الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
113 -
* روى الجماعة إلا الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يعلموا به أو يتكلموا". وفي رواية: "ما وسوست به صدورها".
ولفظ أبي داود: "إن الله تجاوز لأمتي ما لم تكلم به أو تعمل به، وما حدثت به أنفسها".
وبمناسبة الكلام عن اليسر ورفع الحرج والتكاليف بقدر الوسع لابد من تصحيح مفهوم خطائ يقع فيه بعض الناس وهو أن بعضهم يتصور أن التكليف موافق للهوى أو للراحة الجسمية، والأمر ليس كذلك فالإسلام جاء بمخالفة الهوى، والتكليف هو طلب ما فيه كلفة في الأصل، فالمنفي هو التكليف المعنت المرهق الذي لا تستطيعه النفس باستمرار، وللشيخ أبي زهرة تحقيق لطيف بهذه المناسبة نستخلص منه بعضه.
قال رحمه الله:
التكليف بما يشق:
إن المشقة قسمان: أولهما - مشقة يمكن احتمالها والاستمرار عليها، وهذه يمكن فيها التكليف ويمكن المؤاخذة عليها، كالصوم والحج، فإنها مشقات يمكن احتمالها، ويمكن الاستمرار على أدائها وما من تكليف إلا وفيه مشقة محتملة، أدناها رياضة النفس على ترك الممنوع، والأخذ بالمشروع، إذ كل ممنوع متبوع، ولذلك ورد في الحديث الشريف "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" فإن أسباب العصيان دائماً إتباع للهوى والشهوة، والسير في سبيلها إلى أقصى الغاية من غير تحرج ولا تأثم، وأسباب
113 - البخاري (11/ 548) 83 - كتاب الأيمان والنذور 15 - باب إذا حنث ناسياً في الأيمان.
ومسل م (1/ 116، 117) 1 - كتاب الإيمان 58 - باب تجاوز الله عن حديث النفس
…
الخ.
وأبو داود (2/ 264) كتاب الطلاق 15 - باب في الوسوسة بالطلاق.
والترمذي (3/ 489) 11 - كتاب الطلاق 8 - باب ما جاء فمن يحدث نفسه بطلاق امرأته.
والنسائي (6/ 156) 27 - كتاب الطلاق 22 - باب ما طلق في نفسه.
(أنفسها): قال النووي رحمه الله: ضبطه العلماء بالنصب والرفع، وهما ظاهران، إلا أن النصب أشهر وأظهر.
قال القاضي عيان: "أنفسها" بالنصب، ويدل عليه قوله "إن أحدنا يحدث نفسه" قال: قال الطحاوي: وأهل اللغة يقولون: "أنفسها" بالرفع، يريدون بغير اختيارها، كما قال الله تعالى:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} .
الطاعات فطن للنفس عن كثير من الشهوات أو وقوف بها عند حد، وهذا في ذاته فيه مشقة على النفس التي لم تتعود الضبط، والوقوف بها عند حد محدود حده الشارع، ولو كانت كل التكليفات يسراً خالصاً مخالفون ولا عصاة، ولو كانت التكليفات تسير مع الأهواء جنباً لجنب ما وجد اعتداء ولا ظلم، ولكن الله تعالى اختبر الإنسان فجعل فيه داعي الطاعة وداعي المعصية ينبعثان من جنبيه، كما قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وكما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .
القسم الثاني: المشتقات التي يصعب الاستمرار على أدائها أو لا تحتمل إلا ببذل أقصى الطاقة.
[من ذلك الجهاد في سبيل الله تعالى]، وكذلك الصبر عند الإكراه على النطق بكلمة الكفر هو موضع ثواب عند الله مع أنه مشقة فوق الاحتمال العادي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر منزلته يوم القيامة بجوار منزلته.
ومن ذلك الجهر بكلمة الحق في وقت يسود فيه الظلم، ولذا قال عليه السلام:"أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائز" وقال عليه السلام: "سيد الشهداء حمزة ابن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائز فقتله" ولذا كان التكليف في المشقة التي لا تحتمل إلا بأقصى الطاقة جائزاً في تلك الدائرة المحدودة.
