الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
الإنسان في هذا العالم الكبير لا ينقضي منه العجب، وما خفي منه فذلك أعجب، والعالم الذي يعيش فيه الإنسان أكثر عجباً، ومع أنه أكثر عجباً فإنه خلق من أجل هذا الإنسان:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1). {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (2) فكان الإنسان بهذا التسخير قطب دائرة الوجود.
اقرأ عن الكون تدخل في دائرة الدهشة، مليارات السنين الضوئية، أعداد هائلة من المجرات، مجموعات شمسية كبيرة، أنواع من الإشعاعات، وأنماط من توضعات الكهارب الصغيرة، وإشارات فضائية متنوعة، وخصائص عجيبة لكل نجم، ولكل كوكب، ولكل مذَّنب، وهذه الأرض في محلها لا ينقضي منها العجب، ولا ينقضي مما فيها العجب وكل ذلك مسخَّر للإنسان.
واقرأ عن هذا الإنسان تجد كتب علم نفس تبلغ الآلاف، وهي تشمل ملاحظات مجردة عن نفس الإنسان دون أن تعرف كنهها، واقرأ عن التشريح تجد آلاف الصفحات، وهي تسجل حقائق وملاحظات عن جسم الإنسان وأعضاء الإنسان وغدد الإنسان، واقرأ ثبت الأمراض المعروفة تجد الآلاف، حتى إنه شخص حتى الآن من أمراض الوراثة وحدها حوالي ألف وخمسمائة، واقرأ تأثير الأغذية والأدوية تجد ما لا تستطيع له إحصاءً، واقرأ عن أخلاق الإنسان، وعلاقات الإنسان، واجتماعيات الإنسان، وأديان الإنسان، والأنظمة التي اخترعها الإنسان، والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما له علاقة بالإنسان تجد عجباً، أما إذا وصلت إلى حياة الإنسان، وروح الإنسان، وقلب الإنسان، ومشاعر الإنسان، فتلك عوالم مجهولة مع كثرة آثارها.
فكما أن الذات الإلهية تعرف بآثارها، ولا يحاط بها علماً، فهذه النفخة التي خلقها الله
(1) البقرة: 29.
(2)
لقمان: 20.
سبحانه وبثها في الإنسان تعرف بآثارها، ولا تدرك ولا يحاط بها:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (1).
أبعد ذلك كله يعجب الإنسان أن يرسل الله لهداية الإنسان؟!
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (2).
أفبعد هذا التركيب المدهش للإنسان يعجب الإنسان أن يكلفه الله، ويحمله مسؤولية، ويجعل له حياة أخرى، وقد خلقه هذا الخلق، وخلق له هذا الخلق:
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (4).
إن من تأمل لم يعجب، فإذا جاء الواقع يصدق التأمل لم يبق إلا التسليم، فهذه قوافل الرسل تترى:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} (6).
ولقد كذب من لا عقل له ولا إنصاف ولا تدبر، فإن أهل العقول آمنوا، وحملوا رسالات الله عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (7).
وعلى فترة من الرسل وبعد مرحلة من التيه والضياع، وبعد تصميم على الضلال عند كل فرقة من فرق الضالين بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم: - {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
(1) الحجر: 29.
(2)
النجم: 59 - 61.
(3)
يونس: 2.
(4)
القيامة: 36.
(5)
المؤمنون: 115، 116.
(6)
المؤمنون: 44.
(7)
الأنعام: 89.
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} (1). لقد بُعث محمدٌ- صلى الله عليه وسلم في مرحلة لا أمل أن ينبثق من الضلال الذي وقعت فيه الأمم هدى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (2). فالجميع مستمرون على الضلال، فكان لا بد من رسول يوقف هذا الاستمرار، ويعطي للناس الهداية.
لقد أُمر كل رسول الله بإقامة الدين وعدم التفرق فيه:
وعند بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن دين قائم؛ فالتوحيد رأس الدين تغير، ولم تعد نتيجة لذلك عبادة في الأرض، ولا عبودية، والتفرق حاصل:
{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (4).
ومن سنة الله عز وجل ألا يستأصل المختلفين في الدين:
{وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (5).
وهكذا ضاع الدين، وحدث التفرق، ولم يبق يقين:
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (6).
لقد ضاع الدين واليقين، وفي هذه الأجواء بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره:
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
(1) المائدة: 19.
(2)
البينة: 1 - 3.
(3)
الشورى: 12.
(4)
الشورى: 14.
(5)
الشورى: 2.
(6)
الشورى. 14.
كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} (1).
