المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط: - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

وهكذا نستطيع أن نحدد في كلمتين موقف القرآن بالنسبة إلى "مشكلة الألم البدني في الأخلاق"، "فليس حتمًا أن نبحث عن هذه التضحية، بحيلة متعسفة، ولا أن نهرب منها حين تفرض ضمن واجب من الواجبات".

هاتان القضيتان تستخلصان بوضوح أكثر عندما نتأمل بنظرة فاحصة كيفية تطبيق هذا المبدأ القرآني فيما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من حلول، في مختلف المسائل الخاصة. وحسبنا أن ندرس في هذا الصدد قضيتين متنافيتين، طالما ناقشهما الأخلاقيون المسلمون، محاولين توضيح بعض جوانبهما:

ص: 641

‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

1-

صبر وعطاء:

هذه هي المشكلة الأولى: فأي الفضيلتين خير من الأخرى: الصبر في البأساء، أو العطاء في الرخاء؟

وربما طرحت هذه المشكلة طرحًا سيئًا إذا ما أريد بها هنا إقرار تدرج ذي طابع عملي، صالح لفرض واجب، أو حتى وصية. ذلك أنه لكي نمارس الفضيلة الأساسية المنافية لوضع معين -فإما أن يكون كافيًا أن نتخذ بطريقة مصطنعة موقف الوضع النقيض، وهو أمر يبدو محالًا غير معقول، وإما أن يلزمنا أن نستبدل بالوضع الراهن الوضع العكسي.

ولكن لو افترضنا أن إصلاح وضعنا وإسعاد أنفسنا ماديًّا، أو إفساد هذا الوضع، وتدبير ثرواتنا -كلاهما يتوقف علينا، فهل من واجبنا الملح، كيما ننتقل من حالة إلى أخرى مناقضة لها -أن نغير وضعنا، أو أن نسير بهذه الطريقة أو تلك على حسب الظروف؟

إن الإجابة عن هذا السؤال موجودة أولًا بصورة مجملة في وصية حكيمة،

ص: 641

يدعو فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلًّا منا ألا يدع مجال عمله الذي اعتاده ما لم تنقلب أحوال هذا العمل ضده: "فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سبب الله لأحدكم رزقًا من وجه فلا يدعه حتى يتغير له، أو يتنكر له"1، فإذا ما نقلنا هذا القول من المجال الاجتماعي إلى المجال الأخلاقي -ألا نستطيع أن نؤكد أن الإنسان حين يكون بحيث يستطيع الوفاء بواجبه الحالي كاملًا، يجب عليه أن يلتزم به، وأن يثبت عليه ولا شيء يضطره إلى أن ينشئ جوًّا مصطنعًا ينهضه إلى واجب مضاد؟

ومع ذلك فلا حاجة بنا أن نلجأ إلى هذا التعليل القياسي، ما دمنا نجد نفس النصيحة في الميدان الأخلاقي، وذلك عندما أراد أهل ضاحية من ضواحي المدينة أن يبيعوا ديارهم ليستقروا بالمدينة قريبًا من المسجد:"فعن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد". قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: " يا بني سلمة، دياركم، تكتب آثاركم، دياركم، تكتب آثاركم" 2.

ومن المسلم في بعض الحالات أن الواجب قد لا يتطلب تعديلًا، بل تغييرًا،

1 سنن ابن ماجه، كتاب التجارة، باب 4.

2 صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب 50. ونلاحظ في هذا المثال أن أي حل آخر سوف يكون مناقضًا، ذلك أن الضاحية تحمي المدينة بصورة ما، فلو أن الناس جميعًا هجروا الأرباض والضواحي لأصبحت المدينة بلا دفاع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى. لو أن الناس شجعوا على أن يسرعوا إلى مكان معين لنشب بينهم الخلاف، وفشت الخصومة.

ص: 642

فإذا ما عدنا إلى نص مشكلتنا لقررنا أن الإنسان المعسر يجب عليه أن يبذل كل طاقته كيما يثري، فهل العكس صحيح؟ هل على إنسان موسر إذن أن يصبح معسرًا؟ كلا، فإن الموقف الإسلامي جد واضح في هذا الصدد.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث كل إنسان على أن يعمل في كسب معاشه بجهده، وهو القائل:"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده" 1، وكان يحرم على الأصحاء أن يسألوا الآخرين إحسانهم، وهو القائل:"لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه" 2 و "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي"3.

