المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ النية كشرط للتصديق على الفعل: - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

3-

إرادته بالتحديد، على أنه شيء مأمور به، أو مفروض.

فهذه الفكرة إذن هي الشعور الذي يتحقق لدينا من نشاطنا الإرادي، سواء حين يكون هذا النشاط على وشك أن يمارس، أو خلال ممارسته، مع معرفتنا أننا نسعى بذلك إلى أداء واجب ملزم. فإذا حددنا هذه الفكرة على هذا النحو فإنها سوف تقدم لبحثنا عددًا من المشكلات التي تطلب حلًّا: ما الذي يحدث إذا ما غابت النية كليًّا، أو جزئيًّا؟ وإلى أي حد يمكن للنية أن تغير طبيعة العمل؟ وهل تكون الغلبة في الفعل الأخلاقي التام، للعمل أو للنية؟ وإلى أي حد تستطيع النية بمفردها أن تقوم بدور واجب كامل؟

ص: 425

أ-‌

‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

أما بالنسبة إلى المسألة الأولى، وهي المسألة التي تتصل بغيبة النية، فلكي نزيدها تحديدًا يجب أن نتذكر أولًا ما سبق أن قيل في موضوع المسئولية.

ولقد رأينا1 كيف أن الشرع الإسلامي يضرب صفحًا عن أي عمل ينقصه أحد العنصرين النفسانيين: المعرفة، والإرادة. فالعمل اللاشعوري، أو الحدث المادي الصرف، الذي يحدث عن طريقنا، دون أن نشعر به، بأن نكون نائمين مثلًا، هذا العمل لا يمكن أن يوصف بحسن أو قبح، ما دام لا يمكن أن نحاسب عليه. ومن هذا القبيل العمل الشعوري، حين يكون غير إرادي، إنه حدث يتم بعلمنا، ولكن مستقلًّا عن إرادتنا، في صورة طارئ نتعرض له، صادر عن قوة لا تقاوم، وذلك كحادث أو تصادم.

ولقد كنا نقول حتى الآن: إن المبادئ القانونية، والمبادئ الأخلاقية تسير جنبًا إلى جنب. بيد أنها تبدأ في الافتراق منذ أن يصبح الأمر متعلقًا.

1 انظر فيما مضي ص334.

ص: 425

بعمل شعوري وإرادي، ولكن يفتقر إلى النية؛ أي: حين يدور القانون على جانب منه، وتدور الإرادة على جانب آخر، بحيث إنه، على الرغم من كونه من الناحية المادية يمكن اعتباره متفقًا مع القانون، أو مخالفًا له، فإنه لا يمكن أن يكون كذلك من حيث الروح التي تم بها، وتلك هي حالة القتل الخطأ، أو أي حدث يتم بنية حسنة، ولكنه يسبب أضرارًا للآخرين.

فعلى حين يعلن القانون الأخلاقي، كما يعلن قانون العقوبات من جانب آخر:

أن أعمالنا لا تنسب إلينا إلا بقدر النية التي نؤديها بها، فإن القانون المدني يحاول أن ينفذ هنا نوعًا من الحل الوسط: فهو، وإن كان يبرئ الشخص، يستخدم جزءًا من ثروته لإصلاح الضرر الذي تسبب فيه.

هذه الاعتبارات التي قدمناها من وجهة نظر المسئولية والجزاء، يجب أن نعيد تناولها هنا من وجهة نظر التصديق على الفعل، فمن هذه الزاوية الأخيرة يبدو أن ما وصلنا إليه من نتائج يتعرض للنقض أو الهجوم، في مواضع مختلفة، حيث يظهر الشرع الإسلامي قانعًا بما حصل من نتيجة، حتى لو كانت تحدث ضد نيتنا، أو حتى دون علمنا.

ويمكن تشبيه ذلك بسداد دين معين عن طريق طرف ثالث، دون أن يقوم هذا الأخير بإخطار المدين، أو يسترجع ماله منه.

وحتى لو أن الدائن لجأ إلى تصرفات قاسية، فبلغ به الأمر أن ينتزع حقه انتزاعًا، فلن يعود له شيء يطالب به.

ومن الممكن أن يتم أداء الأمانة، والمساعدة المادية للمعوزين، في نفس الظروف، حتى إنه في حالة رفض الأغنياء أن يدفعوا زكاة العشر، فإن الحكومة تستطيع، بل يجب عليها، أن تتصرف بكل أنواع الضغط على

ص: 426

الأغنياء، حتى تضمن للفقراء حقهم. ولا شك أننا نعرف خبر المعركة القاسية التي خاضها الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه في هذا الشأن1.

