المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل العشرون في: البدعة - الأساس في السنة وفقهها - العقائد الإسلامية - جـ ١

[سعيد حوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأولمعالم عقدية

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأولفي:الجسد والروح والعقل والقلب والنفس

- ‌مقدمة الفصل

- ‌الفقرة الأولى: نصوص في الجسد

- ‌الفقرة الثانية: نصوص في الروح

- ‌الفقرة الثالثة: نصوص في العقل

- ‌الفقرة الرابعة: نصوص في القلب

- ‌ نصوص الكتاب في القلب:

- ‌ نصوص السنة في القلوب

- ‌الفقرة الخامسة: نصوص في النفس

- ‌1 - نصوص في النفس ويراد بها الذات

- ‌2 - نصوص في النفس ويراد بها الروح

- ‌3 - نصوص في النفس ويراد بها الروح بعد تلبسها بالجسد

- ‌4 - نصوص في النفس ويراد بها القلب

- ‌الفصل الثانيفيالتكليف ومسؤولية الإنسان أمام الله عز وجل

- ‌المقدمة

- ‌1 - نصوص ونقول في التكليف

- ‌مباحث في العذر بالجهل

- ‌التكليف بما يشق:

- ‌2 - مسائل في التكليف

- ‌المسألة الأولى في أهل الفترة:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة: في مسئولية الطفل والمجنون مالياً:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌المسألة الثامنة:

- ‌الفصل الثالثفي:مباحث في الإسلام والإيمان

- ‌الإيمان والإسلام

- ‌تحقيقات للعلماء في الإسلام والإيمان:

- ‌الفصل الرابعفي فضل الانتساب إلى الأمة الإسلامية

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل الخامسفي:فصل الإيمان وفي فضل المؤمن

- ‌المقدمة

- ‌النصوص الحديثة

- ‌الفصل السادسفيأمثال مثل بها لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلموللمستجيبين له

- ‌النصوص

- ‌الفصل السابعفي:الإسلام وأسهمه وأركانه ومقاماته وبعض أعماله

- ‌المقدمة

- ‌الفقرة الأولى: أسهم الإسلام

- ‌الفقرة الثانية: أركان الإسلام

- ‌الفقرة الثالثة: مقامات الإسلام

- ‌الفقرة الرابعة: في أمهات من أعمال الإسلام

- ‌الفصل الثامنبعض شعب الإيمان

- ‌مقدمة

- ‌الفقرة الأولى: نصوص من الكتاب في بعض شعب الإيمان

- ‌الفقرة الثانية: نصوص في بعض شعب الإيمان في السنة

- ‌الفصل التاسعفي:بعض الموازين التي يزن بها المؤمنإيمانه وإسلامه

- ‌مقدمة

- ‌نصوص

- ‌الفصل العاشرفي:فضل الشهادتين وكلمة التوحيد التي هي أصل الإيمان

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌تعليقات

- ‌مسائل وفوائد حول الشهادتين وكلمة التوحيد

- ‌الفصل الحادي عشرفي:الإيمان الذوقي وما يقابله

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌مسائل وفوائد

- ‌الفصل الثاني عشرفي:الجيل الأرقى تحققًا

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل الثالث عشرفي:الوساوس العارضة وفي خفوت نور الإيمانوزيادته وتجديده وإقلاعه

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل الرابع عشرفي:الفطرة وحقيقة الإيمان والكفر والنفاق

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل الخامس عشرفيالكفر والشرك والكبائر

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌تحقيقات

- ‌الفصل السادس عشرفي:النفاق وعلاماته وشعبه

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل السابع عشرفي:نواقض الشهادتين

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌مسائل وفوائدفي نواقض الشهادتين وتعداد بعضها

- ‌الفصل الثامن عشرفي:الاعتصام بالكتاب والسنة

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل التاسع عشرفيالتمسك بالسنة

- ‌النصوص

- ‌الفصل العشرونفي:البدعة

- ‌تقسيمات البدعة

- ‌أولًا: تقسيم البدعة إلى عادية وتعبدية:

- ‌ثانيًا: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية:

- ‌ثالثًا: تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة:

- ‌رابعًا: تقسيم البدعة إلى فعلية وتركية:

- ‌خامسًا- تقسيم البدعة إلى اعتقادية وقولية وعملية:

- ‌سادسًا: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية:

- ‌سابعًا: تقسيم البدعة إلى بسيطة ومركبة:

- ‌الفصل الحادي والعشرونفي:افتراق هذه الأمة افتراق اليهود والنصارى وزيادةفي:وجوب الكينونة مع الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة واعتزال فرق الضلال

- ‌النصوص

- ‌الوصل الأولفي:أشهر فرق اليهود

- ‌أشهر فرق اليهود

- ‌(الفريسيون):

- ‌(الصدقيون):

- ‌(القراءون):

- ‌(الكتبة):

- ‌(المتعصبون):

- ‌الوصل الثانيفي:أشهر فرق النصارى

- ‌أشهر فرق النصارى

- ‌المجامع

- ‌البروتستانتية:

- ‌الوصل الثالثفي:افتراق الأمة الإسلاميةوفي:أشهر الفرق الضالة التي نشأت في بيئات إسلاميةوفي:الفرق الناجية

- ‌المقدمةفي:أسباب انشقاق الفرق الضالة

- ‌الفقرة الأولىفي:ضرورة التعرف على فرق الضلالوبعض الملاحظات حول ذلك

- ‌الفقرة الثانيةفي:نصوص تتحدث عن أعلام في الضلال

- ‌تعليق:

- ‌الفقرة الثالثةفي أشهر الفرق التي نشأت في بيئات إسلاميةوليست من أهل السنة والجماعة

