المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ فضل النية على العمل:

لكن هذه ليست سوى وجهة نظر إضافية، فإن الوضع المبدئي للواجب يقتضي عملًا كاملًا، يلتزم به الإنسان بكليته، ويمتزج فيه العنصر الأخلاقي بالمادي، والملكة التي تبدع وتنظم بالقوة التي تحقق، ويتلاقى فيه العقل الذي يفكر، والقلب الذي يخلص، واليد التي تعمل.

ولم يبقَ بعد ذلك كله سوى مسألة تفرض نفسها من هذه الوجهة، وهي أن نعرف إذا ما كان هذا الاقتضاء المزدوج يخص قيمة مساوية، أو غير مساوية لهذين الجزأين المكونيين للعمل الأخلاقي الكلي، وذلك هو ما تجيب عنه الفقرة التالية:

ص: 450

جـ-‌

‌ فضل النية على العمل:

ها نحن أولاء، قد قمنا -إن صح هذا التعبير- بتشريح العمل القائم على النية، وميزنا فيه بين طبقتين: باطنة وظاهرة، "النية والتنفيذ"، ثم إننا غيرنا شروط كلا العنصرين، كل بدوره، حتى ندرك درجة أهميته الخاصة في البناء الأساسي للواجب.

وقد استدعى هذا التعديل انهيارًا كليًّا أو جزئيًّا في صرح الواجب، وانتهينا إلى ضرورة وجود هذه الشروط لبناء عمل أخلاقي كامل.

بيد أن هذه الطريقة، التي هي نوع من الاستدلال بالمحال، مع الاستعانة بتحليل للتجربة الأخلاقية -تقدم لنا بالأحرى جانبًا سلبيًّا من المشكلة، حين ترينا الآثار السيئة، التي قد يحدثها غياب أحد الجزأين أو انحرافه. إنها لا تفيدنا شيئًا من العلم بطبيعة إسهامه الإيجابي في تحقيق الخير. ومن أجل هذا الغرض سوف نعيد الآن وضع الأمور في تركيبها البدائي، ولسوف نحاول -من خلال ملاحظتنا لهذه الطبيعة المزدوجة للعمل الأخلاقي أثناء

ص: 450

نشاطه- أن نقدر بقيمتها الحقة مختلف ضروب الخير التي يتعين على العمل الأخلاقي أن يوجدها في العالم أو في أنفسنا.

ومن المقرر عمومًا تقسيم الواجبات إلى: واجبات نحو النفس، وواجبات نحو الغير، "والواجبات نحو الله ليست في نهاية الأمر سوى واجبات نحو أنفسنا، فطاعتنا أو معصيتنا لا يمكن أن تزيدا أو تنقصا شيئًا من العظمة الإلهية وقداستها". ولما كان هناك نوع من التقارب بين مفهوم النية، ومفهوم الواجب الشخصي، كما يوجد ارتباط واضح بين العمل الظاهر وعلاقاتنا الاجتماعية -فإن من الممكن بادئ ذي بدء أن نقوم بنوع من توزيع الخصائص، بأن نعين لهذين العاملين؛ الداخلي والخارجي، منطقتين مختلفتين من مناطق التأثير، ومن ثم تخرج إلى قيمة مساوية تقريبًا، للنية، وللعمل، وإن كان ذلك من وجهتي نظر مختلفتين: فللنية دورها في إثبات وتأكيد طهارة القلب، وشرف النفس، وفي كلمة واحدة: كمال الذات. وللعمل غايته في تأمين العيش الرغيد لإخواننا، وتنميته.

هذه الطريقة في النظر ربما تكون خاطئة من ناحيتين، فهي تعني من ناحية، أننا ننسى أن واجباتنا الاجتماعية لا تنحصر فقط في الأعمال الظاهرة، كما أن واجباتنا الشخصية، هي الأخرى لا تنحصر في الأعمال الباطنة؛ فإن علينا أن نحب جارنا، وألا نحسده، أو نحتقره

وعلينا أن نحفظ حياتنا، وأن نكسب عيشنا اليومي بشرف، وأن ننظم نفقاتنا تنظيمًا عقليًّا، دون سرف أو شح

ومن ناحية أخرى سوف يكون هذا إنكارًا للتماسك الذي أثبتناه بين النية والعمل في جميع الظروف، وبمناسبة كل واجب، أيًّا كان، روحيًّا أو بدنيًّا.

