الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيقات
وفيما يلي تحقيقات لبعض العلماء في موضوع الكبائر:
قال النووي:
وقال أبو حامد الغزالي في البسيط: والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتيادًا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة. وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه: الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظيمًا على الإطلاق. قال: فهذا حد الكبيرة ثم لها أمارات منها إيجاب الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق نصًا ومنها اللعن كلعن الله سبحان من غير منار الأرض
…
قال العلماء رحمهم الله: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وروي عن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. معناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارًا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر ا. هـ (1).
وقد حاول سلطان العلماء العز بن عبد السلام أن يعطيك ميزانًا تتعرف من خلاله على الصغائر والكبائر فقال:
إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن تقصت عن أقل مفاسد الكبائر -أي المنصوص عليها فهي من
(1) النووي في شرحه على صحيح مسلم.
الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو أربت عليها، في من الكبائر، فمن شتم الرب أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استهان بالرسل أو كذب واحدًا منهم
…
أو ألقى المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنها كبيرة. وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلمًا لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته، ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغتنمون أموالم ويزنون بنسائهم ويخربون ديارهم، فإن تسببه إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر. وقد نص الشارع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير، فيجوز أن يجعل من الكبائر فطالما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من الخمر من جملة الكبائر، وإن لم يتحقق المفسدة فيه
…
والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوت عزة ولا يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب ثم قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال: كل ذنب قرن ب وعيد أو حد أو لعن فو من الكبائر
…
فقتل المؤمن كبيرة، لأنه اقترن به الوعيد واللعن. والمحاربة والزنا والسرقة والقذف كبائر، لاقتران الحدود بها. وعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو اللعن أو الحد، أو أكبر من مفسدته فهو كبيرة ا. هـ (1).
وللغزالي اتجاه في أن بعض الصغائر تصبح كبائر بملابستها لمعان كالتهاون بها والاستمرار عليها دون مبالاة، كل هذا جعل العلماء يحاولون بناء على القياس والموازنات أن يكتبوا في الكبائر مضيفين إلى المنصوص عليه ما كان من أمثاله في الفحش من خلال استقراء واسع لنصوص الشريعة، وممن كتب في الكبائر فخصها بالتأليف: الذهبي في كتابه: "الكبائر" فذكر سبعين كبيرة، وابن حجر الهيثمي في كتابه:"الزواجر عن اقتراف الكبائر" وقد أوصلها إلى أربعمائة وسبع وستين كبيرة، منها ما هو محل إجماع بين العلماء، ومنها ما هو متردد بين كونه صغيرة أو كبيرة، ومنها ما أصبح ذنبًا بحيثياته، والمسلم إذا عرف الطاعات
(1) قواعد الأحكام جـ 1 ص 23 - 24.
والمعاصي فاجتنب المعاصي وأتى بالفرائض وبما استطاع من النوافل فإنه على أبواب الولاية بإذن الله.
والسبب في توسيع دائرة الكبائر أو تصغيرها يرجع إلى اعتبارات متعددة، ففي الشريعة أوامر ونواه وطاعات ومعاص، فترك الأوامر والطاعات معاص يصل بعضها إلى أن يكون كبيرة.
والمعاصي منها الظاهر ومنها الباطن، فمن قاس على ما ورد من كبائر من حيث الخطورة وفداحة الآثار أدخل كثيرًا من النواهي والمعاصي في الكبائر، وذا الكتاب سيتعرض للطاعات وللمعاصي إذا جاءت مناسبتها فلا نتوسع في هذا الأمر.
وليبق على ذكرٍ منا قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1).
فأهل السنة والجماعة خالفهم المعتزلة الذين يقولون بوجوب إنفاذ الوعيد، وأن مرتكب المعصية كائن في النار لا محالة وهو بمنزلة بين المنزلتين فلا هو كافر ولا هو مؤمن. وأهل السنة والجماعة خالفهم الخوارج الذين يكفرون مرتكبي المعاصي.
إن أهل السنة والجماعة قالوا: إن لله أن يعفو عمن لا يشرك به، ولكن ليس هذا واجبًا عليه بل هذا شأنه، وقالوا إن وعيده لأهل المعاصي لابد واقع على بعضهم على حسب المشيئة وذلك شأنه في المعاملة بالعدل أو بالفضل وذلك شأنه أن يعفو عن بعض أهل المعاصي لقبول حسناتهم أو لوجود خصوصيات لم تخفف عنهم الحساب، والأمر إليه.
قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (2):
وأما حكمه صلى الله عليه وسلم على من مات يشرك بدخول النار، ومن مات غير مشرك بدخول الجنة فقد أجمع عليه المسلمون. فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة. ولا فرق
(1) النساء: 48.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 ص 97.
عند أهل الحق بين الكافر عنادًا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا. وإن كان صاحب كبيرة مات مصرًا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل أولاً، وإلا عذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن زنى وإن سرق" فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لم بالخلود في الجنة. ا. هـ.
* * *