- ‌1 - فرق الخوارج

- ‌2 - المعتزلة

- ‌3 - المرجئة

- ‌4 - بعض الفرق الشاذة من الزيدية

- ‌5 - فرق الكيسانية

- ‌6 - فرق النجارية

- ‌7 - فرق الكرامية

- ‌8 - الإمامية

- ‌9 - فرق الباطنية

- ‌10 - في بعض فرق المشبهة

- ‌11 - في الجاهلية وهم في الجبرية

- ‌12 - الحلوليون والإباحيون

- ‌13 - القائلون بوحدة الوجود

- ‌14 - البابية

- ‌15 - البهائية

- ‌دين البابية والبهائية

- ‌16 - القاديانية

- ‌الفقرة الرابعةفي:الخوارج خاصة

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفقرة الخامسةفي:ضرورة لزوم الجماعةوفي:التعرف على الفرقة الناجية

- ‌النصوص الحديثية

- ‌النقول

- ‌الفصل الثاني والعشرونفي:الاختلاف الجائز والاختلاف الممنوع

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌الفصل الثالث والعشرونفي:التحذير من مواطأة الأمم في انحرافاتها

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌التعقيب:

- ‌الفصل الرابع والعشرونفي:التحذير من الفتن والأهواء وأهلها

- ‌المقدمة

- ‌النصوص

- ‌التعقيب

الفصل: ‌ ‌الفصل العشرون في: البدعة

‌الفصل العشرون

في:

البدعة

ص: 339

من بدهيات الإسلام التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا والله عز وجل يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1).

ومن بدهيات الإسلام الحذر من البدعة وكراهيتها، ولكن هذين الموضوعين يلبس بهما أهل الجهل على المسلمين فاقتضى ذلك تبيينهما.

فيما يدخل في التمسك بالسنة: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم بالكليات والجزئيات، وذلك يقتضي فهم سيرته ومعرفة سننه، ولكن درجات الإلزام في ذلك يحددها أئمة الاجتهاد والفتوى الصحيحة من أهلها، فهناك سنة عادة وسنة عبادة وسنة دائمة وتشريع مؤقت، وما دام المسلم على فتوى إمام مجتهد أو عالم معتمد فهو على إسلام وعلى سنة وعلى اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حده الأدنى أو حده الأعلى، وما دام المسلم على العقائد الإسلامية كما هي في صريح الكتاب والسنة وما دام على فهم الراسخين في العلم من الأئمة في المتشابهات فهو على سنة، وبالتالي لا يعتبر مبتدعاً من من كان في المحكمات على الكتاب والسنة وفي المتشابهات والمشتبهات على مذاهب الراسخين في العلم من أئمة أهل السنة والجماعة، ومن ضلل من تابع الأئمة في مثل هذين الأخيرين فقد ضل لأنه يريد أن يلقي بالأمة في أحضان الجاهلية وأن يتهم الأئمة وحاشاهم.

وأخطر أنواع البدع بدع الاعتقاد التي تخرج الإنسان عن كونه من الفرقة الناجية إلى أن يدخل في الفرق الثنتين والسبعين التي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استحقاقها النار، ويدخل في الابتداع ابتداع العمل، ولكن لا نحكم على إنسان في العقائد أنه مبتدع ما دام على فهم الراسخين في العلم للمتشابهات، قال تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (2) فالقراءة التي تقف على قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} تفيد إفادة صريحة كما ذكرناه، ولا نحكم على عمل أنه بدعة، أما إذا اختلفوا في بدعيته وتحريمه فالأمر واسع بالنسبة للعامي، وهو أضيق في

(1) الأحزاب: 21.

(2)

آل عمران: 7.

ص: 341

حق من يعرف مسالك الدليل، فمن ترجح لديه أن الدليل الأقوى يوصل إلى البدعية فعليه أن يجتنب، ولكنه لا يحق له أن يشتد في الإنكار على من يتابع أئمة الاجتهاد أو أئمة الفتوى في مثل هذه الحالة، فالسير على اجتهاد إمام من أئمة الاجتهاد، أو على فتوى إمام من الأئمة المعتبرين في الفتوى يخرج صاحبه من إثم الابتداع المحرم أو المكروه، إلا إذا كان من أهل العلم الذين يعرفون مسالك الأدلة فالأمر في حق مثل هؤلاء أشد، ولا يصح لواحد منهم أن يشتد على من خالفه ما دام على رأي إمام معتمد.

418 -

* روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بينٌ وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يُوشكُ أن يرتع فيه. ألا وإن لكلِّ ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمُهُ. ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب".

دل هذا الحديث على أن بعض مسائل الحرام والحلال مشتبهة لا يعلمها الكثير، وإذن فالقليل يعلمها وهم الأئمة المجتهدون المستشرفون لنصوص الكتاب والسنة والقادرون على

418 - البخاري (1/ 126) -2 - كتاب الإيمان -29 - باب فضل من استبرأ لدينه.

مسلم (3/ 1219) -22 - كتاب المساقاة -20 - أخذ الحلال وترك الشبهات.

بين: ظاهر، وهو ما نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه. وكذلك بالنسبة للحرام.

مشتبهات: مشكلات، لما فيها من عدم الوضوح في الحل والحرمة بسبب تنازع الأدلة فتشبه مرة الحلال ومرة الحرام.

اتقي الشبهات: أي ابتعد عن المشكلات واجتنبها.

فقد استبرأ لدينه وعرضه: أي طلب البراءة، أو حصل عليها، لحفظ دينه من الذم الشرعي، وعرضه يصونه عن كلام الناس بما يعيبه.

وقع في الشبهات: أي تجرأ عليها وفعلها. وهذا ربما يؤدي به إلى تساهل وجرأةٍ يحملانه عادةً على فعل الحرام الظاهر.

الحمى: أي المحمي. وهو المحظور على غير مالكه. وقيل: هو الكلأ الذي يمنعه الحاكم ويتوعد من يرعى فيه.

محارمه: معاصيه التي حرمها الله تعالى، وهي الجناية على النفس والعرض والمال وغيرها. كالقتل والسرقة والزنا

إلخ.

ص: 342

الاستنباط منهما، وعلى هذا فإذا كان أحد العلماء مظنة الاجتهاد وقال قولاً لا يخالف صريح كتاب أو سنة قطعية الثبوت قطعية الدلالة ليس لها معارض، فللمسلم أن يتابعه ولا حرج، ولا يكون بذلك مبتدعاً، فالمبتدع هو من سار في أمر العقائد على غير أقوال الراسخين في العلم، وفي الفروع على غير أقوال الأئمة المجتهدين، نفهم ذلك من هذا الحديث في قضايا الحلال والحرام، ومن قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1).

