الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14 - البابية
ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري، وهي في الحقيقة دين كفري لا صلة له بالإسلام.
وقد تحدث عنها فريد وجدي في دائرة معارفه. فقال:
"البابية" هي الديانة التي أسسها الباب، والباب هو الميرزا علي محمد الشيرازي المولود حوالي سنة 1824 مؤسس الفرقة المعتزلة في بلاد الفرس وغيرها، بدأ يدعو لمذهبه سنة 1943 وهو ابن تسع عشرة سنة متلقياً بالسيد إشارة إلى أنه من الأسرة النبوية الكريمة.
قال المسيو "جوبينو" في كتابه المسمى (الديانات والفلاسفة في آسيا الوسطى) المطبوع بباريس سنة 1866 ما يأتي:
"كان الميرزا علي محمد مقصورا على حاله، مشتغلاً بالعبادة بسيطاً للغاية في أخلاقه، حلو الشمائل جذاباً، وكان بحداثة سنة ووسامة وجهه مكسباً هذه المواهب رونقاً فيه. ولقد ان يؤكد الذين عرفوه أنه لم يحرك شفته حتى يحرك أقصى جهة من فؤاده وكان إذا تكلم عن النبي والأئمة تكلم باحترام عظيم يسر أشد المتعلقين الحادة القلقة إذا لم تصادف فيه أقل خشونة في بث آرائه، فكانت أحاديثه تفتح لهم كل هذه الآفاق المتنوعة السرية التي لا نهاية لها المبعثرة هنا وهناك تطير بها التصورات ثملا في تلك البلاد".
قصد الميرزا علي محمد الحج ثم زار مسجد الكوفة وبدا له بعد ذلك تأسيس دين جديد يخلف الإسلام في بلاده، وهناك وضع كتابين أحدهما في تفسير سورة يوسف والآخر في وصف رحلته. فذهب في تفسيره مذهباً جديداً في النظر واستنتج من آيات تلك السورة أصولاً لم يستنتجها أحد قبله فطار ذكره بين الناس وإحتاط به الخلق يسمعون منه، فكان يخطب الناس في المساجد ويوجه أشد الملاك والتأنيب إلى قادة الدين، فأحدث كلامه تأثيراً سيئاً فيهم وتألبوا عليه لإحباط مساعيه، فلم ينجحوا لأنه كان يقرعهم بحجة القرآن، فزاد ذلك في شهرته وانضم إليه رجال من أنصاره فأفضى إليه بمذهبه الجديد، فكانوا أشد الناس
نصرة له. وإذ ذاك سمى نفسه بالباب مشيرًا إلى أنه الباب الوحيد الذي يدخل منه الطالب ليصل إلى حضرة الخالق عز وجل، فأطلق عليه أشياعه لقبًا جديدًا وهو (حضرة العلي) فلم يسع رجال الدين إلا رفع أمره إلى حكومة طهران لكفه عن نشر مذهبه بالقوة. وفي هذا الوقت أعلن الباب أنه (النقطة) أي منبثق الحق وروح الله ومظهر قدرته وجلاله، وتنازل عن لقب الباب لأحد أشياعه المدعو حسين بسرويه من أهل خراسان وهو الذي طبع البابية بطابع عملي قلبه إلى حزب سياسي شديد الخطورة.
نهض حسين بسرويه هذا لنشر البابية في أرجاء فارس فأوجد لها أشياعًا في أصفهان وكاشان ثم نزل إلى طهران ولكن الحكومة أعلنته بعدم البقاء فيها.
وفي الوقت نفسه كان رجلان من البابية يطوفان البلاد لنشر الدعوة أحدهما الحاج محمد علي بلفروسي اختص بمقاطعة مازنداران والأخرى امرأة تدعى (زرين تاج) ثم تلقبت (بقرة العين) وكانت هذه من مدهشات العصر في علمها وحماستها الدينية وفصاحتها المتدفقة وجمالها البارع.
فلما طرد حسين بسرويه من طهران قصد خراسان وكانت الدعوة قد أثرت فيها بعض التأثير.
