المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ النيات السيئة:

أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} 1.

لقد كان المكي إذن على حق في قوله، وإن كان حديثه عابرًا، ولم يكن فيه ملحًّا على مضمونه، قال:"فتكون نيته في ذلك صلاحًا لقلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله، وذلك كله لأجل الدين، وعدة الآخرة، وشكرًا لربه تعالى، ودخولًا فيما أحل له، واعترافًا بما أنعم عليه، واتباعًا لسنة نبيه فيه، ولا يكون واقفًا مع طبع، ولا جاريًا على العادة"2.

فلنتناول الآن دراسة المجموعة الثالثة.

1 البقرة: 265.

2 قوت القلوب، للمكي 2/ 336 ط الحلبي.

ص: 545

د-‌

‌ النيات السيئة:

كما أنه لا يمكن أن يكون بين نقطتي المكان الإقليدي1 "سوى خط مستقيم واحد"، فكذلك الحال في علاقة ذات التكليف بموضوعه، بوساطة النية -لا يمكن أن "توجد سوى طريق واحد للفضيلة"، هي الطريق التي تبدو فيها نية الذات كاملة، بمعنى أن تكون متطابقة مع قصد المشرع، فإن كانت مطابقة لقصد أمره "أي بدافع الواجب" فهي نية حسنة، وإن كانت مطابقة فقط لقصد عفوه "أي: بالإفادة من هذه الرخصة" -فهي نية مقبولة.

وأي انحراف شعوري وإرادي عن الطريق المرسومة على هذا النحو،

1 إقليدس رياضي إغريقي، كان يعلم في مدرسة الإسكندرية على عهد بطليموس الأول، "في القرن الثالث قبل الميلاد". "المعرب".

ص: 545

يقضي بالضرورة إلى نية آثمة. ومع ذلك فما أكثر ما نجد خارج هذه الطريق المستقيمة، ما لا نهاية له من الاتجاهات، والمنعطفات، والغوايات!!

وهكذا تقف وحدة مبدأ الأخلاقية في مواجهة مبادئ مناقضة لها، لا تحصى كثرتها، وهو ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 1.

وإذن فلسوف يكون من المجازفة والتخبط أن نشرع في إحصاء كامل لكل الانحرافات، أو حتى أن نجري تصنيفًا عامًّا لمختلف أنواع هذه المجموعة.

ولما كانت طبيعة الموضوع لا تقبل تنظيمًا دقيقًا على هذا النحو، فإننا نقتصر على إبراز الحالات الواضحة، التي ركز عليها القرآن والحديث تركيزًا خاصًّا، وهي: نية الإضرار، ونية التهرب من الواجب، ونية الحصول على كسب غير مشروع، ونية إرضاء الناس "الرياء".

1-

نية الإضرار:

من المعروف، على الصعيد الاجتماعي، أن الشريعة الإسلامية قد اتخذت مجموعة من الإجراءات، التي لو طبقت تطبيقًا أمينًا لأدت -دون أي تقصير- إلى خلق مجتمع قوي وسعيد متضامن ومزدهر، تحكمه العدالة والرحمة في آنٍ.

ولكنا نعلم من ناحية أخرى أن أفضل شرائع العالم تصبح عاجزة، إذا فقدت الإرادة الطيبة لدى الناس، الذين تنطبق عليهم، أو الذين دعوا إلى تطبيقها.

1 الأنعام: 153.

ص: 546

إن أفظع طريقة لتخريب أية شريعة لا تتمثل في أن تواجهها مقاومة شرسة، أو أن يغفل العمل بها: فلقد يكون هذا طريقة أخرى لاحترام قداستها، بألا تدنس طهارتها النظرية، وبحصر العمل بها في أكثر الأيدي نزاهة، وهو فضلًا عن ذلك يتركها للزمن، ليبرهن على إحكامها، عندما يسمح بتطبيقها.

ولكن أسوأ المواقف وأضرها بشريعة ما -هو أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية، وإن كنا نتفق على تغيير هدفها فنجعلها ظالمة مقيتة، بعد أن كانت محسنة ذات فضل على الناس. فذلك هو ما أطلق عليه القرآن، بمناسبة بعض المصالحات الزوجية التي يلفها سوء النية -أنه:"اتخاذ آيات الله هزوًا"1.

وإليك الحالة: فنحن نعلم كم يحاول القرآن بكل الوسائل المعقولة أن يبقي على هذا الرباط المقدس بين الزوجين، وأن يوثقه. فهو أولًا يوصي الرجال بأن يعاملوا النساء معاملة إنسانية متى شعروا نحوهن بالنفرة:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 2.

ثم هو ينصح الزوجات بأن يطعن أزواجهن، حتى لو اقتضى ذلك بعض التنازلات:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} 3. ثم هو أخيرًا يدعو الطرفين

1 من قوله تعالى في [البقرة: 231]{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} ، وقد نزلت الآية بسبب مضارة الزوجات بالارتجاع ألا ترى بعده زوجًا آخر. "المعرب".

