المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ براءة النية:

ينظر إليه تبعًا للنوايا، فهو تارة عمل يثاب عليه، جدير بالأجر الإلهي، وأخرى إثم، وثالثة ليس هذا ولا ذاك، واقع يثاب عليه ذلك الذي يمسكها دائمًا بأمر الله، وفي سبيل الله، وواقع آثم لمن يمسكها تظاهرًا، وتفاخرًا، ولمن يتخذ منها أداة عدوان ضد المؤمنين. ولكن، لننظر كيف يضع النبي صلى الله عليه وسلم بين الحالتين حالة أخرى، لا يطيق أحد أن يأتي بأدق منها: حالة الرجل الذي يهتم بالخيل، من أجل حاجاته الخاصة، دون أن يغفل واجباته الدقيقة، فهذا الرجل لن يستحق ثوابًا، ولا عقابًا، وإنما يكون على وجه الدقة "ناجيًا" وكل ذلك في قوله، صلى الله عليه وسلم: "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر

" 1.

وليس لدينا أوضح ولا أدق من هذا لدعم رأينا، الذي هو أيضًا رأي الجمهور.

وهكذا تستأثر الإرادة المخلصة بكل القيمة الإيجابية، أما الإرادة الذاتية فهي جديرة بالتقديرين الآخرين. ولسوف يوصف البحث عن هذه المنفعة الشخصية أو تلك، بوساطة هذا العمل أو ذاك: إما "مقبول" أو "مباح"، وإما "مرذول" أو "مؤثم"، تبعًا للشروط المعقدة التي سوف نعرضها متتابعة في الفقرتين التاليتين:

1 انظر: مالك في الموطأ، كتاب الجهاد، باب1، والبخاري، كتاب المساقاة، باب 13، ومسلم، كتاب الزكاة، باب 6.

ص: 518

جـ-‌

‌ براءة النية:

وأقصد "ببراءة" النية في عمل ما، أيًّا كان، الصفة التي تكتسبها الإرادة عندما تتحاشى أن تسعى بهذا العمل إلى غايات دنيئة، ثم هي في الوقت نفسه لا ترقى إلى مستوى شرف الإخلاص، المنزه عن الغرض، وإنما

ص: 518

تقنع بموقف وسط، يتمثل في انقيادها "لمنفعة مشروعة"، يقر لها القانون بحقها فيها. وجميع الحالات التي يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان هي من الناحية الشرعية صحيحة، لا غبار عليها، ولكن قيمتها من الناحية الأخلاقية "صفر"، تبعًا لأكثر النظريات الإسلامية تسامحًا. ومعنى كونها صفرًا: أنها لا تستحق مدحًا أو ذمًّا، ولا تستتبع لصاحبها ثوابًا ولا عقابًا. وهو موقف يعد بلا شك "نقصًا" أو عدم كمال، فمن المؤسف أن يقنع امرؤ بأن يبرئ ذمته، على حين كان يستطيع أن يزيد من قيمته، ولكن هذا يتيح له أن يكون "ناجيًا". ولدخول الأعمال في هذه المجموعة شرطان: أحدهما يتوخى الغاية، والآخر الوسيلة.

فأما الذي يتوخى الغاية فغني عن البيان أنه ينبغي أولًا أن يكون عملًا جائزًا في الشرع، ومعروفًا بصفته هذه للذات، وذلك هو تعريف هذه المجموعة الثانية، أو منطوقها نفسه، "في مقابل المجموعة الثالثة بخاصة".

ولكن يجب علاوة على هذا أن يكون الوعي بهذا الجواز شرطًا "يكيف" حركة الإرادة نحو الغاية، لا أن "يصاحبها" فحسب.

ويجب في هذا التطابق بين الهوى والقاعدة -أن تقيد القاعدة تأثير الهوى، وأن يكون هذا التقييد مرضيًا دون إكراه، وهنا نجد لونًا يكاد يهرب أمام أعيننا، ولكن من الضروري بصفة مطلقة أن نحسب حسابه قبل العمل، مخافة أن يرى المرء براءته تتحول إلى معصية.

ومن أجل هذه الضرورة القصوى، نجد أن القرآن عندما ينظم بعض حالات الخروج على تحريم معين، يؤكد تكليف من يريد استعمال هذا الحق -بأن يطمئن إلى أن استعماله لا يفرضه في الواقع ميل إلى الموضوع المحرم الذي

ص: 519

أبيح، وهو قوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.