وقد قال الإمام أحمد (2) عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} فقال: "إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهمن الذين عنى اللهُ فاحذروهم".

وفي البخاري (3) ومسلم وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذورهم".

ويدخل في ذلك كل من اتبع المتشابه وترك المحكم.

ويدخل في ذلك فرق الضلال كلها، كما سنرى في مباحث لاحقة.

أما من تابع الراسخين في العلم من أهل السنة والجماعة الذين يحملون المتشابه على المحكم فحاشاهم من الابتداع.

(1) آل عمران: 7.

(2)

أحمد (6/ 48).

(3)

البخاري (8/ 209) -65 - كتاب التفسير -1 باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .

مسلم (4/ 2053) -47 - كتاب العلم -1 - باب النهي عن اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه

أبو داود (4/ 198) -كتاب السنة - باب مجانبة أهل الأهواء.

ص: 343

وقد تشدد قوم في موضوع البدعة نتيجة لسوء الفهم، فحكموا على أشياء أجازها أئمة الاجتهاد أو بعضهم على أنها بدع ضالة وضللوا أهلها، وليس لهم ذلك وفهمهمن للحديث (1):"كلُ ما ليس عليه أمرنا فهو رد" فهو مغلوطٌ في هذه الحالة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما وافق الكتاب والسنة، وما أحال عليه الكتاب والسنة من مسالك الاجتهاد كالقياس والإجماع والاستحسان -عند القائلين به- وتحكيم العرف حيث سكت النص- عند القائلين به- وكل ذلك داخل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يحسن كل أحد أن يستنبط ما يوافق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من وصل إلى رتبة الاجتهاد أو وصل إلى الإمامة في الفتوى، أمثال هؤلاء يستطيعون أن يميزوا بين ما وافق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من اعتقادات وأعمال وما لا يوافق، وبالتالي ففتوى هؤلاء أو أحدهم بالموافقة يُخرِج من أخذ بفتواه من أن يكون من أهل الابتداع، وهذا الذي قلناه تشهد له أعمال الصاحبة، فكثيراً ما حدث أن الصحابي كان يقول أو يفعل الفعل بناء على فهمه لشريعة الله، دون أن يكون هناك نص خاصٌ في عمله أو في قوله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه ذلك إن وافق فعلاً أمره، وإلا صحح وسدد، وهذا الذي كان يفعله الصحابة فهماً من النصوص، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرّه ويعجبه هو الذي يجعلنا نقول: إن كثيراً من الاجتهادات التي حدثت بعده عليه الصلاة والسلام قد توافق أمره وقد تخالفه، فمن الذي يحكم عليها؟ لا شك أن أئمة الاجتهاد وأئمة الفتوى المؤهلين للتمييز بين ما يوافق الأمر وما يخالفه، فإذا أجمعوا فذلك الذي لا يسع مسلماً أن يخالفه، وإذا افترقوا فالأمر واسع، وأحياناً يحدث فيما بينهم نقاش ثم يستقر عند الأمة على شيءٍ متفق عليه، فبعد الاتفاق واستقرار أمر الأمة على شيء فههنا كذاك لا ينبغي أن يخالف، ومن خالف كان مبتدعاً.

وقد تتبع بعضهم ما فعله الصحابة ابتداءٌ دون أمر خاص وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم عليه،

(1) البخاري (5/ 301) -53 - كتاب الصلح -5 - باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود.

مسلم (3/ 1343) -30 كتاب الأقضية -8 - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.

أبو داود (4/ 200) - كتاب السنة -باب في لزوم السنة.

ابن ماجه (1/ 7) - المقدمة -2 - باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه.

ص: 344

وذلك كله يشهد لما ذكرناه، فذكر من ذلك المسائل التالية:

419 -

* الحديث الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبلالٍ عند صلاة الفجر: "يا بلالُ حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام فإني سمعت دَف نعليك في الجنة". قال: ما عملتُ عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليتُ بذلك الطهور ما كُتب لي.

وفي حديث الترمذي (2) قاله لبلال: "بم سبقتني إلى الجنة"؟ قال: ما أذنتُ قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت ورأيت أن لله علي ركعتين. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"بها نِلت". أي تلك المنزلة.

قال الحافظ ابن حجرٍ في الفتح: يُستفاد منه جوازُ الاجتهاد في توقيتِ العبادة؛ لأن بلالاً توصل إلى ذكره بالاستنباط فصوبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (3) ومثلُ هذا حديثُ خبيب في البخاري وفيه: وهو أول من سن الصلاة لكلِّ مقتول صبراً ركعتين (4). فهذه الأحاديث صريحةً في أن بلالاً وخبيباً اجتهدا في توقيت العبادة، ولم يسبق من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمرٌ ولا فعلٌ إلا الطلبُ العام. وإن الصلاة خيرٌ موضوعٌ فأقلل منها أو استكثر كما في الحديث، فلو أن أحداً أراد إيقاعها في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لكانت بدعة عند من يرى عمووم النهي، وغير بدعةٍ عند من يرى تخصيص النهي بالنفل المطلق، ومع أن الشافعية رحمهم الله يرون تخصيص النهي بغير المؤقت بذي السبب، فإنهم اختلفوا في سنة الوضوء فالإمام الغزالي يمنع فِعلها فيه، ويقول: يتوضأ

419 - البخاري (3/ 33، 34) -19 - كتاب التهجد -17 - باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار.

مسلم (4/ 1910) -44 - كتاب فضائل الصحابة -21 - باب من فضائل بلال رضي الله عنه.

أحمد (2/ 333).

(1)

الترمذي (5/ 620) -50 - كتاب المناقب -18 - باب في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وقال: هذا حديث صحيح غريب.

المستدرك (3/ 285). وقال: صحيح على شرطهما. وأقره الذهبي.

(2)

فتح الباري ج 3 ص 34.

(3)

فتح الباري: ج 7 ص 379.