والواقع أنه يجب علينا، حتى عندما نبذل جهدًا لأنفسنا، من أجل تحسين صفتنا الأخلاقية الخاصة -أن نميز بين لحظتين مختلفتين: لحظة القرار

ص: 451

بالشروع في تلك المهمة، باعتبارها أمرًا من الشرع، ولحظة وضع هذا القرار موضع التنفيذ.

ولذلك لا يصح أن تقتصر أية دراسة كاملة لدور النية الإيجابي على مقارنة العنصر النفسي بالعنصر البدني، مقارنة النفس بالبدن، على ما جرت به العادة، بل يجب أن نتصور العلاقة بين ملكة اتخاذ القرار، وبين القدرة على التنفيذ في كلا جانبيها الباطني والظاهري.

وكلما كان الأمر يتعلق بمقارنة عمل القلب وحركة البدن، فلا ريب في أن الأخلاق الإسلامية تغلب الواقع القلبي على تعبيره الحسي. والحق أن القرآن يلح غالبًا على دور العاملين معًا، في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا} 1، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} 2، وقوله:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} 3، وقوله:{وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 4، وقوله:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} 5.

ولكن، على حين لا نجد القرآن مطلقًا يمدح عملًا حسنًا لا يستمد منبعه من أعماق النفس -فكثيرًا ما نجده يبرز بخاصة عمل القلب وحده، سواء باعتباره قيمة في ذاته:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} 7، أو باعتباره شرطًا جوهريًّا للسلام النهائي:{وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 9.

وإنا لنجد هذه الميزة وقد فاضت على الموقف الباطني في الحديث الشريف

1 2/ 62.

2 2/ 218.

3 6/ 120.

4 6/ 151.

5 17/ 19.

6 49/ 3.

7 22/ 33.

8 50/ 33.

9 36/ 89.

ص: 452

بخاصة، وفي نصوص المفسرين، وهي في هذا المجال أكثر صراحة. ولنأخذ على سبيل المثال فكرة:"تقوى الله" التي تكاثرت حولها جميع الأحكام القرآنية تقريبًا، والتي ورد ذكرها أكثر من مائتين وعشرين مرة في القرآن.

إن القرآن يعني بهذه اللفظة موقفًا طائعًا يحترم الأمر الإلهي، وإن هذا الأمر مسموع ملبًّى على أوسع معانيه:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} 1، وبخاصة حين يقترن بالأمر التحريمي، في مقابل "البر":{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2.

وهو في كلتا الحالين يبدو غالبًا أنه يستهدف طاعة كاملة، تشترك فيها القوتان: البدنية والأخلاقية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد ركز بكل وضوح على العامل القلبي، الذي يُعيِّنه على أنه جوهر الفضيلة ذاته، فقال:"إن التقوى ههنا" 3، وأشار إلى صدره، مكررًا قولته ثلاثًا. فحين جاء من بعد ذلك مجموعة من الأخلاقيين، مثل: الحكيم الترمذي، والغزالي -ساروا على نهجه، وجعلوا من هذا العنصر الباطني التحديد الدقيق للتقوى، فكتب الحكيم الترمذي يقول:"التقوى طهارة القلب، وطهارة الصدر مما ذكرنا بدءًا من الإزراء بالخلق، والاحتقار لهم، وقلة العطف عليهم والاحتياط لأحوالهم، ومنح النصيحة لهم، والعون لهم على عبوديتهم لله، وأن يحدوهم على الخيرات ولا يدعوهم إليها، فصاحب التقوى بمنزلة رجل خرج من الحمام وقد تطهر من الأدناس، والأوساخ، ولبس ثيابًا بيضًا، فإذا رأى غبارًا، أو هاجت رياح، توقى على رأسه ولحيته وثيابه أشد التوقي"4.

1 2/ 189.

2 5/ 2.

3 صحيح مسلم، كتاب البر، باب 7.

