الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة:
حين ندني مختلف العناصر التي استخلصناها أثناء هذا التحليل، بعضها من بعض، يصبح من السهل كثيرًا أن نعيد بناء الفكرة القرآنية عن المسئولية.
لقد تولى القرآن بصفة جوهرية وجهة النظر الأخلاقية، وراح يقر في هذا الصدد الشروط التي تتفق تمامًا مع المقتضيات المشروعة لأعظم الضمائر استنارة، واهتمامًا بالعدالة. دون أن ينتظر النضج البطيئ، المتردد، عبر الأفكار القديمة والحديثة لكي ينتهي إلى هذا الوضع الواضح القويم.
فالمسئولية ترتبط ارتباطًا وظيفيًّا بالشخصية؛ ولذلك لا يطيقها غير الإنسان البالغ العاقل، الواعي بتكاليفها، وبحيث يتمثلها أمام ناظره في لحظة العمل. فإذا ما تحددت صفات الشخص تعين، بعد ذلك، أن يكون مسئولًا عن الأفعال التي يأتيها بإرادته الحرة. وإذن فالإرادة والحرية هما من الناحية العملية مترادفان، وليس لأية قوة في الطبيعة، باطنة أو ظاهرة، سلطة كافية لكي تحرك أو توقف النشاط الجواني لإرادتنا.
وقد تستطيع الطبيعة أن تحرمنا بعض الظروف المادية اللازمة لتنفيذ قراراتنا، وقد تستطيع أن تخلع عنا بعض الصفات الدمثة الرقيقة، التي تجعل قراراتنا الخيرة أكثر يسرًا ومودة، ولكنها لا تستطيع أن تمس فينا القدرة
على هذه الحمية الجريئة التي نقدر على إتيانها رغم كل شيء، مضحين بمسراتنا، وكذلك عندما يخضع المرء لإكراه خارجي، أو لضرورة حيوية، فإنه يفعل ذلك بحرية، وهو يوازن بين الأدلة والبواعث المتناقضة، ثم يختار ما يبدو له أكثر تناسبًا، وعلى أساس من هذا الاختيار يكون حسابه، أحسن أو أساء.
وأخيرًا، فإن المبدأ القرآني للمسئولية هو مبدأ فردي، يستبعد كل مسئولية موروثة، أو جماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هذه المبادئ التي تتبعناها على وجه الدقة، والتي استخرجنا منها أدق النتائج في الميدان الأخلاقي، والديني، قد ورد عليها -ولا ريب- استثناءات، في الميدان الفقهي، ومع ذلك لم نغفل كثيرًا من مسائلها الجوهرية. ويبقى العمل الإرادي للفرد الإنساني المزود بالعقل، الموضوع الدائم والوحيد للمسئولية، وتبقى أيضًا نية فعل الشر شرطًا ضروريًّا للعقاب.
وعندما حدثت للمرة الوحيدة "في المسئولية المدنية" مخالفة لهذه القاعدة الأخيرة، كيما ترضى مطالب أخرى ليست بأقل شرعية -لم نقعد عن إلحاقها بمخالفة أخرى من شأنها تخفيف آثار الأولى. بحيث إن الشارع الإسلامي -بعيدًا عن المجال الأخلاقي المحض، ومع تغليب المصالح العاجلة- لم يتجاهل المبادئ الأساسية للتجريم الحقيقي.