الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن
الفصل الأول: الإلزام
مدخل
…
النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن:
الفصل الأول: الإلزام
يستند أي مذهب أخلاقي جدير بهذا الاسم -في نهاية الأمر- على فكرة الإلزام l'obligation، فهو القاعدة الأساسية، والمدار، والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية ذاته؛ وفناء ماهيتها؛ ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عدمت المسئولية، فلا يمكن أن تعود العدالة؛ وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام، وتعم الهمجية، لا في مجال الواقع فحسب، بل في مجال القانون أيضًا، وطبقًا لما يسمى بالمبدأ الأخلاقي.
ومن هنا نرى إلى أي اتجاه يريد أن يقودنا بعض أصحاب النظريات المحدثين1.
ومن ناحية أخرى، كيف نتصور قاعدة أخلاقية بدون إلزام؟ أليس هذا تناقضًا في الحدود؟ أم أننا نجعل من الضمير مجرد أداة للتقدير الفني؟
ولكن، أليس بدهيًّا أن علم الأخلاق وعلم الجمال -أمران مختلفان؟
وبمعنى أكثر عمقًا، إذا كان حقًّا أن كل ما هو خير فهو جميل، فهل العكس أيضًا صحيح؟
إن مما لا ريب فيه أن لفكرة الفضيلة جمالها الذاتي، الذي تتذوقه
1 ومن أمثلتهم: جييو Guyau في كتابه: "نحو أخلاقية بلا إلزام ولا جزاء"-
Esquisse d'une morale sans obligation. Ni Sanction.
الأنفس، حتى عندما لا تستبى الأعين، لكن هنالك أيضًا أشياء أكثر من هذا، فالفضيلة بطبيعتها عاملة ومحركة، فهي تستحثنا أن نعمل كيما نجعل منها واقعًا ملموسًا، على حين لا نرى للإحساس بالجمال، إذا ما رددناه إلى أبسط صوره، أية علاقة بالعمل، وبخاصة عندما لا يكون موضوعه متصلًا بإرادتنا.
ومن ذلك أن إعجابنا بالقدرة الإلهية، أو بعظمة القبة السماوية لا يحملنا على أن نخلق أمثالهما. وشبيه بهذا ما يحدث للفنان عندما يتخيل فكرة عمل يمكن تحقيقه، فإن هذه الفكرة لا تقهره مطلقًا على أن ينفذها، ولكنها تدعوه برفق أن يحققها حين يريد، ومتى أتيح له وقت فراغ. ولو أنها فرضت نفسها على بعضهم، فإنها لا تفرض نفسها على الآخرين بنفس القدر من الضرورة، وهي في كل حال تعبر عن الإحساسات، دون أن تصادمها.
أضف إلى ذلك أن أي نقص يرتكب في عمل فني -قد يصدم الحواس، ولكنه لا يثير الضمائر، ولا يقال: أن مرتكبه قد أحدث عملًا غير أخلاقي.
أما الخير الأخلاقي فبعكس ذلك يتميز بتلك السلطة الآمرة تجاه الجميع، بتلك الضرورة التي يستشعرها كل فرد، أن ينفذ نفس الأمر، أية كانت الحال الراهنة لشعوره، وهي ضرورة تجعل من العصيان أمرًا مقيتًا ومستهجنًا.
ولسوف نرى1 في أي صورة ساق القرآن هذه الضرورة التي يسميها: أمرًا
= imperatif، وكتابة = prescription، وفريضة = devoir.
فإذا ما عرّفنا مبدأ الإلزام، وطرحناه على هذا الوجه -وجب علينا الآن أن نتغلغل أكثر، في معرفة طبيعته، دارسين مصادره، وخصائصه، ومناقضاته.
1 انظر فيما بعد، في نفس الفصل، الفقرة الثانية.