4 الترمذي الحكيم: الأكياس والمغترين، ص99-100 من المخطوطة 104 تصوف، بالمكتبة الظاهرية بدمشق، وقد نقل المؤلف النص بمعناه، ورجعنا إلى الأصل فنقلناه بحرفه، وربما التبست عبارة الترمذي:"وأن يحدوهم على الخيرات ولا يدعوهم إليها" -على فهم القارئ، ولعل المراد: أن التقي يحمل الناس على الخيرات حملًا بفعله، ويدفعهم إليها، ولا يكتفي بمجرد الدعوة اللسانية، والله أعلم. "المعرب".

ص: 453

ويقول الإمام الغزالي: "التقوى صفة قلب مال عن حب الدنيا، وبذلها إيثارًا لوجه الله تعالى"1.

ولقد يبدو غريبًا أن نخص بالصدارة جانبًا ذاتيًّا من الواجب، وهو جانب لا يعتبر سوى مرحلة بعيدة من مراحل الخير الفعلي. والواقع أنني لا أستطيع أن أنقذ حياة جاري، أو أوفر له حقه في العيش الرغيد لمجرد حبي الباطني له. هذا صحيح، ولكن، يجب -أولًا- ألا نبالغ إلى غيرما حد، في دور النتيجة النهائية في أداء الواجب. فمن المعلوم أن هذه النتيجة النهائية لا تصدر فقط عن جهدنا الأخلاقي، ولا عن نشاطنا البدني، ولكنها تتطلب تعاون مجموعة كبيرة من الظروف الطبيعية، وحتى ما فوق الطبيعية. وحينئذ يصبح واجبنا محصورًا في أضيق الحدود، فهو يقتصر على استعمال الوسائل التي في حوزتنا، وليس عليه أن يوصلها إلى غايتها. ومن ثم فإن العقل، والقلب، والبدن، تبدو لنا كلها أسبابًا، يتفاوت بعدها أو قربها بالنسبة إلى المرحلة النهائية، التي يتمثل فيها الخير الموضوعي.

والحق أن النشاط المادي يمكن أن يعتبر أقرب مراحل هذه الفترة في النظام الزمني. بيد أن هذا القرب الزمني على وجه التحديد لا يؤدي أي دور في تقديرنا الأخلاقي، اللهم إلا البرهنة على أنه يتمتع بسببية مستقلة، بالنسبة إلى فترة سابقة.

أما في حالة العكس، فيجب أن يختلف تقديرنا، حتى يكون مرتبطًا بهذه السابقة التي أشهرت وجود هذه المجموعة كلها من السببية.

وبعبارة أخرى: إذا كان العنصر الأخلاقي يؤثر تأثيرًا فعالًا بالخير وبالشر، على العنصر المادي، فإن تأثيره يجب أن يقدمه على هذا الأخير، وإن كان

1 الإحياء، الغزالي 4/ 357.

ص: 454

أكثر منه اتصالًا مباشرًا فيما يتعلق بالنتيجة، وهذه فعلًا هي الطريقة التي ينظر بها إلى الأشياء في الأخلاق الإسلامية.

والواقع أن لحظتي نشاطنا لا تمثلان داخل هذا النشاط مجرد علاقة تتابع في الزمن، بل ينظر إليها على أنهما مرتبطتان ارتباط السبب بالنتيجة، وقصار النظر وحدهم -أي: أولئك الذين لا يمتد نظرهم إلى أبعد من السبب المباشر- هم الذين يعزون إلى أقرب الأسباب كل الفضل في إحداث النتيجة، ولكن أيكون المرء مصيبًا إذا هو غلا في تقدير دور الآلة في الحضارة الحديثة، حتى ليقدمها على العقل الذي أبدعها، والذراع التي تديرها، والإرادة التي تنظمها، وتكيفها تبعًا للحالات؟

على هذا القياس فاحكم على دور الآلة البشرية التي تتكون من اللحم والعظم، فإن صحة القلب تؤمِّن صحة البدن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في جانبه المادي، أو في جانبه الأخلاقي، قال فيما رواه النعمان بن بشير:"ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد، ألا وهي القلب"1.

وقال أيضًا: "القلب مَلِك، وله جنود، "أو الجوارح جنوده"، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده"2.

وقد علق حكيم ترمذ على هذا فكتب يقول: "فكذلك القلب إذا فسد، لا يغرنك صلاته وصومه، وعمل جوارحه، فلو أن جميع

1 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب 39.

2 البيهقي، ذكره السيوطي في الجامع 2/ 89، والرواية المذكورة هي رواية السيوطي. "المعرب".

ص: 455

جوارحه تزينت بجميع الطاعات، ثم دامت تلك الطاعات على الجوارح، وامتدت المدة في ذلك، فقرّت الجوارح على الطاعات، ولم يكن في قلبه من الغنى ما يمد الجوارح -بقيت الجوارح معطلة، والقلب مغتر، فماذا أغنى هذا الظاهر على الجوارح، وإذا كان القلب غنيًّا، والجوارح معطلة، ففي أدنى حركة من القلب يوسِع الجوارح خيرًا وبرًّا"1.

ذلكم هو الجانب الذي يعود إلى العمل الباطني في تحقيق الخير الموضوعي، فهو ليس شرطًا ضروريًّا فيه وحسب، ولكنه سبب مؤثر بوساطة العمل الظاهري، الذي ليس سوى "مكمل وانعكاس" للأول.

أضف إلى ذلك أن أوامر القانون الأخلاقي ليس هدفها الوحيد أن تثبت العدالة في الدنيا، وإنما هدفها كذلك تقويم شخصنا، بأن ترفعنا فوق الأشياء الأرضية، والحياة الحيوانية.

والعمل الباطني من وجهة النظر العامة لم يكن سوى وسيلة بعيدة، وسبب غير مباشر. وهو من هذه الوجهة الجديدة إما أن يكون غاية في ذاته، وإما أن يكون المرحلة الأخيرة في السلسلة السببية، فهو يتصل بالغاية النهائية التي يتحقق بها هدف الواجب على وجه الكمال.

وليس معنى هذا أن النشاط المادي تتوقف الحاجة إليه عند هذه النقطة، ولكنه يغير دوره فحسب، أو بعبارة أدق: يصبح دوره مزدوجًا: فبدلًا من أن يجنح بنتائجه إلى الخارج فقط، يستدير في الوقت نفسه إلى الداخل، ليقوي استعداداتنا الفطرية، ويزيد في تأصيلها.

1 الترمذي: جواب المسائل ص195-196، وقد نقل المؤلف موجز النص بمعناه. "المعرب".

ص: 456

ألم يؤكد القرآن أن الإحسان يثبت النفس، فقال جل ذكره:{يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1، ويطهر الإنسان، ويزيد في قيمته:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 1. وهذا هو شأن الأعمال الصالحة كلها، كما قال الإمام الغزالي، فالهدف منها أساسًا تغيير صفات أنفسنا: "فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضًا، من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإن من يجد في نفسه تواضعًا، فإذا استكان بأعضائه، وصوره بصورة التواضع تأكد تواضعه، ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكدت الرقة في قلبه". ويقول قبل ذلك الموضع: "وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه، فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب، وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة، حتى تترشح الصفة، وتقوى بسببها، وإن خالف مقتضى ميله، ضعف ميله وانكسر، وربما زال وانمحق، بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلًا، فيميل إليه طبعًا ميلًا ضعيفًا، لو تبعه وعمل بمقتضاه، فداوم على النظر والمجالسة، والمخالطة والمحاورة، تأكد ميله، حتى يخرج أمره عن اختياره، فلا يقدر على النزوع عنه، ولو فطم نفسه ابتداء، وخالف مقتضى ميله لكان كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل، ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة، وترك المعاصي بالجوارح؛ لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة، حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر، فالقلب هو المقصود، والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود"2.

فهذا تحليل سريع للمفهوم الإسلامي للعلاقة بين العنصر الباطن، والعنصر الظاهر، ودور كل منهما في أي فعل أخلاقي تام. وقد استطعنا خلال هذا

1 البقرة: 265.

2 الإحياء 4/ 356-357 ط الحلبي.

ص: 457

التحليل أن نشهد نوعًا من الحركة الدائرية، التي تصعد أولًا من المركز إلى المحيط، لتتجلى في صورة خير موضوعي، ثم تهبط بعد ذلك من المحيط إلى المركز لتتحول إلى خير شخصي.

