المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية: - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

ليدل على مجرد تبني العمل. ولو لم يوجد إلزام، ولا إمكانية سؤال أو إجابة فمنذ كان الخالق وحده في هذا العالم، "إلهًا متفردًا"، يتصرف فيه متحكمًا، فإنه بهذا الاعتبار هو الصانع المسئول عن أعماله، بأكمل معاني الكلمة، سبحانه وتعالى.

فلنقتصر إذن على مفهوم المسئولية الإنسانية، التي إن لم تفترض سلفًا فكرة إلزام صارم، فعلى الأقل: الفكرة المعادلة لمثل أعلى، اصطلح عليه مقدمًا، بحيث يرى الإنسان أنه مسئول عنه أمام نفسه.

وفي الدراسة التالية، سوف نبحث أولًا الصفات العامة التي تنبع من تحليل هذه الفكرة، ثم شروطها من الوجهة المزدوجة: الأخلاقية، والدينية، وأخيرًا جانبها الاجتماعي.

ص: 137

1-

‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

ينتج عن التحديد الاشتقاقي الذي رأيناه -أن هذه الفكرة تشتمل على علاقة مزدوجة من ناحية الفرد المسئول: علاقته بأعماله، وعلاقته بمن يحكمون على هذه الأعمال.

فأما من ناحية العمل، فإن مصطلح "المسئولية"، بعكس ما كان يعتقد، لا يدل ابتداء على علاقة واقع، بل على علاقة حق يقره، ويجب أن يسبقه في أحكامنا الخاصة. والمسئولية قبل كل شيء استعداد فطري، إنها هذه المقدرة على أن يلزم المرء نفسه أولًا، والقدرة على أن يفي بعد ذلك بالتزامه بوساطة جهوده الخاصة. فإذا أخذت المسئولية بهذا المعنى الرحب، والأَوْلى -فلن تكون سوى سمة من السمات المميزة التي يأخذها الإنسان من جوهره ذاته.

ولو أننا تتبعنا الأشياء في مجراها العادي "بما في ذلك الإنسان الفيزيقي

ص: 137

والنفسي" لوجدناها في الواقع تؤدي دورها الذي عينه لها قانون الطبيعة، بطريقة قدرية، وعلى نسق واحد. فليس هنالك أدنى تدخل ممكن لمبادرتها الخاصة، لا من أجل صيانة النظام الثابت، ولا من أجل تغييره، أو تعديله في أي صورة ما كان، وإذن فلا مسئولية مطلقًا.

أما في النظام الأخلاقي فالأمر بالعكس، حيث يواجه الفاعل إمكانات متعددة، يستطيع أن يختار من بينها واحدة، توافق هواه، سواء احترم القاعدة، أو اخترمها.

"فالإمكان" و"الضرورة" هما الصفتان اللتان تكونان مجالي المسئولية وعدم المسئولية، كل على حدة، والجانب الأول هو الذي رصد له الإنسان استعداده.

هذا التباين الذي يضع الكائن العاقل ضد الكائنات غير المزودة بالعقل، من حيث مقدرتها الأخلاقية -يبدو لنا أن القرآن قد أبرزه في هذه الجملة الإلهية القصيرة:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهولًا} 1 "لأنه قد انتهكها"2.

1 الأحزاب: 72.

2 هذا أحد الوجوه التي ردّ إليها أكثر المفسرين معنى النص، ولكن الفعل "حمل" مستعمل هنا استعمالًا مزدوجًا في القرآن، فهو أحيانًا يعني تحمل التكليف في مثل قوله:{عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]، وقوله:{حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5]، وهو أحيانًا بمعنى "تحميل الخطأ" في قوله تعالى:{يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 100]، وقوله:{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111] . واستنادًا إلى هذا المعنى المزدوج للفظ، حمله بعض المفسرين على معناه الثاني، وهاك معنى النص تبعًا لما ذهبوا إليه، ومع أن المخلوقات الأخرى قد وفّت بمهمتها، حين خضعت لقانون "الطبيعة" دون مقاومة {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ، فإن الإنسان الذي لم يطع القانون "الأخلاقي" يبقى محملًا به، {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [التكوير: 23] ، فالأمر لا يتعلق إذن بالإنسان بعامة، بل بالكفار والعصاة وحدهم، وهو تفسير -لا ريب- معقول، في ذاته، ولكنه فضلًا عن ذلك التقييد الذي يفرضه على مفهوم "الإنسان" الذي جاء غير محدد في النص، فهو لا يحقق على وجه الدقة التطابق المطلوب بن الضمائر والأسماء التي تتعلق بها، إذ لم تعد الأمانات المعروضة على الإنسان، وغيره من المخلوقات -كما هي، وصار من اللازم أن يكتفى بالتقائها في الفكرة العامة للأمانة، كما أصبح لازمًا اللجوء إلى فكرة مجازية، حتى نقرر للطبيعة نوعًا من الالتزام تجاه القانون.