كيف نميز، في حالة كهذه، الأصل من التبع المقيد؟

هاكم طريقة على الأقل، يستطيع كل إنسان أن يتصرف فيها، على تفاوت في فاعليتها، وذلك بأن يغير المرء شروط تجربته، ولو ذهنيًّا، فيسأل نفسه عما قد يفعله لو أن القاعدة كانت تحرم منفعة كهذه. ولسوف يكون حظ الإجابة التي نحصل عليها في إعلامنا بدافعنا الحقيقي، بقدر حظنا من التجارب فيما مضى، عن درجة الحذر الذي نستخدمه في سلوكنا لمواجهة واجباتنا الدقيقة، فإذا كنت في حالة المنع قد كسبت قدرًا من الانتظام في الرقابة على شهواتي وضبطها، فإني أستطيع أن أحكم بقدر من الاحتمال: بأن اعتبار القانون في حالة الإباحة هو الذي يحكم سلوكي، ويقيد حاجاتي؛ وأما إذا كنت، في حالة الصراع بين الواجب والهوى، أعترف بأن الهوى هو الذي يتسلط غالبًا، فلسوف يثبت لي أنه في حالة اتفاقهما -ستكون الطبيعة أيضًا هي التي تحكم لدي، وتمضي كلمتها.

ولقد وصف القرآن على نحو كاف هذا الموقف المضطرب وفضحه، وهو الموقف الذي يغير وجهه غالبًا أمام الشرع، فتارة يخضع له، وأخرى يفارقه، تبعًا لما يجد، أو يفتقد، من إشباع حاجاته الأنانية، فقال سبحانه:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2.

1 المائدة: 3.

2 النور: 47-50.

ص: 520

كلا

فسلطة الواجب بالنسبة إلى شهواتنا يجب أن تكون مطلقة غير مشروطة، وليس أمامنا إلا أن نذعن لها طوعًا أو كرهًا:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 1.

وذلكم هو شعار المؤمنين الثابت أمام الأوامر المختلفة، لله ورسوله:{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} .

وفي احترام هذه العلاقة المتدرجة، أو عكسها بتقديم ما ينبغي أن يتأخر، تكمن السمة التي يتميز بها الهوى المستنير، الذي يعتبر إشباعه طبيعيًّا ومباحًا -عن الهوى الأعمى الذي لا يفتأ القرآن يحذرنا منه.

بيد أنه لا يكفي أن يكون الهدف الذي يتوخاه المرء من بين المباح، في ذاته، بل يجب أيضًا، بموجب الشرط الثاني -أن يكون العمل الذي يستهدفه من شأنه أن يستخدم أخلاقيًّا، كوسيلة لبلوغ هذه الغاية.

وهنا تتدخل فكرة "الغائية" بكل تعقيداتها2، فإن أهدافنا من هذا العمل أو ذاك لن تقوم في ذاتها فحسب، بل باعتبار اتفاقها أو اختلافها مع أهداف الشرع من هذه الأعمال.

هل يوجد -مثلًا- بالنسبة للإنسان، اهتمامات أكثر طبيعية من اهتمامه بأن يعيش دون مفاجآت كبيرة، وبأن يخلق صداقات متينة مع إخوانه؟ بيد أن الإنسان لكي يبلغ هذه الغايات يملك طريقًا طبيعية جدًّا، لا معابة

1النور: 51.

2 سوف نرى أنها معقدة تعقيدًا مضاعفًا، إذ يجب أن ننظر في العمل الواحد إلى غايات المشرع، وغايات الذات، أساسية كانت أو ثانوية.

ص: 521

فيها، ولا ملامة. فلكي يعيش ماديًّا، ما عليه إلا أن يبذل جهوده في الإنتاج، أو في المبادلات، أو في بعض المهام الشريفة والمنتجة، أو لكي يكسب مودة أصدقائه حسبه أن يتصرف حيالهم بأكثر الطرق مجاملة، وأقلها طلبًا، وأعظمها سماحة بقدر ما يطيق.

وعلى أية حال، فليست طقوس العبادة، ومآثر الإحسان بالتي نستحق أن نطمح بها إلى تقدير الناس، أو نؤمل مساعدتهم، فإذا اتخذ المرء هذه الأعمال لغايات دنيوية كهذه، على حين أنها أعمال لا ينبغي أن يستهدف بها سوى قداسة الواجب، فتلك هي النية الآثمة الدنسة.