ولكن، قد يقال لنا: بما أن "الفعل" و"رد الفعل" يتقاصان بالتبادل على هذا النحو، وإن اختلفت نقطتا بدئهما، فلماذا إذن هذا التميز الذي تريد أن تخص به منهجيًّا العمل الباطني؟

ونجيب عن ذلك: بأن الدورين ليسا متشابهين قط. إذ إن العامل الباطني يصل في أهميته إلى درجة يصبح معها التحقق المادي للعمل مدينًا له مطلقًا بوجوده الأخلاقي، على حين أن الأثر الذي يمارسه الجانب المادي على الأخلاقي ليس إلا مكملًا له، ودعامة يمكنه أن يستغني عنها إذا لزم الأمر. فالعمل الباطني يمكنه أن يكتفي بنفسه إلى حد كبير.

وهناك فرق آخر ليس بأقل أهمية، هو أن نشاطنا الظاهر، الذي هو مرحلة وسيطة بيننا وبين الناس -قلما يتجاوز دوره كوسيلة للوصول إلى شيء آخر، في الخارج، أو في الداخل. على حين أن عمل القلب، الذي يستطيع أن يكون وسيلة ذات فاعلية من أجل خير الناس -هو في الوقت نفسه، وفي كل حال، إما "غاية في ذاته" وإما السبب المباشر، والموصل لهذه الغاية من حيث إنه يعتبر جوهر خيرنا الشخصي.

وبذلك نرى عيب جميع النظريات الأخرى، التي ترى أن العمل الأخلاقي من شأنه أن يتوجه إلى هدف معين خاص، سواء بأن يحبس الإنسان في داخل نفسه، أو بأن يستخدمه فقط لغايات خارجية غريبة عنه.

لقد بدأنا بأن ميزنا في الفعل الأخلاقي الكامل بين لحظتين: لحظة النية، ولحظة العمل، وميزنا في هذه بين: العمل الباطني، والعمل الظاهري.

ص: 458

ولقد ذكرنا حتى الآن ما تخص به الأخلاق الإسلامية النشاط الأخلاقي الباطني من تفوق، وكانت مهمتنا ميسرة نسبيًّا، لوفرة النصوص التي تقرر هذه الحقيقة، ولطبيعة الموضوع ذاتها، والقصد الآن أن نعرف إن كانت توجد علاقة رتيبة في الأخلاق الإسلامية بين "النية" و"العمل بعامة".

فأن تكون للنية قيمة امتياز بالنسبة إلى العمل الظاهر، فذلك ما يستخرج منطقيًّا من التدرج الذي سبق إقراره بين القلب والجسد، ولكن أيمكن أن يكون هذا الامتياز ثابتًا لها في مواجهة العمل الباطني؟

ليس لدينا في هذا الصدد سوى نص وحيد، هو حديث مشهور، على الرغم من أن السند الذي يعتمد عليه الطبراني1 والبيهقي، ليصلا بالنص إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس قويًّا، والحديث هو:"نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته"2 وبعد أن ذكر أبو طالب المكي هذا النص قال: إنه فسر بعشرة أوجه، كلها مقبول، ويتناول الغزالي في "إحيائه" أكثر هذه التفسيرات، فيرفضها جميعًا، ما عدا واحدًا، يعتبره الوحيد الذي يتفق مع الهدف الحقيقي للشرع الإسلامي. وكان من بين ما رفضه من الآراء أن قال:"وقد يقال: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهو كذلك، ولكنه بعيد أن يكون هو المراد، إذ العمل بلا نية، أو على الغفلة لا خير فيه، والنية بمجردها خير". واستطرد يقول: "بل المعنى به أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل، وكانت النية من جملة الخيرات، وكان العمل من جملة الخيرات، ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل،

1 رواية الطبراني هذه عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعًا. "المعرب".

2 انظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس، عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للمحدث العجلوني 2/ 324، مكتبة القدسي. "المعرب".

ص: 459

أي: لكل واحد منهما أثر في المقصود، وأثر النية أكثر من أثر العمل، فمعناه: نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته"1.