ص: 138

بيد أن هذا ليس سوى وجه كامن، يعبر عن استعداد بعيد الأصول، لتحمل المسئولية بالفعل، فهذه لن تبدأ إلا عندما تتحقق بعض الشروط:"كالسن، والصحة مثلًا"، كيما تخلع مغزاها الأخلاقي على تعهداتنا والتزاماتنا. كذلك لا يكفي أن تجتمع هذه الشروط العامة لنصبح فعلًا مسئولين، بل يجب أيضًا أن تنضاف إليها ظروف مادية، تدعونا إلى أن ندخل نشاطنا في نسيج الأحداث.

والحق أن هذه الظروف لا تتخلف أبدًا، فلكل منّا بالضرورة بعض العلاقات، وهو يشغل مكانًا معينًا، ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع؛ فالأب مسئول عن رفاهية أولاده المادية والأخلاقية، والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب، والعامل عن تنفيذ عمله وكماله، والقاضي عن توزيع العدالة، والشرطي عن الأمن العام، والجندي عن حفظ الوطن. كذلك نحن -فرادى- مسئولون عن طهارة قلوبنا، واستقامة أفكارنا، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا. حتى إننا نستطيع أن نجد في كل لحظة من لحظات الحياة الإنسانية بعض المسئوليات، وهي ليست افتراضية فحسب، بل حاضرة وواقعية، متى ما تحققت لها الشروط العامة. ثم إن اختلاف المواقف لا يتدخل إلا من أجل تخصيص وتحديد موضوع هذه المسئولية.

على أننا لا ينبغي أن نخلط هنا معنيين متميزين تمامًا للمسئولية، فعلى قدر ما تكف الاعتبارات الخاصة عن التدخل "وهي من نوع ما سنراه بعد" نبقى في مرحلة المسئولية الطبيعية، التي هي مجرد طلب لموقف، وكونك مسئولًا لا يعني هنا سوى كونك جديرًا بأن تكون هذا المسئول فحسب. فالإنسان مسئول طبيعيًّا من قبل أن يجعل نفسه مسئولًا، ومن قبل أن يعتبر مسئولًا أخلاقيًّا.

ص: 139

والآن، إذا كان حقًّا أن مسئوليتنا لصيقة بنا دائمًا، بوجه أو بآخر، فإن ذلك لا يترتب عليه أن نكون دائمًا على وفاق معها، وحتى بعد أن نحمل التزاماتنا صراحة فإن لدينا الخيار أن نبقى مخلصين لها، أو نخل بحقها، تبعًا لما إذا كنا سوف نوجه جهدنا في نفس الاتجاه، أو ندع أنفسنا لتأثير عوامل مضادة.

ومن هنا كانت مرحلة جديدة من المسئولية، فبمجرد أن نتخذ قرارنا لمصلحة جانب أو آخر لم تعد المسئولية التي نتحملها بهذا العمل موجهة نحو المستقبل، بل هي مرتدة نحو الماضي، فنحن منذئذ مسئولون، لا باعتبارنا قادرين على العمل، بل باعتبارنا فاعلي فعل تام، أي: إن المسئولية تصبح تحملًا لناتج الفعل.

وهكذا نصل إلى حدود العنصر الثاني للفكرة. فعندما ينهي المرء مهمته لا بد أن يقدم تقاريره. إن اللحظة الأولى من لحظات المسئولية تلهمنا الإحساس بقوتنا، فهذه "قدرة" و"استطاعة" أما في اللحظة الثانية فإننا نتخذ -على العكس- موقف خفض الجناح والخضوع، فهذا "واجب".