كما كان يحرم على الموسرين أن يعرضوا أنفسهم، أو يعرضوا ذويهم لتلك الحالة المحزنة، سواء بالإسراف، أو بالوصية بالثروة كاملة، وهو القائل لمن أراد أن ينخلع من ماله صدقة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رجاء التوبة:"أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" 4، ولمن أراد أن يوصي بثلثي ماله أو بشطره:"لا، الثلث، والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" 5، وأيضًا:"يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة، يقعد يستكف الناس". "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى"6.

1 البخاري، كتاب البيوع، باب 15، وذكر المؤلف النص هكذا "خيرًا من كسب يده" والصواب ما أثبتناه. "المعرب".

2 البخاري السابق، وقد نقل المؤلف رواية هذا الحديث عن مسلم، كتاب الزكاة، باب 34: "لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني

خير له من أن يسأل". وإن لم يشر إلى المرجع المذكور بدقة. "المعرب".

3 ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب 26. "المعرب".

4 البخاري، كتاب وجوب الزكاة، باب 17.

5 صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب 2.

6 أبو داود، كتاب الزكاة، باب 38.

ص: 643

لم يكن هذا فحسب، موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لقد قال في كلمات صريحة:"لا بأس بالغنى لمن اتقى" 1، بل لقد قال أيضًا:"فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل"2.

والحق أن القلة التي يصف بها القرآن والسُّنة متاع هذه الدنيا تدعونا إلى أن نزهد ولو قليلًا في هذه المتع الفانية.

بيد أن هذه الزهادة التي يمكن أن تفهم عمومًا بمعنى روحي -لا ينبغي أن تفهم ماديًّا إلا في ظروف شديدة الندرة، كحالة إنسان خلي، منقطع، لا يتطلب نشاطه "ولو على سبيل الصدقة" أي تكليف، من قريب أو من بعيد. فمن الأفضل لهذا الرجل -بلا شك- أنه متى ما أشبع حاجاته الخاصة العاجلة ألا يسعى كثيرًا إلى مزيد من الكسب، بل عليه أن يسخر أعظم جهده لتهذيب قلبه وروحه.

هذه الظروف هي على وجه التحديد ظروف المتصوفة المسلمين، الذين سبقهم على هذا الدرب عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخاصة أهل الصفة، لكنه كان واجبًا على كل المسلمين أن يكون لهم موقف روحي متحفظ حيال المتع الأرضية، وقدر من التجرد من هذا الحب الزائد، الذي يسخر "الروح""للمادة"، والذي يجعل من مجرد "الوسيلة""غاية" حقيقية.

وليس وراء هذين المعنيين أي موقف متنسك مشروع في الإسلام.

1 وبقية الحديث كما جاء في سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، باب 1. "والصحة لمن اتقى خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم". "المعرب"

2 البخاري، كتاب الزكاة، باب 45. وقد ذكر المؤلف:"صاحب المسلم هو لمن أعطى" والصواب ما أثبتناه.

ص: 644

ومن ثم لا يمكن أن ننصح إنسانًا موسرًا بأن يفتقر باختياره لكي يصير مسلمًا حقًّا، فليس في هذا زهد حقيقي، إذا ما حكمنا عليه بتحديد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، الذي يقول:

"الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يدك أوثق مما في يدي الله"1.

وكذلك الأمر في حالة العكس، حالة رجل منقطع، يتمتع بالضروري قانعًا متعففًا، ويتمسك بصورة خاصة بالقيم العليا: فلا ينبغي لنا أيضًا أن نغريه بالتخلي عن مثله، من أجل أن يثرى ماديًّا.

