الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
كان القسم الأول من هذا الكتاب في السيرة وقد حاولنا في ذلك القسم أن نعطي تصوراً عن السيرة النبوية، وعما هو ألصق بها، واعتبرنا ذلك هو المدخل لبقية أقسام هذا الكتاب، وجعلنا الأقسام اللاحقة في: العقائد، والعبادات، والحياتيات، وتحرير الرقيق، والحكم.
فالقسم الثاني إذن في العقائد، هي أهم مضمونات الرسالة النبوية.
لقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، والقيام بحقوق الربوبية، وبمسؤولية الإنسان أمام الله عز وجل.
فالإله واحد؛ وعلى الإنسان أن يقوم بواجب التعبد له، والعبودية له، وذلك هو المظهر الأول لقبول التوحيد، فمن قَبِل التوحيد والعبادة والعبودية فإنه مجازى بالجنة، ومن رفض ذلك فإنه مجازى بالنار.
ويدخل في التوحيد: توحيد الذات، والصفات، والأفعال، وأن الرب واحد، وأنه هو صاحب الحق في التشريع، والأمر والحكم؛ وهذا يقتضي عبادةً وتسليماً.
ويدخل في العبادات: ما اشتهر أنه عبادة من صلاة وزكاة، ويدخل فيها التسليم له سبحانه في كل ما شرع، وطاعته في كل ما افترض وأوجب، سواء في ذلك ما كان علماً على عبادته، أو ما كان من أعلام شريعته، وهذه هي العبودية.
وقد جعلنا ما هو أدخل في العقائد في هذا القسم، وما هو أدخل في العبادة في القسم الثالث، وما هو أدخل في العبودية في القسمين الرابع، والخامس.
والأقسام كلها في النهاية توحيد وعبادة وعبودية، وسوابق لذلك أو لواحق له، ولكن تسهيل العرض جعلنا نضع ما هو أخص بقسم من الأقسام الخمسة بجانب بعضه.
وبالله نستعين ونبدأ الكلام من قسم العقائد.
* * *
لم تكن كلمة العقائد مستعملة زمن النبوة، فهي اسم مستحدث للتعبير عما يعتقد عليه القلب فيعتقده ويجزم به، فإذا أخذنا هذا الاصطلاح، وبنينا عليه، فإننا نستطيع أن نقول: هناك العقائد الإسلامية في وضعها الفطري في زمن النبوة، وهناك العقائد كما استقر عليها التأليف، فالعقائد في وضعها الفطري زمن النبوة كانت الأساس الذي يكلمه العمل بالإسلام، ويدخل فيها جانبان: الجانب الأول في الرسالة، والجانب الثاني هو الذي له علاقة بالغيبيات التي أخبرنا عنها الوحي الصادق، ويتداخل الجانبان أحياناً ويتكاملان، ورمز ذلك كله النطق بالشهادتين.
أما العقائد كما استقر عليها التأليف، فقد شملت هذه الأمور، وزادت عليها، بأن دخل فيها ما اضطرته عملية الصراع بين أهل الإسلام وأهل الأديان، وبين أهل الحق والصواب من جهة، وأهل الباطل والخطأ من غير أهل السنة والجماعة من جهة أخرى، ومن ههنا أدخلوا في بحث العقائد- كما استقر التأليف فيها- وصف الإسلام والإيمان، وما يدخل في كلٍ، ومباحث الإلهيات، والنبويات، والسمعيات، وما يدخل في كلٍ، ويأخذ الكلام عن الحقائق الغيبية التي لا يدركها الإنسان إلا عن طريق الوحي حيزاً كبيراً من هذا العلم، ويدخل في هذا العلم الحديث عن التصورات الكلية في الشريعة والتكليف.
والناس بالنسبة للإسلام والإيمان والشريعة: إما مسلم مؤمن ملتزم، وإما مسلم مؤمن مقصَّر مذنب، فالأول تقي، والثاني عاصٍ أو فاسق، وهناك متظاهر بالإسلام غير مؤمن به فذلك المنافق، وهناك الكافر، وهناك المسلم المخطئ في الفهم أو في العمل، فذلك المبتدع، وقد تصل البدعة إلى الكفر، وقد لا تصل، فالأول مرتد، والثاني ضال، وقد يرتد مسلم عن الإسلام أصلاً، أو قد يقول أو يفعل ما هو رِدّة، ومن ثم دخل في أبحاث العقائد نواقض الإسلام.