وإنا لنقرر أن كون المرء مسئولًا يدعوه إلى أن يقدم حسابًا ببعض الأشياء إلى بعض الناس، فلمن يقدم؟

وماذا يقدم؟

وما دمنا قد اتفقنا على أن المسئولية تفترض الإلزام سلفًا، فإن ذلك ينتج عنه، من ناحية، أن الحساب يجب أن يكون موضوعه الطريقة التي تم بها أداء عملي إلزامي، أو إهماله، ومن ناحية أخرى: أن القاضي الذي سوف يمثل المرء أمامه ليس سوى السلطة التي يصدر عنها التكليف. وعليه، فنحن نعرف من هذه السلطة ثلاثة أنواع: فمن الممكن أن يخضع المرء لتكليف يلزم به نفسه، أو يتلقاه عن أناس آخرين، أو عن سلطة أعلى فعلًا. وفي الحالة

ص: 140

الأولى تأتينا المسئولية من داخلنا، فالمرء يجعل من نفسه مسئولًا عن عمل لم يكلفه به أحد. أما في الحالتين الأخريين فنحن نتلقى المسئولية من خارجنا.

ولكن سواء أكان المرء مسئولًا أمام نفسه، أم أمام الإنسان، أم أمام الله سبحانه فإن حكم المسئولية يصدر دائمًا بوساطة نفس السلطة التي أصدرت الأمر أولًا.

ومن هنا نجد ثلاثة أنواع من المسئولية: المسئولية الدينية، والمسئولية الاجتماعية، والمسئولية الأخلاقية المحضة.

وإن القرآن ليذكر هذه الثلاثة مجتمعة في هذا النظام في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.

ونستطيع أن نقول، بمعنى معين: إن كل مسئولية هي مسئولية أخلاقية، متى ارتضيناها؛ فالمسئولية التي يحملنا إياها غيرنا تصبح بمجرد قبولنا لها مطلبًا صادرًا عن شخصنا. وإذن فليس من المستغرب أن نرى القرآن يقدم لنا المسئولية الدينية ذاتها في صورة مسئولية أخلاقية محضة، حين يقول بمناسبة بعض التعاليم المتعلقة بالصوم المفروض، وقد تحايل بعض الناس على التخلص منه سرًّا:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} 2. وفي كثير من الأحيان لا يكتفي الكتاب، حين يستحث المؤمنين إلى الطاعة، بأن يذكرهم بالأمر الإلهي، بل يذكرهم، في الوقت نفسه، بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم بأن يطيعوا هذا الأمر: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} 3، {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 4.

فعلى حين نستطيع أن نتصور بالنسبة إلى غير المؤمن مسئولية تفرض عليه

1 الأنفال: 27.

2 البقرة: 187.

3 الحديد: 8.

4 المائدة: 7.

ص: 141

من خارج ذاته دون أن تكون لديه مسئولية أخرى صادرة عن ضميره الخاص، نجد المؤمن -على العكس- لا يمكن أن توجد إحدى المسئوليتين لديه دون الأخرى؛ لأن العمل الأول للإيمان يستلزم معرفة الله، الجدير بالطاعة والذي هو في الوقت نفسه محبوب ومعبود.

ولكن في اتجاه آخر، يمكن القول بأنه في سبيل تحقيق أخلاق كأخلاق القرآن يجب أن تنتهي كل مسئولية إلى نوع من المسئولية الدينية أو على الأقل تتبعها. هذه الأخلاق ترى في الواقع، أنه لا الالتزامات الفردية، ولا المؤسسات الاجتماعية، بقادرة على أن تكون مصادر للتكليف، والمسئولية، إلا بواسطة نوع من تفويض السلطة الإلهية. ولنأخذ أولًا المسئولية التي توجدها مبادرتنا الفردية، فلا ريب أن الإسلام يحلها مكانًا فسيحًا، ويدمجها في مجالات كثيرة بالمسئولية التي أقرتها قواعد الشرع المنزل. ومثال ذلك أن المحسن الذي يوقع بإمضائه طوعًا، وبمحض اختياره -لا يمكن شرعًا أن يسحب توقيعه، والشخص الثالث الذي يضمن دينًا على سبيل المروءة يصبح مدينًا بدوره، والتقي الذي يعزم على أداء نافلة، وهو يشهد الله على إقراره-يصبح منذئذ أمام تكليف ملزم، وفي كلمة واحدة، أيما امرئ يعطي كلمة لإنسان بعمل مشروع، حتى لو كان لقاء، يصبح بموجب كلمته مسئولًا مسئولية صارمة، وذلك هو قول الحق سبحانه:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} 1. ويقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" 2. وهو درس يجد أصله في القرآن في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} 3.