وبعد حوادث يطول ذكرها قصد حسين المذكور مازنداران ومعه جم غفير من أنصاره المسلحين حتى انتهوا إلى قرية (بدخت) وهنالك اجتمع جميع قادة البابية على هيئة مؤتمر وكان من الحاضرين الميرزا يحيى الذي سيخلف (حضرة العلي) في رئاسة المذهب، وقرة العين فخطبت هذه خطبة بديعة في ذلك المؤتمر كانت سببًا في تقاطر الناس على هذا المذهب الجديد، فلم يسع حسين بسرويه إلا أن ابتنى له حصنا منيعًا في جبال مازندارات وغاباتها واجتمع حوله خلق كثير ليس فيهم واحد يضن بآخر قطرة من حياته في نصرة الدين الجديد فهال هذا الحال حكومة الفرس فأرسلت بعثة عسكرية فحدث بينها وبين أنصار المذهب الجديد قتال أفضى إلى هزيمتها وفقدها كثيرًا من رجالها فعادت بخفي حنين لم تنل منهم منالا فزاد هذا الأمر الحكومة قلقًا فأرسلت إليهم حملة تحت قيادة البرنس مهدي
كولي ميرزا من بيت الملك في فارس، فلقيت هذه الحملة ما لقيته سابقتها بعد قتال عنيف فعززتها الحكومة بحملة ثالثة فلم تكن أسعد حظا من سابقتيها ولكن أصاب حسين بسرويه جرح مميت في هذه الموقعة مات منه، فلم يثن ذلك من همة البابية بل استمروا يقاتلون بجلد وصبر عظيمين فلم يسع الحكومة إلا إرسال حملة رابعة معها مدافع ومدمرات من كل نوع فقاومها البابيون مقاومة عنيفة مدة أربعة أشهر حتى فني رجالهم ونفدت ذخائرهم، فدخلت جنود الشاه إلى معقلهم فأسروا 214 نفسا من البابيين بين رجال وأطفال ونساء ورغما عن تأمينهم على حياتهم أوغل الجنود فيهم فتكا فبقروا بطونهم وسلوا ألسنتهم ومثلوا بهم أقبح تمثيل.
ولكن كل هذا لم يصد تيار البابية بل زاد في حماستهم وجعلهم يقاومون الحكومة في جهات أخرى مقاومات عنيفة.
فثارت (زندان) عاصمة مقاطعة كامسيه وكان قائد هذه الحركة مشرع مشهور اسمه محمد علي زنجاني فأرسلت الحكومة إليه جنودًا فدحرها وقاوم كل ما أرسل إليه من القوى الحربية أكبر مقاومة ثم انتهى الأمر بعد جهد جهيد بإطفاء هذه الثائرة. ولكن ذلك كله لم يعطل من حركة البابية بل زادها قوة وزاد أشياعها على المناضلة شدة فلم تدر الحكومة ماذا تصنع فعزمت على قتل زعيم البابية الأكبر (حضرة العلي) رغما عن تظاهره بالسكون وعدم التداخل في حركات عدائية ضد الحكومة، ولكن أنى للحكومة أن تجد مسوغًا لقتله؟
تذرعت الحكومة لنيل غرضها منه باستدعائه وسؤاله عن أمر دينه الجديد وبنت حكمها بإعدامه على خروجه عن مذهب الجماعة فأمرت بقتله فصلبوه هو وتلميذ له على حائط طويل فسمع الناس تلميذه يقول له على مسمع منهم:
"ألست ممتنا مني أيها الأستاذ" فلم يكد يتمها حتى صوب إليه جندي من الجنود الموكلين بقتلهما رصاصة فقتله، فانقطع الحبل وسقط الباب على الأرض فنهض مهرولا واندس في فصيلة من الجنود ففتكوا به.
قتل (حضرة العلي) فلم يؤثر ذلك بشيء في حركة مذهبه بل زاده أشياعًا وأنصارًا،
وولى القوم خليفة له الميرزا يحيى ولقبوه (حضرة الأزل) فرأى الرئيس الجديد أن يترك عاصمة البلاد هربًا من الاضطهاد ويتجول في الجهات ليثبت أشياعه في الإيمان.
ولكن البابيين لم ينسوا ثار رئيسهم الأكبر فأرادوا أن يغتالوا به الملك نفسه. فلما كان سنة 1852 هجم ثلاثة منهم على الشاه بقصد اغتياله فلم يتمكنوا إلا من جرحه فقبض عليهم الجنود وأذاقوهم ألوان العذاب فاحتملوا كل ذلك بصبر خير الألباب، ثم أوغلت الحكومة في القبض على البابية فأمسكت قرة العين وأمرت بإحراقها حية. ثم أمرت الحكومة بتعذيب من قبض عليهم من الرجال والنساء والولدان. وحملت الحماسة بعض رجال البلاط الملوكي على قتل بعض المقبوض عليه بأيديهم بطرق فظيعة يقشعر منها جلد الإنسان.
ورأى الناس في سوق طهران منظرًا يفتت الأكباد، ويذيب الأفئدة، رأوا أسرابا من الرجال والنساء والأطفال مقودين بالحبال أجسادهم مجروحة وقد وضع الجلادون في كل جرح فتيلة ملتهبة، وهم كيوم ولدتهم أمهاتهم يتلون جميعًا بصوت مرتفع قوله تعالى:(إنا لله وإنا إليه راجعون) والجنود خلفهم يضربون من يتأخر أو من يقع منهم بالسياط فإذا مات طفل في الطريق ألقوه تحت أرجل أبويه فكانا يمران عليه غير ملتفتين إليه.
ثم لاح لأحد الجلادين أن يأتي بطفلين لأحدهم فيذبحهما على صدره ففعل ولم يزدد الأب إلا صبرًا وثباتًا، وقد أظهر الطفلان من آيات البطولة ما خلد ذكرهما في التاريخ إذ كانا يتسابقان إلى ورد الموت، ويتزاحمان على حوضه المرير ليقتل أحدهما قبل الآخر.
ثم رميت الجثث بالأرض تسيل دماؤها وتجرى مهجاتها، والكلاب تنوشها وترتع في أشلائها.