2 النساء: 19.

3 النساء: 128.

ص: 547

-في حال عجزهما عن إقرار أمرهما فيما بينهما- إلى أن يعرضا النزاع على التحكيم، لدى أعضاء من أسرتيهما، حتى يحاولا تحقيق مصالحة بين الزوجين:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 1.

وأكثر من ذلك، أنه إذا أخففت كل هذه الجهود المصلحة، وأصبح الطلاق أمرًا مقررًا -يمنح القرآن الزوج مهلة، يعيد خلالها تدبر الأمر:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} 2، فإذا ما نشب نزاع للمرة الثانية، ووقع فيها طلاق ثانٍ، فإن القرآن يمنح الزوج مرة أخرى فترة مماثلة للأولى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 3، وبحيث لا يصبح الافتراق نهائيًّا إلا في الطلاق الثالث.

وينبغي أن نعترف بأن روح الحرص على الرباط الزوجي لا يمكن أن تكون أكثر تصلبًا إلا إذا ضادت الفطرة وناهضتها، وعليه فإن كل هذه المحاولات لتدارك الرباط الزوجي، ورأب صدعه، ليس الهدف منها توحيد عنصرين متنافرين بأي ثمن، على حين أنهما لا يتقاربان إلا ليتعارضا. وإنما هي على العكس، تفترض إمكان قيام حياة أسرية تأخذ مجراها العادي، بعد أن انتهى العارض، وهدأت الخواطر. والقرآن يشترط صراحة للعودة إلى الاتحاد الزوجي أن يكون كل من الزوجين آملًا أن يؤدي واجباته بأمانة:{إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} ، و {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} 4.

ومع ذلك فإن خبث الرجال الحاقدين يبغي أن يسيء استخدام هذا

1 النساء: 35.

2 البقرة: 228.

3 البقرة: 229.

4 البقرة: 230.

ص: 548

الحق، الممنوح لهم، فيجعلوا منه أداة إعنات وظلم لأزواجهم، فهم بتأخيرهم اختيارهم خلال المدة المخصصة لهم، وبعدم نطقهم إلا في اللحظة الأخيرة، يعودون في نهاية الأمر إلى نسائهم، لا على أساس نسيان الماضي، ولا بنية خلق جوٍّ صحي، لحب جديد، بل بقصد تطليقهن من جديد، ثم إمساكهن معلقات على هذا النحو، لا لشيء إلا لإطالة قيود سراحهن، فيمنعونهن بهذا القيد الظاهر من أن ينشئن زواجًا آخر، قد يجلب لهن قدرًا أكبر من السعادة والقرار.

في مواجهة هذه النيات الآثمة يحذر القرآن الرجال، في مواضع كثيرة وأحيانًا يستخدم ألفاظًا عنيفة، مثل قوله تعالى:{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} 1.

وقد وجه القرآن إنذارًا مماثلًا إلى الموصين الذين يقصدون بمساعدة المنتفعين بوصاياهم، أن يحرموا وارثيهم الشرعيين، فقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ} 2.

فمن هذه الأمثلة القرآنية، التي تشركها أمثلة أخرى كثيرة3، استنبط النبي، صلى الله عليه وسلم -دون ريب- هذه القاعدة الشاملة، التي أثبت بها تكليف كل مسلم، بأنه:"لا ضرر ولا ضرار"4.

2-

"نية التهرب من الواجب":

بيد أن هناك طريقة أخرى للتحايل على الشرع، وذلك بأن نضيع شروط تطبيقه، عندما نثير مفاجأة يحتمل أن تغير المغزى الشرعي للظروف، وهكذا لاتدخل تحت القاعدة.

1 البقرة: 231.

2 النساء: 12.

3 انظر مثلًا الآيات: 233 و282 من البقرة، و6 من الطلاق.

4 موطأ مالك، كتاب الأقضية، باب 26.

ص: 549

هنا لا تكون نية المثير أساسًا عدوانية، حتى لو نتج عن هذه الحيلة بعض الأضرار بالنسبة إلى الآخرين، فهو لم يسع في ضررهم، بل سعى إلى فائدته الخاصة.

هذه الأنانية التي يفرضها على الناس حبهم المفرط للأعراض الدنيوية -قد تبدو في صروتين، إحداهما: يمكن أن تكون "سكونية""إستاتيكية" أو "محافظة"، والأخرى "حركية""ديناميكية" أو "محتكرة". وأقل أنواع الأنانية نشاطًا هي تلك التي تحمل الإنسان على أن ينطوي على نفسه، فتجعله قليل الإيثار، قليل الإحسان، ضنينًا بما يملك؛ على حين أن الأنانية الجشعة الجامحة لا تقنع بوضعي سلبي، وإنما تمعن في جمع المكاسب والمنافع بكل وسيلة.

