الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النية كشرط "لقيمة الفعل"، أي: شرط كمال، وإذن، فإن الإجماع في هذه النقطة أمر حاصل ويتعين، على العكس، أن نعثر على هذا الإجماع في النصف الثاني من المسألة، أعني أن نبين أنه طالما كان الأمر متعلقًا "بواجب حقيقي إيجابي" -فإن أي مذهب إسلامي -فيما نعلم- لم يسلم بالصحة الأخلاقية لأي عمل موضوعي تنعدم فيه فكرة الواجب من الضمير. ولقد رأينا فعلًا أنه حيثما توفرت هذه الصحة للفعل أحيانًا أمكن تصور القانون في صورة "عدالة محايدة"، و"غير شخصية"، تستهدف الشيء، لا الشخص، حتى كأن الصيغة لم تكن في هذا الصدد:"يجب أن تفعلوا"
…
ولكن: "من الضروري أن يكون هذا"، أي: إنهم بدءوا بإلغاء فكرة التكليف، في حالة معينة، بالمعنى الأخلاقي للكلمة.
وهكذا نجد أن الارتباط العام والضروري الذي أقره الحديث بين "العمل" و"النية" محترم بالإجماع.
ب-
النية وطبيعة العمل الأخلاقي:
لقد أتاح بحث المسألة الأولى، الخاصة بغيبة النية، أن نثبت مبدأ النية، كشرط صحة أخلاقية في كل عمل. فالحدث اللاشعوري، والحدث اللاإرادي، بل والعمل الشعوري الإرادي الذي لا يتصور على أنه خضوع "أو إخلال" بتكليف، وإنما يؤتى من جانبه الطبيعي الدنيوي -هذا كله عاجز عن الوفاء بواجبنا، عندما يجب.
ولنبحث الآن الدور الإيجابي للنية، أعني: درجة فاعلية وجودها.
وأول ما نبحثه هو مسألة معرفة ما إذا كان لها أن تحدث تعديلًا عميقًا في طبيعة العمل ذاتها، وبعبارة أخرى: ما إذا كان العمل السيئ الذي وقع
بحسن نية يكتسب بذلك قيمة أخلاقية، ويصبح على هذا النحو عملًا فاضلًا، وفي الحالة المضادة هل يكون عكس هذه الحالة صحيحًا؟
وقبل أن نجيب عن هذه المسألة نعتقد أن من الواجب أن نتذكر معنى المصلحات التي تصاغ بها. فما المراد بعبارة: نية حسنة أو سيئة؟
إننا ما زلنا نفترض أن الإرادة حبيسة في أعمالها، وكيفيات هذه الأعمال، بصرف النظر عن جميع الدوافع التي قد تحملها عليها.
ومن ثم، فإن حسن النية لا يمكن أن يتمثل هنا في شرف الغايات التي قد تتحرك بها الإرادة. ومع أن دراسة هذه الفكرة الغائية يجب أن نستبقيها للقسم الثاني من هذا الفصل، فإن قيمة النية تنبع هنا فقط من الطريقة التي نحكم بها على مشروعاتنا، من حيث اتفاقها أو اختلافها مع القانون. ولما كانت أحكامنا الأخلاقية لا تتوافق بالضرورة مع واقع الأشياء، فقد يكون بينها وبين الإرادة فاصل، حين تسعى الإرادة إلى بعض الأمور على أنها مطابقة أو مناقضة للواجب، ولكنها لا تكون كذلك في الواقع.
والمسألة، في الحقيقة، هي في محاولة معرفة ما إذا كان يكفي أن نحكم بصدق على عمل ما بأنه مباح أو ممنوع، وأن نتابعه بهذا الاعتبار، لكي يكتسب الصفة التي أسبغناها عليه، إن لم يكن في ذاته، فعلى الأقل بالنسبة إلينا.
وتلك مسألة يصعب علينا إلى أقصى حد أن نعطي عنها إجابة قاطعة، بالإيجاب أو بالنفي.
