الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقول
لقد ذكرنا في بدايات هذا الفصل النصوص التي تتحدث عن افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وسار بنا الحديث من نقطة إلى نقطة والهدف كله هو: الفرز والتعرف، نفرز الفرقة الناجية عن غيرها، وأن نتعرف على الفرقة الناجية وعلاماتها وصور وجود أهلها، وبعد هذه السياقات كلها فقد آن الأوان لنتعرف على الإطار النظري للفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة، واخترنا أن يكون هذا التعرف من خلال كلام عبد القاهر البغدادي في كتابه (الفَرْق بين الفِرَق) لأنه أحد أعلام عصره في هذا العلم.
فقد حاول الشيخ عبد القاهر البغدادي رحمه الله في كتابه المذكور أن يبين أركان التصورات التي تجعل الإنسان من أهل السنة والجماعة، وذكر أصناف الخلق الذين يدخلون في أهل السنة واجلماعة.
1 -
أركان التصورات التي تجعل الإنسان من أهل السنة والجماعة:
قال الشيخ عبد القاهر البغدادي رحمه الله:
(قد اتفق جمهورُ أهل السنة والجماعة على أصول من أركان الدين، كلُّ ركنٍ منها يجب على كل عاقلٍ بالغ معرفة حقيقته، ولكل ركن منها شُعب، وفي شُعبها مسائل اتفق أهل السنة فيها على قول واحد، وضللوا من خالفهم فيها.
(1)
وأول الأركان التي رأوها من أصول الدين: إثباتُ الحقائق والعلوم، على الخصوص والعموم.
(2)
الركن الثاني: هو العلم بحدوث العالم في أقسامه، من أعراضه وأجسامه.
(3)
والركن الثالث: في معرفة صانع العالم وصفات ذاته.
(4)
والركن الرابع: في معرفة صفاته الأزلية.
(5)
والركن الخامس: في معرفة أسمائه وأوصافه.
(6)
والركن السادس: في معرفة عدله وحكمته.
(7)
والركن السابع: في معرفة رسله وأنبيائه.
(8)
والركن الثامن: في معرفة معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء.
(9)
والركن التاسع: في منعرفة ما أجمعت الأمة عليه، من أركان شريعة الإسلام.
(10)
والركن العاشر: في معرفة أحكام الأمر والنهي، والتكليف.
(11)
والركن الحادي عشر: في معرفة فناء العباد وأحكامهم في المعاد.
(12)
والركن الثاني عشر: الخلافة والإمامة، وشروطه الزعامة.
(13)
والركن الثالث عشر: في أحكام الإيمان والإسلام في الجملة.
(14)
والركن الرابع عشر: في معرفة أحكام الأولياء، ومراتب الأئمة الأتقياء.
(15)
والركن الخامس عشر: في معرفة أحكام الأعداء من الكفرة وأهل الأهواء فهذه أصول اتفق أهل السنة على قواعدها، وضللوا من خالفهم فيها، وفي كل ركن منها مسائل أصولٍ ومسائل فروعٍ، وهم مجمعون على أصولها وربما اختلفوا في بعض فروعها اختلافاً لا يوجب تضليلاً ولا تفسيقاً) أ. هـ.
وقد تكلم الشيخ عبد القاهر في مضمونات هذه الأركان، وكتابه كله تفصيل لمذاهب أهل السنة ومن خالفهم، وقد ترك هذا الكتاب بصماته على كل كتاب أُلِّف بعده في العقائد، رغم أن بعض كلامه متأثر بثقافة عصره الكونية، ولذلك حذفنا ما كان من هذا القبيل لأن الحقائق العلمية في عصرنا اتجهت اتجاهاً آخر، ولكن هذا الكتاب يبقى من أمهات الكتب التي ينبغي لطالب العلم أن يمعن النظر فيها بعد أن يكون قد درس بعض كتب عقائد أهل السنة والجماعة كسلّم يرتقي بها إلى هذا الكتاب.
وقد شرح في أواخر هذا الكتاب الأركان التي تعتبر قاسماً مشتركاً بين أهل السنة والجماعة وبين غيرهم، والتي ذكرناها منذ قليل. وهذه مقتطفات من شروحه، قال في شرحه للركن الأول:
(وقالوا: إن الأخبار التي يلزمنا العمل بها ثلاثة أنواع: تواتر، وآحاد ومتوسط بينهما مستفيض.