1 الإسراء: 34.

2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب 24.

3 التوبة، آيات: 75-77.

ص: 142

ومن البيّن في الأمثلة السابقة أن الإنسان هو الذي يجعل نفسه مسئولًا بتدخل إرادي، لو لم يكن لبقي حرًّا، أن يفعل أو لا يفعل، والمسئولية التي يتحملها حينئذ، أمام الله -كما رأينا- ليست بأقل من المسئولية التي تقع على كاهله، أن يقوم بالواجبات الجوهرية.

ومع ذلك، فمن المستحيل أن نقرر مبدأ "الإلزام الذاتي" هذا -دون قيد أو تحفظ، فلكي تكون وعودنا ورغباتنا صحيحة، قادرة على أن تحدد مسئوليتنا يجب على الأقل أن يكون موضوع تحقيقها نوعًا من الخير الذي سبق إقراره شرعًا. ولذلك يقول الرسول على سبيل الشرط فيما روته عائشة، رضي الله عنها:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"1.

وكذلك الحال بالنسبة إلى مسئوليتنا عن تكاليفنا التي نتحملها تجاه الآخرين، مستقلة عن إرادتنا الفردية. ومثال ذلك أنه لا أحد ينازع حق الوالدين المقدس في احترام أولادهم وخضوعهم لهم، والله يقول:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 2.

بيد أن هذا الحق -على ما جاء في القرآن- لا يخولهما سوى سلطة محدودة ومشروطة، ذلك أن هذه السلطة لا تتوقف فقط عندما يطلبان منّا أن نخون الإيمان، أو نرتكب ظلمًا أيًّا كان:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} 3.

1 البخاري: كتاب النذور، باب 27، وقد صدر البخاري الباب بقوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} "المعرب".

2 الإسراء: 23-24.

3 العنكبوت: 8.

ص: 143

بل إن الوضع ينقلب عندما يرتكبان ظلمًا، وحينئذ يجب على الأولاد دعوتهما إلى الواجب، وبوسعهم أيضًا أن يوقفوهما أمام القضاء. ألا ما أعظم ما يشعر به المسلم نحو أبويه من احترام، وما أعمق ما يكنه لهما من حب، لا سيما1 إذا كانوا على دين واحد، ولكن حبه للحق، واحترامه للعدالة يجب أن يرجح عنده. وعلى حين يحرم قانون نابليون على الابن أن يشهد ضد أبيه وأمه في قضية مدنية أو جنائية2، نجد أن القرآن يقول بعكس ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 3. وعلينا كذلك أن نطيع ولاة أمورنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 4، ولكن بشرط أن يكون ما يصدرون من الأمر مشروعًا، فإذا كانت هذه المشروعية موضع نزاع وجب أن نحتكم في خلافنا إلى كتاب الله، وسُنة رسوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 5، اللهم إلا إذا كان الأمر مخالفة واضحة للقاعدة، فإنه لا يستحق منّا إلا الرفض الصريح المجرد. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما

1 قلنا "لا سيما"، ولم نقل "وبخاصة"، والواقع أن القرآن يعلمنا أن اختلاف الرأي الديني لا يعفي الأولاد مطلقًا من أن يسلكوا مع أبويهم بعدل واحترام ومودة، وفي آية لقمان 15:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولم يرد القرآن بذلك أن يجعل من هذا الواجب الإنساني امتيازًا مقصورًا على الأبوين، فهو يعلمنا بعكس ذلك أن الناس جميعًا -بقطع النظر عن عقائدهم- يجب أن يتمتعوا بعدالتنا وبرّنا:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .

2 انظر: code napoleon، livre i، Tur 21.

3 النساء: 135.

4 النساء: 59.

5 النساء: 59.

ص: 144

أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 1.

ومن الواجب علينا أخيرًا الوفاء بالعقود والالتزامات تجاه إخواننا، والله يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِْ} 2. ويقول الرسول: "المسلمون عند شروطهم" 3، بيد أنه: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" 4، "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا" 5.