ولكن، إذا كان جرمًا أن يستعمل الإنسان الفضيلة بنية تحصيل بعض الميزات الإنسانية، فهل يعد جريمة أيضًا أن يؤديها المرء على أمل الحصول على ثواب الله، أو خوفًا من عقابه؟

هذا سؤال أثار مناقشة من أعظم المناقشات بين الأخلاقيين المسلمين.

وإنا لنعرف البرهان الأساسي للمتشددين، وهو برهان جد بسيط، مستمد مباشرة من القرآن: فلقد خلق الإنسان من أجل طاعة الله فحسب، ومن أجل التوجه إليه بنية نقية، فإذا سمح لنفسه أن يتطلع ببصره إلى النتائج المناسبة، أو غير المناسبة لأعماله، فإن معنى ذلك قلب نظام الغائية؛ لأن الواجب حينئذ سيصير مجرد وسيلة، وستصبح المنفعة هي الغاية الأخيرة والموضوع الحقيقي للعبادة.

ولقد كان على خصومهم في الرأي أن يقوموا بجهد في التعليل الدقيق حتى يتخلصوا من هذا البرهان. والواقع أن هؤلاء الخصوم قد حاولوا من ناحية أن يثبتوا للخلق غاية مزدوجة يستهدفها، وأرادوا من ناحية أخرى أن

ص: 522

يؤكدوا أن متابعة غايات ثانوية يمكن أن يحدث دون الإضرار بالغاية الأساسية.

ثم يفسرون ذلك بقولهم: والحق أن الإنسان باعتباره ذاتًا مكلفة لا دور له إلا أن يؤدي مهمته أداء دقيقًا في وقته، وأيما امرئ مال إلى هجر واجبه رد إليه بمختلف الجزاءات، ليس هذا فحسب، بل إن من يدخل أداء واجبه في مجال العبادة، فلن يستحق بهذه الصفة أدنى شيء يطلبه لدى الناس، أو من الله.

فأما لدى الناس: فقد وضحناه فيما سبق، وإنا لنعرف أن الشريعة الإسلامية تحرم على العلماء والقضاة أن يمسوا شيئًا من عامة الناس.

وأما من الله: فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحدًا عمله الجنة"1. وهو يقصد بذلك أن العمل وحده لا يكفي.

وليس ينقص من صدق هذه الحقيقة أن الإنسان بوصفه موضوعًا للإحسان والعدل الإلهي سوف، يدعى إلى أن يجني ثمرات عمله، فعندما يجيء الإنسان ليطلب، لا أقول:"مستحقه"، ولكن: ما "وعد به"، فهل يكون هذا الطلب منه سوى اتفاق مع مشيئة الله المجازي، إن لم يكن مع مشيئة الله المشرع؟

ولنذكر إلى جانب ذلك حقيقتين لا يستطيع أن ينكرهما أحد، حتى من وجهة نظر التشريع، "أولهما": أن هذين الصنوين المتشابهين: الخوف والرجاء، هما في نظر الدين صفتان جديرتان أن يقصدا لذاتهما، فهما أشبه بجناحين لازمين لتحليق الإيمان والتقوى، وارتقائهما.

1 النظر: البخاري، كتاب المرضى، باب 19.

ص: 523

وكذلك نجد أن فظاظة القلب وقساوته تعدان في نظر كل الناس داء يصيب الأنفس الجاحدة، ولقد أفاض القرآن في هذا المعنى، شأنه شأن جميع الكتب المقدسة.

"والحقيقة الثانية": أن هذه المشاعر الدينية نفسها يمكن شرعًا أن تستخدم دوافع لأعمال تتناسب معها. ولا أحد ينازع في أن الآلام التي يحسها المؤمن أو يخشاها تفرض عليه -عادة- هذا الموقف الصوفي الذي يكل فيه كل أموره إلى الله، طالبًا عونه، ملتمسًا إحسانه، وها هو ذا القرآن يدعونا صراحة بقوله:{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} 1، وقوله:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} 2، والسُّنة تعلمنا أيضًا:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فرغ إلى الصلاة"3.

فإذا سلمنا بهاتين النقطتين كان في ذلك حصر للمجال المتطرف.