ذلك أننا، من ناحية، لو التزمنا بدقة التعبير، وأخذنا بالفكرة القائلة بأن النية الحسنة هي في ذاتها الخير الأخلاقي:"الخير المطلق بلا قيود"،
"الخير الوحيد في العالم، بل وفيما وراء العالم"1 فلسوف يقودنا ذلك منطقيًّا، لا إلى تسويغ جميع الأخطاء، والضلالات، التي تحدث للضمير فحسب، بل إلى أن نتخذ منها قيمًا مطلقة، ونماذج كاملة من نماذج الفضيلة، ولسوف يكون محاولة مخفقة أن نرجو إبعاد هذه الحالات على أنها:"أعمال مناقضة للواجب" -كما حاول "كانت" بعد ذلك بقليل أن يفعل؛ لأن الحالات المذكورة على وجه التحديد يفترض صاحبها أنها مطابقة للقاعدة. ولو عنَّ لإنسان أن يتطلب خارج مجال النية مطابقة مادية للقانون، على ما هو عليه في ذاته فلن يعدو الأمر حينئذ أن يهدم ما هو بسبيل بنائه، حيث يرجع بهذه الطريقة عن مبدأ القيمة المطلقة للإرادة الطيبة، الذي يريد اتخاذه كأساس.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لو أننا اعتبرنا توجيهات الضمير عاجزة عن تغيير أي شيء في طبيعة العمل، فإن أكثر الطوايا إثمًا، وأشد النوايا سوادًا ينبغي أن تتقبل في نطاق الأخلاقية كما تتقبل أكثر النوايا استنادًا للمسوغات الطيبة، بشرط واحد هو أن تبدو مادة العمل دون أي مأخذ عليها في نظر الشرعية.
وهكذا نحن عاجزون عن الإجابة بنعم، أو بلا، إجابة قاطعة، فالمشكلة تضعنا أمام مأزق يبدو من الصعب الوصول إلى مخرج منه. ومع ذلك فإن هذه الصعوبة المزدوجة تتعلق تعلقًا واضحًا بتطلب للمطلق، زائد عن الحد، وهو تطلب لا يجد هنا أدنى صدى في الضمائر النزيهة، والواقع أننا لا نستطيع في تقديراتنا الأخلاقية أن نقرر أن آراءنا الباطنة لا تأثير لها في أعمالنا الظاهرة، ولكنا لا نذهب في هذه الطريق إلى حد إلغاء قيمة هذه الأعمال. فمهمة الفلسفة الأخلاقية التي تريد أن تبقى قريبًا من
1 انظر: Kant، Fondements.، lere phrase de la lere section
"أحداث الضمير" الذي تفسره -سوف تنحصر إذن في استخلاص ألوان هذا الشعور العادل، وإبرازها -بالرغم مما يشوب هذا الشعور من غموض- ثم ترسم لها الحدود بقدر ما تستطيع من دقة.
فكيف حاول كبار الأخلاقيين المسلمين أن ينهضوا بهذه المهمة؟ وبم يتعلق الأمر أخيرًا؟
إن هناك بالنسبة إلى من يتخذ قرارًا أخلاقيًّا أربع حالات ممكنة: فهل هو يريد أن يعمل طبقًا للقانون، أو على الرغم منه؟ وفي كلتا الحالين، هل طريقته في العمل ذاتها موافقة لما يأمر به القانون؟ أم هي عكس ما يأمر به؟
فلنترك جانبًا الحالات التي ينفق فيها حكمه مع الواقع، إذ لا توجد في هذا الفرض أية صعوبة تواجه الأخلاقي. ولنقف عند الحالات التي يتباين1 فيها الذاتي من الموضوعي، فأي الرأيين يجب أن نتخذ منه مقياسًا للتقدير؟ أهو طريقتنا في تصور هذا العمل، أو ذاك، ووجه حكمنا على اتفاقه أو تعارضه مع القاعدة، التي تقرر نهائيًّا قيمة سلوكنا، والتي تطبع عليه طابعها الأخلاقي؟
…
تلكم هي المسألة.
وإنا لنلاحظ في هذا الصدد أن إجابة الأخلاقيين المسلمين لا تتبع دائمًا خطًّا متوازيًا: فتارة يكون العامل الحاسم في حكمهم باللوم هو النية، وتارة
1 سوف نعالج فيما بعد نوعًا آخر من الانحراف الذي يتمثل، لا في جهل الصفة الشرعية للعمل في ذاتها بل على وجه التحديد في إرادة استعمال هذه الشرعية حرفيًّا لإخفاء عملية أخرى يحرمها الشرع. وتلك هي الحيل التي يستعملها بعض رجال الأعمال. من أجل أن يحللوا الربا والغش فيما أحل الله. ففي هذه الطريقة في النظر نجد أن الاختلاف لا ينصب على الموضوع المباشر، بل على غاياته، وإنا لنرجئ دراسته إلى القسم الثاني من هذا الفصل، حيث سيكون موضوع بحثنا أن نتناول نيتين، تتبع إحداهما الأخرى "انظر فيما بعد 2، 5، 3".
