الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت
مدخل
…
"كانت":
من المعروف أنه -لكي يقاوم هذا الفيلسوف الألماني بعض النظريات روضت الأخلاق حين أخضعتها لجميع مطالب الحياة الدنيوية- لم يكتف الرجل برسم خط فاصل بين فكرة الأخلاق وفكرة الحياة الحسية، بل مضى إلى أبعد من ذلك، وأمعن في البعد، فهو لم يكتف بأن جرد مفهوم الواجب من كل تجربة حسية، وكل واقع مادي يمكن أن ينطبق عليه، بل إنه خلصه أيضًا من صفته الخاصة، من مادته التكوينية التي تظهر في هذه القاعدة أو تلك، فلم يبقِ له سوى صفته الشكلية، وهي أنه قانون شامل صالح لجميع الإرادات، وقد استخلص من ذلك هذا التعريف للواجب، فهو:"كل سلوك يمكن أن يصاغ في قاعدة عامة، دون أن يكون عرضة لنقد العقل أو تسخيفه"1.
ولقد اعتقد كانت -اعتمادًا على هذه الصيغة المجردة إلى أقصى حد- أنه يستطيع أن يستنبط علم "الواجبات الأخلاقية LA DEONTOLOGIE ETHIQUE" على ما قاله بنتام BENTHAM؛ أعني: علم الواجبات الحسية الخاص بكل مفهوم عملي، وذلك بتقدير كل سلوك عملي من حيث هو أخلاقي أو غير أخلاقي، عن طريق وزنه بذلك الميزان الوحيد، وهو صلاحيته لأن يصبح قانونًا عامًّا.
1 Toute Action don’t la maxime peut sans absurdite erte universalisee.
أمشروع من هذا القبيل يمكن أن يتحقق فعلًا؟ وهل أساس هذا البناء ذاته متين بحيث يدعمه؟ إليك من وجهة النظر التي تهمنا تخطيطًا للفكر الكانتي، ويمكن القول إجمالًا بأنه يتكون في ثلاث مراحل:
أ- إثبات حدث أولي.
ب- تحليل يسمح بالارتقاء إلى أعلى درجات العمومية.
جـ- هبوط مرة أخرى لوضع القواعد الأساسية للأخلاق الإنسانية.
أ- إن نقطة البداية في النظرية الكانتية تنحصر في هذا الواقع المحسوس، الذي يقدمه الضمير مباشرة، أعني أننا في أحكامنا الأخلاقية لا نزن الأعمال مطلقًا بالقياس إلى نتائجها الطيبة، أو السيئة، ولكنا نزنها بالقياس إلى قاعدة عامة صالحة للتطبيق على جميع الأفراد، ومستقلة عن جميع النتائج، وتلك حقيقة لا مجال للطعن فيها.
فنحن -بدلًا من أن نجعل البحث عن اللذة، والهروب من الألم مبدأ للتقدير الأخلاقي- نستحسن الأعمال الفاضلة بقدر ما تشق علينا. ونحن نعجب إلى أقصى حد بالنفوس القوية التي تعرف كيف تقاوم كل ضروب الإغراء، وتتخطى جميع العقبات. ونحن -قبل أن نمنح أنفسنا الحق في إخضاع قاعدة سلوكنا الخاص لأحوالنا الشخصية- نعرف أن من واجبنا أن نقيسها على القاعدة التي نتطلبها من الآخرين:"كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم"1، ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
1 إنجيل متى، القسم، الإصحاح السابع 12.
بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} 1، ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حد أن يجعل من هذا الحب المتبادل المتساوي شرطًا للإيمان:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2.
من هذه الإدانة الكاملة للأنانية في جميع أشكالها استخرج الضمير الإنساني العام مبدأ شمولية الواجب وتبادليته.
فلم يفعل "كانت" إذن في البداية سوى أن سجل هذا القانون، ولاحظه كواقع للضمير. ومع أنه قد أوضح نقص هذه الأقوال القديمة، وعجزها عن تقديم القانون الأخلاقي الكامل3 -نجده يبني كل نظامه ابتداء من الفكرة الموحاة في هذه المأثورات.
والواقع أنه يعتمد في وضع القاعدة الجوهرية للحكم الخاضع لقوانين العقل العملي المحض -على حكم "الإدراك العادي"، وهي القاعدة التي يصوغها على هذا النحو:"سل نفسك إذا ما كان العمل الذي تهم به يمكن أن يحدث افتراضًا، طبقًا لقانون الطبيعة التي أنت جزء منها -هل تستطيع إرادتك -مع ذلك- أن تقبله على أنه ممكن؟ ".
ويستطرد قائلًا على سبيل المثال: "كل منا يعرف جيدًا أنه إذا سمح لنفسه أن يخدع خفية فلن يكون ذلك سببًا في أن يسلك كل الناس نفس السلوك، وإذا ما نظر أحدنا بلامبالاة كاملة إلى بؤس الآخرين، فلن يترتب على ذلك أن يقف الناس جميعًا نفس الموقف من بؤسه"4.
1 البقرة: 267.
2 البخاري، كتاب الإيمان، الباب السادس، ويضيف النسائي: عبارة "من الخير".
3 انظر: Kant: Fondement de la metaphisique des moeurs p 153
4 Kant: Critigre de la R. Pratique، P. 71-2.
ب- ولكن من أين يأتي هذا الطلب الحثيث لعمل مثالي لا يوجد له نموذج في التجارب؟ ويجيب مؤسس مذهب: "الشكلية العملية formalisme pratique" بقوله: "يأتي ذلك من أن "القانون الأخلاقي" ينقلنا بطريقة مثالية إلى مجال مختلف تمامًا عن مجال "القانون التجريبي"، فهو يشركنا في عالم ذهني صرف، حيث يتجلى استقلال الإرادة، لا في نوع من الاستقلال عن قانون الطبيعة المحسوسة وحسب، فذلك ليس سوى وجه سلبي للحرية، ولكن كذلك في أن هذه الإرادة تضع لنفسها قانونها.
هذا القانون ينبغي أن يكون قانون عقل محض، أي: بحيث لا يكون متحررًا فقط من تأثير أي ظرف تجريبي، أو حدس intuition، أو أية مادة، بل يكون أيضًا قادرًا على تحديد الإرادة بطريقة قَبْلية apriori، ذلك أن العقل المحض إنما كان كذلك؛ لأن شأنه في استعماله العملي كشأنه في استعماله النظري:"هو عقل واحد، يحكم طبقًا لمبادئ قَبْلية"1.
ولما كنا لا نجد غير الشكل المحض لتشريع عام، هو الذي يستطيع أن يحدد الإرادة تحديدًا -وجب لهذا أن يتكيف كل حكم مع هذا الشكل، وإلا أصبح مستحيلًا أخلاقيًّا.
وهكذا نجد أنها عمومية، لا تشبه فقط عمومية قانون الطبيعة، الذي ينبغي لأي حكم عادي أن يهتدي به، على أنه صورة مطابقة للعقل المحض، ولكنها أيضًا عمومية مطلقة، تصلح للتطبيق على جميع الكائنات العاقلة، فانية وخالدة، وهي تجد أساسها في حكم جازم، أعني: ضروري وقَبْليّ، صادر عن العقل المحض.
ويعلن "كانت" هذا القانون الأساسي للعقل المحض على هذا النحو:
1 kant: crit de la r. Prati. P. 130.