وننتهي من هذا إلى أن التكليفات التي تكون فيها مشتقات غير معتادة ثابتة في إحدى أحوال ثلاثة:
(أ) - في الفروض الكفائية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما يعرض الأمر نفسه إلى التلف.
(ب) - في الصور التي لا يتحقق نفع عام كامل إلا ببذل أقصى البذل في النفس والنفيس. [كالجهاد].
(جـ) - في الأحوال التي يكون فيها اعتداء على حق من حقوق الله تعالى، أو حقوق العباد، فإن الصبر في هذه الحال مطلوب وإن كان شاقاً مشقة فوق المعتادة كمن يكره بالقتل لينفذ الاعتداء بالعمل على قتل غيره، فإنه يجب عليه أن يصبر ولا يقتل غيره.
[بل إن فعل يكون آثما ولا يعتبر عذره بحال].
ففي هذه الصور وأشباهها يكون العمل الذي فيه مشقة غير معتادة مطلوباً.
ويلاحظ في هذه الصور أن المشقة ليست مقصودة لذاتها، فليست المشقة في ذاتها أمراً يتعبد به، أن تعذيب الجسم، لتطهير الروح ليس من مقاصد الإسلام، إنما المشقة غير المعتادة تطلب، لأنها تكون دفعاً لضرر أشد، أو جلباً لنفع أسمى. فهي تكون تحقيقاً لمقصد من المقاصد الإسلامية العليا، على أنها وسيلة متعينة له، وليست مقصودة لذاتها.
واليسر هو الأصل في الشريعة الإسلامية، ولذلك تقول السيدة عائشة رضي عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لك يكن إثماً.
لذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يصوم قائماً في الشمس أن يستمر قائماً في الشمس وآمره أن يتم صومه وقال عليه السلام "هؤلاء المتنطعون" وبذلك يكون أمره بما هو طاعة في ذاته وهو الصيام، ونهاه عما ليس طاعة وهو القيام في الشمس، وذلك النهي تقرر أن القيام صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه" ولقد روي أن بعض الصحابة أخذ نفسه بقيام الليل وصوم النهار، وبعضهم أخذ نفسه باعتزال النساء، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم جميعاً، فقال عليه السلام "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم جميعاً، فقال عليه السلام "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم الله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على ألا يلتزم الشخص عبادات ليست فرضاً، ولا يطيق الاستمرار عليه، وكان يجب العبادة الدائمة التي لا صعوبة فيها على العبادة الشاقة التي لا يمكن الاستمرار عليها، ولذا كان يقوم صلى الله عليه وسلم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"(1).
وكان يقول: "إن الله يحب الديمة من الأعمال" وكان يقول صلى الله عليه وسلم "لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا". ا. هـ. كلام أبي زهرة.
(1) أخرجه الشيخان.
وقال عبد القاهر البغدادي في بيان أنواع التكليف:
اختلف أصحابنا في أقسام التكليف: فمنهم من قال إن التكليف مقصور على ثلاثة أوجه: أمر ونهي وخبر. فالتكليف بالأمر. كقوله: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ونحوه والتكليف بالنهي كقوله: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .
والتكليف بالخبر على ضربين: أحدهما فيم معنى الأمر كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} .
والثاني خبر في معنى النهي كقوله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ومنهم من قصر التكليف على الأمر والنهي. فأما الخبر عن وجوب شيء أو عن تحريمه فإنما حمل على معناه: بأمر الله تعالى أن يحمل عليه. ومنهم من قصر التكليف على معنى الأمر وقال إن النهي إنما صار تكليفا لأنه أمر بترك المنهي وترك ضد المأمور بفعله. فهذا بيان أقسام التكليف في الجملة. وتفصيله أن التكليف على خمسة أقسام: أحدها موجب وثانيها محرم وثالثها دليل على أن ما ورد به سنة ورابعها دليل على أن ما ورد به مكروه وخامسا دليل على إباحة ما ورد به من غير وجول ولا حظر ولا كراهية ولا استحباب. وحقيقة الواجب ما يستحق بتركه العقاب والحرام ما يستحق بفعله العقاب ا. هـ من كتاب أصول الدين.
وبمناسبة الكلام عن التكليف يثير أصوليو العقائد وأصوليو الفقه عدداً من المسائل بعضها لا يتوقف عنده وهناك بعض مسائلهم المهمة: