الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
وضح لنا إذن وضوحًا كاملًا أن كلتا النظريتين لا تظهر من الحقيقة الأخلاقية سوى جانب واحد، وفضلًا عن ذلك يكمن نقصهما المشترك في تعصبهما، وترافضهما، أكثر مما يكمن في جانبهما الإيجابي.
وهكذا حدث للفلسفة العملية ما حدث لنظرية المعرفة، فالمثالية، والواقعية، والعقلية التجريبية، وجماعات أخرى فلسفية كثيرة، لم يكن تعارضها إلا لأن كلًّا منها يركز من جانبه على شرط ضروري للمعرفة الإنسانية، معتبرًا أنه هو الشرط الكافي، والسبب الكلي، على حين أنه ليس سوى عنصر واحد بين عناصر أخرى كثيرة.
والواقع أنه، لا المفهوم المنطقي، ولا القانون العلمي، ولا مجموع المفاهيم والقوانين المعروفة -بقادرة مطلقًا على أن تؤلف، وتستنفد الموضوع المحسوس، الذي هو نقطة التقائها، ولكنه يتجاوزها بلا حدود، هذا من ناحية.
بيد أنه من ناحية أخرى يظل كل موضوع واقعي أجنبيًّا تمامًا، وغير قابل للتمثل، ما لم يوضع في أشكال عقلنا وقوانينه.
وبعبارة أخرى: إذا كانت المبادئ الأولى، والقوانين العامة تعفينا
مطلقًا من أن نطابقها مع الواقع، وإذا كان هذا الواقع لا يحتوي شيئًا زائدًا، ولا يقدم لنا جانبًا جديدًا -فإن العالم سوف يبلغ مرحلة المتماثل المبهم، سوف يكون بلا حياة، بلا تاريخ، بلا أبعاد.
ولكن في مقابل ذلك، إذا لم يكن هنالك من حقيقة مكتسبة، ولا قانون ثابت، فإن العقل سوف يتوقف عن أن يكون عقلًا، سوف يفقد وحدته البنائية، سوف يئول إلى هباء، ولن تكون له أدنى سيطرة على الطبيعة.
وفي مقابل ذلك، من وجهة نظر عملية -لو كان يجب على العالم أن يستأنف دائمًا من البداية، فلن يكون التقدم ممكنًا، ولن يتم مطلقًا بناء صرح الحقيقة.
وإنما هو لقاء الفكرة بالموضوع، لقاء الشكل بالمادة، لقاء الفرض بالتجربة؛ لكي تنفجر شرارة المعرفة الحقة.
وذلكم هو شأن الأخلاقية
…
فلا الصيغة المجردة لقاعدة عامة، ولا التحليل الدقيق للحالة الخاصة -معزولًا كلاهما عن الآخر- يكفي لهداية إرادتنا، وإنما هو كما قررنا منذ قليل -تركيب "المثل" الشامل، القادم من "أعلى" مع الواقع الراهن، الذي ليس سوى إيضاح وبيان، حتى يوجد الدليل الممتاز لضميرنا. فبين المثل الأعلى والواقع، بين المطلق والنسبي، يوجد الضمير الإنساني علامة توحيد، يجب أن يستمر في التقريب بين هذين الطرفين، بأن يؤكد رابطة ما بينهما في صورة العمل الذي يولد من اقترانهما السعيد، ويرتدي هذه الصفة المزدوجة التي يمثلها في وقت واحد: ثبات القانون الأزلي، وجدّة الإبداع الفني.
أليس هذا هو نفس إدراك "التكليف" الذي يستخلص من المفاهيم القرآنية؟ ولنستمع إلى القرآن وهو يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1،
1 التغابن 16.
ألا نرى فيه من أول وهلة الخط الفاصل الذي يميز هذه الصيغة من الأخريات؟؟
ليست هذه هي الصيغة: "افعلوا ما يبدو لكم حسنًا" تبعًا لإلهام اللحظة.
وليست هذه أيضًا صيغة الواجب الصارم على سبيل القهر، دون استثناء أو تعديل. ليست هذه أو تلك، ومع ذلك فهي تتفق معهما في امتدادها العميق.