فالخبر المتواتر الذي يستحيل التواطؤ على وضعه يوجب العلم الضروري بصحة مخبره، وبهذا النوع من الأخبار علمنا البُلدان التي لم ندخلها، وبها عرفنا الملوك والأنبياء والقرون الذين من قبلنا، وبه يعرف الإنسانُ والديه اللذين هو منسوبٌ إليهما).
أقول: وقد أكفر أهل السنة كل من أنكر متواتراً أو أوله على غير الفهم الضروري، ومن ههنا وغيره أكفروا القاديانية التي نفت نزول المسيح عليه السلام مع التواتر الصريح في نزوله وأولوا ما ورد في ذلك على غير الفهم الضروري وهذه إحدى كفرياتهم.
وقال: (وأما أخبار الآحاد فمتى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبةً للعمل بها، دون العلم [القطعي الذي يكفر منكره]، وكانت بمنزلة شهادة العُدول عند الحاكم في أنه يلزم الحكم بها في الظاهر).
(وبهذا النوع من الخبر أثبت الفقهاء أكثر فروع الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الحلال والحرام، وضللوا من أسقط وجوب العمل بأخبار الآحاد في الجملة، من الرافضة والخوارج وسائر أهل الأهواء).
(وأما الخبر المستفيض المتوسط بين التواتر والآحاد فإنه يُشارك التواتر في إيجابه للعلم والعمل، ويُفارقه من حيث إن العلم الواقع عنه يكون علماً مكتسباً نظرياً، والعلم الواقع عن التواتر يكون ضرورياً غير مكتسب).
(وضللوا من خالف فيها من أهل الأهواء، كتضليل الخوارج في إنكارها الرجم، وتضليل من أنكر من النجدات حد الخمر، وتضليل من أنكر المسح على الخفين، وتكفير من أنكر الرؤية، والحوض، والشفاعة، وعذاب القبر).
وكذلك ضللوا الخوارج الذين قطعوا يد السارق في القليل والكثير من الحِرز وغير الحرز؛ لردهم الأخبار الصحاح في اعتبار النصاب والحرز في القطع.
وكما ضللوا من رد الخبر المستفيض، ضللوا من ثبت على حكم خبر اتفق الفقهاء من فريقي الرأي والحديث على نسخه، كتضليل الرافضة في المتعة التي قد نسخت إباحتها.
واتفقوا على أن أصول أحكام الشريعة: القرآن، والسنة، وإجماع السلف).
(وأما الركن الثاني- وهو الكلام في حدوث العالم- فقد أجمعوا على أن العالم كل شيء هو غير الله عز وجل، وعلى أن كل ما هو غير الله تعالى وغير صفاته الأزلية مخلوق مصنوع، وعلى أن صانعه ليس بمخلوق ولا مصنوع، ولا هو من جنس العالم ولا من جنس شيء من أجزاء العالم).
(وقالوا بإثبات الملائكة والجن والشياطين).
(وقالوا في الركن الرابع- وهو الكلام في الصفات القائمة بالله عز وجل إن علم الله تعالى وقدرته وحياته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه صفاتٌ له أزلية ونعوت له أبدية).
(وقالوا في الفرق بين الرسول والنبي: إن كل من نزل عليه الوحي من الله تعالى على لسان ملك من الملائكة وكان مؤيداً بنوع من الكرامات الناقضة للعادات فهو نبي، ومن حصلت له هذه الصفة وخص أيضاً بشرع جديد أو بنسخ بعض أحكام شريعة كانت قبله فهو رسول).
(وقالوا: يجوز ظهور الكرامات على الأولياء، وجعلوها دلالة على الصدق في أحوالهم كما كانت معجزات الأنبياء دلالة على صدقهم في دعاويهم.
وقالوا: على صاحب المعجزة إظهارها والتحدي بها، وصاحب الكرامات لا يتحدى بها غيره، وربما كتمها، وصاحب المعجزة مأمون العاقبة، وصاحب الكرامة لا يأمن تغير عاقبته كما تغيرت عاقبة بلعم بن باعورا بعد ظهور كراماته).
