المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى: - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

ب-‌

‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

والآيات القرآنية لا تعالج كلها هذه الفكرة بنفس الطريقة، فبعضها لا يعطينا منها سوى فكرة عامة غير محددة، والآخر يمنحها تحديدًا يتفاوت في درجة دقته، وقد يكون سلبيًّا أو إيجابيًّا، ماديًّا، أو روحيًّا. وعلينا إذن أن نميز هنا نماذج عدة:

أ- لنذكر أولًا الآيات التي تكتفي -لكي تعين للصالحين والعاصين مصائرهم الخاصة- بذكر الاسم النوعي لمقامهم الأبدي، جنة أو نار1، دون أن تذكر لهما أية تفاصيل:"= 80 أو58 ب".

1 الجنة: 2/ 82 و3/ 185 و4/ 124 و9/ 21 و111 و11/ 23 و108 و18/ 107 و22/ 5-6 و23/ 22 و25/ 15 و26/ 90 و31/ 8 و32/ 19 و39/ 73 و40/ 8 و41/ 30 و42/ 7 و46/ 14 و16 و47/ 6 و50/ 31 و59/ 20 و68/ 34 و79/ 41 و81/ 13 و89/ 30 "= 19 أو8 ب".

النار: 2/ 39 و81 و167 و206 و217 و257 و275 و3/ 12 و116 و131 و151 و162 و196 و4/ 10 و14 و30 و93 و97 و115 و121 و140 و169 و5/ 10 و37 و72 و86 و6/ 128 و7/ 18 و36 و8/ 14 و16 و36 و37 و9/ 17 و49 و63 و68 و73 و95 و113 و10/ 8 و11/ 16 و17 و98 و113 و119 و13/ 18 و35 و14/ 29 و30 و16/ 29 و62 و17/ 63 و18/ 100 و102 و106 و19/ 72 و86 و21/ 29 و22/ 4 و51 و72 و24/ 57 و25/ 65 و26/ 91 و29/ 25 و68 و32/ 13 و33/ 64 و34/ 42 و36/ 63 و38/ 27 و85 و39/ 8 و19 و32 و60 و71 و72 و40/ 6 و8 و76 و41/ 19 و24 و28 و42/ 7 و43/ 74 و45/ 34 و46/ 24 و47/ 12 و48/ 6 و13 و50/ 24 و51/ 13 و57/ 15 و19 و58/ 8 و59/ 3 و64/ 10 و66/ 9 و10 و72/ 23 و79/ 39 و81/ 12 و82/ 14 و83/ 16 و84/ 12 و87/ 12 و92/ 14 و98/ 6 و111/ 3 "= 61 أو50 ب".

ص: 363

ب- وفي مجموعة أخرى من الآيات لم يصرح باسم الدار الآخرة، كما أن المصير الذي تعلنه خاصًّا بكلٍّ، قد جاء في صورة تتفاوت في غموضها.

فقد أعلن للصالحين:

- البشرى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 1.

- الأمل والرجاء: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} 2

- الوعد الحسن: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} .

- الفوز: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4.

- الفضل الكبير: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} 5.

- عملهم لا يضيع: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 6.

- عملهم لا ينكر: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} 7.

1 2/ 97 و223 و9/ 112 و10/ 64 و22/ 34 و37 و27/ 2 و39/ 17 و46/ 12 "= 4 أو5 ب".

2 4/ 104 و18/ 46 و35/ 2 و29 "= أو1 ب".

3 4/ 95 و28/ 61 "= 1 أو1 ب".

4 23/ 111 و24/ 52 و33/ 71 و40/ 51 "=2 أو2 ب".

5 33/ 47 "= 1 ب".

6 2/ 143 و3/ 171 و193 "= 3 ب".

7 3/ 115 و21/ 94 "= 1 أو1 ب".

ص: 364

- ولهم على الله أن يشكرهم: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1.

- وهم المفلحون: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} 2.

- ولهم حسن المآب: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 3.

- وهو خير لهم: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه} 4.

- ولسوف يجد المحسنون ما يقدمون: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} 5.

- ولسوف يكون عملهم أكثر حسنًا: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} 6.

- ثم يستردونه كاملًا: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} 7.

1 2/ 158 و4/ 147 و17/ 19 و42/ 23 و64/ 17 "= 2 أو3 ب".

2 2/ 5 و189 و3/ 104 و130 و5/ 90 و7/ 8 و157 و8/ 45 و22/ 77 و23/ 1 و102 و24/ 31 و51 و28/ 67 و30/ 38 و31/ 5 و59/ 9 و62/ 10 و64/ 16 و87/ 14 و91/ 9 "= 9 أو12 ب".

3 3/ 14 و4/ 59 و11/ 49 و13/ 29 و17/ 35 و19/ 76 و 20/ 132 و28/ 83 و43/ 35 "= 7 أو2 ب".

4 2/ 184 مكررة و197 و271 و280 و3/ 110 و4/ 25 و46 و170 و9/ 3 و41 و74 و16/ 126 و18/ 46 و19/ 76 و22/ 30 و24/ 27 و60 و29/ 16 و30/ 38 و47/ 21 و64/ 16 "= 5 أو17 ب".

5 2/ 110 و3/ 30 و99/ 7 "= 1 أو2 ب".

6 42/ 23 و73/ 20 "= 1 أو1 ب".

7 2/ 272 و3/ 57 و4/ 173 و8/ 60 و20/ 112 و35/ 30 و39/ 10 و49/ 14 و72/ 13 "= 4 أو6 ب".

ص: 365

- وسيكون مضاعفًا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 1.

- تبعًا لأفضل أعمالهم: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} 2.

- بل ولهم زيادة عليه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3.

- والله ضامن أجرهم: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّه} 4.

- وهو أجر عظيم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} 5.

- خير مما فعلوا: {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} 6.

- وهو أجر كريم: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 7.

- لا انقطاع له: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 8.

1 2/ 245 و261 و276 و4/ 40 و30/ 39 و34/ 37 و57/ 18 و64/ 17 "= 3 أو5 ب".

2 16/ 96-97 و24/ 38 "= 1 أو1 ب".

3 4/ 40 و173 و10/ 26 و30/ 45 و42/ 26 "= 3 أو2 ب".

4 2/ 61 و112 و262 و274 و277 و3/ 199 و4/ 100 و152 و7/ 170 و9/ 120 و11/ 115 و42/ 40 و47/ 36 و57/ 19 "= 4 أو10 ب".

5 3/ 172 و179 و4/ 67 و74 و114 و146 و162 و17/ 9 و18/ 2 و22/ 58 و33/ 29 و35 و44 و35/ 7 و48/ 10 و16 و29 و49/ 3 و62/ 7 و65/ 5 و67/ 12 "= 5 أو16 ب".

6 2/ 103 و27/ 89 و28/ 84 "= 2 أو1 ب".

7 8/ 4 و74 و22/ 50 و24/ 26 و33/ 31 و44 و34/ 4 و36/ 11 و57/ 18 "= 3 أو6 ب".

8 4/ 8 و58/ 3 و84/ 25 و45/ 6 "= 4 أ".

ص: 366

- ولهم المقام الشريف المرضي: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} 1.

- ولهم عيشة راضية: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَة} 2.

- وهي عيشة النعيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 3.

وقد بلغت الوعود بالسعادة على هذا النحو "= 66 أو100 ب".

كذلك نجد أن الوعيد المقابل لهذا الوعود كثيرًا ما يتردد، ولكنه أقل تنوعًا، فإذا لم تكن صيغة الوعيد شديدة الغموض، كقوله تعالى:

{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 4 -فإنه "الوعيد" ينحصر في القول بأن فاعلي الشر سوف يرد لهم نظيره، فالله سبحانه يدخر للكافرين، والظالمين، والمنافقين، والمستكبرين، والمجرمين، والعاصين بعامة -عقوبة قاسية، وعذابًا أليمًا، مخزيًا، خالدًا "94 أو66 ب"5.

1 4/ 31 و22/ 59 "= 2 ب".

2 101/ 7 "= 1 أ".

3 82/ 13 "= 1 أ".

4 مثلًا: 26/ 227 و28/ 61 و43/ 83 و46/ 12 و50/ 45 و99/ 8.

5-

2/ 7 و10 و79 و85 و90 و96 و104 و114 و162 و165 و174 و178 و196 و211 و3/ 4 و21 و56 و77 و88 و91 و105 و106 و176 و177 و178 و188 و4/ 18 و37 و102 و138 و151 و161 و173 و5/ 2 و32 و36 و73 و80 و94 و95 و6/ 49 و93 و147 و157 و160 و8/ 25 و9/ 3 و61 و74 و79 و90 و101 و10/ 15 و27 و52 و70 و11/ 3 و12/ 110 و13/ 25 و34 و14/ 2 و22 و16/ 63 و88 و94 و104 و106 و117 و17/ 10 و18/ 2 و19/ 37 و79 و20/ 127 و22/ 18 و25 و57 و24/ 11. و19 و23 و63 و25/ 19 و27 و69 و26/ 213 و27/ 5 و28/ 64 و84 و29/ 23 و30/ 16 و31/ 6 و7 و24 و32/ 22 و33/ 8 و30 و57 و73 و34/ 5 و8 و38 و35/ 7 و10 و37/ 33 و38 و38/ 26 و39/ 13 و26 و47 و54 و55 و41/ 6 و27 و50 و42/ 16 و21 و26 و42 و45 و43/ 39 و65 و45/ 7 و8/ و9 و10 و11 و46/ 20 و48/ 16 و17 و51/ 60 و52/ 7 و45 و57/ 13 و20 و58/ 4 و5 و15 و16 و59/ 4 و7 و15 و64/ 5 و65/ 10 و67/ 28 و68/ 33 و70/ 1 و72/ 17 و76/ 31 و77/ 15 و19 و24 و28 و34 و37 و40 و45 و47 و49 و83/ 1 و84/ 24 و88/ 24 و107/ 4 ".

ص: 367

جـ- ما الجنة، وما الجحيم في المفهوم القرآني؟ وما طبيعة هذا الثواب، وذاك العقاب؟ إننا حتى الآن لا ندري شيئًا عنهما، وقد قدمهما لنا القرآن في الموضوعات السابقة بشكل مزدوج، روحي ومادي، يحتوي تارة طابعًا إيجابيًّا، وتارة طابعًا سلبيًّا.

ولسوف ندرس كلا هذين الجانبين من الحياة الآخرة، كلًّا على حدة، بقدر ما يتسنى ذلك، ولكن لنقل ابتداء، كلمة عن مرحلة الانتقال بين الحياتين.

تذوق أولي للمصير:

يتلقى الصالحون منذ اللحظة التي تدعى فيها أنفسهم إلى بارئها، البشرى التي تنتظرهم، وتتلقاهم الملائكة بالتحية، وفي ذلك يقول القرآن:

{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} 1، ويكون الشهداء بخاصة:

1 النحل: 32.

ص: 368

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 1.

أما الهالكون فإنهم يبدءون مع الخفقة الأخيرة من حياتهم في مواجهة الواقع المرير: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 3.

أما فيما يتعلق بالفترة التي تفصل الموت عن البعث، فإن القرآن لا يعطي تفاصيل عنها، وإنما قال فقط بصدد حديثه عن قوم نوح:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} 4، وبمناسبة الحديث عن فرعون وقومه:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} 5.

ولكن السُّنة تتحدث أيضًا عن تلك الضربات المروعة التي يوجهها الملائكة إلى الكافرين، كأنما هم يعذبونهم، على إثر سؤال يتعرضون له بعد أن يدفنوا في القبور.

والسُّنة تقرر بصفة عامة أن الموتى في أجداثهم يشعرون بالفرح وبالحزن، وهم يرون ما أعد لهم في الدار الآخرة، حين يعرض عليهم بكرة وأصيلًا،

1 آل عمران: 170.

2 الأنعام: 93.

3 الأنفال: 50، وانظر 47/ 27.

4 نوح: 25.

5 غافر: 46.

ص: 369

وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار"1.

بيد أن القرآن يصف بالتفصيل حياة أهل الجنة، وأهل النار بعد البعث، ولسوف نرى في هذا الوصف كيف يسير العنصر الأخلاقي، والعنصر المادي معًا دائمًا، جنبًا إلى جنب، ولسوف نتناول بالتحليل والتصنيف الآيات القرآنية تحت العنوانين التاليين، وهي الآيات الخاصة بالنهاية السعيدة لضيوف السماء، وبالمصائر المتعلقة بحظ الهالكين التعيس.

الجنة:

المتع الروحية: يتحدد الجانب الروحي من السعادة العلوية -أولًا- بصورة سلبية بوساطة الوعود التالية:

- بالأمن وعدم الخوف: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} 2.

- فلا حزن: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3.

1 صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب 7.

2 2/ 38 و62 و112 و262 و274 و277 و3/ 170 و5/ 69 و6/ 48 و7/ 35 و49 و10/ 62 و15/ 46 و27/ 89 و34/ 37 و41/ 30 و40 و43/ 63 و44/ 55 و46/ 13 "= 12 أو8 ب".

3 2/ 38 و62 و112 و262 و274 و277 و3/ 70 و5/ 69 و6/ 48 و7/ 35 و49 و10/ 62 و21/ 103 و35/ 34 و39/ 81 و41/ 30 و43/ 68 و46/ 3 "= 10 أو8 ب".

ص: 370

- ولا خزي: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} 1.

- تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب:{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} ، {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} 2.

- الرحمة "حين3 تتجلى في دفع الشرور عمن يحبهم الله": {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 4.

بيد أن الفرح الروحي الإيجابي أكثر تنوعًا، فحياة السعداء هي حياة:

- أخوة وحب متبادل: "مبرأ من كل غل أو حسد": {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 5.

1 66/ 8 "= 1 ب".

2 2/ 268 و271 و3/ 133 و136 و157 و195 و4/ 31 و129 و5/ 9 و65 و8/ 4 و29 و74 و11/ 11 و24/ 22 و26 و29/ 7 و33/ 35 و71 و34/ 4 و35/ 7 و36/ 11 و39/ 35 و40/ 7 و42/ 25 و46/ 16 و31 و47/ 2 و48/ 5 و29 و49/ 3 و57/ 20 و21 و28 و59/ 12 و64/ 9 و17 و65/ 5 و66/ 8 و67/ 12 "= 16 أو24 ب".