بهذه الكلمات الجامعة البينة يلفت القرآن أنظارنا نحو السماء، وهو يثبتنا على أسس متينة من الواقع، وهكذا نجد طرفي السلسلة وقد اجتمعا: صعود نحو المثل الأعلى، وإنقاذ للفطرة؛ خضوع للقانون، وحرية للذات.
ولكن، هل ترون أن هذا ممكن؟! ألا يجوز أن يتنافر هذان الطرفان المتعارضان؟ أم لا لا يجوز لكل فرد، منذ اللحظة التي يصرح له فيها بتحديد واجبه بالنسبة إلى حالته الخاصة -أن يتجاوب مع نوازعه الطارئة، ويطرح بهذا سلطة الأمر؟
هذا ما لا يحدث أبدًا؛ لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن ليس ذلك الضمير الفارغ؛ غير المهذب، المتروك دون مرشد غير حالته البدائية، على ما عليه إنسان الطبيعة لدى "روسو". وليس هو أيضًا ضمير ذات مختلقة، كالذات الخالصة moi transcendantal لدى "كانت".
إنه ضمير يجمع شرطين لم يجتمعا خارجه قط، فهو أولًا مستنير، بفضل تعليم إيجابي، حددت فيه الواجبات ورتبت بدرجة كافية. وهو فضلًا عن ذلك قائم في مواجهة واقع حي، ومراعى إلى أقصى حد.
وباختصار: ذلكم هو ضمير المؤمن، ومن خصائص ضمير كهذا أن يكون لديه، وهو حاضر في ذاته، ومهيأ للتناصح، شخصية مشرعه، فما كان له إذن أن يستسلم لاعتبارات يعلم أنها غير مشروعة في نظر واضع الشرع، بَلْه أن يخون نفسه.
وإليك مثالًا على هذا، فالله سبحانه يقول لي "ما معناه": افعل هذا إلا المحرم، ولا تفعل هذا، إلا إذا كنت مكرهًا بضرورة، ثم إنه يحصنني ضد الدوافع الخفية التي يمكن أن تحملني على مخالفة الأمر، تحت ستار ضرورة زائفة:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
فهل أستطيع في هذه الظروف أن أبرئ نفسي، وأنا أعتبر مخالفة بسيطة كأنها محرم؟ أم حين أرى التخويف الهين من باب الإكراه، على حين أعلم يقينًا أن هذا ليس ما أراده الله سبحانه بهذه الكلمات؟
ولا ريب أن الله عز وجل لم يجبني دائمًا بصراحة في الحالات المشتبهة، وهو لا يوحي إلينا أيضًا، فأمامنا جميعًا نفس الحل، إيجابًا وسلبًا، ولدي دائمًا فرص لأرتكب خطأ في التفسير، أو في التحديد.
وهذه الاحتمالية نتيجة طبيعية لظرفي الإنساني، وللحرية التي أتاحها لي في هذا الظرف نفسه.
والأمر الجوهري بالنسبة لي، كمؤمن، هو أن أبذل جهدي في حال الالتباس، وأن أميز، وأتبع، بأمانة وإخلاص، ما يمكن أن يكون من أمر الله، تبعًا لمجموع تعاليمه. ولو كان الحل الذي اجتهدت فيه واخترته منحرفًا، فلن أكون آثمًا، متى ما بذلت جهدي الضروري، الذي يصدر عني، لإضاءة طريقي، والله يقول:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 2.
فأما أن كل فرد، في الحالات المشتبهة، ملزم بأن يرجع إلى ضميره،
1 المائدة: 3.
2 الأحزاب: 5.
ويلتزم بإجابته بطريقة معينة، فذلك هو ما قاله لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مستوحيًا القرآن1، في كلمات معروفة، منها:"الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"2.
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة"3. وحين يسأل النبي عن معنى الخير والشر يجيب: "استفت قلبك، واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك" 4.
ولكن، قد يثور اعتراض، إذا ما نظم الشرع -فيما عدا هذه الحالات المشتبهة النادرة نسبيًّا- كل شيء، وهو اعتراض يقول بأن الضمير الفردي لا يقوم بأي دور في تقرير الواجب.