والحيل في الصورة الأولى معروفة جيدًا في الشريعة الإسلامية، كما عرفت نظمها، وإنا لنجدها مستفيضة في باب فريضة الزكاة، ومن الوسائل البسيطة للتهرب بالخديعة من هذا الواجب المقدس، عند اقتراب موعد جباية الأموال، أن يمزق المالك رأس ماله بالمصروفات، والقروض، والاتفاقات والعقود، بحيث يجعله أقل من الحد الأدنى للنصاب المفروض.

فماذا يكون رد فعل الشرع في مواجهة مثل هذه العمليات؟

هذا يتوقف على النية التي يعمل بها المالك، فإن كان يصدر في هذه التصرفات عما تقتضيه الحاجة الواقعية، أو تحت ضغط ظروف غير مستثارة -فلا لوم عليه من الناحية الأخلاقية، وليس ذلك فحسب، بل هو من الناحية الشرعية بريء معفو عنه. وأما إذا كان يفعل ذلك صراحة ليهرب من التكليف بدفع زكاته، فالناتج عكس ذلك.

وغني عن البيان أن الذي يتحايل على الشريعة على هذا النحو، فيقتل

ص: 550

روحها -يرتكب دون ريب عملًا من الأعمال المنافية للأخلاق، ولكنه في الوقت نفسه يخطئ الحساب، حين يظن أنه يستطيع أن يهرب بهذه الحيلة من التكليف الشرعي.

وجميع الفقهاء متفقون في الرأي حين يظهر سوء النية في أحداث واضحة، هي عود الظروف العادية بمجرد مضي الحول.

أما في حالة العكس، أعني: إذا لم تعد الأموال المتصرف فيها إلى ملكيته، فهل نؤثمه، أو نبرئه؟

مسألة فيها نظر، فعلى حين يعفيه "اللخمي" و"أبو حنيفة" من الزكاة، بتفسير حالة الشك لمصلحته، وترجيح براءته ابتداء -يرى الآخرون في هذا التوافق بين العملية وحول الزكاة دليلًا كافيًا على الغش والخداع.

وعلى هذا النسق نجد حيلة أخرى، تتمثل في تجميع رءوس أموال كثيرة، أو قطعان تخص أشخاصًا مختلفين، "وقد تكون الحيلة متمثلة، وفقًا لأفضل المنافع، في فضل رأس مال مشترك" بقصد تجنيب كل منهم إلزامًا ثقيلًا.

ولقد حرم الحديث الشريف صراحة هذه الطريقة في الزيغ عن القاعدة وتنكبها، فعن أنس، رضي الله عنه:"أن أبا بكر كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة"1.

وبقيت بعض المنافذ التي يمكن أن يتصورها، وينجح فيها أولئك الأغنياء

1 انظر البخاري، كتاب الحيل، باب 3.

ص: 551

قساة القلوب، حتى يتهربوا من العدالة الإنسانية، فهل بوسعهم أن يكونوا مطمئنين إلى الهروب بهذه الوسائل من العدالة الأبدية؟

لقد ساق القرآن لنا في هذا الموضوع عبرة: فإن أصحاب الجنة أقسموا عشية الحصاد أن يذهبوا إليها مبكرين، خفية، حتى لا يلفتوا إليهم انتباه المساكين، وبذلك يطرحون عن كاهلهم عبء اقتطاع جزء محتمل من ثرواتهم، ويا لها من مفاجأة سيئة طالعتهم حين وصلوا إلى جنتهم، لقد طاف على ثمراتها جميعًا طائف العذاب الرباني، فدمرها وهم نائمون1.

3-

"نية الحصول على كسب غير مشروع":

ويكثر استعمال هذه الوسائل المنحرفة بصورتها الثانية، في الحياة اليومية لبعض رجال الأعمال، المهتمين بإنقاذ مظهر الشرعية.

ولسنا مهتمين هنا بذكر المناهج الخادعة التي يستخدمها صناع وتجار دون تحرج، حتى يخفوا معايب سلعهم، ويرفعوها إلى ما ليست به في الواقع، فتلك مفاسد كبيرة، ذكرت كثيرًا في الأحاديث، ويكفي أن يعارضها الأمر الصريح في القرآن، وهو الأمر الذي يتطلب في كل اتفاق توفر الرضا الكامل لدى الطرفين. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 2.

1 القصة في سورة ن "17-33" قال الشاطبي "الموافقات 1/ 289": "تضمنت الأخبار بعقابهم على قصد التحيل، لإسقاط حق المساكين، بتحريهم المانع من إتيانهم، وهو وقت الصبح، الذي لا يبكر في مثله المساكين عادة". "المعرب".

2 النساء: 29.