جرم العمل، والحالة الأولى هي حالة عمل مطابق للشرع مع نية مخالفة، والحالة الثانية عكس الحالة الأولى.
1-
فعندما يخطئ من يقوم بعمل ما في حقيقة الطبيعة الأخلاقية لهذا العمل، ثم ينفذه مع تصوره أن مشروعه يسير ضد القاعدة، وهو ينوي مخالفة الواجب -فليس من شك في أنه يدين نفسه بهذه الطريقة في السلوك. هنا نجد أن "مادة العمل ليست بشيء، وأن النية هي كل شيء"، وذلك هو الحكم الصريح لفقهاء المسلمين بإجماع.
والأمثلة التالية ترينا بصورة كافية كيف أنهم يمدون هذا الحكم إلى كل مجالات الواجب، ومن ذلك أن يستولي رجل على مالٍ يعتقد أنه لغيره، ولكنه في الواقع ماله الخاص. وآخر: يخطئ الحكم على عصير فاكهة قدم له، فيأخذه على أنه خمر، ويشربه بهذه النية، على حين أنه غير محرم فعلًا. وثالث: يعتقد أنه سوف يموت في ساعة معينة، ومن ثَمَّ يجد نفسه مضطرًّا إلى أن يصلي مقدمًا، دون أن يؤدي هذه الصلاة في وقتها، مع أن مخاوفه لو تبددت لأداها في أوقاتها العادية. وعلى سبيل الإيجاز: إن كل من يشرع في عمل خاطئ في نظره، وإن كان مشروعًا في ذاته، يرتكب بهذه النية الآثمة جريمة في حق الشرع الأخلاقي، على الرغم من هذه المطابقة المادية، التي تنجيه قطعًا من الجزاء الشرعي.
2-
أيكون الأمر على هذا النحو في الحالة المناقضة؟ وهل للنية الحسنة هذه القوة المغيرة التي تجعل الشر خيرًا؟
وإليك مثالًا: فنحن نعلم أن كثيرين من الناس شديدو التأثر والحساسية تجاه مقدساتهم، لدرجة أن أية إساءة توجه إلى آلهتهم الزائفة، التي يعبدونها -قد تستدعي من جانبهم أن يجدفوا في حق الله المعبود بحق؛ ومن ثم نهى
القرآن الكريم عن هذه الإثارة فقال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. ولكن، لو أن مؤمنًا غيورًا دفعته حرارة إيمانه إلى أن يعبر -دون تعقل- عن احتقاره للأصنام، دون أن يفكر في ردود الفعل المحتملة على هذا النحو، أفلن يكون معذورًا بنزاهة قصده؟
ومثال آخر: إن الأخلاق القرآنية تذم المجدفين والمغتابين: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} 2، بالقدر الذي تذم به الذين يسمعون لهم دون اعتراض، فيصيرون بذلك شركاءهم {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} 3، ولكن إذا لم أرد شرًّا قط بشخص المفترى عليه، وإذا كنت أعتقد فقط في وجوب أن أكون على علاقة طيبة بكل الناس، فلا أسيء إلى أحد، أو أظلم أحدًا، أفلا أستطيع مع محافظتي على مشاعري الخاصة، أن أدع المغتاب وشأنه، وربما كنت أكن له بعض الاحترام؟ وأليس من حقي أن أقول في نفسي إن التصرف على هذا النحو تصرف حميد؟
وحالة ثالثة: في الحق أن نشر العلم الحقيقي واجب على كل فرد بحسب وسائله، أي: على قدر الاستطاعة. فمن الواجب علينا أن نتقاسم مع الآخرين ما لدنيا من حقائق، وليس أقل من ذلك وجوبًا أن يكون عملنا هذا قائمًا.
1 الأنعام: 108.
2 الحجرات: 12.
3 النساء: 140، والأنعام:68.