بيد أن جميع الحالات التي ذكرناها لا تمثل صعوبات خطيرة، ولا هي بحيث تحير الأخلاقي. غير أن الحقيقة -في واقع الأمر- أننا لا نعفى إعفاء كاملًا من واجباتنا نتيجة حدث يقع مستقلًّا عنا، أو رغم إرادتنا. ويجب في الأمثلة السابقة أن نميز بين جانبين مختلفين للواجب، ذلك أنه إذا كانت العدالة تقتضي أن يتملك كل إنسان من الطيبات ما له فيه حق -فإن ذلك ينتج عنه تكليف مزدوج: أولًا: على من يحوز الشيء مناقضًا في حيازته الشرع أن يرده إلى مالكه، وثانيًا: على الأمة أن تحرص على ألا تضيع حقوق أصحاب الحقوق أو تهضم، فإذا لم يتم الأداء بوساطة الحائز لزم التدخل لإقرار النظام.

وليست الدولة وحدها، وهي الهيئة العليا التي تمثل المجتمع في هذه المهمة العامة -هي التي يجب أن تعمل لكي تسود العدالة بين الناس، بل إن كل عضو في الجماعة خاضع لهذه الضرورة الأخلاقية، في حدود وسائله المشروعة، بحيث يترتب على ترك الرذيلة تستشري، والعدالة مختلة -أن يصبح التقصير جريمة شاملة.

وإذن فإن أولئك الذين يؤدون واجباتي الاجتماعية، بدلًا مني، أو أولئك الذين يحملونني على أدائها على الرغم مني -هؤلاء وأولئك لا يفعلون ما يفعلون من أجلي، بل من أجلهم هم، بمقتضى واجب آخر، فليقم من شاء بهذا

1 كان ذلك من أسباب حروب الردة، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه آنذاك:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها". البخاري، باب وجوب الزكاة. "المعرب".

ص: 427

إن على الأمة وحدها يقع عبء حفظ النظام العام، والدفاع عن الحق المشترك، ومنع الظلم الظاهر، وعلى كل منا أن يراقب موقفه الباطني، وأن يتحقق من توافقه مع روح الشريعة.

ولكن، ألا يجب منذئذ، ومن وجهة النظر التي نقول بها الآن، أن ننتهي إلى "الموضوعية المحضة" في التشريع الاجتماعي الإسلامي؟

الواقع أن المبدأ الذي يستخلص من هذا البحث مختلف اختلافًا تامًّا عن المبدأ الذي رأيناه حتى الآن. فعلى حين قد رأينا أن "الأخلاقية" و"المشروعية" لم تكونا تفترقان من حيث المسئولية والجزاء إلا في منتصف الطريق، إذ بنا نشهد الآن انفصالًا أساسيًّا من حيث قبول الفعل، بين القانون الأخلاقي، والقانون الاجتماعي، منذ البداية.

فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريًّا، وإراديًّا، وانعقدت عليه النية في آن واحد.

ولا شيء من هذه الشروط بضروري للنهوض بالتكليف الاجتماعي، وإنما يجب، ويكفي، أن يستوفي العمل بعض الشروط الموضوعية المحضة، المتعلقة بالمكان، وبالزمان، وبالكم، وبالكيف، حتى لو تحققت الصور الواقعية منه وحدها، دون علم، ودون إرادة، وسواء أكان نتيجة إكراه، أو صدفة.

ولا ريب أن الرأي العام لا يرضى تمامًا بهذا، فهو يرفض قطعًا أن يمنح تقديره للأحداث التي تقع في ظروف كهذه، بيد أن وجهة النظر التي يتخذها في هذا التقدير ذات طابع أخلاقي خالص.

وربما كان أخطر الاعتراضات هو أن نكشف عن وجود أفعال أخلاقية

ص: 428

إن على الأمة وحدها يقع عبء حفظ النظام العام، والدفاع عن الحق المشترك، ومنع الظلم الظاهر، وعلى كل منا أن يراقب موقفه الباطني، وأن يتحقق من توافقه مع روح الشريعة.