ص: 552

وهذا التراضي يفترض، في الواقع، أن يكون كل شيء في القضايا مستمدًّا من الشرع صراحة. وبهذه الشرعية في كل شيء، وتجاه كل شيء -يحدد رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الإيمان في قوله:"الدين النصيحة، لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم"1.

وأكثر تحايلًا من ذلك، تلك الطرق التي يصطنعها لأنفسهم أولئك المثقفون ثقافة قانونية، فهم على الرغم من تكلفهم احترام الشريعة، وحرصهم على أن لا يصادموا حروفها -يحاولون أن يجدوا فيها مخرجًا جانبيًّا يشبع أنانيتهم، ولقد أشار الحكيم الترمذي في كتاب "الأكياس والمغترين" إلى عدد من هذه الحيل:

منها: القاضي الذي يتقبل بعض الأشياء من أطراف النزاع على أنها "هدية" على حين لم يؤتها إلا بوصفه قاضيًا، ولم تقدم إليه إلا كرشوة.

ومنها: المدين الذي يرجو دائنه أن يعطيه مخالصة عامة من كل ما يمكن أن يحاسبه عليه، دون تحديد "تاركًا الأمر في نطاق الغموض، ولكن المخالصة التي يظفر بها لا صحة لها أبدًا عند الله".

ومنها: الزوج الذي تنازل له امرأته عن جزء من مالها، كيما تتفادى سوء المعاملة من ناحية زوجها، "فهذا الصنيع لا يمكن أن يعتبر بالاختيار الكامل، بل هو أدنى من أن يكون عطية عن طيب نفس، على ما اختار القرآن أن يعبر به على وجه الاشتراط، في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} "2.

1 انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب 43، وقد ذكر المؤلف في نصه:"ولخاصة المسلمين وعامتهم"، وما نقلناه هو المنصوص عليه من حيث أشار المؤلف. "المعرب".

2 النساء: 4، وانظر كتاب: الأكياس والمغترين، للحكيم الترمذي ص51 من المجموع، قال:"وقال الله تعالى في تنزيله في شأن المهر: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، فهذا يأخذ منها على كره ووعيد وتعذب وإلحاح "إشارة إلى من يكره امرأته بسوء العشرة على هبته حقها"، يقول: قد برأتني منه، ووهبته مني، فأين شرط الله الذي شرطه من طيب النفس، حيث قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، فإنما أباح له من مهرها ما أخذه بطيب نفسها". وللمؤلف ملاحظة: أن الله قال: نفسًا، ولم يقل: قلبًا. "المعرب".

ص: 553

وينبغي أن نوغل في التاريخ إلى العصر اليهودي لنجد حالات نموذجية من هذه الحيل الملتوية، التي تذهب، في سبيل ضمان انتظام السلوك، إلى حد أن تبدأ بتحريف القاعدة ذاتها، وتشويهها، وطيها بطريقة أو بأخرى، حسب الشهوات، ولقد أشار القرآن إلى بعض هذه الألاعيب التي حاول بنو إسرائيل أن يعثروا عليها حتى يستبيحوا الصيد، يوم السبت، دون أن يرتكبوا إثمًا، وهو قوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} 1.

ويحكي لنا الحديث قصة أخرى، هي قصة الشحم الذي كان محرمًا عليهم، فامتنعوا عنه قاعدة، وباعوه تجارة، قال عطاء: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم شحومها، جملوه ثم باعوه، فأكلوها"2.

ولنا أن نستنتج من ذلك أنه عندما يحرم الله شيئًا فإنه يحرم في نفس الوقت تملك ثمنه، ولذلك ذم الإسلام كسب السحرة والكهنة، والفواجر، ففي صحيح البخاري:"وكره إبراهيم أجر النائحة والمغنية" وقول الله تعالى: {ولا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} -فتياتكم: إماؤكم- وعن ابن مسعود الأنصاري، رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن3.

1 الأعراف: 163.

2 البخاري، تفسير سورة الأنعام، باب 6.

3 البخاري، كتاب الإجارة، باب كسب البغي والإماء 20.

ص: 554

وهناك حالات كثيرة أخرى تعاطاها الناس على رغم الشرع، في المجتمعات الإسلامية، وهي مدروسة في كتب الشريعة الإسلامية، تبعًا لمختلف المذاهب.

وإذا كان من الواجب أن نعترف بأنه إن كان الفقهاء لم يجمعوا على عدم شرعية هذه الحيل، فيجب ألا ننسى أيضًا أن الذين أقروها لم يكن هدفهم أن يثبتوا لها الطابع الإخلاقي، وينفوا بذلك الشكوك عن فاعليها.

ولنأخذ -أو بالحري: لنعد إلى- مثال عقد المخاطرة: أو بيع العينة، وهو تلك الحيلة المعروفة التي يحاول بها إخفاء وجه الربا القبيح، والتي نعى باسكال PASCAL على اليسوعيين أن يستبيحوها "حتى حين تكون نيتهم الأساسية توخي الكسب"1.