(وقالوا: أصول أحكام الشريعة، الكتابُ، والسنة، وإجماع السلف، وأكفروا من لم ير إجماع الصحابة حجة، وأكفروا الخوارج في ردهم حجج الإجماع والسنن، وأكفروا من قال من الروافض لا حُجة في شيء من ذلك، وإنما الحجة في قول الإمام الذي ينتظرونه).
(وقالوا في الركن العاشر- المضاف إلى الأمر والنهي- إن أفعال المكلفين خمسة أقسام: واجب، ومحظور، ومسنون، ومكروه، ومُباح.
فالواجب: ما أمر الله تعالى به على وجه اللزوم، وتاركه مستحق للعقاب على تركه.
والمحظور: ما نهى الله عنه، وفاعله يستحق العقاب على فعله.
والمسنون: ما يُثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه. والمكروه: ما يُثاب تاركه ولا يعاقب فاعله).
أقول: الكراهة التحريمية عند الحنفية كالحرام، فصاحبها يستحق العقاب.
(والمباح: ما ليس في فعله ثواب ولا عقاب، ولا في تركه ثواب ولا عقاب).
أقول: إلا إذا وجدت في المباح نية صالحة فإنها تنقله إلى أن يكون عبادة يؤجر عليها. (وهذا كله في أفعال المكلفين، فأما أفعال البهائم والمجانين والأطفال فإنها لا تُوصف بالإباحة والوجوب والحظر بحال).
(وقالوا في الركن الثاني عشر- المضاف إلى الخلافة والإمامة- إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء ويضبط ثغورهم، ويُغزي جيوشهم، ويقسم الفيء بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم.
وقالوا: إن طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد).
(وقالوا في الركن الثالث عشر - المضاف إلى الإيمان والإسلام- إن أصل الإيمان المعرفة والتصديقُ بالقلب، وإنما اختلفوا في تسمية الإقرار وطاعات الأعضاء الظاهرة إيماناً، مع اتفاقهم على وجوب جميع الطاعة المفروضة، وعلى استحباب النوافل المشروعة).
(وقالوا: إن اسم الإيمان لا يزول بذنب دون الكفر، ومن كان ذنبه دون الكفر فهو مؤمنٌ وإن فسق بمعصية.
وقالوا: لا يحل قتل امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: من رِدة، أو زنا بعد إحصان، أو
قصاص بمقتول هو كفؤه، وهذا خلاف قول الخوارج في إباحة قتل كل عاصٍ لله تعالى).
أقول: قضية كفاءة المقتول للقاتل فيها تفصيل وخلاف بين أهل السنة والجماعة.
(وقالوا في الركن الرابع عشر- المضاف إلى الأولياء والأئمة- إن الملائكة معصومون عن الذنوب، لقول الله تعالى فيهم:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [الآية 6 سورة التحريم].
(وقالوا بفضل الأنبياء على الأولياء من الأمم).
أقول: وقد كفَّروا من فضل الأولياء على الأنبياء كبعض الشيعة وبعض الصوفية.
(وقالوا أيضاً بموالاة كل من مات على دين الإسلام، ولم يكن قبل موته على بدعة من ضلالات أهل الأهواء الضالة).
(وقالوا في الركن الخامس عشر المضاف إلى أحكام أعداء الدين - إن أعداء دين الإسلام صنفان: صنف كانوا قبل ظهور دولة الإسلام، وصنف ظهروا في دولة الإسلام وتستروا بالإسلام في الظاهر، وكادوا المسلمين، وابتغوا غوائلهم).
(وأجمع فقهاء الإسلام على استباحة ذبائح اليهود والسامرة والنصارى، وعلى جواز نكاح نسائهم، وعلى جواز قبول الجزية منهم).