ولكن، ألا يجب منذئذ، ومن وجهة النظر التي نقول بها الآن، أن ننتهي إلى "الموضوعية المحضة" في التشريع الاجتماعي الإسلامي؟

الواقع أن المبدأ الذي يستخلص من هذا البحث مختلف اختلافًا تامًّا عن المبدأ الذي رأيناه حتى الآن. فعلى حين قد رأينا أن "الأخلاقية" و"المشروعية" لم تكونا تفترقان من حيث المسئولية والجزاء إلا في منتصف الطريق، إذ بنا نشهد الآن انفصالًا أساسيًّا من حيث قبول الفعل، بين القانون الأخلاقي، والقانون الاجتماعي، منذ البداية.

فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريًّا، وإراديًّا، وانعقدت عليه النية في آن واحد.

ولا شيء من هذه الشروط بضروري للنهوض بالتكليف الاجتماعي، وإنما يجب، ويكفي، أن يستوفي العمل بعض الشروط الموضوعية المحضة، المتعلقة بالمكان، وبالزمان، وبالكم، وبالكيف، حتى لو تحققت الصور الواقعية منه وحدها، دون علم، ودون إرادة، وسواء أكان نتيجة إكراه، أو صدفة.

ولا ريب أن الرأي العام لا يرضى تمامًا بهذا، فهو يرفض قطعًا أن يمنح تقديره للأحداث التي تقع في ظروف كهذه، بيد أن وجهة النظر التي يتخذها في هذا التقدير ذات طابع أخلاقي خالص.

وربما كان أخطر الاعتراضات هو أن نكشف عن وجود أفعال أخلاقية

ص: 429

لا علاقة لها بالحياة الاجتماعية، وهي أفعال قد يقنع القانون فيها، سواء بالتعبير المادي عن الواجب في غيبة واقعه النفسي، أو بمجرد حضور هذا الواقع النفسي، دون أن يتطلب منه واقعًا أخلاقيًّا، وهو الواقع الذي تؤلف فكرة الواجب فيه جزءًا جوهريًّا من العمل الشعوري المقبول بحرية تامة. إن أفعالًا كهذه لا ينبغي أن توجد من حيث المبدأ:

أولًا: لأن القرآن يتطلب منا الشعور النفسي، وحضور الذهن فيما نقول، وفيما نفعل، وذلك حين يمنعنا من أن نتصور أداء واجباتنا المقدسة ونحن في حال شرود، أو إغماء، أو سكر:{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1.

ثم هو يتطلب منا بعد ذلك الضمير الأخلاقي، بالمفهوم الأسمى لهذه الكلمة: رضا القلب، وتلقائية الفعل، والسرور، والهمة التي يؤدى بها الواجب. تلكم هي الصفات التي تجعل أعمالنا مقبولة عند الله. وهذا هو السبب فيما أعلنه القرآن من أن أولئك الذي يقدمون بعض الصدقات، أو بعض شعائر التقوى، كسالى مرغمين -لن تقبل أعمالهم عند الله أبدًا:{وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 2. وهو أيضًا السبب في أنه وصف هؤلاء الناس الذين لا إيمان لهم، ولا شجاعة عندهم، والذين يتظاهرون جبنًا بالإيمان المنافق، عن خوف، لا عن اقتناع -وصفهم بأنهم ليسوا مطلقًا في عداد المؤمنين: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون} 3.

والشرط الصريح للأخلاقية "وللإيمان ذاته" يتمثل، كما حدث القرآن،

1 النساء: 43.

2 التوبة: 54.

3 التوبة: 56.

ص: 430

في أن يقبل المرء مختارًا جميع أوامر الشريعة، وأن يخضع نفسه لها كلية، لدرجة ألا يجد شيئًا يتردد في نفسه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.

بيد أننا لكي نقدم للقارئ قولة عامة تلخص وتستوعب بلا حدود هذه الأمثلة القرآنية -لا نجد خيرًا من أن نذكر تلك القولة المحمدية التي جعلها البخاري في صدر صحيحه من الحديث الشريف: "إنما الأعمال بالنيات"، وهذه القولة التي يتجرمونها عادة بمعنى:"إن الأعمال لا قيمة لها إلا بنواياها"، -هي في الواقع أكثر مضمونًا ووضوحًا من ترجمتها؛ إنها تقول بالحرف:"إن الأعمال لا توجد "أخلاقيًّا" إلا بالنوايا".

ومع ذلك فقد توجد بعض الواجبات الفردية، وبتعبير أدق: بعض الشعائر الدينية، تغاضى الفقهاء المسلمون بشأنها عن غيبة النية، وهو موقف عام لهم، إن لم يكن إجماعًا بينهم. ومثال ذلك حالة الاستبراء والتطهر، وسائر مقدمات الصلاة، فمن المعروف أن على كل مسلم إذا أراد أداء الصلاة أن يمر قبلها بنوع من مرحلة الانتقال، وهو الانتقال من العالم المدنس للحياة الأرضية، إلى العالم المقدس للحياة الروحية، فيجب أولًا أن يزيل النجاسات والوساخات من مكان عبادته، كما يزيلها من بدنه، وملابسه، وهي الملابس التي ينبغي أن تكون ذات هيئة محتشمة. ويجب فضلًا عن ذلك أن يقوم، تبعًا للحالة، بتوضؤ جزئي "فيغسل الوجه، واليدين، والقدمين، ويمسح شعره"، أو بتوضؤ كلي "بأن يغتسل اغتسالًا كاملًا". ويجب أخيرًا

1 النساء: 65.

ص: 431

أن يولي وجهه شطر الكعبة1 في مكة، وأن يظل على هذا الوضع طوال الصلاة.

وإذن، فقد انعقد الإجماع تقريبًا، فيما يتعلق بالتوجه، واللباس، والنظافة الطبيعية -على أنه لا يلزم أن يكون أداؤها عن نية وإرادة، أما فيما يتعلق بالنظافة الدينية المحضة "الوضوء والغسل"، فقد اختلفت المذاهب: فعلى حين تشترط لها مذاهب أهل الحجاز ومصر "المالكية، والشافعية والحنابلة" -وجود النية، على أساس أنها واجب بالنظر إلى الصلاة، يكتفي مذهب أهل العراق "الحنفي" بالواقع الموضوعي، متى التزم في دقة، حتى لو كان عن غير نية.

وقد ثار خلاف كهذا حول الوقوف على جبل عرفات، أثناء أداء الحج بمكة.

فكيف إذن نفسر هذه الاستثناءات التي تؤدي إلى تقويض المبدأ العام، مبدأ النية، الذي أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لازم لا ينفصل عن كل نشاط أخلاقي؟

حاول أتباع الفقه العراقي لذلك تفسيرين، فبدءوا بتبني التأويل الشائع للحديث عن النية، وأن بطلان العمل غير المصحوب بالنية هو وجه من وجوه الكلام فحسب، فالنية شرط ضروري، لا لوجود العمل الأخلاقي في ذاته، أي: صحته، بل لكماله، واستيفائه قيمته الكاملة. وهكذا يقررون مع خصومهم في الرأي أن الواجب الذي لا يؤدى بحضورالقلب، بل باعتباره أمرًا -لن تكون له قيمة إيجابية، ولن يستوجب أية مكافأة، ولكنهم

1 أكد القرآن أنها أقدم مكان للعبادة وجد على الأرض {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس} [آل عمران: 96] .

ص: 432

لا يرونه باطلًا مطلقًا، أو ذنبًا، وحسبه أنه يكفي لإبراء صاحبه من التكليف بإعادته مع النية.

فإذا أتى هؤلاء الشراح إلى افتراض أن الحديث ينص على الإبطال الكلي للعمل غير المصحوب بالنية، التزموا بتقييده، حيث يطبقونه فقط على الواجبات الأساسية، التي يؤمر بها لذاتها، لا لغيرها من الواجبات الأخرى.

ومن ثم تفيد أشكال الطهارة من هذا التجاوز؛ لأنها لم يؤمر بها إلا كمقدمات للصلاة، التي تعتبر هنا الواجب الأول.

هذا التفسير المزدوج لا يبدو لأعيننا كافيًا؛ لأنه في جزئه الأول يهمل المعنى الحقيقي للكلمات دون ضرورة ظاهرة، وهو في جانبه الثاني يستبعد جميع الواجبات المساعدة بصورة منهجية، على حين أن من بينها واجبات ينبغي أن تؤدى صراحة -تبعًا لنفس المذهب- باعتبارها واجبات:"ومن ذلك الطهارة الرمزية التي يطلق عليها: التيمم".

ولسوف نحاول من جانبنا أن نستخلص السبب الحقيقي في هذا التجاوز، لدى هؤلاء وهؤلاء.

وفي رأينا أن جميع الحالات المتجاوز عنها لا تمثل تقييدًا يرد على مبدأ النية، وإنما هو مجرد اختلاف في فهم الموضوع الذي تستهدفه قاعدة أو أخرى من القواعد العملية. وهذا الاختلاف ينحصر في كلمتين:"العمل"، و"الكينونة"، والواقع أنه طالما كان الأمر أمر نشاط تجب ممارسته، فإن هذا النشاط لا يمكن أن يكون إلا إراديًّا، ولن تكون له الصفة الأخلاقية، إلا إذا كانت الإرادة قائمة على الطابع التكليفي لهذا النشاط. فالأخلاقية والنية صنوان لا ينفصمان.