ونحن نعلم أن القرآن يحرم الربا تحريمًا قاطعًا مطلقًا، لا بالمعنى الحديث والمقيد فقط، "وهو الفائدة التي تتجاوز سعرًا معينًا"، بل بالمعنى الأقدم والأوسع للكلمة: وهو كل منفعة مادية أو غير مادية، تؤخذ ممن يقرضون، فالإقراض ليس متاجرة، بل هو معاونة، والعون يجب أن يكون نزيهًا نزاهة مطلقة ويقول تعالى في ذلك:{فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 2.

وإذن، فالهدف من عقد المخاطرة تقديم النقود المقترضة في صورة ثمن بيع، وهاكم وصف العملية: فالمقرض يقدم أولًا لمستقرضه سلعة يبيعه إياها بثمن مؤجل أعلى، ثم هو بعد ذلك يشتريها منه نقدًا وبثمن أدنى، بحيث نجدنا -في نهاية العملتين- في نفس حالة الربا الصريح، فالمستقرض يقبض

1 Pascal، Les provincials. VIII، letter.

2 البقرة: 279.

ص: 555

نقودًا الآن، ويتعهد بأن يرد فيما بعد أكثر مما قبض، وقد استعمل خروج السلعة ودخولها، لتغطية وتلطيف الوقع الحاد للكسب غير المشروع.

ما قيمة هذه السوق في الفقه الإسلامي؟

إن الأمور إذا سارت علنية على نحو ما وصفنا، أعني: إذا كان من المتفق عليه مسبقًا بين الطرفين إعادة بيع ما سبق شراؤه لنفس الشخص فإن اتفاق الفقهاء إجماعي على إبطال هذا العقد، باعتباره عقدًا ربويًّا، ولكن إذا كنا أمام عمليتين متتابعتين، دون أن نلاحظ فيهما توطؤًا، فهل يجب أن نعتبر العمليتين وحدة واحدة؟ أليس من الممكن أن تكون هناك سوقان منفصلتان، يجوز أن تكون ثانيتهما مفروضة، على إثر رجوع المشتري عن رأيه فجأة، بعد فوات الأوان، ندمًا على إبرامه الأولى؟

إن من الصعب أن نحكم بيقين على النية العميقة لدى الناس، ولكن كيف نحكم على قضية من هذا القبيل؟

أما المالكية فيرون أن هذا الكسب غير مشروع، وهو ربًا.

وأما الشافعية فيبيحونه، ويقرونه شرعًا.

فهما حكمان متعارضان، ولكنهما في الحقيقة لا يحكمان في حالة واحدة، في نفس الظروف.

والواقع أنه لو كان ممكنًا أن نكشف ما يجري في فكر المتعاقدين فلربما لم نشهد هذا الخلاف، ذلك أن مالكًا من ناحيته لا يمنع في الظروف العادية أن يبيع المرء مرة أخرى نقدًا، وبسعر أقل، ما سبق أن اشتراه غاليًا وبأجل، والشافعي من جانبه لا يوافق على أن يجعل المرء من هاتين العمليتين مجموعًا يستهدف به الربح الدنس قصدًا ونية.

ص: 556

والمشكلة التي طرحوها كانت على هذا النحو فحسب:

لو أننا علمنا أن أجلي "العمليتين الحاصلتين على وجه الانفصال -لا غبار عليهما، ولكن جمعهما هو الذي يثير الاتهام بأن لدى صاحبيهما هدفًا غير مشروع، فهل يجب أن نحكم ببطلان عقد كهذا، كأنما سوء النية ثابت فيه؟

فالشافعية يرون أنه لا يجوز حمل الناس على التهم1، ولما كانت البراءة هي الأصل، فيجب التمسك بها، إلى أن يثبت العكس، وهو ما رده المالكية فقالوا: ليس الأمر هنا أمر تهمة مطلقًا، ولكنه أمر ملاحظة وإدراك للواقع في مدلولها العقلي، وهو المدلول الذي يصير أيضًا أشد وضوحًا حين يتعلق بما هو من "أهل العينة"2.

وهكذا تدل الطريقة التي يدور بها النقاش، دلالة واضحة على أن موضوعه لم يكن عملًا افترضت فيه نية الربح عمومًا، وأن المسألة رغم ذلك تنحصر في التسويغ أو التأثيم -ولكن الموضوع انحصر في حالة ملتبسة، بتعين تفسيرها، لنعرف إن كانت تخفي أو لا تخفي هذه النية الآثمة، "وبعبارة أدق: إن كان يجب أن نعاملها على هذا النحو أو لا". فالخلاف كله إذن يدور في خاتمة المطاف حول حكم وجود، لا حكم قيمة، فإن هذا الحكم الأخير لا يرتاب فيه أحد، ولم يكن كذلك، مما يدخل في اختصاص القضاء.