(وأما الكفرة الذين ظهروا في دولة الإسلام، واستتروا بظاهر الإسلام، واغتالوا المسلمين في السر- كالغُلاة من الرافضة السبئية، والبيانية، والمغيرية، والمنصورية، والجناحية، والخُطابية، وسائر الحلولية، والباطنية، والمقنعية المبيضة بما وراء نهر جيحُون، والمحمرة بأذربيجان، ومحمرة طبرستان، والذين قالوا بتناسخ الأرواح من أتباع ابن أبي العوجاء، ومن قال بقول أحمد بن خابط من المعتزلة، ومن قال بقول اليزيدية من الخوارج الذين زعموا أن شريعة الإسلام تنسخ بشرع نبي من العجم، ومن قال بقول الميمونية من الخوارج الذين أباحوا نكاح بنات البنين وبنات البنات، ومن قال بمذاهب العذافرة من أهل بغداد، أو قال بقول الحلاجية الغُلاة في مذهب الحلولية، أو قال بقول البابكية أو الرزامية
المفرطة في أبي مسلم صاحب دولة بني العباس، أو قال بقول الكاملية الذين أكفروا الصحابة بتركها بيعة علي، وأكفروا عليًّا بتركه قتالهم - فإن حكم هذه الطوائف التي ذكرناها حكم المرتدين عن الدين، ولا تحل ذبائحهم، ولا يحل نكاح المرأة منهم، ولا يجوز تقريرهم في دار الإسلام بالجزية، بل يجب استتابتهم فإن تابوا وإلا وجب قتلهم واستغناهم أموالهم.
واختلفوا في استرقاق نسائهم وذراريهم، فأباح ذلك أبو حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي، ومنهم أبو إسحاق المروزي صاحب ابن سريج، ومن أباح ذلك استدل بأن خالد ابن الوليد لما قاتل بني حنيفة وفرَغَ من قتل مُسيلمة الكذاب صالح بني حنيفة على الصفراء والبيضاء، وعلى ربع السبي من النساء والذرية، وأنفذهم إلى المدينة، وكان منهم خولة أم محمد بن الحنفية).
* * *
(أهل السنة لا يكفِّر بعضهم بعضاً، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير. فهم إذن أهلُ الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، وليس فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير بعضهم لبعض، وتبري بعضهم من بعض).
(وقالوا بموالاة أقوام وردت الأخبار بأنهم من أهل الجنة، وأن لهم الشفاعة في جماعة من الأمة، ومنهم أويس القرني، والخبر فيهم مشهور.
وقالوا بتكفير كل من أكفر واحداً من العشرة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وقالوا بموالاة جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكفروا من أكفرهن أو أكفر بعضهن).
أقول: ومن أصول عقائد أهل السنة والجماعة: محبة الصحابة وتعديلهم والاعتذار لما وقع بينهم، وحمله على أحسن تأويل.
(وقالوا بموالاة الحسن والحسين والمشهورين من أسباط رسول الله عليه الصلاة والسلام، كالحسن بن الحسن، وعبد الله بن الحسن، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي ابن الحسين المعروف بالباقر، وهو الذي بلَّغه جابر بن عبد الله الأنصاري سلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن محمد المعروف بالصادق، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا، وكذلك قولهم في سائر أولاد علي من صُلبه، كالعباس، وعمر، ومحمد بن الحنفية، وسائر من درج على سنن آبائه الطاهرين، دون من مال منهم إلى الاعتزال أو الرفض، ودون من انتسب إليهم وأشرف في عدوانه وظلمه كالبرقعي الذي عدا على أهل البصرة ظلماً وعدواناً، وأكثر النسابين على أنه كان دعيّاً فيهم ولم يكن منهم.
قالوا بموالاة أعلام التابعين للصحابة بإحسان، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:{يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
وقالوا ذلك في كل من أظهر أصول أهل السنة.
وإنما تبرءوا من أهل الملل الخارجة عن الإسلام، ومن أهل الأهواء الضالة مع انتسابها إلى الإسلام كالقدرية، والمرجئة، والرافضة، والخوارج، والجهمية، والنجارية، والمجسمة).
ومن كلام الشيخ عبد القاهر في من يدخل في أهل السنة والجماعة ويعتبر منهم:
(اعلموا - أسعدكم الله - أن أهل السنة والجماعة ثمانية أصناف من الناس:
(1)
صنفٌ منهم: أحاطوا علماً بأبواب التوحيد والنبوة، وأحكام الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، وشروط الاجتهاد، والإمامة، والزعامة، وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من المتكلمين الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل، ومن بدع الرافضة والخوارج والجهمية والنجارية، وسائر أهل الأهواء الضالة.
