الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إذا كان الخير كله انبثاقًا عن كلمة التوحيد فإن الشر كله أثر من آثار الشرك {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} (1). فالشرك ليس له جذور في أعماق النفس البشرية ولا يخرج عنه إلا الشر الخبيث، ويدخل في الشرك أن يتوجه الإنسان لغير الله بمعنى من معاني العبادة، ويدخل في الشرك أن يعطي لغير الله ما هو خالص لله، ويدخل في الشرك أن يعتقد الإنسان أن لغير الله تأثيرًا في الخلق، وبالجملة: فكل ما يتنافى مع التوحيد فهو شرك، وهو نوعان: شرك خفي وشرك جلي، فالشرك الخفي هو أن يتحرك الإنسان حركة مما يقصد به وجه الله لغير الله، ولقد جاء الإسلام لينفي الشرك الخفي والجلي من روح الإنسان ومن قلبه ومن تصرفاته وأحواله، والشرك أحد أنواع الكفر بل يكاد يدخل في كل نوع منها، وللكفر وللشرك وللإلحاد سلوكيات وأخلاق فصلها القرآن الكريم، وكثيرًا ما تذكر في النصوص الكبائر والفواحش بجانب الشرك أن أجرأ الناس على الفواحش والكبائر هم الكافرون والمشركون، وإن كان المسلم قد يتلبس ببعض الكبائر من غير الشرك، وللصلة بين الكفر والفواحش أدخلنا هذه المعاني في فصل واحد، وأمهات الفواحش ي ما يطلق عليها الموبقات، وتسمى أحيانًا بالكبائر، ومع أن الكبائر كثيرة لكن خص بعضها بالذكر أفحشها أو من أفحشها، فقد ذكر الكل وأريد به الجزء إشعارًا بأهمية هذا الجزء، وكل ما سوى الكفر يمكن التجاوز عنه إذا تعلقت مشيئة الله عز وجل بذلك. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2). (فمذهب أهل السنة عدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله أو يكن من نواقض الشهادتين. بينما مذهب الخوارج تكفير المسلمين بكل ذنب تمسكًا بظواهر بعض النصوص -وقد رده علماؤنا- ووجدت المرجئة التي تقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله كما لا ينفع مع الكفر طاعة. ووجد المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ولكن قالوا بالمنزلة بين المنزلتين: فمرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر وحكموا لأهل الكبائر بالخلود بالنار. والخوارج قالوا يخرج من الإيمان
(1) إبراهيم: 26.
(2)
النساء: 48.
ويدخل في الكفر، أما أهل السنة فمتفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر ولا يستحق الخلود مع الكافرين. وقد تواترت النصوص الدالة على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان سبق ذكر بعضها) (1) ا. هـ.
وكذلك دلت النصوص على ثبوت الإيمان قبل الأوامر والنواهي وعلى أن الإيمان والعمل الصالح يتغايران لأنه قد عطف العمل الصالح على الإيمان، والعطف يقتضي التغاير، والأصل أن يجتمعا، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (2) فإنه يفيد ثبوت الإيمان قبل الأمر بالصوم، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (3) فإن أصل العطف للمغايرة، وكقوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (4) بناء على أن المراد من الظلم المعصية، فقد اقتضى بمفهومه اجتماع الإيمان مع المعاصي، وقيل: إن المراد بالظلم الشرك، لما روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة، وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (5). وعليه فمفهوم الآية من باب {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (6) فيكون المراد بالإيمان مطلق التصديق. وكقوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (7) فأثبت الإيمان للقاتل وكذلك: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
…
} (8) فأثبت الإيمان والأخوة وهي أخوة الإيمان لا ريب. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (9) هي الآية الأم في هذا الباب وعلى ضوئها تحمل النصوص المخالفة في ظاهرها.
(1) شرح الطحاوية بتصرف يوضح المعنى.
(2)
البقرة: 82.
(3)
البقرة: 277.
(4)
الأنعام: 182.
(5)
البخاري (6/ 465) -60 - كتاب الأنبياء -41 - باب قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
…
}.
(6)
يوسف: 106.
(7)
البقرة: 178.
(8)
الحجرات: 9، 10.
(9)
النساء: 48.