ونجيب على هذا: بأن الاعتراض سوف يكون محقًّا، إذا كانت القاعدة قادرة دائمًا على تعيين جميع الأفراد الذين تحكمهم -أولًا-، وعلى التنبؤ بعد ذلك لكل فرد بجميع الحالات التي يتعين عليه حلها، ثم تقدم له أخيرًا في كل حالة، صورة محسوسة لحكمها الإجماعي، متفقًا مع القواعد الأخرى.
وبعبارة أخرى، سوف يكون الاعتراض محقًّا لو لم توجد سوى طريقة واحدة لإدراك القاعدة، وطريقة واحدة لتطبيقها، والتوفيق بينها وبين القواعد الأخرى. ولكن الواقع لا يتفق مطلقًا مع هذه النظرة من نواحيها الثلاثة.
1 في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، الإسراء:36.
2 البخاري، كتاب الإيمان، باب 39.
3 البخاري، كتاب البيوع، باب 3.
4 انظر: مسند أحمد من طريق وابصة، وكذلك صحيح مسلم، كتاب البر، باب 5.
ولو افترضنا أن النقطة الأولى قد حلّت فلسوف نعرف ببساطة أن أكثر القواعد التي قد نصوغها تحديدًا، تشتمل بالضرورة على بعض الجوانب غير المحددة، ومن ثم فبين غير المحدد والمحدد يوجد كل التأثير الممكن، لا بالنسبة إلى الاختيار الحر لضمير نفسي فحسب، وإنما أيضًا بالنسبة إلى التقدير الذكي للضمير الأخلاقي. ذلك أن الخصائص المميزة للعمل الفرد لا يمكن تجاهلها كلها، كما لا يمكن تقديرها كلها، وهي كذلك تحمل في أغلب الأحيان هذه الصفة المزدوجة، سواء أكان ذلك على التوالي، بحسب الحالات، أم في الآن نفسه بحسب الرأي الذي نأخذ به. وإذن فلا بد من جهد فردي، وبصيرة خاصة لتقديرها بقيمتها الحقيقية، وليختار منها ما يفرض منطقه أكثر.
هذا اللجوء إلى الجهد الفردي لتحديد واجب الفرد في علاقته بالواقع الموضوعي، هو واجب شامل يقع على عاتق الإنسان صاحب الدنيا، وصاحب الدين، وذلك بصرف النظر عن إيجاد امتياز مقصور على المتخصصين القادرين على التشريع.
فهناك ضرورة تواجه كل فرد متى ما أريد الانتقال من المفهوم الأخلاقي إلى العمل الأخلاقي. وكما أن القاضي يجب عليه أن يمحص كل حالة؛ ليتحقق جيدًا من أنها فعلًا الحالة المنصوص عليها في صيغة هذا القانون، أو ذاك الحكم فإن كلًّا منّا ملزم بأن يفتي لنفسه، إذا ما كان الوجه الذي يزمع تحقيقه موافقًا فعلًا لشرائط القاعدة1. ولنأخذ على ذلك مثلًا، القاعدة الأخلاقية التي تأمرنا بأن نرعى حاجات اليتامى، فهذه القاعدة لا تشير بالنسبة إلى كل ظرف -إلى وزنه، ودرجته، ونوعه، وصفته الكافية، والمناسبة.
وكذلك نجد أن القاعدة التعبدية التي تأمر المؤمن بأن يتوجه إلى وجهة
1 انظر: المستصفى للغزالي، جـ2 ص230-231، والشاطبي في الموافقات جـ4 ص89-105.
معينة في أثناء صلاته، لم تعن بأن ترسم له في كل موقع سهمًا يعدل من اتجاهه تبعًا له. والقاعدة القانونية التي تطلب إلى القاضي ألا يقبل من الشهود سوى الأشخاص العدول، ذوي المروءة، فهي لا تلقنه عدالة رجل معين أو نزاهته.