على بصيرة. والعلم سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون في خدمة العدالة، كما قد يصبح في خدمة الهوى. وإذن، فهل لأولئك الذي يحملهم المزاج، أو المنفعة، أو العادة على أن يسيئوا استخدام العلم -هل لهم حق في معارفنا، ولكن إذا لم يكن في نيتي أن أساعدهم على الإساءة، وإذا كنت أريد أن أنورهم، فقط، وبكل طيبة، ثم أدعم وشأنهم، يتصرفون على مسئوليتهم الكاملة -أليست هذه من جانبي لفتة كريمة، تستحق الثناء؟
كلا
…
هكذا يؤكد أخلاقيونا، فإن الشر لا يمكن أن يصبح خيرًا بفضل كيمياء الإرادة، وبهذا النوع من سذاجة الضمير الذي أخطأ طريقه1.
وليس لدى أخطائنا الموهبة السحرية القادرة على تطهير الدنس، بل إن هذا الخلط والتلون الذي نلجأ إليه يعتبر في أقوال الغزالي إثمًا آخر، قال:"بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله "فجهله مزدوج؛ لأنه يجهل الشرع، ويجهل أنه يجهله، وقد قيل: أشد من الجهل الجهل بالجهل" إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الخير شرًّا؟!
…
هيهات
…
ثم يقول: من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور2، إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد
1 بهذا نرى أن الشر الأخلاقي لا يأتي هنا من أن الإرادة اتجهت إلى عمل مستهدفة عملًا آخر، وإنما هو يأتي بعكس ذلك تمامًا نتيجة هذا النوع من قصور الضمير، الذي لا يرى أبعد من العمل المباشر العاجل.
2 إذا كانت النية الحسنة "التي عرفت على أنها خطأ في الشعور بالصفة الأخلاقية للعمل نفسه" منكرة إلى هذا الحد، فما القول حينئذ في الحالة الأخرى التي يطلق عليها بنفس القدر من الابتذال: نية حسنة، وذلك عندما يعتقد الفاعل -مع أنه يرى في شغله خطأ جوهريًّا- أنه يحلله، ويضفي عليه صفة الشرعية، حين يريد به أن يسهم في عمل خير؟ وهكذا يفعل المزيفون من الوعاظ والدعاة إلى الإيمان، فهم بعد أن يخترعوا كلمات وعظية معسولة، يضعونها على لسان النبي، حتى يحثوا الناس -كما يزعمون- على الفضيلة، ومثلهم المجددون في طقوس العبادة، بزعم تمجيد الله. ويحشر في زمرة هؤلاء أصحاب المطامع السياسية، الذين يبيدون خصومهم الأبرياء بدعوى خدمة الوطن -إنهم جميعًا يذكروننا بالقصة المروية منذ قديم، قصة المرأة الفاجرة التي أرادت أن تتصدق بكسبها الخبيث!! كلا
…
فإن أجمل الغايات وأعدلها في ذاتها لا يسوغ الوسائل التي لا يقرها القانون الأخلاقي على أنها وسائل مشروعة.
مهلة للتعلم"1.
ومع ذلك، فإننا نضيف أنه إذا كان الجهل عذرًا فهل بوسعه أن يرقى بالنية الخاطئة إلى مرتبة مبدأ من مبادئ الأخلاقية؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا كان من الضروري أن يخرج المرء من هذا الجهل، وأن يرجع عن أخطائه؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بقوله: "إنما الأعمال بالنيات" 2 أن الأعمال لا تقوم، ولا توجد إلا بالنيات فحسب، بل قال أيضًا عن عائشة، رضي الله عنها:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" 3، أليس هذا هو أفضل برهان على أن المسلك الحسن لا ينحصر في حسن النية وحده، ولا في دقة العمل وحدها، بل في مجموع من الشكل، والمادة، بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر؟
وإنا لنجد القولة الكاملة عن الواجب في الحديث المشهور: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 4،
1 الغزالي، إحياء علوم الدين 4/ 357-358، ط. الحلبي.
2 البخاري: الحديث الأول.
3 مسلم: كتاب الأقضية، باب 8.
4 مسلم: كتاب اللباس، باب10.
وفي الحديث الآخر: "لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، ولا يقبل قولًا ولا عملًا إلا بنية"1.