3 بلغت مرونة بعض الألفاظ العربية إلى حد أن مدلول الكلمة الواحدة يتسع، ويضيق، ويتلون في صور مختلفة تبعًا لكونه وحده، أو مصحوبًا بهذا اللفظ أو ذاك، مما له صلة به، ومن هذا العدد يمكن أن نعد كلمة "رحمة"، فهي إذا قرنت بكلمة "رأفة" تؤدي وظيفة إيجابية، وتعني "الكرم"، ولكنها حين تشترك مع كلمة "فضل" تؤدي دورًا أكثر سلبية، وتعني آنذاك التخليص من العقوبة، والحفظ من الشرور. وأخيرًا حين تكون وحدها، فإنها قد تؤدي المعنيين مرة واحدة، وهكذا يوجد عنصر الحماية في الحالتين الأخيرتين، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} الآيتان:[الأنعام: 16]، و [غافر: 9] .

4 2/ 218 و3/ 107 و132 و157 و4/ 129 و175 و6/ 155 و7/ 57 و204 و9/ 21 و71 و99 و10/ 58 و19/ 85 و24/ 56 و27/ 46 و36/ 58 و42/ 8 و43/ 32 و45/ 30 و49/ 10 و57/ 13 و76/ 31 "= 12 أو11 ب".

5 7/ 43 و15/ 47 و19/ 96 و43/ 67 "= 4 أ".

ص: 371

- وتأمل في الجمال الإلهي: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1.

- وحبور واستبشار: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 2.

- وشرف ورفعة: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 3.

- ولسوف تضيء السعادة وجوهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} 4.

- ولسوف يشعرون بتفوقهم على خصومهم: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5.

- وهم في مسعاهم إلى الجنة سوف يحوطهم النور: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} 6.

- ولسوف يكونون: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} 7.

1 75/ 23 "= 1 أ".

2 30/ 15 و34/ 70 و76/ 11 و80/ 39 و84/ 9 "= 5 أ".

3 17/ 79 و37/ 42 و70/ 35 "= 3 أ".

4 3/ 106 و75/ 22 و76/ 2 و80/ 38 و83/ 24 و88/ 8 "= 5 أو1 ب".

5 2/ 212 و83/ 29 "= 1 أو1 ب".

6 57/ 12 و19 و66/ 8 "= 2 أو1 ب".

7 4/ 69 و29/ 9 و89/ 29 "= 2 أو1 ب".

ص: 372

- وفي صحبة أسرهم وأصدقائهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} 1.

- وحين يصلون تستقبلهم الملائكة، يحيونهم، ويقولون:{هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُون} 2.

- فإذا ما استقروا زارتهم الملائكة الذين: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} بكل تهنئة، وأماني سلام:{سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} 3.

- وإذا استقبلهم الرحيم فإن لهم: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} 4.

- و {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} ، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيم} 5.

- وسوف يقربهم إليه: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون} 6.

- ويجعلهم في أعلى عليين: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} 7.

1 13/ 23 و36/ 56 و40/ 8 و43/ 70 و52/ 21 "= 5 أ".

2 21/ 103 و39/ 73 "= 2 أ".

3 13/ 23 و24 "= 2 أ".

4 10/ 2 "= 1 أ".

5 33/ 44 و36/ 58 "= 1 أو1 ب".

6 56/ 11 "= 1 أ".

7 4/ 96 و8/ 4 و9/ 20 و58/ 11 "= 4 ب".

ص: 373

- فمكانهم هو أعظم مكان لدى القادر المقتدر: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 1.

- ومنالهم هو رضوانه: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} 2.

- وكما يرضى الله عنهم يرضون عنه، فهو رضا متبادل:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3.

- فسعادتهم مزدوجة؛ لأنهم يكونون فرحين بما قدموا، راضين عن أنفسهم:{لِسَعْيِهَا رَاضِيَة} 4.

- وكما يكونون راضين عن مصيرهم، فإنهم يرددون دائمًا حمدًا لله على ما هداههم، وعلى أن وهبهم ما وعدهم:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} 5.

- ولا وجود لأحاديث اللغو، والباطل، والإثم، والاتهام بالإثم؛ لأنهم:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} 6.

- بل هو السلام المتبادل: {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 7.

- وتسبيح الله الأعلى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} 8.

1 54/ 55 "= 1 أ".

2 3/ 15 و57/ 20 "= 1 أو1 ب".

3 5/ 119 و9/ 100 و58/ 22 و89/ 28 و92/ 21 و98/ 8 "= 2 أو4 ب".

4 88/ 9"= 1 أ".

5 7/ 43 و44 و39/ 74 "= 3 أ".

6 19/ 62 و56/ 25 و88/ 11 "= 3 أ".

7 10/ 10 و14/ 23 و19/ 62 و25/ 75 و56/ 26 "= 5 أ".

8 10/ 10 "= 1 أ".

ص: 374

وهكذا نجد أن النصوص التي تذكر المتعة الروحية في السماء قد بلغت عددًا "= 102 أو70 ب".

السعادة الحسية:

وإنها لمسألة أن نعرف ما إذا كان للنفس أن تقدر على التمتع الكامل الحر، بسعادتها الذاتية، عندما تتحد ببدن معذب، أو محروم محارب في حاجاته، أو حتى مصدوم في أذواقه الجمالية. ألا تستطيع قرصة ذبابة، أو ضوضاء محرك، ورائحة قوية، وحرارة زائدة، وبرد شديد -أن تبعثر الانتباه المكب على أمور مجردة، بصورة تتفاوت عمقًا، متى ما أحسن المرء بها؟ ألا يعني تجنيب البدن هذه المكاره، وتوفير هدوء كامل بقدر الإمكان له -أننا في نفس الوقت نحرر الروح، ونتيح لها أعظم حالات الازدهار؟

حسبنا أن نقول هذا كيما نسوغ اهتمامنا بصحتنا، وبراحتنا، وابتعادنا عن الألم، وعن الموت، وحتى نقيم ذلك كله على أساس أخلاقي.

وانطلاقًا من هذا الرأي نقرر أن أي نظام للثواب الأخلاقي لا يلبي هذه المطالب الأولية للحياة المادية -سوف يكون بكل جلاء نظامًا أبتر مشوهًا. وما كان هذا النقص بالذي يمكن أن نلحظه في النظام القرآني؛ ذلك أنه لا يقتصر على أن يضمن للصالحين في الدار الآخرة عدم الموت فحسب، وهو قوله تعالى:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} 1، أو الحماية من الشرور. وهو قوله:{لا يَمَسُّهُمُ السُّوء} 2، بل إنه يضمن أيضًا إبعادهم عن أماكن العذاب، {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} 3، ويضمن لهم الراحة {فَرَوْحٌ

1 44/ 56.

2 39/ 61 و40/ 7 و9 و44/ 56 و46/ 31 و52/ 18 و27 و59/ 10 و66/ 6 و76/ 11 و92/ 17.

3 21/ 101 و102.

ص: 375

وَرَيْحَانٌ} ، {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَب} 1، وبمنتهى الإيجاز: يضمن لهم السلام: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِين} 2 وللجنة في لغة القرآن مرادف هو {دَارُ السَّلامِ} 3.

لكن ذلك ليس إلا جانبًا سلبيًّا، والناس لا يبدو عليهم الرضا الكامل لمجرد أنهم لا يتألمون فعلًا، فلقد أظهرت الإنسانية في كل زمان اتجاهها الطبيعي إلى أن توفر لنفسها نسبة معينة من الرفاهية الإيجابية، وإلى أن تحسن ظروف حياتها.

وليس للعلم أو الصناعة من غاية في سعيهما غير هذه الغاية، وهو أمر يمكن تسويغه من جانب آخر، إذا ما لاحظنا أن كل تحسين يطرأ يجب أن يكون ادخارًا لجهد مادي وفرصة إضافية لازدهار الروح في آن واحد.