ص: 345

ليصلي وليس يصلي لأنه توضأ. فليست بذات سبب، ولكلٍّ نهجهُ وفهمهُ واستدراكه، رضوان الله عليهم أجمعين.

420 -

* الحديث الثاني ما رواه البخاري عن رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده". قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: "من المتكلم؟ " قال: أنا. قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها".

قال الحافظ في الفتح: يُستدلُّ به على جواز إحداث ذكرٍ في الصلاة مأثور إذا كان غير مخالفٍ للمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش.

ومثله ما رواه الصنعاني عبد الرزاق في المصنف (2) عن ابن عمر قال إن رجلاً والناس في الصلاة فقال حين وصل إلى الصف: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً. فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته قال: "من صاحبُ الكلمات؟ " قال الرجل: أنا يا رسول الله، والله ما أردتُ بهن إلا الخير. قال:"لقد رأيت أبواب السماء فتحت لهن". قال ابن عمر. فما تركتهن منذ سمعتُهن.

ورواه النسائي (3) إلا أنه قال: "لقد ابتدرها اثنا عشر ملكاً". وفي رواية أخرى فيه (4) قال: "عجبت لها". وذكر كلمةً معناها: "فتحت لها أبواب السماء". وفيه قال ابن عمر: ما تركته منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله.

420 - البخاري (2/ 284) -10 - كتاب الأذان -126 - باب حدثنا معاذ بن فضالة.

(1)

المصنف (2/ 76).

(2)

النسائي (2/ 225) -11 - كتاب الافتتاح -8 - باب القول الذي يفتتح به الصلاة.

(3)

النسائي، الموضع السابق.

والحديث في مسلم والنسائي وأبي داود عن أنس، وحديث رفاعة بن رافع الزرقي عند أبي داود أيضاً. وفي أبي داود عن عبد الله بن عامر عن أبيه قال:"عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه حتى يرضى ربنا من أمر الدنيا والآخرة فلما انصرف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من القائل الكلمة". وفيه: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "فما تناهت دون عرش الرحمن تبارك وتعالى".

ص: 346

فانظر- وفقنا الله وإياك إلى الحق- كيف أقر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم زيادة ذكر لم يؤثر عنه في افتتاح الصلاة، وأقر فاعليها بأعلى درجات الإقرار والرضاء، وذلك لأن الموضعين من مواضع الثناء على الله في الصلاة.

والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أقر الصحابيين على إحداث أذكار في الصلاة لم تكن مأثورة عنه، وهذا موضع الاستدلال كما سبق، وأنه كان اجتهاداً واستنباطاً منهما.

421 -

* الحديث الثالث ما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قُباء كلما قرأ افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به ثم افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمة أصحابهُ فقالوا: إنك تفتتحُ بهذه السورة ثم لا ترى أنها تُجزئُكَ حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى. فقال: ما أنا بتاركها، وإن أحببتم أن أؤمكم فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه فقال:"يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة"؟ فقال: إني أحبها. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حبك إياها أدخلك الجنة".

قال الحافظ في الفتح: (قوله: ما يمنعُك وما يحملك. سأله عن أمرين فأجابه بقوله: إني أحبها. وهو جواب عن السؤال الثاني مستلزمٌ للأول بانضمام شيء آخر إليه وهو إقامة السنة المعهودة في الصلاة. فالمانعُ مركب في المحبة والأمر المعهود والحاملُ له على الفعل المحبةُ وحدها، ويوحي إلى أن في فعله زيادةً على فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فدل تبشيره بالجنة على الرضاء بفعله. قال ناصر الدين ابن المنير في هذا الحديث:"إن المقاصد تغيِّرُ أحكام الفعل لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لم يحفظ غيرها. مثلاً، لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها لكنه اعتل بحبها فظهرت صحة قصده فصوبه".

421 - البخاري (2/ 255) -10 - كتاب الأذان -106 - باب الجمع بين السورتين في الركعة.

ص: 347

قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يُعدُّ ذلك هجراناً لغيره، ومع هذا التقرير من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتبشير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بالجنة لم نجد من العلماء ولا من الصحابة قبلهم من يقول بأن فعله هذا سنة ثابتة، ذلك لأ، ما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تنبغي المحافظة عليه، ولكنه يُعطينا الدليل على أن مثل هذا وإن كان في صورته مخالفةٌ لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة فإن الأمر واسع لا كما يظن البعض ما دام الفعل في إطار المشروع والمطلوب، [ويدخل في عمومات الشريعة]).

422 -

الحديث الرابع روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلاً على سريةٍ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختمُ بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك". فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقر بها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أخبروه أن الله يحبه".

قال الحافظ في الفتح: قال ابن دقيق العيد: هذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرأها في كل ركعة وهذا هو الظاهر. ويحتمل أن يكون المراد أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة أ. هـ (1). أي وكلا الأمرين لم يُعهد فعلُهُ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك أقره بأعلى درجات الإقرار وهو التبشيرُ بمحبةِ الله له.

ومع كل هذا فلم نعلم أن أحداً من العلماء قال باستحباب ذلك افتتاحاً كالحديث السابقن ولا اختتاماً كما هنا، لأن ما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الأفضل، ولكن إقراره لمثل هذا يُوضحُ سُنتهُ صلى الله عليه وآله وسلم في قبول ما كان مثل ذلك من أوجه الطاعات والعبادات، ولا يُعتبرُ مثلهُ حدثاً مذموماً كما يتسابق المتشددون إلى

422 - البخاري (13/ 347) -97 - كتاب التوحيد -1 - باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.

مسلم (1/ 557) -6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها -45 - باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

(1)

فتح الباري (13/ 356).