هذا البعد عن التحديد الصارم، وهذا الصمت الملازم لكل قاعدة وهذه المسافة الممتدة بين المفهوم والواقع، ذلك كله أبلغ دعوة موجهة إلى ضميرنا؛ ليستمر العمل التشريعي الذي بدأته القاعدة، وعلينا أن نتابع هذا العمل إلى أن يزول كل غموض، وبحيث يستطيع كل فرد أن يقول لنفسه: واجبي هنا فعلًا، وفي هذا العمل الفرد، لا غير. فهناك إذن، حيث تنتهي المهمة المحددة للقاعدة، وينتهي معها إكراه سلطتها -يبدأ نشاط الفرد في ممارسة حريته. ونستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك، حين نواجه القاعدة من جهة تحديدها، إذ ينبغي أن نعلم أن قاعدة ما -لم توضع مطلقًا لتقييد حريتنا، بل لتنميتها بطريقة معينة. وفائدة القاعدة المقررة أنها أولًا توفر ترددنا، وتقلل بذلك من فرص أخطائنا، بدلًا من أن يترك تفكيرنا موزعًا في كل الاتجاهات الممكنة، بحثًا عن أحكام صائبة. ثم إنها حين تحصر مجال ناشطنا لا تعني إلا تقوية هذا النشاط وزيادة فاعليته، شأن تيار الماء، يحفر له مجراه، وتدعم ضفتاه. فما سوف تفقده حريتنا في الامتداد، سوف تكسبه في العمق، في بحثها عن أفضل الطرق لأداء الواجب.
ومن ناحية أخرى لا يمكن القول: أن هناك واجبًا واحدًا فحسب. فهناك فوق تركب ظروف الحياة، وتغيرها الدائم -كثرة الأوامر الأخلاقية وتداخلها، ومن تقابل هاتين المجموعتين ينفتح أمام حريتنا أرحب المجالات امتدادًا، ولكي نقتنع بذلك نسمح لأنفسنا باستعارة مثال من قواعد اللعب.
فمن المعلوم في لعبة الشطرنج مثلًا أن سير كل قطعة أمر بسيط، وهو يتبع قاعدة محددة على وجه الدقة. ومع ذلك هل يمكن القول بأن دقة القاعدة
تجمد حرية اللاعب؟
…
الواقع المعلوم -على العكس- هو أن كل لاعب شطرنج يمكنه أن يمارس تفريع عملياته إلى ما لا نهاية له، حتى إن ترتيب اللعب في دورين لم يحدث أن تماثل مطلقًا. بيد أن أكثر الملاحظات أهمية في هذه المقارنة هي أن أصالة كل لاعب لا تكمن في طريقة تطبيقه للقاعدة وطريقة تحريكه لكل قطعة، بقدر ما تكمن في طريقته التي يوجه بها الضربات، وينسق بين الحركات، ويجمع القوى المختلفة. هنا تتجلى عبقرية اللاعب، في حدسه الذي يكشف به من خلال هذا التيه -أقصر الطرق وآمنها لبلوغ النتيجة.
مثل هذا يحدث في النظام الأخلاقي: فإن من بين المهام التي يتعين علي أداؤها ما يفرض نفسه علي كل يوم، ومنها ما هو دوري، أو ظرفي، ومنها أخيرًا ما لن تسنح فرصته سوى مرة واحدة في الحياة. وكل من جسمي، وعقلي، وأسرتي، ووطني، وسائر أعبائي، يطلب نشاطًا محددًا بوساطة قاعدة. ومع ذلك، فحين أستيقظ في الصباح أستطيع بطرق شتى أن أقر جدول أعمالي، وأسطر القائمة التي سوف أتبعها في تنفيذها، ويمكنني في فترة معينة من الزمن أداء عدد من الأعمال الحسنة، فأضيف من الكمال لبعضها مالا أضيفه للأخرى، وأقدم عملًا وأؤخر غيره -بقدر الإمكان، وأكتفي بأشكال عادية من الإحسان، أو أبلغ الجهد في خلق شكل جديد، ذي قيمة أكبر. بل لقد يبلغ الأمر إلى حد أن مجرد إشارة أو لفتة واحدة يجب أن تعتبر تركيبًا ينطوي على كثير أو قليل من الحذق في التوليف بين مجموعة من الواجبات.