وفي مقابل ذلك يفسح له المجال المقابل -في نقطة مهمة حين يحدد دور المشاعر المذكورة آنفًا. ذلك أن المبدأ العام وإن كان يعترف بقيمتها الذاتية، ويعلن أن الهروب من الألم، والبحث عن السعادة بوسائل صالحة إنما ينبثق عن اتجاهات جد مشروعة، فليس بوسعه أن يذهب إلى حد منحها جزاء أخلاقيًّا عندما تؤدي في الضمير دور المحرك الأول إلى الواجب؛ لأن ذلك معناه سن أمور لا يزكيها شيء في القرآن.

وهنا نقطة لا نغلو في الإلحاح عليها، وهي نقطة ألقى إغفالها قدرًا من الاختلاط المؤسف في كثير من الأذهان، بين فكرتين متميزتين تمام التميز في التعاليم القرآنية: بين "النية"، وهي موقف الفاعل الأخلاقي و"الجزاء"،

1 البقرة: 45 و153.

2 الأعراف: 56.

3 انظر: مسند أحمد 5/ 388 من طريق حذيفة بن اليمان، والعبارة:"كان إذا حزبه أمر صلى". "المعرب".

ص: 524

وهو رد الفعل من المشرع، ولقد أثبت القرآن الواجبات من جهة، وأثبت نتائجها الجزائية من جهة أخرى، فإذا شرفت الفضيلة وأثيبت وإذا ما استنكرت الرذيلة وعوقبت، فهل في ذلك غير العدالة؟ ولكن شتان ما بين أن نعين لأعمالنا عاقبتها، وأن نقترح على الإرادة مبدأ يلهمها، وذلكم هو ما صاغه القرآن في مواضع كثيرة، فهذا المبدأ مختلف تمامًا، إذ هو المثل الأعلى، والإنسان الذي يؤدي واجبه بالخوف أو بالرجاء، والذي يتخذ من توقع مصيره في الحياة الآخرة قوة محركة لإرادته الطائعة، هذا الإنسان لا يقتصر عمله على خلط وتوحيد نوعين مختلفين من الغائية: الغاية الوجودية "الثمرة"، والغاية الأخلاقية "الهدف"، ولكنه أيضًا يغفل شرطًا جوهريًّا عن العاقبة الموعودة؛ لأن القرآن خط له طريقًا يتبعه، وأثبت له سعيًا يقوم به، من أجل أن ينتهي إلى هذه الحياة السعيدة:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} 1، وليست الجنة إلا للقلوب السليمة، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2، والقلوب الراجعة إلى الله:{وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب} 3. ولكن إذا كان التقارب قد تم على هذا النحو بين المذاهب المتعارضة، فهل يؤدي ذلك إلى اندماجها؟ ليس بشكل تام برغم هذا، فإن النقطة المتنازع عليها تظل كل هي.

فعلى حين أن النظرية المتشددة تحكم دائمًا بالكدرة والدنس على كل ما ليس طاهرًا نقيًّا إلى الحد الوارد في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4 -ترى النظرية المتسامحة أن بين الطهارة المطلقة، التي هي موضوع الثناء والثواب، والدنس الصارخ، الذي دحر وذم كثيرًا في النصوص.

1 الإسراء: 19.

2 الشعراء: 89.

3 ق: 33.

4 البقرة: 272.

ص: 525

-توجد تلك الطهارة النسبية، الوسط، التي لم يذكرها القرآن صراحة بالموافقة أو بالرفض، وهو موقف يدعو إلى اعتبارها لا تستحق مدحًا ولا ذمًّا، وإنما هي مباحة فحسب.

ويمكننا كذلك القول بأن القرآن قد ارتضى هذا الموقف الانتفاعي، إن لم يكن شجعه على نحو ما بمجرد التبشير بالمجازاة.

ولا ريب أنه لم يقل مطلقًا: أدوا واجباتكم، ناظرين إلى سعادتكم الأخروية، ولكنه قال: أدوها لله، وحين تؤدونها بهذه النية سوف تكونون سعداء.

وإذا كانت هذه الصورة قد غابت حتى عن بعض الفلاسفة فبوسعنا أن نحكم بصعوبة إدراكها على عامة المؤمنين. فالإنسان الوسط سوف يحفظ دائمًا منها صورة الوعود الجميلة للصالحين "والنذر المخوفة للأشرار"، ولما كان هذا الإنسان ضعيفًا وحساسًا بطبيعته، وعلى افتراض أنه مؤمن، فإنه سوف ينقاد بفطرته إلى التعلل بالآمال "والإحساس بالمخاوف" إلى جانب شعوره بالواجب.