هذه الحركة أثرت على البابية تأثيرًا ما فأضعفت صوتها العلني، ولكنها لم تبطل حركتها السرية، فانقلبت إلى مذهب سري سرى في كثير من الناس واعتنقه من كان لا يظن فيه أن يصبأ إليه.
(ما هي عقائد البابيين): عقائد البابيين موجودة في كتبهم وأخصها كتاب البيان الذي وضعه باللغة العربية الباب نفسه، ولم نعثر نحن عليه لننقل منه للقراء فنستدرك هذا
النقص بترجمة عقائدهم عن الفرنسية كما وردت في دائرة معارف القرن التاسع عشر.
في مذهب البابية الخلق مظهر الله ذاته، فالخالق في الإسلام يخلق لأنه أراد أن يخلق. وعند البابية هو يخلق لأنه لا يدرك حيًا مؤثرًا إلا بالخلق. وقد صرح البيان بأن مجموع الكائنات هو الله نفسه فإن فيه ما ترجمته:
"الحق، يا مخلوقاتي أنك أنا" فإذا قامت القيامة رجع الخلق إلى الله وفنوا في وحدته التي صدروا عنها، فيتلاشى إذ ذاك كل شيء إلا الطبيعة الإلهية.
فيرى الرائي من هذا أن أساس البابية مذهب وحدة الوجود بعينه.
أما نظرية البابية في خلق الكون فهي: لله سبعة أحرف مقدسة تمثل صفاته الإلهية وهي القوة والقدرة والإرادة والتأثير والكبرياء والوحي، ولله خصائص أخرى لا تتناهى ولكن هذه الخصائص السبع هي التي استخدمها في خلق الكون المرئي لنا. فالتمثيل المزدوج لهذه الخصائص السبعة القول والكتابة وهي التي منحتنا الخلقة المزدوجة من روح ومادة فباعتبارها قولا هي منبع الأشياء العقلية، وباعتبارها أحرفا هي مصدر كل الأشياء المادية التي لولاها لم توجد المادة. فالعدد سبعة هو العدد المقدس عند البابية. ولكن يوجد عدد آخر أكبر شأنا عند البابية وهو 19. وذلك أنه فوق العبارات الخالقة يجب وضع كلمة (حي) لأن الحياة هي مصدر وثمرة السبع خصائص المتقدمة في آن واحد. فإذا حسبنا كلمة حي بحساب الجمل وجدنا الحاء بثمانية والياء بعضرة فيكون المجموع 18 فيضم إليها 1 لتكون الكلمة (أحي) فيكون المجموع 19 هذا العدد قال عنه الباب نفسه إنه المظهر العددي لله ذاته. قال ولا يجوز الشك في ذلك، فإن كلمة (واحد) التي يعبر بها الله عن نفسه في القرآن لتدل على وحدانيته هي بحساب الجمل (19) أيضًا فالواو ستة والألف واحد والحاء ثمانية والدال أربعة فيكون المجموع 19 وعليه فالعدد 19 معناه (الواحد الذي يمنح الحياة) أي الله الواحد الخالق ثم إن هذا العدد يحصر العدد سبعة الذي هو جملة الخصائص الإلهية التي خلقت هذا الكون من العدم.
أما الصلاة عند البابية فيكتفى منها بمرة واحدة في كل شهر كما ورد في البيان كتابها المقدس. ولم تعترف بالنجاسة المعنوية التي يرفعها الوضوء فلم تعطه إلا جهة الفائدة العائدة
منه على النظافة والتجمل وأبطلت وجوب القبلة متمسكة بقوله تعالى (أينما تولوا فثم وجه الله).
أما من الوجهة الأخلاقية فالبابية تهتم قبل كل شيء بتهذيب العواطف النفسية الجميلة كالسخاء ولطف المعاشرة والأدب، ولا يوجد في عقوبتها المقررة عقوبة الإعدام ولا التعذيب بالضرب ونحوه، فقد قال البيان في هذا ما ترجمته:
"إن الله قد حرم استخدام الشدة حتى ولو ضربك ضارب بيده على الكتف".
أما العقوبات المستعملة عند البابيين للتأديب فهي نوعان (أولا) التغريم على حسب شدة الجريمة (ثانيًا) الابتعاد عن مقاربة النساء مدة مناسبة للذنب المقترف أ. هـ.
أقول: إن العرض الذي عرضه فريد وجدي ناقلًا إياه من المصادر الأوروبية كان فيه كثير من الحرارة التي تحوي في طياتها الدفاع عن فكرة المريض المنتن يصل إلى الإباحية في بعض صوره حتى إن قرة العين لم تقتل حتى أباحت المحرمات إلا أن العاطفة الأوروبية تكون دائمًا مع حرية الاعتقاد فتميل للدفاع الحار عن المضطهدين إلا إذا كانوا مسلمين، لاحظ العبارات الحارة التي مرت معنا في وصف ما حدث للبابية ثم ابحث عن مثلها إذا اضطهد المسلمون فإنك لا تجد إلا صمتًا.
* * *