ومن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ستحدث أحداث أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بها جزء من الإيمان بنبوته، وبعض هذه الأمور وقع، وبعضها لم يقع بعد، وبعضها يكون قبيل الساعة بقليل، وبعضها يسبقها بزمن، ومن ثم تدخل هذه الأمور في باب العقائد.
وفي مسرى تاريخ الأمة الإسلامية وجدت فرق إسلامية انشقت عن جسمها، وخرجت عن الفهم الفطري للنصوص، وطرحت هذه الفرق آراء شاذةً أو كافرة، وتنبت مواقف خاطئة، وأصبح الحديث عن آرائها ومواقفها جزءاً من علم العقائد.
وهناك تصورات خاطئة، وتصورات يترتب على السكوت عنها لوازم ضارة، يُتحدث عنها عادة في علم العقائد كذلك، ومبنى الحديث في العقائد على النصوص، ولكن للحكم العقلي والعادي محلاً في شريعتنا، فاقتضى ذلك كلاماً عن الاثنين في أبحاث العقائد؛ لمعرفة محل التجارب البشرية، والأحكام العقلية في هذا الدين، وهكذا دخل في أبحاث العقائد الكلام عن الحكم العقلي والشرعي، والعادي، وأنها لا تتناقض.
هذه كلها مباحث تجدها مع غيرها في كتب العقائد، وقد أصبحت بطون هذه الكتب هي موطن البحث فيها.
* * *
وفي العادة فإن البشر يصلون إلى كثير من المعاني عن طريق التأمل والتجربة والممارسة، والله عز وجل وصف الكافرين بقوله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"(2) مثل هذه الأمور دور الشريعة فيها التوجيه والتسديد والترشيد، لكن هناك أموراً تعرف، أولا تستقيم، أو لا تتأكد إلا من خلال الوحي، وتبيان مثل هذه الأمور هي الوظيفة الكبرى للرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك ما افترضه الله على عباده وكلفهم به.
ومن ذلك وضع الأمور في مواضعها على مقتضى الحكم؛ فلا تنحرف الحياة الإنسانية عن المسار الصحيح؛ كترشيد الإنسان في استثمار الكون، والحياة الاقتصادية، والعلاقات الجنسية، والعلاقات الاجتماعية، ومن ذلك الحقائق التي لا يمكن للإنسان أن يعرفها إلا عن طريق الوحي؛ كالمغيبات، وما أعده الله للمؤمنين والكافرين.
(1) الروم: 8.
(2)
رواه مسلم (4/ 1836) 43 - كتاب الفضائل 38 - باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً عن عائشة وأنس.
تفصيل هذه المعاني وأمثالها هي الوظيفة الكبرى للرسل عليهم الصلاة والسلام، نجد مصداق ذلك في قوله تعالى: - {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} : فمعرفة آيات الله التي تدل على ذاته مما جاء به الوحي. {وَيُزَكِّيكُمْ} : فتزكية الأنفس على ما تقتضيه معرفة الله والعبودية له مما جاء به الوحي
…
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} : الذي أنزله: ويتضمن ما افترضه الله على خلقه، وذلك مضمون القرآن والكتب السماوية- {وَالْحِكْمَةَ}: وهي وضع الأمور في مواضعها على مقتضى الكتاب، وهذا الجانب تكفل به الكتاب والسنة
…
{وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (1): أي مما لا تستطيعون معرفته إلا عن طريق الوحي.
ومن ههنا كان التعرف على الآيات، وعلى ما تزكو به الأنفس، وعلى الفرائض والمكتوبات، وعلى الحكمة في الكون، أو في التصرفات، أو في التصورات، أو في العلاقات، أو في السياسات، وكان التعرف على ما لا يعرفه الإنسان إلا من طريق الوحي، كل ذلك يدخل في مباحث العقائد، بل إنه لهو الأهم، وهو الذي ينبغي أن يشتغل به الدعاة؛ لأن أعظم ما في الدين هو هذا: آيات الله، والواجبات، والحكمة، وما لا يعرف إلا عن طريق الوحي.