ومن أسف أن الصراع من أجل رفاهية الحياة ليس قريبًا من النهاية -على الرغم من تقدم العلم، وإبداع الفن، بل وربما كان ذلك بسبب هذا التقدم، وذلك الإبداع!! فالصراع يزداد على العكس بنسبة التقدم والإبداع، وكلما كسب الإنسان نقطة أثارت شهيته إلى درجة أرقى، ولكي يبلغها يجب أن يلجأ إلى نظام للآلة، يزداد كل حين تعقيدًا. ومن هنا كانت ضرورة الأبحاث الجديدة، والجهود المتجددة، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

والأمر كذلك إذا ما أريد الإبقاء على الأشياء في الحال التي بلغتها، فمن الضروري أن نرقبها ببذل مزيد من الجهد في المحافظة عليها دائمًا، حتى نمنع تركيبنا الصناعي من التفسخ، فتعود عناصره إلى حالتها البدائية؛ بحيث

1 15/ 48 و35/ 35 و56/ 89.

2 15/ 46 و50/ 34 و56/ 91.

3 6/ 127 و10/ 25.

ص: 376

نستطيع أن نقول: إننا ننهمك في البحث عن راحتنا وقتًا أطول عمومًا من تمتعنا بها، حتى لقد أصبح ما كان مجرد وسيلة وقد بلغ في جهودنا مبلغ غاية حقيقية لكثرة ما شغلنا به.

أما أننا يجب أن نرى في هذا البحث الجامع عن السعادة المادية انحرافًا في الضمير المعاصر، فنحن نسلم بذلك، ولكن الدفعة الأولية تأتي من اتجاه أعمق من أن ننكره، وإن أسينا له.

ألم يكن مما يتمناه في الواقع كل ضمير مرهف أن يصبح الإنسان مستغنيًا عن كل هذه الضرورات المادية، حتى يعكف على اهتمامات أكثر نبلًا، وأكثر اتفاقًا مع النزعة الإنسانية؟

إن هناك وسيلتين أمام العاقل كيلا تستهويه مطلقًا هذه الميول الحسية، الأولى: أن يقاوم هذه الاتجاهات، وأن يردها إلى حال من الجمود، وهي محاولات شرسة مصطنعة، تنتهي إلى الإخفاق في الظروف الطبيعية المتاحة.

والوسيلة الأخرى إشباعها في اعتدال وتناسب، كلما ظهرت، وبشرط ألا يتطلب هذا الإشباع منه تضحية بوقت، أو قوة لازمة لتهذيب الروح.

ويبقى من المسلم في حالة العكس أن من الأفضل أن نمر بها مرور الكرام، فلا نبحث فيها إلا عن الحد الأدنى الضروري للحياة.

وإذن فسواء أكانت جهودنا في هذا الاتجاه كبيرة أم صغيرة، فإنها لا تجلب لنا سوى سعادة محدودة، بل إنها في الوقت نفسه تهدد طهارة حياة الروح وكمالها.

ولنفرض على العكس أن جميع المتع المرغوبة والمشروعة، روحية ومادية،

ص: 377

قد قدمت إلينا، وأننا لم نعد في حاجة إلى السعي وراءها ألا نكون بذلك قد كسبنا كل شيء دون أن نخسر شيئًا؟

أليس هذا هو المثل الأعلى؟

وإذا كان هذا المثل الأعلى لا يمكن أن يتحقق في دنيا الابتلاء هذه، فما الذي يمنع أن يتحقق في عالم الجزاء؟

ولماذا يريد البعض أن يكون الأمر غير ذلك؟

لماذا يريدون بأي ثمن إقصاء كل عنصر حسي وإيجابي من السعادة السماوية؟

هل يضر نظام الطبيعة وجمالها بنظام الروح وجمالها؟ أليسا غالبًا قوامها وعمادها؟

لا ريب أن العاقل حين يعلم قدرهما الزهيد لن يلتمسهما لذاتهما، كما أنه لن يرفضهما إذا ما أتيحا له. أمن حقنا أن نرفض يدًا تمتد إلينا في صداقة لتقدم إلينا هدية، أو لتعلق على صدرنا حلية؟

إن قيمة هذه الأشياء تكمن أقل ما تكون في مادتها، عنها في معناها ومدلولها، إنها رموز وشواهد على الرضا، الذي لا يمكن أن نرفضه في مواجهة مهديها، إلا إذا أخللنا بالذوق الأخلاقي.

من هذه الزاوية يجب في رأينا أن نتصور وصف القرآن للجنة، وهو وصف قلما ينافي فيه سرور القلب جاذبية الإطار الشعري الذي يظهر فيه. ولقد سبق أن استخرجنا الجانب الروحي من السعادة العلوية في مظهرها المزدوج، الإيجابي والسلبي، ورأينا المظهر المادي السلبي من الإسلام، فلنر الآن بأي جمال حسي يقدم القرآن لنا "الملك الكبير" في السماء، وهو

ص: 378

المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} 1.

تصور أولًا جنة رحيبة، رحيبة لدرجة أن:{عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} 2، فكل من فيها يتمتع بحرية التنقل، والاستقرار حيثما يريد:{وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} 3.

جنة ذات {ظِلٍّ مَمْدُود} 4، دائمًا، وذات مناخ معتدل، لا يفسده حر شمس، ولا قسوة برد:{لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} 5.

فهو مقام سعيد للابتراد: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} 6، ومجال تخترقه الأنهار:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} 7، وهي:{أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} 8.

وفي الجنة تتفجر الينابيع: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} 9، وهي العيون ذات العطور المختلفة التي تمزج بها الخمر اللذيذة:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} ، {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا

1 76/ 20.

2 3/ 133 و57/ 21 "= 1 أو1 ب".

3 39/ 70 "= 1 أ".

4 4/ 57 و13/ 35 و36/ 56 و56/ 30 و76/ 14 و77/ 41 "= 5 أو1 ب".

5 76/ 31 "= 1 أ".

6 25/ 24 "= 1 أ".

7 54/ 54 "= 1 أ".

8 47/ 15 "= 1 أ".

9 15/ 45 و44/ 52 و55/ 50 و66 و56/ 31 و77/ 41 و88/ 12 "= 7 أ".

ص: 379

زَنْجَبِيلًا} 1. وفي تلك البقاع المباركة: {فَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} 2، تدنو منهم لتصبح على أفرعها في متناول أيديهم؛ لأن {قُطُوفُهَا دَانِيَة} 3، وهي فاكهة {لا مَقْطُوعَةٍ} 4، {وَلا مَمْنُوعَةٍ} 5.

وتصور بعد ذلك أن هذا البساط الرحيب الأخضر، المحلى بخيوط الفضة قد برزت فيه {مَسَاكِنَ طَيِّبَةً} 6، وفي هذه المساكن {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة} 7، وهي على شاطئ الماء، أو بعبارة أخرى:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 8، وهي معدة إعدادًا رائعًا:{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَة} 9 و {سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} 10، نسجها من الذهب والأحجار الكريمة، محلاة بفرش {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} 11، وفيها كذلك:{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة} 12.

1 76/ 5 و17 و83/ 27 "= 3 أ".

2 36/ 57 و47/ 15 و55/ 68 و77/ 42 و78/ 32 و43/ 73 و55/ 52 و56/ 32 "= 7 أو1 ب".

3 55/ 54 و69/ 23 و76/ 14 "= 3 أ".