فمن حاج بعد ذلك فحجته مرفوضة ومهزومة:
وإذا جعل الله عز وجل كتاب هذا الدين محفوظاً فلا حجة لأحد ألا يقيم الدين، ولا حجة لأحد يتفرق في الدين، والأمر واضح، وعلينا أن نفهم هذا الدين فلا نتفرق، فبدون علم نزيغ، وبدون قلب سليم نتفرق.
وهذا الكتاب الذي بين يدينا فيه كل ما يحتاجه فهم الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم. والسنة شارحة ومفصلة:
- فقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، دينه الذي لا يقبل ديناً غيره، وأنزل عليه القرآن كتاباً لهذا الدين، مبيناً له ومفصلاً فيه، وجعل الله رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً لهذا القرآن، وشارحاً بالقدوة والحال، والكلمة والفعال، ومن ثم كان الكتاب والسنة هما أصلي هذا الدين.
- وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة لتصف هذا الدين وما يدخل فيه وما يخرج منه على الكمال والتمام، وجاءت نصوص هي بمثابة المعالم الكبرى في الإسلام؛ ليعلم من يريد الإسلام ما يعني انتماؤه للإسلام؛ وما هي المطالب الكبرى فيه: من توحيد، وصلاة وزكاة، وصوم، وحج، وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وما هي المحظورات الكبرى فيه: من شرك، وزنى، وشرب خمر،
…
- وجعل الله دينه منسجماً مع العقل والقلب والروح، واحتياجات الجسد في الأمر والنهي، والتكليف، فكان هذا الدين هو دين الفطرة، الدين الذي ينسجم مع حكمة الخلق، ومع تركيب الإنسان.
(1) الشورى: 15.
(2)
الشورى: 16.
- وقبل بعض الناس هذا الدين فكان من المسلمين، وبتصديقه بهذا الدين وقبوله له أصبح من المؤمنين، الذين دخلوا في دائرة الخطاب بوصف الإيمان؛ ومن ثم جاءت النصوص لتوضح ماذا يدخل في دائرة الإيمان، وماذا يطالب به أهل الإيمان من عقائد، وأعمال، وتكاليف، ومقامات، فكان هذا النوع من النصوص مكملاً للنصوص التي وصفت الإسلام، وجاءت نصوص تصف الإيمان مطابقة للنصوص التي وصفت الإسلام؛ لأن الإيمان والإسلام يتطابقان أحياناً، ويدل كل منهما على مفهوم يكمل الآخر أحياناً.
- فالإسلام بمعناه الكامل: هو إسلام القلب، والجوارح، لله تعالى بهذا الدين، بنصوصه، وبعقائده، وتكالفيه، والإيمان بمعناه الكامل: هو تصديق القلب بنصوص هذا الدين، وتصديق السلوك لهذا التصديق، فالإسلام والإيمان من هذه الحيثية متطابقان.
- وأحياناً يراد بالإسلام: عمل الجوارح بالطاعة، وبالإيمان: التصديق القلبي، وانشراح الصدر بنور الإيمان؛ حتى يرى القلب الأشياء بنور هذا الدين، فههنا الإسلام والإيمان يتكاملان، فالإسلام بهذا المعنى أثر الإيمان العقلي، ويوصل إلى الإيمان القلبي:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1).
- إنه بمجرد أن يقبل الإنسان الإسلام ويدخل في عداد المؤمنين به فإنه يطالب بأمر ونهي، أو بفعل وترك، ومجموع ما يطالب به مباشرة كفرائض ونوافل حوالي سبعين شيئاً هي ما يسمى بشعب الإيمان، وكثير من الشعب تعني المطالبة بها: الكف عما يناقضها، فالمطالبة بالتوحيد تعني الكف عن الشرك، وليس كل ما نهي عنه يقابل شيئاً مأموراً به، وهكذا تتوسع دائرة المنهيات حتى تشمل أموراً كثيرة، منها ما يسمى كبيراً من الذنوب، ومنها ما يسمى صغيراً من الذنوب.
- ودوائر التكليف الرباني أوسع من هذا الذي ذكرناه، فقد يقوم الإنسان بكل شعب الإيمان وينتهي عن الكبائر والصغائر، ومع ذلك يكون مقصراً في التكليف، لأن دوائر التكليف أوسع من مجرد هذا وهذا.
(1) الحجرات: 14.