وإذن، فعندما يجتمع الشعور بالواجب مع الحاجة إلى الأمن، ويتسايران في الضمير دون افتراق -فلا قوة على وجه الأرض، متى تحركت الفطرة تستطيع أن تمنع آثار هذا الاتصال الدائم؛ إذ كيف يستطيع تشريع عادل أن يحرم ثمرة أودعت بذرتها في القلب؟

ولكن، لنتناول الأمر تناولًا عقليًّا.

قد: يقال إن العمل بدافع الخوف من العقاب هو أبعد شيء عن أن يكون مبدأ ذا قيمة أخلاقية، ونحن أول من يوافق على هذا الرأي. ولكن هل هو دافع يتساوى في حقارته مع الخديعة، والصلف، والمداهنة والتباهي؟ وهل

ص: 526

من الممكن أن نضع شعور الخوف من الله في مستوى الخوف من الناس؟ أليس من الواجب أن نعترف على الأقل بأن بين هذين الخوفين فرقًا هو: أن الخوف من الناس يعلمنا النفاق والجبن، ويحملنا على خرق القانون حين يكون موضوع هذا الخوف عاجزًا على أن ينالنا؟

أما فيما يتعلق بالأمل في السعادة المقبلة: فقد تقولون: إنها قضية ارتزاق وطمع في الأجر.

نعم، بداهة، نظرًا إلى الحب الخالص، الذي يصد عن كل ما سوى المحبوب ذاته. ومع ذلك فمن ذا الذي لا يرى أن مجرد قبول هذه الصفقة والتنازل هكذا عن مال ملموس، مؤكد، مستحق فورًا، نظير سعادة غير محددة، غير مؤكدة على المستوى الفردي، بعيدة ساحقة البعد، لدرجة أنها تقتضي الموت، والعودة إلى الحياة مرة أخرى. قبل لمسها

أقول: من ذا الذي لا يرى في كل هذا ارتفاعًا فوق الغريزة الحيوانية المرتبطة بالحاضر، إلى مستوى الآجلة، وبرهانًا على الصفات العليا من الصبر، والسيطرة على النفس، وسعة العقل، وفي كلمة واحدة: برهانًا على نوع من المثالية؟

قد يقال: إنها بصيرة مضارب.

ولكن، يا لها من مضاربة عجيبة! ما كان لأي حساب احتمالي أن يسوغها، دون تدخل من الإيمان.

وإذن، فما هو ذلكم الإيمان، أم لم يكن الاعتقاد فيمن ليس بالنسبة إلينا مدركًا بحواسنا، ولا قابلًا للإثبات بعقلنا وحده؟ فهو حساب إذن، إن وجد، ولكنه أرفع قدرًا وأقل غرضًا من حساب المضاربين جميعًا، إذ إن مخاطره في نظر العقل العملي السليم أكبر بكثير من فرص نجاحه، غير أن الإنسان يوافق عليها، ويرتضيها إلى حد التضحية العليا، بفضل الثقة وحدها.

ص: 527

وقد يلح بعضهم أيضًا بإدعاء المساوئ الأخلاقية التي قد تنتج من قلب العلاقة بين الغاية والوسيلة. وهنا لا بد من وضع الأمر في نصابه: ما مقياس هذا القلب؟ إنه -كما رأينا- الاستقلال الذي يمنح للمنفعة على حساب الواجب، ولنسأل إذن أي مؤمن: إذا كانت هذه يمكن أن تكون حالته في أية لحظة أو فليلق على نفسه -بالحري- الأسئلة الآتية:

لو أني تصورت المحال، لأرى أن العمل بالشرع ليست له أية مكافأة، فهل أفكر حينئذ في أن أطلب عليه بعض الأجر؟

وإذا كان انتهاك الوابجب لا يستتبع أية عقوبة فهل يضعف بسبب ذلك، تمسكي بطاعته؟

وإذا كنت لسبب ما مطمئنًا إلى أن جميع ذنوبي سوف تغفر فهل تكون هذه بالنسبة إلي فرصة لارتكابها؟ ألا يكون كل هذا بالأحرى سببًا إضافيًّا لكي أثبت كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم:"إني عبد شكور" 1، واستمع إلى هذا التأمل من الشاعر:

هب البعث لم تأتنا رسله

وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق

ثناء العباد على المنعم؟!