4 13/ 35 و56/ 33 "= 2 أ".

5 56/ 33 "= 1 أ".

6 9/ 72 و61/ 12 "= 2 ب".

7 25/ 75 و29/ 58 و34/ 37 و39/ 20 و69/ 22 و88/ 10 "= 6 أ".

8 2/ 25 و3/ 15 و136 و195 و198 و4/ 13 و57 و122 و5/ 85 و7/ 43 و9/ 72 و89 و10/ 9 و14/ 22 و16/ 31 و18/ 31 و22/ 14 و23 و39/ 58 و47/ 12 و48/ 5 و17 و57/ 12 و58/ 22 و61/ 12 و64/ 9 و65/ 11 و85/ 11 و98/ 8 "= 9 أو20 ب".

9 56/ 34 و88/ 13 "= 2 أ".

10 56/ 15 "= 1 أ".

11 55/ 54 "= 1 أ".

12 88/ 14-16 "= 1 أ".

ص: 380

وتصور أخيرًا هذه القصور الفخمة، الحافلة بنوع من الحياة الملكية، على مستوى عظيم، خلال أمسية باهرة:

جماعة ملتئمة من الرجال والنساء والأولاد، أقارب وأحباب، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} 1. ولكل منهم زينته وحليته:{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ} 2. وكسوة الحرير: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِير} 3، ذو لون مريح: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} 4، وقد استندوا في مقاعدهم: {مُتَّكِئِين} 5، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض} في مودة وحب؛ لأنهم يجلسون: {مُتَقَابِلِين} 6، يتحادثون في سرور، ويستدعون ذكرياتهم البعيدة، وهم: {يَتَسَاءَلُونَ} 7، مستغرقين في سعادتهم؛ لأنهم: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُون} 8.

وليس عليهم إلا أن يأمروا بما يشاءون: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} 9، فإن في طاعتهم غلمانًا يطوفون عليهم، وهم:{مُخَلَّدُون إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} 10، يحملون في أيديهم صحافًا: {مِنْ ذَهَب

1 13/ 23 و36/ 56 و40/ 8 و43/ 70 و52/ 21 "= 5 أ".

2 18/ 31 و22/ 23 و35/ 33 و76/ 21 "= 3 أو1 ب".

3 نفس الآيات و44/ 53 "= 1 أ".

4 18/ 31 و76/ 21 "= 2 أ".

5 15/ 47 و18/ 31 و36/ 56 و37/ 44 و38/ 51 و52/ 20 و76/ 13 و83/ 12 "= 8 أ".

6 15/ 47 و37/ 44 و44/ 53 و56/ 6 "= 4 أ".

7 37/ 50 و52/ 25 و74/ 40 "= 3 أ".

8 36/ 55 "= 1 أ".

9 36/ 57 و38/ 51 و44/ 55 "= 3 أ".

10 52/ 24 و56/ 17 و86/ 19 "= 3 أ".

ص: 381

وَأَكْوَاب} 1، {وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِين} 2، وأواني أخرى من فضة:{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} 3، وكل ذلك مع:{رِزْقٌ مَعْلُومٌ} 4، {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 5. وهنالك يسارع الغلمان بأن يقدموا إليهم ما يشتهون من:{شَرَاب} {وَلَحْمِ طَيْر} {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} 8.

مجموع هذه التفاصيل: "= 97 أو27 ب".

وفي كلمة واحدة: كل {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} 9، سوف يكون في حوزة عباد الله المخلصين، و {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} 10 بل وأكثر:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 11.

وهكذا يكتمل القول في: "=4 أ".

اجمع الخطوط الثلاثة التي رسمناها عن الأرض، والمبنى، والسكان، وضعها على الأساس الأخلاقي والروحي الذي عرضناه من قبل، وحينئذ سوف تجد بين يديك اللوحة القرآنية، عن حياة الفردوس، بقدر ما تطيقه لغة الفانين، ومداركهم.

1 43/ 7 "= 1 أ".

2 56/ 18 "= 1 أ".

3 76/ 15 "= 1 أ".

4 37/ 41 "= 1 أ".

5 19/ 62 "= 1 أ".

6 37/ 45 و52/ 23 و56/ 18 و76/ 17 و78/ 34 و83/ 25 "= 6 أ".

7 52/ 22 و56/ 21 "= 2 أ".

8 2/ 25 و52/ 22 و56/ 20 "= 2 أو1 ب".

9 43/ 71 "= 1 أ".

10 16/ 31 و39/ 34 "= 2 أ".

11 50/ 35 "= 1 أ".

ص: 382

على أن هنالك بعض الملاحظات الجديرة بالذكر قبل أن ندع مقام السعداء:

أولًا: أن القرآن لا يكتفي بأن يعدد هذه المتع المختلفة: الأخلاقية والمادية، التي توجد في الجنة، فلقد أثبت أن بينها تدرجًا في القيم، بحيث إنه يحتفظ للأشياء الروحية بأعلى درجة، وهو يعلمنا أن بين جميع أشكال النعيم التي تقدمها السماء نعيمًا واحدًا لا يمكن تقدير قيمته، وهو رضا الله تبارك وتعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} 1.

إن رحمة الله وفضله بصفة عامة هما بالنسبة إلى القرآن أثمن الأهداف، وأقدرها على تحقيق فرح الإنسان:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} ، {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 2.

وإذا كان المثل العربي يقول: "الجار قبل الدار" -أوَليست هذه الفكرة ذاتها هي التي يوحي إلينا بها القرآن عندما وجدناه -وهو يجمع بين نوعي السعادة التي وعدت بها الأنفس المطمئة- يسمح أولًا بدخولها العظيم في المجتمع الإلهي، ثم يرد ذكر الجنة بطريقة ثانوية، وفي المكان الأخير:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي}

ثانيًا: وإذا كانت ضرورة التحليل، وسهولة الإحصاء قد اضطرانا إلى أن نفرد العنصرين المكونين للحياة السعيدة، وأن نبني كلًّا منهما على حدة، فإن الأمر لا يجري على هذا النحو في النص، فليس في القرآن هذا الفصل المقصود، بل إن الصورة التي كوناها آنفًا لكل منهما لا توجد فيها، في أي

1 9/ 72.

2 10/ 58 و43/ 32.

3 89/ 29-30.

ص: 383

مكان، كاملة على هذا النحو، إنها فيه مجزأة، موزعة على سور كثيرة، بحيث لا نعثر في أغلب الأحيان، في كل مكان، إلا على بعض السطور القليلة، كأنما هي موجزة تذكر في أثناء الحديث.

ولهذا المسلك في نظرنا مدلول مزدوج:

إنه لا يحرص كثيرًا على أن يحدث في الروح هذا الأثر المضلل الناشئ عن صورة محدودة منتهية، لكي يكون بمنأى عن أن يثير الحس، أو يستنفد الفضول أو يشبعه. وإذا كان يلمس القلب فإنما يلمسه بحكمة واعتدال، ولكنه من ناحية أخرى لا يكشف لنا عن نفسه على أنه ثمرة علم بلغ هدفه منذ البداية، ولا على أنه ثمرة خيال جامح، كما افترضه بعضهم، لدى الإنسان الذي أبلغنا إياه، وإنما هو ثمرة تعليم منزه متدفق، يبدو مع ذلك أنه متصل بخطة توقيفية، لا تجارب فيها ولا تنقيحات.