وإليك مثالًا آخر من الأمثلة التي كانت موضوع نقاش من هذا القبيل، ولسوف يكشف لنا الاتجاه العميق الذي أدى إلى هذا الخلاف في النظر وذلك هو الوجه الذي يجب أن نفسر به يمينًا ذات معان كثيرة. فبأي.

1 بداية المجتهد، لابن رشد 2/ 153.

2 المرجع السابق، ويقصد به الذي يداين الناس؛ لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه، يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع، من غير أن تكون له حقيقة. "المعرب".

ص: 557

مقياس، يتعين علينا، أن نحكم على كذب يمين أو صدقها، أقصد اليمين التي تأتي ضمن رغبة، أو قرار شخصي، بأن يقوم الحالف بفعل شيء، أو تركه لا اليمين التي أديت أمام القضاة1، ولا التي وردت في وعد خاص، حيث يشبهها عدد من الفقهاء، بيمين القضاء؟

أما المالكية فيعتبرون أولًا نية الحالف، في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها، فإن لم يتضح المعنى الدقيق الذي صاغ به الحالف رغبته، أو اتخذ به قراره -وجب الرجوع إلى المعنى الذي يعطيه العرف لهذه الصيغة، في بيئة الحالف، وهم يأخذون الصيغة بمعناها العادي الأكثر شيوعًا، وبذلك يحاولون، من ناحية إلى أخرى، أن يتعرفوا على نية الحالف بكل الوسائل المحتملة، ليحكموا عليه نتيجة هذا التعرف، وهم لا ينتقلون إلى مرحلة أبعد إلا عند استحالة الوقوف عند أخرى أقرب2.

1 استثنينا اليمين المؤداة أمام المحكمة؛ لأنها كما قال ابن رشد في "البداية 1/ 428" من أنهم اتفقوا على أن "اليمين على المستحلف" في الدعاوى وهو مقياس ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبموجبه يصبح من العبث اللجوء إلى ألفاظ غامضة، أو إلى قيود ذات وجهين، لتحاشي الكذب الصريح. والواقع أن اليمين يجب أن تحمل على المعنى الذي يقصده الطرف الذي يطلبه، فإلى جانب الحديث:"اليمين على نية المستحلف"، وقد رواه "مسلم في كتاب اليمين، باب 4"، نجد حديثًا آخر في نفس المرجع "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" فإذا تكلمت بلغة الآخرين، وقصدت بكلامك معنى آخر، فمعنى ذلك أنك تغشهم، وتغالطهم، وحرام كما قال الغزالي: أن تلبس في أمر الدنيا، حتى لو قضى دين جماعة، وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم، لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر "الإحياء 3/ 293" ومع ذلك فقد يعفى عن استخدام هذه المعاريض في حالة ضرورة إنقاذ المرء نفسه من ملاحقة ظالمة.

2 ذكر أبو الوليد ابن رشد في البداية 1/ 428 قوله في هذا الصدد: "وأما مالك فالمشهور من مذهبه أن المعتبر أولًا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال، فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة. وقيل: لا يراعى إلا النية، أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط. وقيل: يراعى النية، وبساط الحال، ولا يراعى العرف". وقد ذكرنا هذا النص ليتضح أن المؤلف اجتزأ في تقديم رأي المالكية ببعض ما تذرعوا به إلى معرفة حقيقة اليمين، ليمكن إصدار حكم معين على أساس نية الحالف، وهذا في غير أيمان القضاء. "المعرب".

ص: 558

ويأتي الأحناف والشافعية على النقيض من ذلك تمامًا، فهم قلما يعنون بمثل هذا التفتيش عن المعنى، الذي لا بد أن الحالف أراد أن يعبر عنه، وإنما يدخلون مباشرة في الكلمات المنطوقة، ويتمسكون بمعناها الحرفي، ومن ثم كان على الأحناف أن يصوبوا شرعًا جميع المنافذ والحيل، ما دامت لا تصطدم بحرفية أقوالنا. الأمر الذي جعل ابن حنبل، إمام المذهب السلفي المتشدد، يقول فيهم قولته المشهورة:"عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان، يبطلون الأيمان بالحيل"1.

بيد أن أكثر ما يدهش في موقف الأحناف هو أنه قليلًا ما يتسق مع نظريتهم العامة، الكثيرة الاعتماد على العقل. ونحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النصوص المقدسة يمتازون بثاقب الفكر، محاولين دائمًا أن يدركوا علتها، ومستعملين غالبًا التعليل بالقياس، وربما أفرطوا في استعماله. ولكنهم حين يتعرضون لتفسير عقد، أو نذر، وبصفة عامة كل ما يقتضي جزاء أو كفارة، فإنهم كانوا يمسكون عن كل تفسير، ويقبلون جميع الوسائل الملتوية، بشرط واحد فقط، هو ألا تتعارض هذه الوسائل مع النص الجامد للقاعدة المقررة.

