الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الفصل
في الإنسان جانب غيبي أخبرتنا عنه نصوص الكتاب والسنة، وهذا الجانب الغيبي يعرفه الإنسان من آثاره، وبعضه يحس به إحساساً، حتى إن إنكاره يكون إنكاراً للمحسوس، فالإنسان يميز به بين العاقل وغير العاقل، ويحس بمطالب النفس والجسد، ويحس في قلبه الذي في صدره بكثير من المعاني، وأهل الإيمان لهم إحساستهم القلبية النامية، وهناك فارق بين حياة الجنين قبل نفخ الروح، وبعد نفخ الروح فيه، فمتى نفخت الروح فيه تبدأ الحركة، هذه القضايا التي نرى آثارها جاءت نصوص كثيرة تتحدث عنها، فأصبحت من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، مما لا يسع مسلماً أو مسلمة أن ينكرها، وإن كان يسع المسلم أن يجهل تفصيلات فيها، أو تحديدات لمعانٍ دقيقة للنصوص في شأنها.
وإنها لإحدى معارك عصرنا الإيمانية: الصراع مع الذين يفسرون كل ما في الإنسان، وكل ما يجري للإنسان أو على الإنسان، بالمادة والمادية، فكل شيء عندهم في الإنسان مرتبط بآلية المادة، وإفرازاتها، وقد سرى ذلك إلى بعض أبناء المسلمين؛ فصاروا يفسرون القلب بأنه الدماغ، وهم بذلك ينكرون أن يكون للمسلم قلب مرتبط بالقلب الحسي، له وظائفه الإيمانية، وهو محل الإلهام، ومحل الإشراق، وهو محل الكفر والنفاق، وأصبح هؤلاء يميلون إلى تأويل ما ورد عن الجانب الغيبي في الإنسان بأنواع من التأويلات.
والإسلام يعطي للتجربة البشرية مداها، وللبحث العلمي مداه، ولكن هل استطاع الإنسان أن يجيب جواباً جازماً على كل الأسئلة التي لها علاقة في الإنسان، أو أن الإنسان لا زال مجهولاً.
وفي كل الأحوال فنصوص الإسلام القطعية الثبوت، القطعية الدلالة، لا يمكن أن تتناقض مع حقيقة علمية فالأصل الأصيل أن يسلم المسلم للنصوص كلها، فكيف إذا كانت النصوص في أمور غيبية تشهد لها آثارها؟!
إنه لمن فساد التصورات، ومن المكفرات، إنكار الروح، أو القلب، أو النفس، أو العقل، أو الجسد، ثم إن هذا الإنكار يترتب عليه فساد عريض، فالتربية التي لا تلحظ
القلب، أو العقل، أو الجسد، أو النفس، أو الروح، تربية فاشلة، ومن ههنا يكون لهذا البحث أهمية كبرى في العقائد والسلوك.
إن الإنسان جسد وروح قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (1). نرى ذلك واضحاً عند الموت حيث تفارق الروح الجسد فيتوقف كل شيء، هذه الروح إذا خالطت الجسد تسمى نفساً فقد قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (2). فالروح التي تقبض حين الوفاة سماها الله عز وجل نفساً، وتطلق كلمة النفس على أكثر من معنى كما سنرى.
وفي هذا الإنسان المؤلف من الروح والجسد، أو من النفس والجسد، شيئان لهما الأهمية الكبرى هما: العقل، والقلب، فالعقل: هو محل إدراك الخطاب فحيثما وجد كان التكليف، والقلب: هو محل القبول للتكليف، فهو صاحب القرار في القبول والرفض.
والظاهر من التجربة، ومن النصوص، ومن الإحساسات، ومن الأذواق، أن العقل الذي هو محل إدراك الخطاب مقره الدماغ، وأن القلب الذي هو محل القرار في القبول والرفض مقره الصدرن فله تعلق بالقلب الصنوبري الذي يضخ الدم:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (3)، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (4).
وللدماغ تكليفه: وهو أن يفكر فيربط الأسباب بمسبباتها، ويربط الأدلة بمدلولاتها؛ ليصل إلى الحقيقة، وللقلب تكليفه: وهو أن يقبل الإسلام الذي أوصل إليه العقل، وأن يستنير بنور الإسلام، وللنفس تكاليفها في التزكية {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (5).
والتكليف في النهاية للإنسان المؤلف من الروح والجسد، فهو المكلف أن يجعل جسمه ونفسه وعقله وقلبه على مقتضى أمر الله عز وجل.
* * *
(1) الحجر: 29.
(2)
الزمر: 42.
(3)
الحج: 46.
(4)
الزمر: 22.
(5)
الشمس: 7 - 10.
إن النصوص تتحدث عن جسد: "إن لجسدك عليك حقا"(1). وعن روح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) وتتحدث عن نفس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (3). وتتحدث عن قلب. "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب"(4). وتتحدث عن عقل: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
وأحيانا تتحدث النصوص عن النفس وتريد بها الذات كلها: الجسم والعقل والقلب والروح: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (5). وأحياناً تتحدث عن القلب وأنه محل العقل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (6).