ثالثًا: وأبرز ملامح السعادة الحسية، أعني: أكثرها ذكرًا، موجود -كما رأينا- في تلك الإشارة إلى جنة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . وكل منا استطاع أن يجرب تلك اللذة التي يثيرها منظر الماء الجاري حين ينظر إليه من عل، وزد على ذلك أن في هذا دون شك أنزه ما يلذ النظر وأطهره، والقرآن يومئ إلينا منه بمعنى أكثر عمقًا، وبسعادة أحلى مذاقًا، ليس هو مطلقًا ذلكم الموقف الذي يثير الأحلام، ويلهم الشعر، ولكنه واقع أخلاقي في جوهره، هو: نسيان كل حزن، وذهاب كل حقد من القلوب:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} 1.

رابعًا: أما فيما يتعلق بطعام الجنة اللذيذ، فإن التفسير يحدد بمقتضى تعبير الآية:{فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُون} أن ضيوف السماء سوف

1 الأعراف: 43.

ص: 384

يتعاطونه لمجرد السرور والابتهاج، وليس حاجة إلى حفظ حياتهم أو صحتهم، ذلك أنهم لما كانوا قد منّ الله عليهم بأبدان لا تقبل الفساد -لم تعد بهم حاجة إلى أي وقاية1.

خامسًا: وأكثر ما تنبغي ملاحظته تلك العناية التي يبديها القرآن، عندما يتحدث عن شراب السماء، فهو ينفي عنه صفة الاغتيال التي تتصف بها عادة المشروبات المعروفة في الحياة الدنيا، ويقول القرآن في ذلك: إن الصالحين سوف يسقون: {شَرَابًا طَهُورًا} 2.

ولن تغشي لذة الكأس على العقل؛ لأنها: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} 3، ولن يصيبهم منها صداع ولا وصب:{لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} 4، ولن يصحبها كذب ولا ثرثرة:{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} 5، ولن تؤدي بهم إلى إثم؛ لأنها:{لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} 6.

سادسًا: نلاحظ نفس الاهتمام بموضوع الأزواج، الذي تعد مرات ذكره -مع ذلك- قليلة نسبيًّا. فالقرآن لم ترد فيه أية إشارة إلى معاشرة الرجال للنساء "في الجنة"، ليس ذلك فحسب، بل إنه -بعد أن حدد أن النساء سوف يكن أبكارًا {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} 7، وسوف يظللن كذلك أبدًا- قال: إن الحياة معهن ستكون حياة حب متبادل؛ لأنهن سيكن

1 انظر: جلال الدين، تفسير الآية المذكورة، الصافات:42.

2 الإنسان: 21.

3 الصافات: 47.

4 الواقعة: 19.

5 النبأ: 35.

6 الطور: 33.

7 الواقعة: 36.

ص: 385

{عُرُبًا} 1، وهو حب بين شباب من سن واحدة:{وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} 2.

أيجب أن ندهش لهذة اللغة النبيلة من كتاب يرى أن خير الزواج في حياتنا الدنيا هو قبل كل شيء في تلك السكينة الباطنة التي يشعر بها الرجل لدى رفيقة مشتقة من نفسه، وهو في المودة والحنان الذي أودعه الله بينهما:{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3؟؟

ونلاحظ من ناحية أخرى أن الصفات الأخلاقية تزاحم الصفات المادية في نعت هؤلاء الرفيقات العلويات، ليس ذلك فحسب، ولكن العنصر الأخلاقي يتقدم على المادي، ومن ثم وجدنا:{أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَة} 4، و {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} -أولًا- {حِسَانٌ} 5، و {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} -أولًا- {عِينٌ} {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} 7، وهن {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام} 8، لا يبرحنها.

هذه الصفات الأخلاقية ذاتها هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبني عليها اختيارنا الزوجي فقال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،

1 الواقعة: 37، وهو جمع مفرده "عروب" وهي المرأة المتحببة إلى زوجها.

2 النبأ: 33، والكواعب جمع مفرده كاعب، وكعاب: ناهدة الثدي.

3 الروم: 21.

4 البقرة: 25، وآل عمران: 15، والنساء:57.

5 الرحمن: 70.

6 الصافات: 48.

7 ص: 52.

8 الرحمن: 72

ص: 386

وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"1.

سابعًا: وأخيرًا، عندما يتحدث القرآن عن أمور السماء لا ينبغي أن ننسى أنه يقصد إنشاءها خلقًا جديدًا، له أصالته المجهولة:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} ، {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 2.

والواقع أنه ما من إنسان يعلم ما أعد للمتواضعين، والمحسنين، والذاكرين الله في غالب أحوالهم، من مفاجآت جميلة، وإنعام يفوق خيالهم وقد حدث القرآن عن ذلك فقال:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 3، وقال الله تعالى في حديث قدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 4، مما جعل ابن عباس يقول: وهو من أصوب المفسرين رأيًا بين صحابة النبي، صلى الله عليه وسلم:"ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء"5.

بيد أنه لا يبدو أن هذه الأصالة تبلغ حد التخلص من الواقع المحسوس، فالنصوص تتجه إلى إقرار فرق في الدرجة بين الحياتين، أكثر من كونه فرقًا في الطبيعة.

النار:

هل نريد الآن صورة كاملة بقدر الإمكان عن مقام الهالكين، وما سوف يسامون من عذاب؟

1 انظر: البخاري، كتاب النكاح، باب 16.

2 الواقعة: 35 و61.

3 السجدة: 17.

4 البخاري، كتاب التفسير، باب 30.

5 تفسير الطبري 1/ 174 ط. الحلبي 1954.

ص: 387

إن هذه المقابلة بين مقام الطائعين ومقام العاصين جلية لدرجة أن من الممكن أن نكون هذه الصورة بأن نتتبع السطور التي خططناها، فنضع في مكانها معطيات نقائضها، نقطة بنقطة، ولكن ليست بنا من حاجة أن نلجأ إلى هذا المنهج المسبق، فلنترك القرآن يتحدث، فذلك أولى بنا وأجدر.

عقوبات أخلاقية سلبية:

إن الجانب السلبي، أو بالأحرى: الحرماني، من العقوبة الأخلاقية المرصودة للظالمين ينحصر في الأحداث التالية:

- حبوط أعمالهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} 1.

- خيبة أملهم في الأوثان التي أشركوها مع الله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} 2.

- يأسهم من رحمة الله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} 3.

- ومن مغفرته: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} 4.

1 2/ 217 و264 و266 و276 و3/ 22 و117 و5/ 5 و53 و7/ 147 و9/ 17 و52 و53 و69 و11/ 16 و14/ 18 و18/ 105 و24/ 39 و25/ 23 و33/ 19 و39/ 65 و47/ 9 و28 و32 و49/ 2 "= 6 أو18 ب".

2 6/ 94 و11/ 21 و16/ 87 و28/ 75 و35/ 14 و40/ 74 و41/ 84 و46/ 28 "= 8 أ".

3 29/ 23 "= 1 أ".

4 4/ 137 و168 و47/ 34 "= 3 ب".

ص: 388

- ومن رؤيته: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} 1.

- ومن نظره وتزكيته: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} 2.

- حرمانهم من النور "الذي يبحثون عنه لدى المؤمنين بلا جدوى": {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} 3.

- ومن السمع، والبصر، والكلام "لحظة البعث":{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} 4.

- ومن كل اشتهاءاتهم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} 5.

- بأسهم من الحياة الآخرة: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} 6.

- حيث لا نصيب لهم فيها: {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} 7.