فمن حيث المبدأ، ليس يوجد، ولا يمكن أن يوجد، في الأخلاق الإسلامية، تصادم بين واجب المواطن الصالح، وواجب المسلم الصالح، فكلا الأمرين يتبع نفس القانون، الذي يأتي من مصدر تشريعي واحد، بيد أنه من المحتمل أن نواجه بعض المطالب الجامحة من الرؤساء، والتي قد تخلق هذا التصادم، ومع ذلك فالقاعدة جد بسيطة، لخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة صارت مثلًا:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"6.

1 البخاري: كتاب الأحكام، باب 3:"وروى البخاري عن علي، رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمّر عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا فأوقدوا، فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض. قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار، أفندخلها؟! فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف". "المعرب".

2 المائدة: 1.

3 البخاري، كتاب الإجارة، باب 14.

4 المرجع السابق، كتاب الشروط، باب 12.

5 ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب 23.

6 مسند أحمد 5/66 عن عمران بن حصين.

ص: 145

ولنفترض الآن أن هذه الأوامر على تنوعها متوافقة، وأن الواجب الذي نفرضه نحن، أو تفرضه سلطة إنسانية، مطابق للقاعدة القرآنية -حينئذ سوف تتعلق حالتنا بالمجالات الثلاثة للمسئولية، أي: أننا سنكون مسئولين أخلاقيًّا، واجتماعيًّا، ودينيًّا، فهل معنى ذلك أن هذه الدرجات الثلاثة في الحكم تندمج معًا أو تتوافق تمامًا؟ كلا، فكل نوع من المسئولية سوف يحتفظ دائمًا بصفاته وشروطه الخاصة، ولن يكون تمايزها فقط من حيث إن المسئولية الأخلاقية تمارس على الفور، وبطريقة ثابتة، على حين أن المسئولية الاجتماعية لا تقوم بوظيفتها إلا خلال آجال تتفاوت طولًا وقصرًا، والمسئولية الدينية لا تظهر واضحة إلا يوم الدين، كذلك لن يكون هذا التمايز فقط من حيث إن الجزاء الأخلاقي يتم بخاصة داخلنا، والجزاء الاجتماعي يلمس مباشرة أجسامنا، وأموالنا، وحقوقنا المدنية، وهو لا يؤثر في شخصنا إلا بواسطة هذه الأحداث الخارجية، على حين أن الجزاء الإلهي يلمس النفس، والجسم معًا، بعقوبة رهيبة أو بجزاء حسن في حياة خالدة. ليس هذا كله فحسب، ولكن ما هو أكثر من ذلك أن الشروط التي تستقر فيها -من ناحية- مسئوليتنا الأخلاقية والدينية، ومن ناحية أخرى مسئوليتنا الاجتماعية، ليس لها نفس الامتداد في التشريع الإسلامي.

ونبدأ ببحث شروط المسئولية الأخلاقية والدينية التي استفاضت بها نصوص القرآن، بيد أننا ينبغي أن نؤكد أولًا على طابع الشمول في مبدأ المسئولية، الذي بسطه الكتاب على جميع المخلوقات العاقلة، دون تفرقة بين عقل إنساني، وعقل فوق - إنساني، بل دون أدنى تفرقة بين عامة الناس، والصالحين منهم، ولنستمع إلى قول الله تبارك وتعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} 1، وقوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ

1 مريم: 93.

2 النحل: 92-93.

ص: 146

الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 1، ولا ريب أن المقصود في هذه النصوص هو المسئولية أمام الله، في يوم الفصل الأخير.

ولكن لننظر في الآيات الآتية المكان الذي خص به القرآن المسئولية الأخلاقية، وكيف أنه حتى في هذه اللحظة الحاسمة، يقدم محكمة الضمير، كيما يعد الحكم الأعلى، ويسوغه، يقول الله سبحانه:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 2، ويقول:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت} 4. هذه الشمولية من ناحية الفرد تتضاعف من ناحية أخرى، ناحية الموضوع، ففي تلك اللحظة، سوف تحضر جميع الأعمال التي حدثت، في الحياة الدنيا، في أذهان أصحابها: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 5.

بل إن الحساب لن يطلب عن جميع الأعمال الظاهرة والخفية، فحسب، {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 6، وإنما سوف يقدم حساب عن مجموع استخدامنا لملكاتنا وقدراتنا، وكل مال طبيعي، موروث أو مكتسب: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ

1 الأعراف: 6.

2 الإسراء: 14-15.

3 التكوير: 14.

4 الانفطار: 5.

5 الكهف: 47-49.

6 البقرة: 284.

ص: 147