وأحياناً تشعر النصوص بأن المراد بالنفس الذات متلبسة بحالة قلبية: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (7){أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (8).
والإنسان يحس بأن محل التفكير الدماغ، والدرسات المعاصرة وقفت بالنسبة للإنسان أمام مجهولات كثيرة، فلقد تبين أنه لو فقد الإنسان قسماً كبيراً من مخه فإنه لا يفتقد ذاكرته، ولم تزل أبحاث الذاكرة في دائرة المجهول، والماديون ينكرون الروح أصلاً، والكافرون لا يحسون بقلوبهم التي هي محل الكفر والإيمان، فهم يتكلمون بعيدين عن الجانب الغيبي في الإنسان، وكما ذكرنا من قبل فقد تأثر بعض المسلمين بأفكار غير إسلامية، حتى زعم بعضهم أن المراد بالقلب في الاصطلاح الشرعي هو الدماغ، وهذا شيء له خطورته في العقيدة والتربية والسلوك، فهو إنكار لشيء تتوطأ عليه النصوص، محددة له أنه في الصدر:{وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (9){يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (10)، (أفمن شرح الله صدره للإسلام)(11). كل ذلك يقتضي كلاماً ضمن الحدود التي لا بد منها، فالمؤمن مكلف بالإيمان بأن له عقلاً هو محل إدراك الخطاب، وبهذا العقل تقوم عليه الحجة، ومكلف أن يؤمن بأن له قلباً عليه أن
(1) أخرجه البخاري ومسلم.
(2)
الإسراء: 85.
(3)
الشمس: 7.
(4)
رواه مسلم.
(5)
الكهف: 74.
(6)
الحج: 46.
(7)
الفجر: 27.
(8)
الرعد: 28.
(9)
الحج: 46.
(10)
الأنعام: 125.
(11)
الزمر: 22.
يصدق به وأن ينوره، وأن له نفساً عليه أن يزكيها، وأن له روحاً ركّبها الله عز وجل بهذا الجسد:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (1)، ونصوص الكتاب والسنة متعاضدة متضافرة على تأكيد هذه المعاني، ولكن التداخل في الوظائف والتكليف يجعل أحياناً الكلام عن هذه المعاني متداخلاً في النصوص وفي كلام الناس، والمسلم مكلّف بالجملة بالإثبات، ولا يكلف كل مسلم بمعرفة كل النصوص، وحمل كل نص على المراد الدقيق منه.
إن الإيمان بالقلب والنفس لهما آثارهما في التربية والسلوك، فبينما ينبغي أن يكون مركز اهتمام المسلم قلبه ونفسه، وإذا به في حالة الإنكار يتوجه إلى الفكر والدماغ، وبينما يحس المؤمن إحساساً ذوقياً بقلبه ومقاماته فمن توكّل وخوف ورجاء ومحبة، إذا بهذا المُنْكِر يفقد هذا كله.
* * *
إن عصرنا جعل أكثر الناس علماً هم أكثر الناس تواضعاً؛ فمن عرف ضآلة بعض الإفرازات في الجسد، وضخامة تأثيرها، ومن عرف ضآلة حجم بعض الأشياء في الدماغ، وضخامة تأثيرها. ومن عرف أنه لو جمعنا كل أجهزة العالم من (التليفون والتلغراف والرادار والتلفزيون) ثم صَغّرناها إلى مثل حجم الدماغ فإنها لا تبلغ بمجموعها أن تؤدي وظائف الدماغ، ومن عرف فكرة التسجيلات والمسجّلات والطاقة الكهربائية والذرية ينبغي أن يزداد تواضعاً؛ فيسلم لمن يعلم ومن أعلم من الله!!
{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (2).
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (3).
وعوالم القلب والروح والعقل والجسد والنفس ليس مثل المسلم على بصيرة فيها. ونحن سنستعرض في هذا الفصل بعض نصوص الكتاب والسنة، وفيها العلم الذي يحكم على كل علم. وفيما بين يدي ذلك تقول:
(1) الحجر: 29.
(2)
الكهف: 51.
(3)
الإسراء: 85.
تطلق كلمة القلب على معنيين: القلب الحسي الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان، وعلى قلب آخره مقرُّه ذلك القلب، وهو مرتبط به نوع ارتباط، وهو محل الإيمان والكفر والنفاق، ومركز ظهور العواطف، وهو بالنسبة للإنسان محل القرار والإرادة، فهو محل التردد، والشك، والإقدام، والإحجام.
وللإنسان دماغ هو محل التفكر، والمحاكمات، وقد يكون محل خزن المعلومات، وهو محل إدراك الخطاب، وهو مخزن الحواس ومركز الإحساس، ومنظم الجملة العصبية إلى غير ذلك من المهام، وهناك الروح التي تعطي الجسد والقلب والدماغ.