- ويخذلون: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} 8.

- وحيث ينسون: {الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} 9.

1 83/ 15 "= 1 أ".

2 2/ 174 و3/ 77 "= 2 ب".

3 57/ 13 "= 1 أ". وهذا قريب مما جاء في إنجيل متى، الإصحاح الخامس والعشرين 1-12، حيث يشبه ملكوت السموات بعشر عذارى، أخذن مصابيحهن وكان خمس منهن حكيمات أخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيحهن، وخمس جاهلات أخذن مصابيحهن ولم يأخذن زيتًا معهن

إلخ. القصة.

4 17/ 72 و97 و20/ 124 "= 3 أ".

5 34/ 54 "= 1 ب".

6 60/ 13 "= 1 ب".

7 2/ 102 و3/ 77 و176 و42/ 20 "= 1 أو3 ب".

8 7/ 51 و45/ 34 "= 2 أ".

9 17/ 22 "= 1 أ".

ص: 389

- ويبعدون: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} 1.

- ولا مولى لهم ولا ناصر: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 2.

- ولن تفتح لهم أبواب السماء: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} 3.

- ولن يقبل منهم دفاع عن أنفسهم: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُون} 4.

- وفي كلمة واحدة: إخفاقهم: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 5.

- وخسرانهم: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} 6.

عقوبات أخلاقية إيجابية:

- ويوم البعث يمثل الأشرار أمام الله منكسي الرءوس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} 7.

1 17/ 18 و39 "= 2 أ".

2 42/ 8 "= 1 أ".

3 7/ 40 "= 1 أ".

4 16/ 84 و77/ 35 و36 "= 3 أ".

5 6/ 21 و135 و10/ 17 و70 و16/ 117 و20/ 111 و23/ 117 و28/ 37 و91/ 10 "= 9 أ".

6 2/ 27 و121 و3/ 85 و149 و4/ 119 و5/ 5 و52 و6/ 31 و140 و7/ 9 و53 و178 و9/ 69 و10/ 45 و95 و11/ 21 و16/ 109 و22/ 11 و23/ 104 و29/ 52 و35/ 39 و39/ 15 و63 و65 و41/ 23 و25 و45/ 27 و46/ 18 و58/ 19 و63/ 9 و103/ 2 "= 22 أو9 ب".

7 32/ 12 و42/ 45 و68/ 43 و70/ 44 و88/ 2 "= 5 أ".

ص: 390

- سود الوجوه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 1.

- عابسة كالحة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} 2.

- تعلوها ظلمة وغبار: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} 3.

- إنهم في ذلك اليوم سوف يودون أن يباعد الله بينهم وبين أعمالهم السيئة: {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} 4.

- ولكن الكتاب هنالك، أحصيت فيه الأعمال على كل إنسان، حتى أتفه تفاصيلها، ويقولون:{يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} 5.

- وأكثر من ذلك هنالك، في أبدانهم، وحواسهم، شهود يشهدون ضدهم:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} 6.

- فهم: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} 7.

1 3/ 106 و39/ 60 "= 2 أ".

2 75/ 24 "= 1 أ".

3 10/ 27 و80/ 40 و41 "= 3 أ".

4 3/ 30 "= 1 ب".

5 18/ 49 "= 1 أ".

6 24/ 24 و36/ 65 و41/ 20 "= 2 أو1 ب".

7 6/ 31 و20/ 101 "= 2 أ".

ص: 391

- وهم: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1.

- وهم مذمومون: {جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} 2.

- وملومون: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 3.

- وممقوتون: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 4.

- ويجللهم الخزي والعار: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} 5.

- ولسوف يعرضون أمام الله، فيراهم الأشهاد ويشيرون إليهم باحتقار:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} 6.

- فإذا ما عرفوا حسابهم تمنوا أن لم يكونوا قد عرفوه، وأن لو كان الموت عدمًا حقًّا لهم:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} 7.

1 3/ 180 "= 1 ب".

2 17/ 18 و22 "= 2 أ".

3 السابقة 39 "= 1 أ".

4 40/ 10 "= 1 أ".

5 6/ 124 و10/ 27 و16/ 27 و22/ 18 و25/ 69 و37/ 18 و40/ 60 "= 6 أو1 ب".

6 11/ 18 "=1 أ".

7 69/ 25 و26 و27 و78/ 40.

ص: 392

- ويرون أخيرًا العذاب الأليم يقترب: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} 1.

- ويحسون تقطع كل العلائق التي تربطهم بسادتهم، وأتباعهم:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} 2.

- ويجدون أنفسهم عاجزين عن أن يرجعوا مجرى الزمن، ويعودوا إلى الأرض:{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} 3.

- فليس أمامهم إلا أن يعضوا أصابعهم مع زفرات الأسى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} 4.

فهذه هي الآيات المتعلقة بالعقاب الأخلاقي "= 101 أو41 ب".

عقوبات بدنية:

من الممكن -أولًا- أن نقدم الآلام البدنية التي سوف يتعرض لها الظالمون بعد الحساب الأخير -في صورة سلبية تنحصر في الحرمان من الحاجات الجوهرية، فهم جياع عطاش، ولن يجدوا شيئًا يهدئ عطشهم وجوعهم:{لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا، إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} ، {لَيْسَ

1 10/ 54 و21/ 97 و34/ 33 "= 3 أ".

2 2/ 166 "= 1 ب".

3 6/ 27 و26/ 102 و89/ 24 "= 3 أ".

4 25/ 27-29 "= 1 أ".

ص: 393

لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} 1.

بيد أن الآيات القرآنية التي تحدد تحديدًا موضوعيًّا عذابهم قد جاءت بوفرة كثيرة.

- إن مسكن المعذبين هو -على نقيض مقام الطائعين- سجن: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} 2.

- وهو ذو أبواب كثيرة، كل باب يخص طائفة بعينها:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 3.

- سجن زبانيته من الملائكة الأشداء القساة: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 4.

- ولكنه سجن تحت الأرض مقسم إلى سراديب مظلمة كثيرة، بعضها تحت بعض:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 5.

- وهي نار محكمة الانسداد عليهم: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} 6.

- وهي حفرة مملوءة نارًا: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 7.

1 7/ 50 و78/ 24 و88/ 6 و7.

2 17/ 8 "= 1 أ".

3 15/ 44 "= 1 أ".

4 66/ 6 و74/ 30-31 "= 2 أ".

5 4/ 145 "= 1 ب".

6 90/ 20 و104/ 8 "= 2 أ".

7 3/ 103 "= 1 ب".

ص: 394

- وهي نار متقدة: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} 1.

- يسمع لها من بعيد زمجرة وهدير: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} 2.

- حتى كأنها بركان ثائر: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُور} 3.

- فهي تقذف شرارًا كالقصور الكبير: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} 4.

- وهم موثوقو القيود: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} 5.

- مغلولو الأعناق والأيدي والأقدام: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} ، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} 6.

- مشدودون إلى سلاسل طويلة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} 7.

- "يسحبون على وجوههم"، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} 8.

- ثم يطرحون في النار على وجوههم: {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} 9.

1 101/ 9 و11 "= 2 أ".

2 25/ 12 "= 1 أ".

3 67/ 7 "= 1 أ".

4 77/ 32 "= 1 أ".

5 25/ 13 و89/ 26 "= 2 أ".

6 13/ 5 و14/ 49 و34/ 33 و40/ 71 و55/ 41 و69/ 30 و76/ 4 و96/ 15 "= 8 أ".