- وكأثر عن القيام بالتكليف يتحقق الإنسان بالصفات العليا التي أثنى الله على أصحابها: التقوى، والإحسان، والإيمان، والإسلام، والشكر، والتوكل، والصبر
…
- وبرفض الإسلام، أو بالتقصير في تكاليفه، أو بعدم التحقق بمقاماته، أو بالانحراف الاعتقادي أو العملي عنه، أو باعتقاد ما ليس منه على أنه منه، أو بعمل ما يتناقض معه على أنه منه: يستحق الإنسان وصفاً قبيحاً على حسب بشاعة الجرم: الكفر، النفاق، الضلال، العصيان، الفسوق، الابتداع، المروق من الدين، الردة، الزندقة، وعلى حسب القيام بالتكليف يكون للمؤمن وزنه ودرجته ورتبته: من صديقية، وشهادة، وصلاح، وربانية، وربِّيَّة، وللمؤمن ما يستحقه بفضل الله وكرمه، وما يتكرم به الله عز وجل أعظم، وللآخرين ما يستحقونه من عقاب معنوي ومادي ودنيوي وأخروي.
- وشيء عادي- والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام فيصفه أو يربي على الإيمان فيفصله- أن تتعدد النصوص، فأحوال المدعوين متعددة، وأحوال المؤمنين ليست واحدة، فهذا عرف شيئاً فأتقنه، وغاب عنه شيء فجهله، فهذا يعرف على المجهول، ومجهول إنسان قد يختلف عن مجهول آخر، وما وصل إليه الصف الإسلامي اليوم غير ما وصل إليه بالأمس، والتكليف في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متدرجاً، كل ذلك يجعلنا أمام نصوص كثيرة، تصب كلها في بحر واحد، وتنبثق عن نور واحد، ولكنها تلاحظ حالات شتى بعضها متشابه، وبعضها متداخل، وبعضها متكامل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يواجه جاهلية متعددة الصور، ذات عقائد خاطئة، فينبثق عنها عبادات وسلوكيات خاطئة، فصحح المسار، وقطع الطريق على العودة إلى الجاهلية. وفي الباب معالم عقدية تتحدث عن بعض ما ذكرناه وغيره معه.
وقد جعلنا الفصل الأول في: العقل، والجسد، والقلب، والروح، والنفس، وهي المعالم الكبرى في الإنسان، وإثباتها هو الأساس في التكليف؛ فلا تكليف إلا بعقل، الجسد بما حوى هو المكلف، وللقلب تكليفه، وللنفس تكليفها، وللروح أحوالها، وقد اقتصرنا في هذا الفصل على ذكر النصوص التي تثبت هذه العوالم وتفصل في معاني إطلاقها.
* * *
فصول الباب الأول
الفصل الأول: في الجسد والروح والعقل والقلب والنفس.
الفصل الثاني: في التكليف ومسؤولية الإنسان أمام الله عز وجل.
الفصل الثالث: في مباحث في الإسلام والإيمان.
الفصل الرابع: في فضل الانتساب إلى الأمة الإسلامية.
الفصل الخامس: في فضل الإيمان وفي فضل المؤمن.
الصفل السادس: في أمثال مثل بها لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمستجيبين له.
الفصل السابع: في الإسلام وأسهمه وأركانه ومقاماته وبعض أعماله.
الفصل الثامن: في بعض شعب الإيمان.
الفصل التاسع: في بعض الموازين التي يزن بها المؤمن إيمانه وإسلامه.
الفصل العاشر: في فضل الشهادتين وكلمة التوحيد هي أصل الإيمان.
الفصل الحادي عشر: في الإيمان الذوقي وما يقابله.
الفصل الثاني عشر: في الجيل الأرقى تحققاً.
الفصل الثالث عشر: في الوساوس العارضة وفي خفوت نور الإيمان وزيادته وتجديده وإقلاعه.
الفصل الرابع عشر: في الفطرة وحقيقة الإيمان والكفر والنفاق.
الفصل الخامس عشر: في الكفر والشرك والكبائر.
الفصل السادس عشر: في النفاق وعلاماته وشعبه.
الفصل السابع عشر: في نواقض الشهادتين.
الفصل الثامن عشر: في الاعتصام بالكتاب والسنة.
الفصل التاسع عشر: في التمسك بالسنة وفي التحذير من البدعة وأهلها.
الفصل العشرون: في البدعة.
الفصل الحادي والعشرون: في افتراق هذه الأمة افتراق اليهود والنصارى وزيادة، وفي وجوب الكينونة مع الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة واعتزال فرق الضلال.
الفصل الثاني والعشرون: في التحذير من مواطأة الأمم في انحرافاتها.
الفصل الثالث والعشرون: في التحذير من الفتن.