلقى في النار.
ترجم عليه باب من كره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يلقى في النار، في كتاب الإيمان [ (4) ] .
وخرّجه في كتاب الأدب، في باب الحب في اللَّه من حديث شعبة [ (5) ] ، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يجد أحد حلاوة
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 2/ 372، كتاب الإيمان، باب (15) بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (67) .
[ (2) ](فتح الباري) : 1/ 82، باب (9) حلاوة الإيمان، حديث رقم (16) .
[ (3) ](مسلم بشرح النووي) : 2/ 373، كتاب الإيمان، باب (15) بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، حديث رقم (68) .
[ (4) ](فتح الباري) : 1/ 98، باب (14) ، حديث رقم (21) .
[ (5) ](فتح الباري) : 10/ 567- 568، كتاب الأدب، باب (42) الحب في اللَّه، حديث رقم (6041) ، وأخرجه أيضا في كتاب الإكراه، باب (1) من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، حديث رقم (6941) .
قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان
…
»
هذا حديث عظيم، أصل من أصول الإسلام، قال العلماء- رحمهم اللَّه تعالى-: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ
الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا اللَّه، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه اللَّه، وحتى يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ولمسلم من حديث النضر بن شميل قال: حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنحو حديثهم غير أنه قال من رجع يهوديا أو
[ () ] الطاعات، وتحمل المشقات، في رضي اللَّه- عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا ومحبة العبد ربه- سبحانه وتعالى بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي- رحمه الله: هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم، ذاق طعم الإيمان، من رضي باللَّه ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وذلك أنه لا يصح المحبة للَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة، وحب الآدميّ في اللَّه ورسوله، وكراهة الرجوع إلى الكفر، إلا لمن قوى بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، وهذا الّذي وجد حلاوته.
قال: والحب في اللَّه ثمرات حب اللَّه، قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب سبحانه، فيحب ما أخب، ويكره ما كره. واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف إلا في اللفظ، وبالجملة: أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة، والصوت، والطعام، ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين، والعلماء، وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه، ودفعه المضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال المظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسائه إلى جميع المسلمين، بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد.
وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق اللَّه- تعالى-، فإن الخير كله منه- سبحانه وتعالى.
قال مالك وغيره: المحبة في اللَّه من واجبات الإسلام، هذا كلام القاضي- رحمه الله. واما قوله صلى الله عليه وسلم: يعود أو يرجع، فمعناه يصير، وقد جاء العود، والرجوع بمعنى الصيرورة.
(شرح النووي) .
نصرانيا، وقال سهل بن عبد اللَّه: من لم ير ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال، ويرى نفسه في ملكه صلى الله عليه وسلم لا يذوق حلاوة سنته
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.
وخرّج البخاريّ من حديث شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المرء مع من أحب [ (1) ] .
وخرّجاه من حديث جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه كيف ترى رجلا؟ [ (2) ] .
وقال البخاريّ: كيف تقول في رجل أحب قوما، ولم يلحق بهم؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب [ (3) ] .
وخرّج أبو داود من حديث يونس بن عبيد، عن ثابت، عن أنس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: ما رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بشيء أشد منه، قال رجل: يا رسول اللَّه الرجل يحب العمل من الخير يعمل به، ولا يعمل مثله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب.
ولمسلم [ (4) ] من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن أعرابيا قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟ قال: أحب اللَّه ورسوله، قال: أنت مع من أحببت.
وخرّجه البخاريّ [ (5) ] من طرق.
وقد أجمع الحافظ أبو نعيم طرق هذا الحديث، وسماه كتاب (المحبين مع المحبوبين) ، عدّ الصحابة فيه نحو العشرين، وقد قال بعض الحفاظ
قوله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب،
أو ما هذا معناه
[ (1) ] أخرجه البخاريّ في الأدب، باب علامة حب اللَّه عز وجل، ومسلم في البر والصلة، باب المرء مع من أحب، حديث رقم (2640) ، (2641) والترمذيّ في الزهد، باب ما جاء أن المرء مع من أحب، وإسناده حسن، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
[ (2) ] راجع التعليق السابق.
[ (3) ] راجع التعليق السابق.
[ (4) ](جامع الأصول) : 6/ 555- 557، حديث رقم (4785) .
[ (5) ] راجع التعليق السابق.
مشهور جدا يكاد يبلغ درجة التواتر، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو موسي الأشعريّ، وعليّ بن أبي طالب، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو ذر الغفاريّ، وصفوان بن عسال، والبراء بن عازب، وأبو أمامة الباهليّ، وأبو هريرة، ومعاذ بن جبل، وأبو قتادة الأنصاري، وعبادة الصامت، وجابر بن عبد اللَّه، وأم المؤمنين عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال مؤلفه: فانظر ما أعظم أجر محبة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إذ كل محب مع محبوبه، وانظر إلى سيرة السلف في محبته صلى الله عليه وسلم كيف كانت؟ فعن عمرو بن العاص- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال: ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول اللَّه. وعن عبدة بنت خالد بن سعد، أنها قالت: ما كان خالد يأوى إلى فراش إلا وهو يذكر من شوقه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ويقول: هم أصلي، وفصلي، وهم بحق قلبي، طال شوقي إليهم فعجّل ربّ قبضي إليك، حتى يغلبه النوم.