ولقد تناول الحسن البصري، وسعيد بن جبير رضي الله عنهما هذا الحديث، فكان من قولهما:"لا يصلح قول وعمل إلا بنية، ولا يصلح قول وعمل، ونية إلا بموافقة السُّنة"2.
ومع ذلك، إن هذين الشرطين لا يمضيان دون شرط ثالث يستتبعانه، فليس يكفي أن يتوافق العمل مع القاعدة، وهو أمر قلناه دائمًا، بل يجب أن يكون هذا التوافق أو التطابق مرادًا، ومرضيًا بكل حرية.
وإذن، فلكي يمكن أن تكون قاعدة معينة ملتزمة عن إرادة يجب أن تكون معلومة من قبل، ولذلك قسم النبي صلى الله عليه وسلم القضاة إلى ثلاث طوائف: واحدة منها هي الناجية، فقال:"قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فالذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به، والذي في النار رجل قضى للناس على جهل، ورجل عرف الحق فقضى بخلافه"3.
ويجب أن نعترف بأن هذه الأقوال توقظ فينا أعمق ألوان القلق على أنفسنا، وإذا كان التحديد السليم للأخلاقية ينحصر في هذه المطالب الثلاثة، فما الذي يضمن لنا أننا سنسير طبقًا له؟ وما الذي يضمن لنا أننا -في حالة معينة سوف نعرف، ونتبع الشرع الموضوعي الذي يحكم هذه الحالة في الواقع؟ وإذا كان من واجب النية القلقة أن تجرم وتتهم النفس الأمارة
1 انظر: أبو طالب، قوت القلوب: 2/ 326، والحسبة لابن تيمية 92.
2 انظر: ابن تيمية، الحسبة 92، وهذه رواية الحسن، ورواية سعيد "لا يقبل" مكان "يصلح". "المعرب".
3 انظر: الترمذي، كتاب الأحكام، باب 1.
المتمردة، فبأي حق يستطيع الانحراف اللاإرادي أن يبطل أعمالنا، على حين أنه ليس بيدنا أن نتجنب الخطأ؟
وإذا كنا -من ناحية أخرى- نريد الخير، ونقع بجهلنا في الشر، ثم لا تكفي نيتنا الحسنة لتبرئتنا، ولا تبلغ على وجه الدقة سوى عفو متسامح، فهل تكون جهودنا التي نبذلها في البحث عن الحقيقة -إذن- باطلة، بلا قيمة، وبلا جزاء، بحكم إخفاقها؟
إننا لكي نبدد هذا القلب ينبغي أن نذكر القانون العلوي للأخلاق القرآنية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . فإن ما يجب علينا ليس هو عدم الوقوع في خطأ، وليس هو أن نبلغ في جميع الظروف الصيغة الدقيقة للواجب في ذاته، وإنما هو أن نبذل جهدًا دائبًا، حتى نزداد معرفة بهذا القانون الموضوعي، ونهتدي بنوره.
ولكن شتان ما بين الرغبة الحارة في أن نكون على الحق، والاعتقاد التلقائي بأننا نسير في طريقه، في الواقع، وما بين استخدام جميع الوسائل التي في قدرتنا لكي نصل إلى الحق. فارتكاب خطأ بسيط، مقرونًا بحسن النية، لا ينتج سوى العفو، وهو أمر لا يفتأ القرآن يردده، وليس معنى ذلك أن الاجتهاد الذي يصحب هذا الخطأ، ويسوغه بصورة معينة -لا وزن له في الميزان الأخلاقي. فلقد ساق إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العزاء فيما رواه عمرو بن العاص، رضي الله عنه:"إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"1.
إن في أيدينا الآن العناصر الضرورية لتفسير التناقض الذي ذكرناه في بداية هذه الفقرة. فإذا كنا قد خصصنا النية السيئة بدرجة من التأثير
1 البخاري، كتاب الاعتصام، باب 21.
والفاعلية لم نخص بها الإرادة الطيبة، فقد يعتقد أن لنا شأنًا في مفهومين مختلفين لقيمة العامل الباطني، الذي يبرز أحيانًا وينزوي أحيانًا أمام العنصر المادي، وإنا لنعرف الآن أن هذين الحكمين لا يصدران إلا عن مبدأ أخلاقي واحد، أعني: إن كان اقتضاء الشكل والمادة معًا. فإذا ما نقص أحد هذين العنصرين فإنه يظهر فاعليته بالفراغ الذي يتركه خلفه في العمل الأخلاقي، وفي عجز العنصر الآخر المتبقي، عن أن ينشئ وحده الفضيلة الكاملة.