(2)
والصنف الثاني منهم: أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث، من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية، وتبرءوا من القدر والاعتزال، وأثبتوا رؤية الله تعالى بالأبصار من غير تشبيه ولا تعطيل، وأثبتوا الحشر من القبور، مع إثبات السؤال في القبر، ومع إثبات الحوض والصراط والشفاعة وغفران الذنوب التي دون الشرك.
(وقالوا: بدوام نعيم الجنة على أهلها، ودوام عذاب النار على الكفرة، وقالوا: بإمامة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأحسنوا الثناء على السلف الصالح من الأمة، ورأوا وجوب الجمعة خلف الأئمة الذين تبرءوا من أهل الأهواء الضالة، ورأوا وجوب استنباط أحكام الشريعة من القرآن والسنة ومن إجماع الصحابة، ورأوا جواز المسح على الخفين، ووقوع الطلاق الثلاث، ورأوا تحريم المتعة، ورأوا وجوب طاعة السلطان فيما ليس بمعصية.
ويدخل في هذه الجماعة أصحاب مالك، والشافعي، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وأصحاب أبي ثور، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأهل الظاهر، وسائر الفقهاء الذين اعتقدوا في الأبواب العقلية أصول الصفاتية، ولم يخلطوا فقهه بشيء من بدع أهل الأهواء الضالة.
(3)
والصنف الثالث منهم: هم الذين أحاطوا علماً بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبي عليه السلام، وميزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم ذلك بشيء من بِدَعِ أهل الأهواء الضالة.
(4)
والصنف الرابع منهم: قوم أحاطوا علماً بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وجروا على سمت أئمة اللغة، كالخليل، وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه، والفراء، والأخفش، والأصمعي، والمازني، وأبي عُبيد، وسائر أئمة النحو من الكوفيين والبصريين، الذين لم يخلطوا علمهم ذلك بشيء من بدع القدرية أو الرافضة أو الخوارج، ومن مال منهم إلى شيء من الأهواء الضالة لم يكن من أهل السنة، ولا كان قوله حُجة في اللغة والنحو.
(5)
والصنف الخامس منهم: هُم الذين أحاطوا علماً بوجوه قراءات القرآن، وبوجوه تفسير آيات القرآن، وتأويلها على وفق مذاهب أهل السنة، دون تأويلات أهل الأهواء الضالة.
(6)
والصنف السادس منهم: الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا، ورضُوا بالمقدر، وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك
مسئول عن الخير ولاشر، ومحاسبٌ على مثاقيل الذر، فأعدوا خير الإعداد، ليوم المعاد، وجرى كلامهم في طريقي العبارة والإشارة على سمت أهل الحديث، دون من يشتري لهو الحديث، لا يعملون الخير رياء، ولا يتركونه حياء، دينُهم التوحيد ونفي التشبيه، ومذهبهم التفويضُ إلى الله تعالى، والتوكل عليه، والتسليم لأمره، والقناعة بما رُزقوا، والإعراض عن الاعتراض عليه:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
(7)
والصنف السابع منهم: قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة، يجاهدون أعداء المسلمين، ويحمون حمى المسلمين ويذبون عن حريمهم وديارهم، ويظهرون في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة، وهم الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} زادهم الله توفيقاً بفضله ومنه.
(8)
والصنف الثامن منهم: عامة البلدان التي غلب فيها شعار أهل السنة دون عامة البقاع التي ظهر فيها شعار أهل الأهواء الضالة. أ. هـ.
* * *
وإنما أردنا بهذا الصنف من العامة الذين اعتقدوا تصويب علماء السنة والجماعة في أبواب العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، ورجعوا إليهم في معالم دينهم، وقلدوهم في فروع الحلال والحرام، ولم يعتقدوا شيئاً من بِدعِ أهل الأهواء الضالة، وهؤلاء هم الذين سمتهم الصوفية "حشو الجنة".
فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة ومجموعهم، أصحاب الدين القويم، والصراط المستقيم ثَبَّتهم الله تعالى بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، إنه بالإجابة جدير، وعليها قدير) أ. هـ الشيخ عبد القاهر.