ص: 348

التبديع والتضليل في أفعاله. هذا وظاهرٌ من سياق الحديثين (هذا والذي قبله) أنهما قضيتان، فحديث أنس الأول فيه أن الفاعل لتخصيص هذه السورة إمام قومه في مسجد قباء، وفي حديث عائشة كان أمير سريةٍ. وأن هذا كان يختتم بقل هو الله أحد، وذاك كان يفتتح بها. وهذا بشره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحب الله له، وذاك بشره بالجنة. فالتعدد فيهما واضح لا يحتمل الجمع ولا التأويل. والأحاديث التي مرت كلها في الصلاة كما ترى، وهي أهم أعمال العبادات البدنية وفيها قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (1):"صلوا كما رأيتموني أصلي". ومع ذلك قَبِلَ هذه الاجتهادات لأنها لا تخرجُ عن الهيئة التي حدَّدها الشارعُ. [ولأنها داخلة في العمومات التي ندب إلى أصلها الشارع]. فكلُّ حدٍّ لابد من الالتزام به، وما عدا ذلك فالأمر مُسعٌ ما دام داخلاً في الأصل المطلوب. هذه هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته. وهذا في غاية الوضوح. ويؤخذُ منها ما أصَّله العلماء أن كل عمل يشهدُ له الشرع من الطلب ولم يصادم نصاً ولا تترتب عليه مفسدةٌ فليس داخلاً في حدود البدعة، بل هو من السنة وإن كان غيره أفضل: فالعبادات فيها المفضول وفيها الفاضل، ولا يعاب ولا يُبدعُ من استروح شيئاً منها ما دام الأصلُ عبادةً. والآن نأتي على شيء من الاجتهادات التي أقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غير الصلاة، لترى كيف أقرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

423 -

الحديث الخامس: حديثُ الرُّقية. وقد رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رهطاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم انطلقوا في سَفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفهم، فلُدغَ سيدُ ذلك الحي فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيءٌ. فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذي نزل بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيءٌ فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لُدغ فسعينا له

(1) البخاري (2/ 111) -10 - كتاب الأذان -18 - باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة ..

أحمد (5/ 53).

الدارمي (1/ 286) -كتاب الصلاة- باب من أحق بالإقامة.

423 -

البخاري (10/ 209) -76 - كتاب الطب -39 - باب النفث في الرقية.

ص: 349

بكل شيء فهل عند أحدٍ منكم شيءٌ؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لراقٍ ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعلاً فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانلق فجعل يتفُلُ ويقرأ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . حتى لكأنما نَشِطَ من عِقالٍ فانطلق يمشي ما به قَلبةٌ. فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا. وقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَنَذكُر له الذي كان فننظر ما يأمرنا. فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا له فقال: "وما يُدريك أنها رُقيةٌ. أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهمٍ".

قال الحافظ في الفتح في كتاب الإجارة (1): قوله "وما يدريك" إلخ هي كلمة تقال عند التعجب من الشيء، وتستعملُ في تعظيم الشيء أيضاً، وهو لائق هنا. زاد شعبةُ في روايته: ولم يذكر نهياً. أي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وزاد سليمان بن قتة في روايته بعد قوله: "وما يدريك أنها رُقية"؟ قلت ألقي في روعي أهـ.

وهذا صريح في أن الصحابي لم يكن عنده علم متقدم بمشروعية الرُّقية بالفاتحة، ولكنه شيء فعله باجتهاده، ولما لم يكن فيه مخالفةٌ للمشروع أقره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذه سنته وطريقته في إقرار ما كان من الخير ولا تترتبُ عليه مفسدةٌ، وإن لم يكن من عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نصاً. وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:"قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم". كأنه أراد المبالغة في تأنيسهم كما قال الحافظ.

424 -

* الحديث السادس: وقد وقعت للصحابة قصة أخرى في رجل مُصاب في عقله فقرأ عليه بعضُهم فاتحةَ الكتابِ فبرأ.

روى أبو داود من طريق خارجة بن الصلت عن عمه: أنه مر بقوم وعندهم رجل مجنون

= الجعل: هو ما جعل للإنسان من أجر في مقابل شيء.

ما به قلبةٌ: أي ما به أثر من مرض.

(1)

فتح الباري (4/ 457).

424 -

أبو داود (4/ 14) -كتاب الطب- باب كيف الرقي؟

وانظر فتح الباري (4/ 455).

ص: 350

موثق في الحديد، فقالوا: إنك جئت من عند هذا بخير، فارق لنا هذا الرجل. فرقاه بها.

425 -

* الحديث السابع: روى أبو يعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ على مبتلى في أذنه فأفاق، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:"ما قرأت"؟ قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} إلى آخر السورة. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن رجلًا موفقًا قرأ بها على جبل لزال".

وفي الحديث تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابن مسعود في قراءته الآيات من آخر سورة المؤمنون على المبتلى، ولم يكن قد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو شيء استنبطه باجتهاده. ولما كان من الخير الذي لا يعارض المشروع أقره كصاحب الرقية عند البخاري، والتي عند أصحاب السنن، وهما قضيتان إحداهما لأبي سعيد الخدري، والثانية لعم خارجة بن الصلت، وهذه الثالثة لابن مسعود، وهناك رابعة عند ابن حبان لعلاقة بن صحار وهي الحديث الثامن.

426 -

* الحديث الثامن: روى ابن حبان عن علاقة بن صحار السليطي التميمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أقبل راجعًا من عنده فمر على قوم عندهم رجل موثق بالحديد، فقال أهله: إنه قد حدثنا أن صاحبكم قد جاء بخير. فهل عندك شيء ترقيه؟ فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطوني مائة شاة فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "خذها فلعمري لمن أكل برقية باطل فقد أكلته برقية حق".

427 -

* الحديث التاسع: روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ بقل هو الله أحد يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له

425 - مجمع الزوائد (5/ 115). وقال: رواه أبو يعلى وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح، أهـ من المجمع. ومثله في المطالب العالية للحافظ ابن حجر.

426 -

الإحسان بترتيب ابن حبان (7/ 636) - كتاب الرقاء والتمائم- باب ذكر بإباحة أخذ الراقي الأجرة على رقيته التي وصفناها.

427 -

البخاري (9/ 58، 59) - 16 كتاب فضائل القرآن- 13 - باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

ص: 351

ذلك وكأن الرجل يتقالها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن".