والحق أن ما ينبغي على المرء أن يفعله، غير ما تفرضه عليه الساعة التي يحياها، هو أن ينوي دائمًا -ولو أن نيته في حيز القوة- أن يغير موقفه متى ما غير الوضع وجهه، أي أن يكون دائمًا مستعدًّا للهجوم، وللدفاع، للعطاء، وللصبر.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نرى بين هاتين الفضيلتين علاقة مساواة في القيمة، متناسبة مع ظروفهما الخاصة، ولما كان لكل وضع مقتضياته الأخلاقية، فمن الواضح أن من يعرف كيف ينهض به يؤدي واجبه الكامل الذي لا بديل له، لا أقل ولا أكثر. وتلك فيما نعتقد نتيجة تنبع بالضرورة من الفكرة المميزة لهذه الأخلاق، أعني أنها لا ترغب إلينا أن نعمل ضد

1 الترمذي، كتاب الزهد، باب 28، وقد روى هذا الحديث ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ليس الزهادة بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة، إذا أصبت بها، أرغب منك فيها، لو أنها أبقيت لك". "المعرب"

ص: 645

طبيعة الأشياء، وإنما هي تريد أن نكيف أنفسنا معها، بالمعنى السامي لكلمة "تكيف" الذي يستلزم مركبًا من "الشجاعة"، و"نبل المظهر".

وانطلاقًا من هذا المبدأ يمكن أن نثبت أن الموقفين يتساويان في القيمة، من الناحية العملية، حتى ولو لم نملك نصوصًا محددة في هذا الموضوع، فما بالنا وهذه النصوص موجودة.

وإليك بعضها:

"عن صهيب قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له "1.

وأكثر من هذا وضوحًا قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أبو هريرة: "الطاعم الشاكل بمنزلة الصائم الصابر"2.

وهكذا، فإن المشكلة التي تشغلنا الآن، مع أنها لا تحمل أي معنى ذي طابع عملي، أعني أنها لا تتطلب بعض التغيير في واجبنا -ينبغي أن تطرح على بساط البحث عن الخير، وتقديره في ذاته، مستقلًّا عن إمكاناتنا الخاصة.

وإذن فإذا ما انتقلت إلى هذا المجال فإن الحل الذي وضعه لها الإسلام يتجه -فيما يبدو لنا- إلى منح الأولوية إلى فضيلة تعميم الخير الإيجابي المشترك، أعني الفضيلة التي تفترض درجة عالية من الرخاء، والرفاهية الطبيعية، لا تلك التي تقصر خيراتها على مالكها، والتي تستتبع الحرمان والألم.

1 صحيح مسلم، كتاب الزهد، باب 13.

2 ابن ماجه، كتاب الصيام، باب 55.

ص: 646

وذلك -على الأقل- هو ما يدل عليه الحوار الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته، وإليك النص الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا، والنعيم المقيم، فقال:"وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"1.

2-

عزلة واختلاط:

والمشكلة الثانية هي مشكة التناقض بين حياة العزلة، والحياة الاجتماعية. وهنا نجد أيضًا نفس التفضيل، بالنسبة إلى الخير الإيجابي المشترك، بيد أن هذه القيمة الإيجابية موجودة هنا من ناحية أكبر قدر من الجهد، وأعظم قدر من التضحية.

ولا مرية أنه لا يوجد في هذا الموضوع أي أمر قاطع مؤكد؛ لأن كل شيء يصدر عن الأشخاص والحالات، على ما بينه الغزالي2.

وليس أدنى من ذلك تأكيدًا أن العزب الذي يعتزل المجتمع، ظانًّا أنه

1 صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب 79، والبخاري، كتاب الدعوات، باب 17.

2 الإحياء 2/ 222 وما بعدها، ط. الحلبي.

ص: 647

قادر بهذه الطريقة أن يحل بعض الصعوبات الأخلاقية -لا يفعل في الواقع سوى أن يهرب من هذه الصعوبات. فهو لكي يجعل من نفسه إنسانًا طاهرًا عفيفًا يخلق لنفسه عالمًا مصطنعًا، يستطيع أن يهرب فيه من الخطيئة، لا بوساطة قواه الذاتية، بل بقوة الأشياء.

وإذن، فما كان له أن يحوز ما حاز غيره من بطولة واستحقاق، غيره الذي يواجه الحياة بشجاعة، على ما هي عليه، وبكل ما تتضمن من مسئولية، ومغامرة، وتضحية، والذي يبذل كل طاقته من أجل أن يتغلب على العقبات.

وهكذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم وقد استلهم القرآن في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} 1، وقوله:{ولْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2 -فإذا به يستهل نداءه للشباب بأن يوصيهم بالزواج، بشرط واحد، هو أن يكونوا قادرين على النهوض بواجباته الزوجية، فإذا عدمت هذه المسئولية فإنه يوصي الشباب باللجوء إلى الصوم، كوسيلة للدفاع ضد الدوافع الغرزية2:"يا معشر الشباب؛ من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"3.

1 النور: 32.

2 النور: 33.

3 البخاري، كتاب الصوم، باب 10.

نعتقد أن في هذا الحديث أصل منهج التقشف، وشرطه المسوغ له، وهو المنهج الذي امتدحه كثير من الأخلاقيين المسلمين، وغيرهم، فهذا الحرمان والقهر الذي يفرضه المتحذلقون في الأخلاق -غالبًا على أتباعهم- يجب ألا نرى فيه في الواقع هدفًا، بل هو وسيلة لجهاد بعض الفطر المتمردة، التي تحكمها الجوارح، حكمًا متمكنًا. ولا شك أن مراحل هذا الصراع قد تستغرق زمنًا يطول أو يقصر، تبعًا للحالة، ولكن ذلك دائمًا إجراء مؤقت، وليس هو الحالة العادية والدائمة، التي يوصى بها الرجال عمومًا.

ص: 648

وهناك أحاديث أخرى تعبر تعبيرًا أدق عن هذا التدرج، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال:"رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره"1.

وخذ كذلك نصًّا آخر متدرجًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينه من ماء عذبة، فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة"2.

ولا ريب أن هناك حالات يفرض فيها على العاقل الابتعاد عن الناس، سواء أكان ذلك لأسباب عامة، أم كان لدواع شخصية، وذلك ما يحدث -مثلًا- في فترات الاضطراب الاجتماعي. والواقع أنه عندما يسيطر الغموض والبلبلة سيطرة شاملة على العقول، فإن الصلة بالبيئة تدفع كل فرد، إلى أن ينتحي جانبًا، دون أن يملك لذلك دفعًا، وهذا الاتجاه المحتوم إلى تمزيق الأمة ينتهي غالبًا إلى الحرب الأهلية وهو ما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتجنب مغامراته، وأن نلوذ منه بالفرار في أي مكان، فقال فيما روي عن أبي هريرة:"ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذًا فليعذ به"3.

1 البخاري، كتاب الرقاق، باب 33.

2 الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب 17.

3 صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب 8.

ص: 649

وتلك أيضًا حالة تناسب شخصًا ذا طبع شديد الحساسية، أو تبلغ به الصرامة إلى الحد الذي لا يستطيع معه أن يعيش على وئام مع إخوانه، وفي مثل هذه الحالة يصبح أفضل ملجأ نلوذ به -بداهة- أن نتبع تلك الوصية الذهبية الإسلامية، من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ليسعك بيتك، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك"1.

ولكن، هل يمكن أن نقارن الرجل الذي ينطوي على الصمت، ويلتزم الجمود، ليتجنب الصدمات المحزنة، بآخر يضحي براحته، وانفعالاته راضيًا مختارًا، من أجل السلام العام، ومن أجل سعادة الأمة؟

إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقول لنا: "المسلم إذا كان يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"2.

ولقد فهم المجربون الثقات هذا الحديث، وإليك بعضًا من أقوالهم:

قال الجنيد: "مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة".

وقال ذو النون المصري: "ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عنهم بالله".

وقال أبو علي الدقاق: "البس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر"3.

ولهذا عرفوا "العارف" بأنه: "كائن بائن" أي: إنه كائن مع الخلق بشواغله العادية، بائن عنهم بالسر وبفكره المتعلق بالله.

1 الترمذي، كتاب الزهد، باب 60.

2 الترمذي، كتاب صفات القيامة، باب 55.

3 الرسالة القشيرية، المجلد الثاني ص139-142.

ص: 650