فأما إذا كان الأمر بالعكس، مجرد حالة حدوث، فهنا لا تهم كثيرًا

ص: 433

الطريقة التي تحدث بها هذه الحالة، بل لا ينبغي أن يستثنى من ذلك أن تحدث بوساطة الصدفة، أو المعجزة. ومن الواضح في هذه الظروف أن النتيجة التي يحصل عليها بأية وسيلة، سوف تعفينا مطلقًا من تكاليفنا، حيث كان الواجب أن يكون شيء فحسب، ولقد كان.

وعلى ذلك، فإننا نعتقد أن هذه الاستثناءات كلها تقوم على سبب عميق هو أننا ندرك أحيانًا من وراء الواجب الإيجابي الفعَّال الذي يقتضي بالإجماع حركية الإرادة -ضرورة أخرى سلبية أو منفعلة، أي: واجبًا ساكنًا1 "غير حركي" إن صح التعبير.

ولقد نتصور بعض القوانين على أنها لا تستوجب فحسب نشاطًا من جانبنا، ولكنها تستوجب كذلك نتيجة ينبغي بلوغها بأي ثمن، بل وقد لا تستهدف غير هذه النتيجة. وأما مسألة معرفة ما إذا كان هذا القانون أو ذاك له فعلًا أهداف كهذه -فهي مسألة تفاصيل، تهم أكثر ما تهم حالات التطبيق، ونحن لا يعنينا سوى أن نستخرج وجهة النظر العامة، التي تحكم كل هذه الترخصات.

وقد ميز علم أصول الشريعة الإسلامية في شرح القانون بين ضربين:

أولهما: خطاب تكليف، وهو الذي يقوم على فعل شيء أو تركه.

وثانيهما: خطاب وضع، ويراد به وضع الشروط والأسباب، وبيان حال الصحة وعدمها2.

1 عبارة "حركية الإرادة" هي ترجمة لعبارة le dynamisme وعبارة "واجبًا ساكنًا" ترجمة لعبارة un devoir statique -وهما متقابلتان. "المعرب".

2 انظر في هذا الموافقات للشاطبي 1/ 287. "المعرب".

ص: 434

ومن الثابت في هذا العلم أن الأفراد الذين يعجزون عن أن يكونوا موضع تكليف ليسوا بأقل أهلية لأن تتوجه إليهم الأوامر الوضعية.

ولذلك يفرض في مال الصبية والمجانين ما يفرض في مال الآخرين من أفراد الجماعة، ومتى ما أديت هذه الفرائض في أوانها أصبحت الشريعة مستوفاة استيفاء كاملًا، بمعنى أن هؤلاء الأفراد القاصرين عندما يبلغون، أو يستردون شخصيتهم الأخلاقية لن يلزمهم أن يدفعوا مرة أخرى بالنسبة إلى الماضي، دفعًا مقرونًا بالنية.

وها نحن أولاء من خلال التفرقة التي أجريناها بين "واجب العمل" و"واجب الكينونة" -قد أبرزنا فائدة تلك الفكرة القانونية القديمة، بل جعلناها أكثر وضوحًا، وأشد بساطة، وبسطنا امتدادها إلى الأفعال الأخلاقية. أما وقد بسطت ووسعت هذه الفكرة على هذا النحو، فإنها تصبح قادرة على أن تحل مباشرة المجموعتين من الصعوبات التي صادفناها آنفًا، ولن يكون من العسير أن نتحقق من صدقها في جميع الحالات المذكورة من قبل؛ فردية أو اجتماعية، والتي كان فيها للفعل الذي تم عن جهل، أو بالإكراه -نصيب من القبول والموافقة.

هل نحن بحاجة إلى القول بأن كل هذه المحاولات ليس الهدف منها أن نرد إلى الموضوعية في الأخلاق اعتبارها، وأن نخلع بعض القيمة على العمل غير المصحوب بالنية؟!

من البداهة بمكان أن فعلًا كهذا لا يمكن أن ينسب إلى أحد من الناس، فهو عمل يبدو وكأنه لا يحمل اسمًا، ولا يعقب أدنى فضل للفرد. ولقد رأينا كيف أن المدرسة العراقية، وهي أقل المدارس اقتضاء في موضوع النية كشرط "لصحة الفعل" تنضم إلى المدارس الأخرى في حتمية وجود

ص: 435