والواقع أن الخير الأخلاقي، في مجموعه، لا ينحصر في حالة باطنية محضة، ولا في حالة ظاهرية محضة، بل هو ينحصر في الانتقال من إحداهما إلى الأخرى، وهو انتقال، لكي يكون جديرًا باسمه، يجب أن يضم كلا العنصرين على سواء، ولا حاجة لأن نؤكد عجز العنصر المادي، ذلك أن العمل الظاهري الخالص، وهو عمل يليق بإنسان غبي كالآلة، قد يؤدي خدمات مفيدة للمجتمع، ولكنه سوف يظل دون علاقة بشخصيتنا. ولقد يستطيع فعلًا -على حسب تعبير كانت- أن يوفر لنفسه الشرعية، ولكنه لن يستطيع مطلقًا أن يضمن الأخلاقية.
بيد أن البرهنة على القضية الأخرى تبدو مهمة عسيرة، أليس العنصر الروحي هو العنصر الجوهري في الواجب، إن لم يكن هو كل الواجب؟
إن هذه الفكرة مسلمة عمومًا، حتى إنه يبدو من باب التطاول أن نشكك فيها، أو أن نضع لها بعض القيود، ومع ذلك فإنها تحتاج إلى بعض التحديدات الضرورية.
وأول هذه التحديدات: أن فكرة "الإرادة" لا تشتمل فحسب على فكرة "القدرة" من حيث المبدأ أو الافتراض "فعمل الإرادة مستحيل في حال اليأس الواقعي والكلي"؛ ولكن من حيث كون "الإرادة" و"العزم" يتميزان، كما يتميز الحاضر من المستقبل، فالإرادة تفترض -كنتيجة مباشرة- نشاطًا خارجيًّا معينًا، لا يلبث أن يتحد معها خلال الزمن. والواقع أن
العنصرين متضامنان تضامنًا وثيقًا في شعورنا كما يتضامن عضوان في كياننا. وكما أنه في الأحوال العادية، لا تعمل الخلية مطلقًا وحدها، ولحسابها الخاص، فكذلك قدرتنا على القرار قلما تدعي أنها تضع اللمسة الأخيرة في المشروع العملي؛ فهي تعترف لنفسها بالنسبة إلى قدرتنا على التنفيذ، بمكان الرائد الذي يمهد الطريق للجندي الحقيقي. وهي لا توقف خطة العمل من أجل أن تتوقف فيه لحظة واحدة، بل من أجل أن تمضيه صراحة إلى مجال التنفيذ مباشرة، وهو وحده موجد الخير الموضوعي المقصود.
وثاني التحديدات: أنه ما دام العمل الباطني لا يشتمل على بداية للفعل ولو في صورة هزة عضلية، أو مخية -فمن الممكن شرعًا أن نسأل أنفسنا عما إذا كان قد تجاوز نهائيًّا مرحلة تكون الأفكار النظرية، ومرحلة التأمل الجمالي، ليدخل إلى مجال الممارسة الأخلاقية، أو حتى مجال الممارسة وحدها، أعني: مجال الإرادة، والله يقول:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة} 1، ذلك أن الإرادة هي، بالمعنى الحقيقي، أن نتحرك حركة انتشارية، تنطلق من الفكرة، متجهة نحو العمل.
والإرادة هي التوجه من المثالي إلى الواقعي، وعلى هذه المسيرة من الباطن إلى الظاهر، ومن الشعور إلى التجربة، يوجد الفعل الإخلاقي.
هذا الفعل ليس حالة سكونية "ستاتيكية" عبادة في خلوة، حبيسة في دير القلب، إنه وثبة حية، وحركة ذات انتشار، نقطة انطلاقها في الداخل، ونقطة انتهائها في الخارج. وهكذا نجد أن النية لا تقتصر على أنها تدعو لعمل، وتتوقع أن يتبعها فحسب، بل إنها تحتويه كنطفة، إن لم يكن وليدًا.
1 التوبة: 49.