وهكذا يستطيع كل فرد أن يؤلف بكل حرية صفحة أصيلة من حياته الأخلاقية، وإن كان يحترم القواعد العامة لهذا الفن الإنساني. وكيف نطالب بقدر أكبر من الحرية، تستهدف تفجير هذه الأطر، دون أن ننحدر إلى الفساد أو إلى الجنون؟ إن ذلك هو ما يجب أن تجنبنا إياه كل حكمة
تشريعية، جديرة باسمها، حين ترسم لنا الخطوط العريضة لسلوكنا. أما ما لا يجب أن تفعله، مخافة أن تنتهك حقنا الطبيعي، وتردنا إلى الخضوع الذليل والآلي -فهو أن تقحم نفسها في تفصيل أعمالنا، التي نأتيها بفطرتنا، كل على هواه.
فالجانب الذي يخصنا من تشريع تكاليفنا هو -منذئذ- محدد تمامًا.
نحن لا نوجد قواعد الشريعة، وإنما نتناولها جاهزة، صراحة، أو ضمنًا، من يدي مشرعنا. أما تحديد واجباتنا المادية فنحن نقوم به ابتداء من هذه المثل العليا، بقدر وسعنا. ذلكم هو الوضع المعقول والميسر الذي يتخذه، كما نرى، التكليف الأخلاقي في القرآن. فهو يضع الإنسان في مكانه الصحيح، وفي الظروف التي تناسبه على وجه التحديد، ما بين الفطرة والعقل المحض.
وحين كان برجسون يعتقد أنه كشف نوعين للأخلاق، أحدهما: ذو طابع إلزامي، والآخر: ذو طابع إبداعي، فإنه لم يزد على أن أحدث فصلًا مصطنعًا بين عنصرين لا ينفصمان لحقيقة واحدة في كلتا الحالين.
إن الأخلاقية الحقة ليست خضوعًا محضًا، ولا ابتكارًا مطلقًا، هي هذا وذاك في وقت واحد. والموقف ليس موقف عبد مسترق، ولا موقف سيد مطلق، بل هو موقف مواطن يشارك بقدر معين في السلطة التشريعية بالاختيار، والمبادرة التي يملكها. فمن ذا الذي يستطيع أن يضيف إلى ذلك، أو يقتطع منه شيئًا دون أن يخطئ بالزيادة أو بالنقص؟
إننا حتى الآن قد أرسينا بين المشرع والإنسان العامل نوعًا من التعاقد، يقدم كل منهما بموجبه جزءًا من تحديد الواجب الحسي، واشتراك الفرد في السلطة التشريعية يتمثل إذن على أنه نوع من التعاون، أساسه تقسيم العمل،
وهو تعاون يتكامل فيه الجانبان دون أن يتداخلا، وبحيث يبقى الشريكان مستقلين، أحدهما عن الآخر، فلا يلتقيان إلا في منتصف الطريق.
وهناك في الواقع ما هو أكثر وأفضل، فحين نلتحم بالقانون المقدس يتمثله ضميرنا، ويحميه، ويجعله نفسه، حتى كأنما كان يسهم في خلق الحقائق الأزلية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إننا بتركيبنا لمختلف القواعد المقررة، وضبطها على موقفنا -لا نفعل ذلك في غيبة المولى، بل تحت سلطانه، ورعايته، ورقابته. فنحن نستلهمه دائمًا، كما لو كان يواصل في أعماقنا دوره كمشرع، حتى في أدق التفاصيل. وبذلك نستطيع القول بأنه ليس بين العامل وواضع الشرع "مشاركة" فقط، بل اتحاد، أو قل: هو "اندماج" بين إرادتين.
فأية فلسفة من الفسلفات الأرضية، استطاعت أن تحدث هذه المصالحة الوثيقة بين مطالب متعارضة على وجه الإطلاق؟
إنه لن يفي بهذه المهمة -في رأينا- سوى الأخلاق الدينية، وهو ما نهضت به بحق الأخلاق القرآنية، على وجه الكمال.