قال الحافظ في الفتح: القارئ هو قتادة بن النعمان. أخرجه أحمد بن طريف بن الهيثم عن أبي سعيد، قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ من الليل كله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يزيد عليها. والذي سمعه لعله أخوه لأمه أبو سعيد، وكانا متجاورين، وبذلك جزم ابن عبد البر. وقد خرج الدارقطني من طريق إسحاق بن الطباع عن مالك في هذا الحديث بلفظ إن لي جارًا يقوم بالليل فمل يقرأ إلا بقل هو الله أحد. أهـ (1).

وفي الحديث إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم له على هذا التخصيص والاقتصار على هذه السورة في قيام الليل، مع ما فيه من التخصيص الذي لم يكن من عمله صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه ما في سابقيه برقم 3، 4 من الدلالة على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانا لغيره. ومع كل هذا فلم نجد من العلماء من قال بأفضلية قيام الليل بها وحدها، لأن ما كان عليه عمل الرسول صلى الله عليه وسلم من القراءة بالقرآن كله أفضل من ذلك، ولكن عمله وما يشبهه داخل في نطاق السنة، وليس فيه ما يذم؛ بل هو محمود على كل حال. وفيه رد على المبدعين [بالباطل] كالأحاديث السابقة والتي ستأتي.

428 -

* الحديث العاشر: روى ابن حبان عن ابن بريدة عن أبيه قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فإذا رجل يصلي يدعو: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا

(1) فتح الباري (9/ 59، 60).

428 -

ابن حبان (2/ 125) - كتاب الرقائق- باب ذكر البيان بأن دعاء بما وصفنا إنما هو دعاؤه باسم الله الأعظم الذي لا يخيب من سأل ربه به.

أحمد (5/ 349).

أبو داود (2/ 79) - كتاب الصلاة- باب الدعاء.

الترمذي (5/ 515) - 49 - كتاب الدعوات- 64 - باب جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ابن ماجه (2/ 1267) - 34 - كتاب الدعاء- 9 - باب اسم الله الأعظم.

ورواه أيضًا النسائي في الكبرى في كتاب التفسير.

ص: 352

أحد. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" أهـ وهذا دعاء أنشأه الصحابي فيما يظهر، ولما كان مطابقًا للمطلوب أقره صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى درجات الإقرار والرضاء، ولم يعلم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم علمه إياه، فنصوص الشريعة فيها العام المخصوص، والعام الذي أريد به الخصوص، وفيها الحقيقة والمجاز وما يجب أن يصار إليه عند التعارض، إلى غير ذلك من القواعد الأصولية حتى قالوا:(ما من عام إلا وخصص)، ولا يمنع وجود (كل) من التخصيص كما هو في آيات الكتاب الكريم.

فدل هذا كله على أن إنشاء أمر ما يدخل ضمن عمومات الشرع، أو يعتبر تفريعًا لأصل من أصوله، أو يعتبر انبثاقًا عنه، أو استنباطًا من الكتاب والسنة لا يعتبر بدعة، ولكن يخشى أن يكون هذا الإنشاء غير مستند استنادًا صحيحًا إلى عام يدخل فيه هذا الخاص إلى هذا النوع ولا يعتبر انبثاقًا صحيحًا من الأصول أو أن هذا الاستنباط خاطئ ولذلك قلنا لابد من موافقة أهل الاجتهاد أو بعضهم لهذا الإنشاء حتى يخرج من البدعة السيئة ليدخل في السنة الحسنة.

لقد غلط أناس كثيرون في أمر البدعة، وإذا صحت نية بعضهم فهم مأجورون ونخشى على بعضهم أن يدخلوا في دائرة الهالكين، ونخشى على بعضهم أن يدخلوا في دائرة الضالين.

فهناك من هو على بدعة في الاعتقاد أجمع على بدعيتها الراسخون في العلم ولا يتردد في بدعيتها.

وهناك من هو على بدعة في العمل أجمع على بدعيتها الراسخون في العلم ولا يتردد في بدعيتها.

وهناك من يعتبر بعض القضايا بدعة ضالة، وهي مما أجمع على جوازه الراسخون في العلم.

وهناك من يعتبر بعض القضايا بدعة ضالة، ويشتد على أهلها مع إجازة بعض أئمة الاجتهاد أو الفتوى لها، وكل ذلك غلط كبير إلا في الأخيرة فلا حرج في الإنكار ولكن

ص: 353

دون شدة وغلظة بل بالبيان الرفيق وذكر الدليل وذكر من أفتى بذلك من أئمة الفتوى.

إن ما ذكرناه هو الأمر الجامع وهو الذي ينسجم مع النصوص ومع فعل الصحابة وإجماع أهل الفتوى المعتبرين: ألا ترى إلى إجماع الصحابة على جمع عمر الناس في صلاة التراويح على إمام واحد وجعلها عشرين، وقول عمر (نعمت البدعة هذه) وكل ذلك قد صح عن عمر وعن الصحابة (1). ألا ترى أن الذين يضللون عمر والصحابة بسبب ذلك قد دخلوا في دائرة الضلال، فعمر من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بالاقتداء بهم والاقتداء بهديهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول وهم أعمق الناس فهمًا لكتاب الله، ولم تزل الأمة تفعل ما فعله دون نكير إلا من دخل في دائرة الغلو ولم يستطع الخروج منها.

وهذه نقول عن العلماء توضح ما ذكرناه وتؤكده:

قال الإمام الشافعي: البدعة بدعتان محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم.

ويشهد لهذا المعنى حديث جرير عند مسلم (2)"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" ومثل هذه الأحاديث أحاديث أخرى تدور حولها منها: حديث ابن مسعود عند مسلم (3): "من دل على خير فله مثل أجر فاعله". وحديث أبي هريرة عند مسلم (4): "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم

".

إن ما يحدث يجب أن يعرض على قواعد الشريعة ونصوصها فما شهدت له الشريعة بالحسن فهو حسن مقبول وما شهدت له الشريعة بالمخالفة والقبح فهو المردود وهو البدعة

(1) راجع شرح السنة (4/ 116 - 125) بتحقيق الأستاذ شعيب الأرناؤوط.

(2)

مسلم (4/ 2059) 47 - كتاب العلم. 6 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

(3)

مسلم (3/ 1506) 33 - كتاب الإمارة. 38 - باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره وخلافته في أهله بخير.