* * *
عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه في المرحلة الأولى فإن حياته تكون تبعاً لحياة أمه، وإنما تكون له شخصيته المستقلة منذ نفخ الروح فيه، فعندما تُنفخ الروح عندئذ تكون له حياته المستقلة نوع استقلال، والروح في أصل خلقتها عارفة بالله، منطبعة بها البدهيات، والقلب الغيبي حين نفخ الروح في الجسد يكون على الفطرة، فهو نور خالص، والدماغ يكون جاهزاً للتلقي وتخزين المعلومات، هكذا حال الطفل أول ولادته.
* * *
عندما تحل الروح في الجسد تصبح أسيرة هذا الجسد، وبالتالي تتحكم فيها مطالب الجسد، وتفكير الدماغ وقرار القلب والبيئة، كما أن القلب تتحكم فيه مطالب الجسد، وتفكير الدماغ، وتأثير النفس بمطالب الجسد، والروح بعد التلبس بالجسد تسمى نفساً، وبقدر ما تسيطر عليها الشهوات يصبح القلب أسيراً لها، وبقدر ما يستنير القلب يمكن أن يؤثر في النفس، فيستقيم أمر الجسد، ومن ههنا فإن هناك صراعاً بين الخير والشر في ذات الإنسان، إما أن يسيطر العقل أو القلب أو الروح أو النفس أو الجسد، وبين ذلك صور فإذا تطهر القلب وتنور فعندئذ تكون الروح في وضعها الأول وضع العبودية؛ فتظهر فيها الأخلاق العليا كلها، وإلا فإنها تنتكس.
ومن العوامل المضلة المؤثرة:
أولاً: التلقين.
ثانياً: جواذب الدنيا.
ثالثاً: مطالب الجسد وغرائزه.
رابعاً: الشيطان ووساوسه.
ومن العوامل الهادية:
أولاً: الإيمان بالله ورسله والتلقي عنهما.
ثانياً: الفكر الاستدلالي والبناء عليه.
ثالثاً: الذكر.
رابعاً: العلم والمعرفة الصحيحان.
خامساً: بذل الجهد ومجاهدة النفس.
سادساً: البيئة المساعدة.
والعقل هو مناط التكليف، وهو الجهة التي يدرك فيها الإنسان فحوى الخطاب، وهو وسيلة الإنسان للمعرفة وهو مفطور على معانٍ، فعنده بدهيات مستقرة، وله قوانين مغروسة، وهو يصل إلى المعرفة من خلال التعليم والاستقراء أو الاستنتاج، ومن ههنا وجد علم المنطق الاستقرائي والاستنتاجي، فأن يتعرف الإنسان على علم المنطق للتعرف على قوانين العقل، وعلى ما هو بدهي، وعلى ضوابط الاستنتاج الصحيح، والاستقرار الصحيح، فهذا القدر لا حرج فيه. وحملةُ بعض العلماء على نوع من المنطق لا يدخل فيها ما ذكرناه. وهذا النوع يوجد عند الجن من لحظة الولادة، فهم مكفلون من تلك اللحظة، أما عند الإنسان فإنه يتكامل شيئاً فشيئاً، ومن ههنا فلا تكليف يحاسب عليه الإنسان إلا بعد البلوغ، أما ما قبل ذلك فله أحكامه.
* * *
ويطلق العقل في الشريعة على شيئين:
أولاً: على ما هو مناط فهم الخطاب، وإذا وجد فقد أصبح الإنسان مكلفاً ضمن شروط.
ثانياً: على قبول خطاب الشارع والعمل به وذلك هو العقل الشرعي.
وعلى هذا يحمل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1). {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (2){لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (3).
والقلب يطلق في الشريعة: على العقل الشرعي، وعلى القلب الحسي، وعلى القلب المرتبط بالقلب الحسي، وهو محل الإيمان والكفر، وعليه يحمل قوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (4){خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (5){فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (6).
والنفس تطلق في الشريعة: على الذات كلها جسداً وروحاً، وتطلق على الروح وحدها، وتطلق على الدم، وتطلق على مطالب الروح المتأثرة بمطالب الجسد المذمومة.
وتسمى الروح إذا خالطت الجسد نفساً، وها نحن نذكر لك بعد هذا البيان بعض النصوص التي تناسب عنوان هذا الفصل، ومضمونه الذي تحدثنا عنه في هذه المقدمة، مبتدئين بذكر بعض النصوص التي تتحدث عن الجسد، للإشعار ببعض الواجبات الجسدية، وببعض حقوق الجسد، ومن مثل ذلك يعرف وضع الجسد في الإسلام: حقوقه، وواجباته، وكمالاته، وضرورة رعايته، لا كما تحاول ملل أخرى أن تعذبة أو تحرمه من ضرورات مباحة.
(1) الملك: 10.
(2)
الحشر: 14.
(3)
الأعراف: 179.
(4)
البقرة: 10.
(5)
البقرة: 7.
(6)
الحج: 46.