وإنا لمتفقون مع الغزالي على قوة هذا التفسير، ولكنا حين تابعنا تعليله لم نتقدم في حل المشكلة التي تشغلنا، فهو يقتصر في الواقع على هذا الاعتبار المشترك، المسلم به من وجهة نظر معينة، أعني أن الغاية الأخيرة التي يقصدها الشرع الإسلامي هي صحة النفس، وما تبقى ليس سوى وسائل لبلوغ هذا الهدف. ونحن نقول: ليكن!! ولكن هذا الرجحان لو صح بالنسبة إلى الأعمال البدنية، وهو صحيح، فهل يكون كذلك في مواجهة العمل القلبي؟ وهل النية خير من الجهد الباطي ذاته أم لا؟ ولماذا هذه الأفضلية؟ ذلك ما لم يقله.

وعلى الرغم مما يبدو من تناقض في تأكيد هذا الرأي، فإننا نرى مع ذلك، أنه مما يمكن إثباته، أولًا؛ لأن الشراح قد حملونا على الظن بأن هذه هي وجهة نظر الفقه الإسلامي، لا بالرجوع إلى هذا النص الذي ضعف سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، ولكن إلى القولة الأخرى الأكثر شهرة، والأقوى إثباتًا، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، قالوا: إن كل الأعمال، أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها، قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين، صحيحة أو مجزئة بالنيات

فلا عمل إلا بنية

إلا ما يستحيل دخولها فيه كالنية، ومعرفة الله تعالى، فإن النية فيهما محال. وربما أطلق "العمل" على حركة النفس، فعلى هذا يقال:"العمل إحداث أمر قولًا كان أو فعلًا بالجارحة أو بالقلب"2.

1 انظر الإحياء 4/ 355.

2 القسطلاني 1/ 52 و53.

ص: 460

والآن، كيف نسوغ هذا الرأي؟ أوَليس من التناقض أن نثبت في الأخلاق أشياء تتجاوز في قيمتها النشاط الأخلاقي ذاته؟

إن وضع المشكلة على هذا النحو تزييف لها وإحالة. فكل ما ندعيه هو أن في هذا النشاط مجالًا للتفرقة بين مرحلتين مختلفتين، فقبل أن نلتزم بعمل ما ينبغي أن نؤكد له المبدأ، ونضع له الخطة، ونحدد له الوسائل، ونرسم له الهدف. وفي كلمة واحدة: ينبغي قبل التنفيذ أن نصله بالشريعة فالجانب الشرعي يشرط ويسبق جانب التنفيذ، في الأخلاق، أو في السياسة.

وإذا كان دور النية الحسنة على وجه التحديد هو اختيار الحل، من حيث هو حسن أخلاقيًّا، فإن معنى ذلك أنها تلتزم بالواجب بوصفه واجبًا، وبهذا الوصف صراحة.

إن كل نشاط، حتى أدخله في الطوية، وأكثره تطابقًا مع القاعدة هو في ذاته نشاط محايد، مبهم، يمكن أن يرتدي صفة القداسة أو الدنس، الطاعة أو العصيان، الحسن أو القبح أو اللامبالاة، تبعًا للطريقة التي يتصور بها. ولقد طالما ألح الأخلاقيون المسلمون، حتى فقهاء العبادات -على هذه الفكرة، كما أن القولة المتواترة بلا شك عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها من معنى غير هذا. وعليه، فإن ما يصدق على التباس الأعمال الظاهرة يصدق تمامًا على جهودنا الباطنة. فعندما يغفل الإنسان عن أمر الشرع، ثم هو يحس تلقائيًّا أنه مدفوع إلى أن يتطلب من نفسه تجردًا عن المنافع الأنانية في هذه الدنيا، وحبًّا للأقربين، وكرمًا، وإخلاصًا للإنسانية، فيجب ألا ينخدع بهذه المشاعر النبيلة؛ لأن هذا الاقتضاء الذي نشعر به، من رغبة في تحسين صفتنا، ربما كان مفروضًا علينا بتأثير نوع من النداء الفطري، أو بتذوقنا للكمال، أو بمجرد الرغبة في ممارسة قدراتنا الخلاقة، أو لكي ننال لأنفسنا نوعًا من

ص: 461