(4)

مسلم (4/ 2059) 47 - كتاب العلم. 6 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

ص: 354

المذمومة. وقد يسمون الأول (بدعة حسنة) من حيث اللغة باعتباره محدثًا وإلا فهو في الواقع ليس ببدعة شرعية بل هو (سنة مستنبطة) ما دامت شواهد الشريعة تشهد لها بالقبول. وعلى هذه البدعة اللغوية يحمل قول سيدنا عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نعمت البدعة).

إن ما شهد له شاهد من الشرع بالطلب خاصا أو عاما ليس من البدعة وإن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعله بخصوصه أو أمر به أمرًا خاصًا.

قال النووي: (1) في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (2): "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص المراد به المحدثات التي ليس في الشريعة ما يشهد لها بالصحة فهي المرادة بالبدع. وقال الحافظ أبو بكر بن العربي في شرحه على سنن الترمذي: - (السابعة)(3): "وإياكم ومحدثات الأمور" اعلموا علمكم الله أن المحدث على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة فهذا باطل قطعًا (أي) وهو البدعة الضلالة. ومحدث يحمل النظير على النظير فهذه سنة الخلفاء والأئمة الفضلاء. قال وليس المحدث والبدعة مذمومين .. [لمجرد النظر إليهما](محدث وبدعة) ولا لمعناها فقد قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (4) وقال عمر (5)(نعمت البدعة) وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة ويذم من المحدث ما دعا إلى ضلالة أ. هـ.

وهكذا نجد الأئمة الذين جاءوا بعد الشافعي مثل سلطان العلماء العز بن عبد السلام من الشافعية والإمام النووي وابن الأثير من الشافعية وابن العربي والقرافي من المالكية

(1) راجع حاشية السيوطي على سنن النسائي ص 234 جـ 2.

(2)

أحمد (4/ 126).

مسلم (2/ 592) 7 - كتاب الجمعة. 13 - باب تخفيف الصلاة والخطبة.

أبو داود (4/ 201) كتاب السنة- باب في لزوم السنة.

الترمذي (5/ 44) 42 - كتاب العلم. 16 - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع.

وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

المواضع السابقة.

(4)

الأنبياء: 2.

(5)

البخاري (4/ 250) 31 - كتاب صلاة التراويح. 1 - باب فضل من قام رمضان.

ص: 355

وغيرهم كثير آخرهم الحافظ ابن حجر العسقلاني كلهم أقروا تقسيم المحدث إلى محمود ومذموم وأنه قد تعتريه الأحكام الخمسة بحسب الأصل الذي يبنى عليه والشواهد التي تشهد له أو عليه أو لما يترتب عليه من المصالح أو المفاسد أو مصادمة الشرع أو موافقته.

ومع كل هذا فإن لهم تقسيمًا آخر: البدعة المكفرة والبدعة المحرمة والبدعة المكروهة تحريمًا والبدعة المكروهة تنزيهًا.

وهناك جمهور من العلماء قرروا هذا التقسيم منهم النووي وابن العربي وخاتمة الحفاظ ابن حجر.

إن البدعة المضلة الواردة في الحديث الشريف هي المنافية لأمر الشرع والتي ليست هي مما طلبه الشرع بدليل خاص أو عام. وإن كل ما كان من الشرع وشهد له بالطلب دليل خاص أو عام فليس هو بالبدعة الشرعية المرادة في الحديث وإن سمي بدعة باعتباره اللغوي الشامل للحسن والقبيح.

عن عبد الله بن مسعود (1) قال إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ.

ولابن تيمية كلمة جاءت في سياق كلام في كتابه: (جواب أهل العلم) تدل على أن ابن تيمية يرى أن كلام السلف من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين إذا قالوا قولًا فذلك يكون حجة يخرج أصحابه من الابتداع. قال رحمه الله: والمقصود أن هذين القولين لا يقدر أحد أن ينقل واحدا منها عن أحد من السلف أعني الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والورع في الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق لا في زمن أحمد بن حنبل

(1) أحمد (1/ 379).

قال في المجمع (1/ 177): رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله موثقون.

ص: 356

ولا زمن الشافعي ولا زمن أبي حنيفة ولا قبلهم. أ. هـ (1).

وقد تحدث الإمام العز بن عبد السلام في مقدمة رده على ابن الصلاح بخصوص صلاة الرغائب- عن البدعة وأقسامها فقال: إن البدعة ثلاثة أضرب:

1 -

ما كان مباحًا كالتوسع في المأكل والمشارب والملابس والمناكح فلا بأس بشيء من ذلك.

2 -

ما كان حسنًا، وهو كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها كصلاة التراويح، وبناء الربط والخانات والمدارس، وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول، فإنه موافق لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى، وكذلك الاشتغال بالعربية فإنه مبتدع، ولكن لا يتأتى تدبر القرآن، وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك فكان ابتداعه موافقًا لما أمرنا به من تدبر آيات القرآن وفهم معانيه، وكذلك الأحاديث وتدوينها وتقسيمها إلى الحسن والصحيح والموضوع والضعيف، مبتدع حسن، لما فيه من حفظ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخله ما ليس فيه، أو يخرج منه ما هو فيه، وكذلك تأسيس قواعد الفقه وأصوله وكل ذلك مبتدع حسن، موافق لأصول الشرع غير مخالف لشيء منها.

3 -

ما كان مخالفًا للشرع، أو ملتزمًا لمخالفة الشرع. أهـ (2).

وقد كان الإمام حسن البنا رحمه الله يحذر أتباعه من الانشغال بمحاربة البدع الإضافية لأن في محاربة البدع الحقيقية شغلًا ويريد بالبدع الحقيقية ما خالف الدين من المنكرات التي لا خلاف بين العلماء في واحد منها وضررها على الدين وما أكثرها وأخطرها بين المسلمين ومراده بالبدع الإضافية ما اندرج تحت أصل عام في الطلب ولكن صورته غير مأثورة كسائر المسائل المستنبطة، والمختلف فيها بين الفقهاء وهذا منه إدراك الخطورة البدع الحقيقية وخطورة السكوت عنها والانشغال بغيرها. أما الخلافات المذهبية فهي أمر ضروري

(1) انظر ص 23 في كتاب جواب أهل العلم.