وبعد:
إن الأصل الأصيل أن يُحصل الإنسان الاعتقاد الحق اوالعمل المنسجم مع هذا الاعتقاد، فإذا حصَّل ذلك كان من أهل السنة والجماعة، فإذا كان مظهراً حقيقياً لمذاهب أهل الحق واعتقادهم كان علماً على الجماعة فبهداه يُهتدى، ومن ههنا كان في هذه الأمة أعلام أجمعت الأمة على اعتبارهم أئمة هدى، فليحاول المسلم أن يكون كذلك فيكون حجة الله على الخلق وذلك يكون بعلم وعمل وحال وسمت حسن، ثم إن كان لأهل السنة والجماعة إمام عدل نافذ السلطان يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليبايع وليلزم وليستقم على ذلك، فإن لم يوجد خليفة راشد فسلطان راشد، فإن لم يكونا فليكن مع أهل العلم والجهاد ليكون مع الطائفة الظاهرة على الحق وإنما كانت كذلك لحملها الحق والدعوة له والعمل من أجله على بصيرة ولذلك فسر البخاري المراد بالطائفة بأنهم أهل العلم، وبعضهم فسر المراد بها بأنهم أهل الحديث، وبعض النصوص تصف هذه الطائفة بالجهاد، فمن وجد أحداً من مظنته أن يكون من هذه الطائفة فليلزم غرزه ولا يتسرع حتى يجتمع له طمأنينة العلم والاستخارة والاستشارة وانشراح الصدر ببرد اليقين، وإلا فليحب الخير وأهله دون التزام، وليحذر من جهل الصالحين، وفسوق العالمين فضلاً عن حذره من جهل الجاهلين وغلط العاملين، والتمسك بكتاب الله هو العاصم، فليعمل على بصيرة وليدع على بصيرة، فإذا لم يكن أمامه إلا عزلة أو متابعة على غير هدى فليعتزل، والمتابعةُ على غير هدى تكون إذا تابع دعاة كفر أو ضلال أو بدعة أو أهل جهل وهوى:
"إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك أمر العوام"(1).
وفي حديث حذيفة قال: فإن لم يكن للمسلمين جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها"(2).
(1) أبو داود (4/ 123) كتاب الملاحم- باب الأمر والنهي.
الترمذي (5/ 257) 48 - كتاب التفسير 6 - باب ومن سورة المائدة.
وقال: حسن غريب. وهو حديث حسن بشواهده وطرقه.
(2)
هو جزء من حديث حذيفة أخرجه البخاري (13/ 35) 93 - كتاب الفتن 11 - باب الأمر إذا لم تكن جماعة. =
ولكن قد تتجسد الجماعة بفردٍ فليلازمه وليعملا معاً في نصرة الإسلام.
ومع حبنا لدعاة الإسلام كلهم، ومع حبنا لكل مسلم، ومع إعطائنا الولاء والإخاء للمسلمين جميعاً، فإننا نستشعر أن المحاولات الجادة لاستئناف الحياة الإسلامية الراشدة يتوضع حولها وفي بنائها كثير من الأغاليط التي تحتاج إلى بصيرة نافذة كي لا يكون الإنسان شريكاً فيها أو داخلاً في دوامتها، ومن ههنا نقول:(اعرف ثم التزم) فلقد قال أحد العارفين لتلميذه: (يا بني كن محدثاً صوفياً ولا تكن صوفياً محدثاً) فمن تصوف قبل العلم تعصب وتحزب وحمل النصوص على ما يوافق الهوى ولم يحمل الهوى على ما يوافق النصوص وكذلك من التزم بشيء قبل العلم ولم يكن التزامه على ضوء العلم خيف عليه، وخيف منه على الصف الإسلامي، ثم إنه في موضوع الالتزام نفسه تغلب أغاليط، فهناك فارق بين الالتزام بخليفة راشد أو سلطان راشد وبين التزام بإخاء للتعاون على خير، فهذا له أحكامه وهذا له أحكامه، وكثيراً ما رأينا أفراداً يلتبس عليهم هذا الأمر فيفهمون الالتزام الثاني على أنه الالتزام الأول، ولا يعطون الالتزام الأول حقوقه فتلتبس الأمور وتختلط المفاهيم وتحدث المشقة التي تستتبع الخلاف والاختلاف والعصيان.
* * *
= ومسلم (3/ 1475) 33 - كتاب الإمارة 12 - باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين
…
إلخ.