7 40/ 71 و69/ 32 و67/ 4 "= 3 أ".

8 17/ 97 و25/ 32 و76/ 24 "= 3 أ".

9 27/ 90 "= 1 أ".

ص: 395

- وهم مضطرون إلى مكان ضيق: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} 1.

- ليذوقوا عذابًا لا نظير له يومئذ: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} 2.

- يتعرضون فيه لعقاب الإحراق: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} 3.

- فهم غذاء جهنم: {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} 4.

- وكلما أحس العصاة بالعذاب والألم حاولوا الهروب منه، فتدفعهم الزبانية في النار، يضربونهم بهراوات من الحديد:{وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} 5.

- ويحيط بهم النكال من كل صوب: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 6.

- وسيضرب اللهيب وجوههم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} 7.

- وسيسلخ جلدهم: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} 8.

- وسيحرق لحمهم: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَر} 9.

- ويصل إلى قلوبهم: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} 10.

1 25/ 13 "= 1 أ".

2 89/ 25 "= 1 أ".

3 8/ 50 و22/ 9 و22 و85/ 10 "= 1 أو3 ب".

4 2/ 24 و21/ 98 و66/ 6 و72/ 15 "= 2 أو3 ب".

5 22/ 21-22 و32/ 20 "= 1 أو1 ب".

6 7/ 41 و18/ 29 و29/ 54-55 و39/ 16 "= 4 أ".

7 14/ 50 و23/ 104 و33/ 66 "= 2 أو1 ب".

8 70/ 16 "= 1 أ".

9 74/ 29 "= 1 أ".

10 104/ 7 "= 1 أ".

ص: 396

- أما الذهب الذي يجمعه البخلاء فسوف يُحمى في النار، ثم تكوى به الجباه، والجنوب، والظهور:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} 1.

- هنالك ستكون صرخات ألم وتوسلات: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} 2.

- وستكون لهم فيها زفرات وشهقات: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} 3.

- وكلما ذابت جلودهم كان لهم غيرها، حتى يذيقهم الله العذاب مضاعفًا، وهكذا إلى الأبد:{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} 4.

- ولن يقتصر أمرهم على عذاب الحريق، بل سيكونون كذلك في عذاب الحميم، يغمسون في هذا الماء المغلي، ثم يقذفون في النار، وهكذا دواليك:{يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} 5.

- ويصب هذا الماء الحميم على رءوسهم، فيذيب جلودهم، وأحشاءهم:{يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} 6.

- فإذا شربوا منه انشوت وجوههم، وتمزقت أمعاؤهم:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} 7.

1 9/ 35 "= 1 ب".

2 23/ 107 و35/ 36 و40/ 49 و43/ 77 "= 4 أ".

3 11/ 106 و21/ 100 "= 2 أ".

4 4/ 56 "= 1 ب".

5 40/ 71-72 و55/ 44 "= 2 أ".

6 22/ 19 و20 و44/ 48 "= 1 أو2 ب".

7 6/ 70 و10/ 4 و18/ 29 و37/ 67 و38/ 57 و47/ 15 و56/ 54-55 و78/ 25 و88/ 5 "= 10 أو1 ب".

ص: 397

- ولسوف يسقون شرابًا آخر أكثر تقيحًا، لا يطيقون إساغته:{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} 1.

- وهنالك أيضًا طعام الزقوم، يغلي في بطونهم كرصاص يذاب:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} 2.

- وأطعمة أخرى ذات غصة، وعذاب كله ألم:{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} 3.

- من صنوفه الريح المحرقة: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} 4.

- وظل من دخان خادع: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} 5.

- وكذلك حين تتوالى على المعذبين أقصى حالات البرودة، وأقصى حالات الحرارة -على ما قاله بعض المفسرين في كلمة "غساق":{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} 6.

- وموجز القول: أنهم سوف يلقون عقوبات، وآلامًا دائمة لا انقطاع لها:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} 7.

فالنصوص التي تعدد العقاب البدني تبلغ على هذا النحو "= 74 أو15 ب".

1 14/ 17-18 و69/ 36 "= 2 أ".

2 37/ 66 و44/ 43-46 و56/ 52-53 "= 2 أ".

3 73/ 12-13 "= 1 أ".

4 56/ 42 "= 1 أ".

5 56/ 43-44 و77/ 30 "= 2 أ".

6 38/ 57-58 و78/ 25 "= 2 أ".

7 88/ 3 "= 1 أ".

ص: 398

على أننا لا ينبغي أن نعتبر كل هذه العقوبات المادية غاية، بل هي وسيلة لإيلامهم أخلاقيًّا، فالغرض الجوهري من الاندحار في هذا المأوى البشع ليس النار، بقدر ما هو الخزي الذي تعنيه:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} 1.

ومما يزيد في شقائهم أنهم في هذه الآلام الأخلاقية والمادية لن يجدوا من حولهم قلبًا عطوفًا معزيًا، بل إن روابط الصداقة التي كانت لهم في الماضي، والتي ستكون قد تقطعت يومئذ، هذه الروابط سيحل في مكانها جوار سيئ لهؤلاء الأصدقاء القدامى أنفسهم، فلن يكون بينهم منذئذ سوى الخصام:{إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّار} 2.

والبغض: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين} 3.

والتلاعن: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 5.

ولقد أردنا بهذا التصنيف، وهذه النصوص المحددة أن نعطي للقارئ إحساسًا دقيقًا بمنهج التبليغ الذي اتبعه القرآن، وبالنسبة التي يمثلها كل طريق من طرقه في المجموع.

1 3/ 191 و9/ 63 و11/ 60.

2 38/ 64.

3 43/ 67.

4 7/ 38.

5 29/ 25.

ص: 399

ولسنا ندعي، نظرًا إلى غنى الأسلوب القرآني، أننا قدمنا إحصاءً منزهًا عن الخطأ، ولكنَّا على الأقل قدمنا الأحداث الرئيسية في جداول، كل في إطاره الخاص، ونحسب أن إدخال أي تعديل إليها سوف يكون قليل الأهمية، ولكنا كي نبرز نتيجة هذه الدراسة نعتقد أن من المفيد تلخيصها في جدول إجمالي، على النحو التالي:

ص: 400

قائمة ورود الطرق المختلفة للتوجيه:

الحث على الواجب أب المجموع

بسلطانه الشكلي 10 10

بقيمه الداخلية 620 455 1075

بالمشاعر الدينية "حب، حياء

إلخ" 20 62 82

بالنتائج الطبيعية 2 12 14

بالجزاءات الإلهية:

1-

مبدأ الجزاء بعامة 11 2 13

2-

مبدأ الجزاء على مرحلتين 14 12 26

3-

الجزاء الإلهي في العاجلة:

أ- ذو طابع مادي 1 1

ب- ذو طابع دنيوي 5 31 36

جـ- ذو طابع عقلي وأخلاقي 23 40 63

د- ذو طابع روحي 20 58 78

ص: 401

4-

الجزاء الإلهي في الآخرة:

أ- اسم عام للدار الآخرة: الجنة 19 8 27

: النار 61 50 111

ب- إعلان ثواب أو عقاب غير محدد:

ثواب 66 100 166

عقاب 94 66 160

جـ- تحديد "ثواب أو عقاب":

سعادة روحية 102 70 172

سعادة حسية 97 27 124

صيغة كاملة 4 4

عقوبات أخلاقية 101 41 142

عقوبات مادية 74 15 89

ص: 402