ومن هنا نفهم الحدة والقسوة لدى أحد علماء المدرسة الظاهرية وهو ابن حزم، حين ذهب إلى حد اتهام أتباع المذهب الحنفي بأنهم لا يشجعون بطريقهم هذه على الرذيلة فحسب، بل إنهم يعلمون المجرمين كيف يرتكبون كل ما يريدون، من السرقة، وهتك الأعراض، والإرهاب، وقتل النفس، وهم آمنون من إقامة الحد عليهم، حتى لو أنهم أخذوا في حالة تلبس2.

1 الموافقات الشاطبي 1/ 290.

2 يحسن بنا أن نورد هنا حديث ابن حزم في هذا الموضوع بنصه، فهو معبر عن أقصى درجات القسوة في تناوله لمسائل الفقه وخلافياته، فكأنه ممسك بسوط، يهوي به على ظهور السابقين عليه من الفقهاء الأجلاء. حتى ليبلغ أحيانًا درجة الإسفاف في نعتهم، وتلك هي=

ص: 559

ولكي ننصف هذا الفقه، الذي هوجم بشدة -نلاحظ أولًا أن يقوم على وجهة نظر شرعية خالصة. والواقع أن ابن حزم في حدة اعتراضاته لم يمض إلى حد اتهام الحنفية بالرغبة في تسويغ تحايل متعمد على الشرع، فكل ما يأخذه عليهم هو أنهم يفوتون بعض الوقائع الإجرامية دون عقاب، حيث لا وجود -في رأيهم- لبعض شروط العقوبة، وأما كون هذا النقص قد حدث بطريقة طبيعية أو صناعية فشيء لا دليل عليه بداهة، والحنفية لا يريدون أن يفتشوا عنه، وربما كانت هذه نقطة ضعفهم.

=في رأينا نقطة الضعف في فقهه، على الرغم من فقهه، قال "المحلى 11/ 303": "وأما الحنفيون، المقلدون لأبي حنيفة في هذا، فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد يوجد لها نظير، أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا، بأن ثلاث حثيات من تمر مهر، وقد خالفوا هذه القضية بعينها، فلم يجيزوها في النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرًا، بل منعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك. فهذا هو الاستخفاف حقًّا، والأخذ بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا، وتركوا ما اشتهوا من قول الصاحب إذا اشتهوا. فما أسوأ هذا دينًا، وأف لهذا عملًا، إذ يرون المهر في الحلال لا يكون إلا عشرة دراهم لا أقل، ويرون الدرهم فأقل مهرًا في الحرام، ألا إن هذا هو التطريق إلى الزنا، وإباحة الفروج المحرمة، وعون لإبليس على تسهيل الكبائر، وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا، وهما في أمن من الحد، بأن يعطيها درهمًا يستأجرها به للزنا، فقد علموا الفساق حيلة في قطع الطريق، بأن يحضروا مع أنفسهم امرأة سوء زانية، وصبيًّا بغاء، ثم يقتلوا المسلمين كيف شاءوا، ولا قتل عليهم، من أجل المرأة الزانية، والصبي البغاء، فكلما استوقروا من الفسق خفت أوزارهم، وسقط الخزي والعذاب عنهم، ثم علموهم وجه الحيلة في الزنا، وذلك أن يستأجرها بتمرتين وكسرة خبز ليزني بها، ثم يزنيان في أمن وذمام من العذاب بالحد الذي افترضه الله تعالى، ثم علموهم الحيلة في وطء الأمهات والبنات، بأن يعقدوا معهن نكاحًا، ثم يطئونهن علانية، آمنين من الحدود، ثم علموهم الحيلة في السرقة، أن ينقب أحدهم نقبًا في الحائط، ويقف الواحد داخل الدار، والآخر خارج الدار، ثم يأخذ كل ما في الدار، فيضعه في النقب، ثم يأخذه الآخر من النقب، ويخرجان آمنين من القطع، ثم علموهم الحيلة في قتل النفس المحرمة، بأن يأخذ عودًا صحيحًا فيكسر به رأس من أحب، حتى يسيل دماغه ويموت، ويمضي آمنًا من القود، ومن غرم الدية من ماله، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الأقوال الملعونة

إلخ"، ولا شك أن حديث المؤلف يوضح موقف الأحناف دون تحامل. "المعرب".

ص: 560

بيد أن هذا الرفق فيما يتعلق بتطبيق الجزاءات، في الحالات المشتبهة، يتضح مع ذلك بسهولة، من خلال الشريعة الإسلامية ذاتها.

