الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (1)، فالفطرة هي أصل الخلقة، وأصل خلقة الإنسان أنه مفطور على العبودية لله، وبقدر بعد الإنسان عن العبودية يبتعد عن الفطرة:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (2) وما دام الإنسان على الفطرة فهو على هداية، وإذا جانب الفطرة ضل، والهداية نور في القلب -الله أعلم به- يدل على ذلك الحديث (3):
"خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل".
فمن سلم له نوره كان هداية، وما لم ينطفئ نور الفطرة فالأمل في هداية الإنسان لا يزال قائمًا، ومتى انطفأ أصبح منافقًا خالصًا أو كافرًا لا أمل في هدايته.
وإنما يزداد نور الفطرة بالعمل بالشريعة فكلما ازداد العمل مع الإخلاص ازداد النور حتى يصبح الإنسان كله نورًا، ولذلك ورد في الدعاء على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم (4):"واجعلني نورًا". وكثيرون من الناس يظنون أن مثل هذه الأمور من باب المجاز وهذا غلط فهذه حقائق يتذوقها المؤمنون.
(1) الروم: 30 - 32.
(2)
الأعراف: 172.
(3)
أحمد (2/ 176).
الترمذي (5/ 36) -41 - كتاب الإيمان -18 - باب ما جاء في افتراق هذه الأمة.
وقال: هذا حديث حسن.
المستدرك: (1/ 30).
(4)
مسلم (1/ 529) -6 - كتاب صلاة المسافرين -26 - باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
إن هناك شيئًا مغيبًا عنا موجودًا في القلب هو نور الفطرة، وإن هناك أنوارًا تدخل القلب هي أثر الهبة الإلهية الخالصة أو أثر العمل الصالح، وكأثر عن ذلك كله يبصر الإنسان الأشياء على حقيقتها، فلا يرى الزنى على أنه شيء مبهج بل يراه قذرًا مظلمًا ويرى الدنيا أنها فتنة، وإذا ادلهمت الأمور على غيره فهو يرى طريقه بنور الله عز وجل.
المهم أن نعلم أن هذه حقائق لها وجودها الحقيقي:
انظر إلى قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} (1). قال القرطبي: وقيل البينة: معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه: العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره، وانظر إلى قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} (2) قال القرطبي: وكان أبي وابن مسعود يفسرانها: مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة.
هذا النور في قلب المؤمن تمده شريعة الله:
{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} قال القرطبي: والشجرة المباركة هي الوحي.
وإذن فهناك نور حقيقي في القلب المؤمن وهناك مدد نوراني يصل إلى القلب كأثر عن العمل الصالح وكأثر عن هذا يتحدد سلوك الإنسان: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (3).
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (4).
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (5).
(1) هود: 17.
(2)
النور: 35.
(3)
الزمر: 22.
(4)
الأنعام: 122.
(5)
العنكبوت: 69.
(6)
الأنفال: 29.
(7)
الحديد: 28.
ومن ههنا استعمل أهل السلوك إلى الله فكرة الوارد الذي ينصب في القلب كأثر عن الأوراد والأعمال الصالحة: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (1) فإذا أصبح القلب نورًا خالصًا فصاحبه هو المؤمن الخالص، وإذا كان في القلب ظلمة ونور فصاحبه عنده إيمان ونفاق، وإذا لم يبق في القلب نور مع تظاهر صاحبه في الإسلام فذلك المنافق الخالص، وإذا لم يكن متظاهرًا في الإسلام بل معلنًا للكفر فهو الكافر الخالص، والإيمان ينبثق عنه السلوك، مظهره شعب الإيمان كما رأيناها، والنفاق ينبثق عنه سلوك، مظهره شعب النفاق كما سنراها، والكفر له سلوكياته.
ومن سلوكيات الكفر التي فصلها القرآن عدم قبول الإنذار، والانخراط في اللهو واللعب وإتيان الشهوات واستغراق في الدنيا.
وكفر اليهود والنصارى خص بمزيد تفصيل في القرآن لانبثاق أنواع من السلوكيات عن هذا وهذا، وأما النفاق فشعبه كثيرة، أهمها الكذب والغدر والفجور في الخصومة ومخالفة الظاهر للباطن في شر والخداع وموالاة الكفر والسعي بالفساد فمتى وجد النفاق فهذه الأشياء تنبثق بشكل تلقائي عنه فإذا ما وجدناها فعلينا أن نعالجها وأن نعالج الأصل.
وهذه الأمور من أهم ما وقعت فيه الغفلة في عصرنا، وقد نقل القرطبي عند قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} ما يلي:
روى مرة عن ابن مسعود (2) قال: قلنا يا رسول الله، قوله تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} كيف انشرح صدره؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح". قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟. قال: "الإنابة إلى
(1) محمد: 17.
(2)
الحديث له طرق عديدة عن ابن مسعود وعن ابن عباس، وأرسله الحسن البصري وأبو جعفر المدائني، هذا وقد سكت عن العراقي في تخريجه على الإحياء.
وقال السيوطي في الدر المنشور: أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم والبيهقي في الشعب وغيرهم
…
وقال ابن كثير عنه: فهذه طرق للحديث مرسلة ومتصلة بشد بعضها بعضًا، ومثل هذا قال ابن القيم ووافق ابن كثير الشوكاني وجزم به الألوسي.
فالحديث يرتقي للحسن والله أعلم، وقد ضعفه آخرون.
دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله"، وأخرجه الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث ابن عمر (1): أن رجلاً قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادًا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع" قالوا: فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت".
ومن ها هنا نفهم أن السلوك هو أثر ما في القلب وأن الإنسان عليه أن يجاهد نفسه سلوكيًا ليستقيم قلبه، فإذا استقام قلبه استقامت الأطراف:
"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"(2).
والنصوص التالية نفهم منها حقيقة الكفر والنفاق والإيمان والفطرة:
(1) روى ابن ماجه بعضه: (2/ 1423) -37 - كتاب الزهد -31 - باب ذكر الموت والاستعداد له.
(2)
مسلم (3/ 1219) 22 - كتاب المساقاة -20 - باب أخذ الحلال وترك المتشابهات.