وروى عن أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم:
والّذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، يعنى أباه أبا قحافة، ذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك، وعن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه قال للعباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب لأن ذاك أحب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وعن هند بنت عمرو بن حرام [ (1) ]- وقد قتل زوجها عمرو بن الجموح وابنها خلاد بن عمرو بن الجموح، وأخوها عبد اللَّه بن عمرو بن حرام- فحملتهم على بعير تريد خيم المدينة فلقيتها عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وقد خرجت تستروح الخبر-[فقالت] : فما وراءك؟ قالت هند: أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فصالح، وكل مصيبة بعده جلل واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء
[ (1) ] هي هند بن عمرو بن حرام الأنصارية، قال ابن مندة: روى حديثها الواقديّ عن أيوب بن النعمان عن أبيها عنها (الإصابة) : 8/ 157، ترجمة رقم (11680) .
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (1) ] .
وسئل عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كيف كان حبكم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان واللَّه أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وأبنائنا، وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وقيل لزيد بن الدّثنّة [ (2) ] لما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه، قالوا:
أيسرك أن محمدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟ قال: ما يسرني أن محمدا أشيك بشوكة وأني في بيتي، قال: يقول سفيان بن حرب: لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد له حبا من أصحاب محمد بمحمد [ (3) ] .
وقال القاضي حسين: يجب على المرء أن يكون حزنه على فراق النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا أكثر من حزنه على فراق أبويه، كما يجب عليه أن يكون عنده أحب إليه من نفسه، وأهله، وماله، والآثار في هذا عن السلف كثيرة جدا.
وقال القاضي عياض: من أحب شيئا آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه، وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامات [ (4) ] ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله،
[ (1) ] الأحزاب: 25، والخبر في (مغازي الواقدي) : 1/ 265.
[ (2) ] هو زيد بن الدّثنّة، بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون، ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضيّ. شهد بدرا واحدا، وكان في غزوة بئر معونة، فأسره المشركون، وقتلته قريش بالتنعيم.
قال ابن إسحاق في (المغازي) : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، أن نفرا من عضل والقارة قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أحد، فقالوا: إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوا بنا في الدين، فبعث معهم خبيب بن عديّ، وزيد بن الدينة
…
فذكر القصة بطولها، وهي في صحيح البخاريّ من حديث أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-.
[ (3) ](مغازي الواقدي) : 1/ 362، وغزوة الرجيع.
[ (4) ] كذا في (الأصل)، وفي (الشفا) :«علامة» .
وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره، ويسره، ومنشطه ومكرهه.
وشاهد هذا قوله- تعالى-: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ (1) ] . وإيثار ما شرعه، وحض عليه على هوى نفسه، وموافقة شهوته، قال اللَّه- تعالى-: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [ (2) ] . وإسخاط العباد في رضي اللَّه قال، فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة للَّه، ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة، ولا يخرج عن اسمها، ودليله
قوله صلى الله عليه وسلم للذي حده في الخمر، فلعنه بعضهم، وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب اللَّه ورسوله،
ومن علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم كثرة ذكره له، فمن أحب شيئا أكثر ذكره، ومنها كثرة شوقه إلى لقائه، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ومن علامات ذلك كثرة ذكره وتعظيمه له، وتوقيره عند ذكره، وإظهار الخشوع، والانكسار مع سماع اسمه [ (3) ] .
قال إسحاق التجيبيّ: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا، واقشعرت جلودهم، وبكوا، وكذلك كثير من التابعين، منهم من يفعل ذلك محبة له، وشوقا إليه، ومنهم من يفعله تهيبا، وتوقيرا، ومنها محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هو بسببه من آل بيته، وصحابته من المهاجرين، والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم، وسبهم، فمن أحب شيئا أحب من يحب، ومن قال أحب شيئا، أحب كل شيء يحبه، ومنها بغض من أبغض اللَّه ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته، وابتدع في دينه، واستقالة كل أمر يخالف شريعته، قال- تعالى-:
[ (1) ] آل عمران: 31.
[ (2) ] الحشر: 9.
[ (3) ](الشفا) : 2/ 20.
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ (1) ] وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم، قد قتلوا أحبّاءهم، وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته.
وقال له عبد اللَّه بن أبيّ: لو شئت لأتيتك برأسه يعني أباه، ومنها أن يحب القرآن ويحب تلاوته والعمل به، وتفهمه، ويحب سنته، ويقف عند حدودها، ومن علامة حبه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شفقته على أمته، ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ودفع المضار عنهم، كما كان عليه السلام بالمؤمنين رءوفا رحيما.
ومن علامة تمام محبته زهد مدّعيها في الدنيا، وإيثاره الفقر، وإنصافه به.
قال: اختلف الناس في تفسير محبة اللَّه، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سفيان:
المحبة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذّب عن سنته والانقياد لها، وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب يحب ما أحب، ويكره ما كره.
وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه [بذكره][ (2) ] بإدراكه كحب الصور الجميلة، والأصوات الحسنة، والأطعمة، والأشربة اللذيذة، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله، وقلبه معاني باطنة شريفة كمحبة الصالحين، والعلماء، وأهل المعروف، والمأثور عنهم السير الجميلة، والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء، حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم، والتشيّع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان، وهتك الحرم، واخترام النفوس، أو يكون حبه إياه لموافقة له من جهة إحسانه له، وإنعامه عليه، فقد جبلت النفوس على حب
[ (1) ] المجادلة: 22.
[ (2) ] من (الأصل) فقط، وليست في (الشفا) .