ولنمضِ إلى ما هو أبعد.
تصور عالمًا يكون الإنسان فيه منطويًا على نفسه، مقتصرًا على تغذية آماله، وصوغ مشروعات، أو حتى بذل جهود يائسة، وافترض أنه قضى عليه أن يدور في هذه الحلقة، دون نظر أو قدرة على الواقع -فأية غاية عقلية يمكن أن نعزوها إلى خلق آلة كهذه من الأفكار غير المؤثرة، والمشروعات المبتورة، والمحاولات المخفقة؟
أيكون هذا حقًّا هو النموذج المثالي لطبيعة عاقلة؟ إنا لنعتقد على خلاف ذلك بأن كل كائن مزود بعقل، مهمته على الأرض أن يخلق فيها وقائع موضوعية ممكنة، ودوره الأخلاقي أن يطوع هذا الخلق لفكرة الخير، حتى يجعل الدنيا من مرحلة إلى أخرى -أكثر كمالًا.
ومما لا شك فيه أن هذه المهمة المزدوجة، من العزم، والتحقيق، والتي ينظر إليها عمومًا على أنها مقسمة بين سلطتين متميزتين في الإنسان، يحتم الضمير الأخلاقي الذي لا يقبل الانقسام وجودها في وحدة شاملة. وحتى لو صادف جهدنا في التنفيذ تعويقًا، أو اعترضته عقبات لا يستطاع تذليلها، فإننا لا نتخلى عن الإحساس بهذه الضرورة المزدوجة الداخلية.
والحق أنه ينبغي أن نفرق هنا بين حالتين ممكنتين:
فإما أن يبدو لنا توقع هذه العقبات العصية في اللحظة التي تتحفز فيها الإرادة نحو التنفيذ، وبذلك يختنق عمل الإرادة في المهد، إذ إنه من التناقض أن نريد ما لا يمكن إرادته.
وإما أن تفاجئنا هذه الاستحالة بعد أن اتخذنا القرار، وحينئذ، يا لها من خيبة أمل يشعر بها الإنسان الفاضل في انتظاره للقيمة الموضوعية التي جد في طلبها!!
…
إن هذا "الدش" البارد الذي يتعرض له حماسه أمام مشهد
شر يريد منعه، أو مشهد خير يرجو صنعه -سوف يكون مؤلمًا، بقدر ما كان اهتمامه بتحقيق مثله الأعلى عظيمًا، وبقدر ما كانت الحفاوة التي أعدها له حارة.
ماذا يمكن أن يقال غير أن الضمير الأخلاقي في هذه الظروف يعتبر أن مهمته لما تنته؟
ومهما يكن عدلًا ذلك العفو الذي يمنحه إياه مشاهد محايد، يراعي القدرة المحدودة للطبيعة الإنسانية، فإن الأسى الذي يشعر به الإنسان في دخيلة نفسه هو وثيقة اتهام ضد ذاته. إن ذلك يعني في نظره أن الجهد الذي بذله ما زالت فيه نقائص، وكأنما كان بوسعه أن يبذل أقصى جهده كيما يبلغ هدفه.
ولكن مهما يكن الافتراض، وحتى في الحالة التي ينبغي فيها أن نعذر الإرادة الطيبة المعوقة -هل يكون لنا الحق في أن نرى في هذه الحالة العاجزة نموذج العمل الأخلاقي الكامل؟
الحق أنه يجب علينا من وجهة نظر حق العفو أن نثبت فرقًا في الدرجة بين ضرورة العنصر الباطني، وضرورة التعبير المادي عنه، ذلك أن رضا الإرادة شرط لازم للأخلاقية، بحيث إن أقل تمرد باطني يكفي، لا لينزع عن أصح الأعمال كل قيمة فحسب، بل ليجعله إجراميًّا. فتلك ضرورة مطلقة وباطنة، على حين أن عدم التنفيذ، أو عدم المطابقة الظاهرية، على الرغم من أنهما يبتران العمل الأخلاقي، وينتقصان الفعل الذي تم بحسن نية، فإنهما لا يدينانه إلا حين تكون هنالك استحالة مادية، أو جهالة لا تدفع، وحينئذ يمكن أن يطلق عليها: ضرورة كمال مطلقة، أو ضرورة شرطية لاستكمال مطلب الأخلاق.