ألم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم انتهاك الحق المقدس لكل امرئ في الأمن، إلا بسبب صحيح، وكان من قوله فيما رواه ابن عباس، رضي الله عنهما:"فإن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام" 1 وإذا كانت هذه المدرسة الحنفية قد شجعها شعور إسلامي عارم، باحترام شخص الإنسان، فقد أرادت إذن أن تلتزم بالبراءة الظاهرة، تاركة مسألة الباطن إلى الضمير الفردي.

أليس كل ما يؤخذ على موقفها هذا هو أنها تمنح مزيدًا من الحرية إلى أولئك الذين لا يحسنون استعمالها؟

4-

نية إرضاء الناس "الرياء":

بقي أمامنا أن نصف نوعًا آخر من الدوافع الأنانية، سيكون بالنسبة إلينا آخر ما نتحدث عنه، إنه نموذج آخر من الأنانية الجشعة، ولكن هذه الأنانية ليست معتدية، ولا جاحدة، ولا مادية، فهي أكثر نعومة وألفة.

إنها تنبع من "حب الذات"، ذلك الإحساس الطبيعي، الذي يكون في بعض الظروف مشروعًا؛ على تفاوت في قدر هذه المشروعية، ولكن عيبه هنا هو أنه لا يفرض واجبًا، ومن ثم كان في غير محله.

وإنما تتفاوت مشروعيته في ذاته؛ لأن من الضروري، لكي يعيش الإنسان في مجتمع، أن يطمئن إلى حد أدنى من محبة قلوب الآخرين، حد أدنى من الاعتبار في نظرهم، بقدر ما هو ضروري أن يتنفس لكي يعيش بدنيًّا.

1 البخاري، كتاب الحج، باب 132.

ص: 561

أليس من المسموح به، بل من الموافق للسُّنة الحسنة أن يكون المرء أكثر حرصًا على هيئته الظاهرة، وطريقة لباسه في المجتمع، من حرصه على ذلك مع من يألفهم، وهو أمر أكدته السُّنة، فلقد "كان صلى الله عليه وسلم يلبس رداء إذا خرج"1

كما ينبغي على المرء أن يكون أحرص على ذلك في المجتمعات منه في العمل، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال:"ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته، سوى ثوبي مهنته"2.

ولكن أداء المرء لواجبه نحو الله، ونحو الأقربين، بنية أن يكون شخصًا بارزًا في الناس، ينظرون إليه بإعجاب، ويقولون فيه خيرًا -فتلكم هي الأنانية المنكرة، وإن ارتدت ثوبًا مفرطًا في الرقة.

وليس المرائي، كما ينبغي أن نوضح، من يتخذ هيئة متكلفة، ويقوم بحركات ظاهرة لا تتفق مع ما في قلبه وفكره، وباختصار: من يظهر خلاف ما يبطن، ليخدع الناس، ففي هذه الحالة يتخذ الرياء اسمًا آخر أكثر إجرامًا هو "النفاق" والنية السيئة التي تحركه أكثر عمقًا، هي تلون المنافقين.

فرذيلة "النفاق" مركبة؛ أما رذيلة "الرياء" فبسيطة. فالمرائي يبسط للناس مفاخره، دون تلبيس لفكره، أو إخفاء لمشاعره الخاصة تحت ظواهر خادعة، إنه يبسطها حتى يراها الناس، ويعجبوا بها؛ فهو يشعر بالحاجة إلى

1 البخاري، كتاب اللباس، باب 7، ونص رواية البخاري: أن حسين بن علي أخبر أن عليًّا رضي الله عنه قال: "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بردائه، ثم انطلق يمشي

إلخ" ومفهوم ذلك أنه كان إذا خرج يلبس رداءه. "المعرب".

2 الموطأ 1/ 133.

ص: 562

تشجيع خارجي يستثير جهوده، وهو لا يجد لديه من القوة الخاصة المحركة ما يكفي لحفزه إلى أداء واجباته، ولا يجد هذا الحافز إلا حيث يوجد الاستحسان، والإعجاب، والمدح، والتصفيق، وسائر ردود الفعل المماثلة، التي يتنفس بعدها الصعداء.

هذا النوع من التطفل الأخلاقي، لا ينبغي أن نتوقع له شيئًا من الإغضاء، على الرغم من مظهره الوادع؛ ولقد حكم القرآن على الأنفس التي تنشد ثمن الفضيلة في تقدير الناس حكمًا قاسيًا، غاية في القسوة، فأعلن أن أعمالهم هباء وباطل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} 1، فهم {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} 2، وأعلن أن أشخاصهم مستحقون للويل:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} 3.

ويعد الحديث بين أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة:

أولهم: "رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".

وثانيهم: "رجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار".

1 البقرة: 264.

2 الآية السابقة.

3 الماعون: 4-6.

ص: 563