(2)

من كتاب "العز بن عبد السلام وأثره في الفقه الإسلامي" للدكتور علي الفقير.

ص: 357

والإجماع على أمر فرعي متعذر. فعلينا أن نعتقد الحق فيما بلغنا ونلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات ولا يكون حائلًا بين ترابط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير (1).

وإليك نقولًا عن أهل العلم تزيد ما قلناه تأكيدًا وتعطيك تصورًا أكمل عما يعتبرونه بدعة:

البدعة في اللغة: كل شيء أحدث على غير مثال سابق كان محمودًا أو مذمومًا.

والبدع: الأمر الذي يكون أولًا ومنه قوله تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2) أي لست أول من جاء بالوحي

أو ما كنت مبتدعًا فيما أقوله.

ومن أسمائه تعالى البديع: لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها فيكون بمعنى مبدع أو من بدع الخلق أي بدأه.

وغالبًا ما تدور مادة بدع على الإحداث والاختراع.

البدعة في الاصطلاح:

اختلفت أنظار العلماء فيها فمنهم من توسع في تحديدها ومنهم من ضيقها:

1 -

الإمام الشافعي- رحمه الله:

يقسم البدعة إلى حسنة وسيئة، أو محمودة ومذمومة. وهي على هذا تشمل كل حادث بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين:

عن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة .. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم (3).

(1) من مراجع هذا البحث، كتاب للسيد عبد الله بن محفوظ باعلوي الحسيني الحضرمي رئيس القضاء الشرعي في حضرموت سابقًا.

(2)

الأحقاف: 9.

(3)

الباعث لأبي شامة ص 13، وفتح الباري جـ 17 ص 10، وقال أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عنه.

ص: 358

وقال الربيع: قال الشافعي رحمه الله تعالى: المحدثات من الأمور ضربان:

أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا، فهذه البدعة الضلالة.

والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهي محدثة غير مذمومة (1). وقد استند في كلا التعبيرين إلى قول عمر رضي الله عنه، في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه (2).

2 -

وابن حزم رحمه الله يقول:

البدعة في الدين: كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنًا، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه (3)، وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص. ومنها ما يكون مذمومًا ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده، فتمادى القائل به.

3 -

والإمام الغزالي رحمه الله يقول في إحيائه عن الأكل على السفرة:

وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما أبدع منهيًا عنه بل المنهي- عنه- بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرًا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب (4).

4 -

وابن الأثير رحمه الله، يقول:

البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال .. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو

(1) المصدران السابقات، وذكره السيوطي في الحاوي جـ 1 ص 539.

(2)

البخاري (4/ 250) 31 - كتاب صلاة التراويح 10 - باب فضل من قام رمضان.

(3)

الموضع السابق.

(4)

الإحياء جـ 2 ص 3 ط. عيسى الحلبي.

ص: 359

رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد في الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا فقال "من سن سنة حسنة كان له أجره وأجر من عمل بها" (1) وقال في ضده "من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" (2) .. وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومثل البدعة الحسنة يقول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة. ثم قال: وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم (3): "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وقوله (4): "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر".

وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر "كل محدثة بدعة"(5) على ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة (6).

5 -

وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة:

اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة، وإلى هذا الاتجاه مال الشيخ عز الدين بن عبد السلام والنووي وأبو شامة (7).

(1) مسلم (4/ 2059) 47 - كتاب العلم- 6 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

(2)

مسلم: الموضع السابق.

(3)

أبو داود (4/ 201) كتاب السنة- باب في لزوم السنة.

(4)

أحمد (5/ 385).

الترمذي (5/ 609) 50 - كتاب المناقب 160 - باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما. وقال: حديث حسن.

(5)

أحمد (4/ 126).

مسلم (2/ 592) 7 - كتاب الجمعة. 13 - باب تخفيف الصلاة والخطبة.

أبو داود (4/ 201) كتاب السنة- باب في لزوم السنة.

الترمذي (5/ 44) 42 - كتاب العلم- 16 - باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع.

وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(6)

النهاية جـ 1 ص 79؟

(7)

كشاف اصطلاحات الفنون جـ 1.

ص: 360

6 -

ابن رجب الحنبلي يقول:

والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة 7 - ويقول ابن حجر العسقلاني:

والبدعة: أصلها ما أحدث على غير مثال سابق. وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة ..

ويقول في موضع آخر: والمحدثات جمع محدثة- والمراد بها- أي في حديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2) ما أحدث وليس له أصل في الشرع- ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة.

8 -

ويقول ابن حجر الهيثمي:

وهي- أي البدعة- لغة: ما كان مخترعًا

.

وشرعًا: ما أحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص والعام (3).

9 -

وقال الزركشي:

البدعة في الشرع موضوعة للحادث المذموم (4).

10 -

وقال الشيخ محمد نجيب في رسالته عن البدعة:

إن البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة ومذمومة، وأما البدعة التي قسمها العلماء إلى واجب وحرام

إلخ فهي البدعة اللغوية، وهي أعم من الشرعية لأن الشرعية قسم منها.

(1) جامع العلوم والحكم.

(2)

البخاري (5/ 301) 53 - كتاب الصلح. 5 - باب إد اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود.

مسلم (2/ 1242) 20 - كتاب الأقضية 8 - باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.

أبو داود (4/ 200) كتاب السنة- باب في لزوم السنة.

(3)

التبيين بشرح الأربعين ص 221.

(4)

الإبداع ص 22.

ص: 361

11 -

وقال الدكتور دراز ما مضمونه:

صارت كلمة البدعة في الاستعمال الشرعي إلى معنى أخص من معناها في الاستعمال اللغوي، فلا تتناول على حقيقتها الشرعية في الصدر الأول إلا ما هو باطل، وهو تلك الطرائق المخترعة التي ليس لها مستند من كتاب أو سنة أو ما استنبط منهما (1).

(1) الميزان بين السنة والبدعة ص 5.

ص: 362