ومن ههنا تعلم خطأ بعض من يدعون إلى الإسلام فيغفلون التركيز على هذه الأمور، ويتحدثون عن نواحٍ أخرى لا تصبُّ في هذا البحر.
* * *
وإذا كان كل ما في الإسلام مبناه على الاعتقاد الحق، فالاعتقاد الحق مبناه على الإيمان الجازم بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، ومبنى الإيمان بالله: يقوم على معرفة آثاره وآياته التي تدل عليه، ومبنى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم: يقوم على معرفة الدلائل التي تدل على أنه رسول حقاً، وقد دخل ذلك في أبحاث العقائد، وقد جرت عادة كتاب العقائد- كما ذكرنا من قبل- أم يركزوا ما جرى فيه خلاف فيه أهل السنة والجماعة، وبقية الفرق الإسلامية، ومن
(1) البقرة: 151.
ههنا فقد حكم التأليف في العقائد ذكرُ وجهات النظر المطروحة؛ كأثر عن هوى، أو الرد على هوى، فقد وجدت آراء مبتدعة وأهواء متفرقة، فاقتضى ذلكم ردوداً ومناقشات، وغلب ذلك كله على التأليف، تأمل صحيح البخاري مثلاً، فإنك تجد الكثير من عناوين كتابه لها علاقة بقضية هي محل بحث في عصره، والكتب التي خصت العقائد في التأليف غلب عليها هذا الحال، ومع هذا التوسع في موضوعات كتب العقائد فقد أخرج الأقدمون من دائرة أبحاثهم قضايا اعتبروها ألصق بعلوم أخرى كبحث الحاكمية، وأنها لله وحدة، فقد ربطت بعلم أصول الفقه الذي لا يدرسه إلا الخاصة، ومن ههنا وجد الكتاب الإسلاميون المعاصرون شيئاً من الفراغ حاولوا أن يملأوه؛ فوجد ما يسمى- في جيلنا- بكتب التصورات الإسلامية.
وإذا كنت أعتبر أن دراسة العقائد كما استقر عليها التأليف لابد منه للمسلم، فقد جعلني هذا أركز في هذا القسم على ما كان محل تركيز في عصر النبوة، وإن كان القسم مليئاً بما اعتاد عليه كتاب العقائد قديماً وحديثاً أن يدخلوه في كتبهم، بل لا تكاد مسألة رئيسية من مسائل العقائد إلا وفي هذا القسم حديث عنها، ومع ذلك فإنني أنصح إخواني المسلمين أن يدرسوا العقائد في كتبها، فإن هذا الكتاب ركَّز على المسائل الاعتقادية التي كانت محل التركيز الأقوى في الهدي النبوي.
كان التركيز الأقوى في عصره عليه الصلاة والسلام على توحيد الله، وعلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وعلى الإيمان بالغيب، وعلى التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالإسلام.
وكان عنوان الدخول في الإسلام بقبول الشهادتين، والنطق بها، والقيام بأعمال الإسلام، والكينونة مع الجماعة، وكان يقف في مقابل ذلك: كفر، ونفاق، وجاهلية؛ ولذلك فإنني سأخص هذا وأمثاله مما هو محل تركيز في عصر النبوة بمزيد عناية، وقد جعلت هذا القسم في ثلاثة أبواب:
الباب الأول: معالم عقدية.
الباب الثاني: الإيمان بالغيب.
الباب الثالث: مباحث عقدية.
وأدخلت في الإيمان بالغيب: أركان الإيمان الستة؛ وما يعتبر من الغيوب، وأدخلت في الباب الأول: المعالم الكبرى التي تعتبر نقاط علام في موضوع العقائد، وأدخلت في الباب الثالث: بعض الأبحاث التي هي ألصق بالجانب الاعتقادي.
* * *