وهكذا نجد أن الأهمية التي يعلقها مؤمن صحيح الإيمان على السعادة لا تمثل سوى منفعة فرعية، ثانوية، أو زيادة يمكن أن يستغني عنها عند اللزوم، حين توشك أن تهدد أعظم هدف جوهري في نظره وهو: إرضاء الله.

وهذا الموقف العاقل، النبيل، الذي يرى بنظرة واحدة المثل الأعلى

1 البخاري، كتاب التهجد، باب 6:"أفلا أكون عبدًا شكورًا".

ص: 528

الخالص، وضعف الفطرة المجردة -هذا الموقف متمثل بأكمل صورة في دعاء جميل للنبي صلى الله عليه وسلم فحين كفر القوم به، وجحدوا الحق الذي أنزل معه، وعرضوه لأشد ألوان الاضطهاد -نادى ربه:"اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطًا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي"1.

فلنمض إلى ما هو أعمق، ولنسأل أنفسنا عن درجة هذا الطموح إلى السعادة المقبلة، وعن أهميته، حتى نعرف إذا كان من الممكن أن ينشئ لدى المؤمن دافعًا مستقلًّا، وصالحًا ليقود إرادته بمفرده.

فأما من الوجه الذي يصوغ به القرآن وعوده فلا بد من شرطين لاستحقاق السعادة الأبدية: طهارة القلب، والإيمان الدائم، حتى الموت، وبالأخص في نهاية العمر.

فمن ذلك الإنسان، الذي يدعي بيقين أنه استوفى هذين الشرطين، حتى أشد الناس طاعة وخضوعًا؟

وهل تكون المكافأة العظيمة التي يمكن تصورها من القوة بحيث تحرك هذه النفس القلقة، نفس المؤمن؟ إن هذا القلق تعبر عنه أصدق تعبير الآيتان الكريمتان:{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} 3.

1 انظر: الطبراني، وقد ذكره السيوطي في الجامع الصغير 1/ 57 وهو النص الذي اخترناه. "المعرب".

2 الأحقاف: 9.

3 المؤمنون: 60.

ص: 529

بيد أن فاعلية الشعور المضاد ليست بأقل إثارة للجدل، فهل توقع العقاب في الحياة الأخرى، مهما يكن فظيعًا، يكفي حقًّا لقهر الإغراء الحاضر للشر، وتحويل الإرادة عنه؟ إن لنا الحق أن نشك في هذا، بقدر ما نضع في مواجهة ذلك الإنذار سعة الرحمة الإلهية.

وإذن، فلا يصح من الناحية العامة أن تطغى إحدى هاتين الفكرتين بمفردها، على ضمائر المؤمنين، وذلك ما تنبغي ملاحظته في وصف القرآن للأنفس الصالحة، فهو يقدمها إلينا في الواقع متأثرة بالحالتين المتعارضتين في وقت واحد: الخوف والرجاء، وانظر مثلًا قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2، وقوله:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 3.

أية نتيجة يمكن أن نحصل عليها من خلط هذين العنصرين المتضادين، اللذين يبطل كل منهما أثر الآخر، أو كما يمكن أن يقال: من خلط نصفي الشعور هذين، إن لم تكن النتيجة استشعارًا غامضًا، لا يمكن تصويره، وترجمة في لغة عاطفية للإرادة المستسلمة، الخاضعة باختيارها لأوامر الواجب، مهما كانت النتائج؟

"افعل ما يجب، وليكن ما يكون"، ذلك في آخر الأمر هو الموقف الذي تؤدي إليه حالة الشك، التي تزلزل قلب المؤمن.

1 الأعراف: 55، 56.

2 الإسراء: 57.

3 الزمر: 9.

ص: 530

فإذا أردنا أن نطلق على هذا الوليد اسمًا -بأي ثمن فلسنا نجد خيرًا من أن نطلق عليه: "شعور الحياء"، وهو حالة مخففة تقع بين انفعالين قويين كما أنه أقرب شيء إلى "شعور الاحترام" ويمكن تعريف هذا الشعور بأنه:"مفارقة المرء للشر، مخافة أن يتدنس، أو يحمر خجلًا أمام نفسه، وأمام الله".

وإنها لصدفة سعيدة أن نجد لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم نفسه على أنه السمة التي تميز الأخلاق الإسلامية، فيقول:"لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء" 1 وفي رواية: "إن لكل دين خلقًا

" 2.

وقد جرى العرف باعتماد الأخلاق اليهودية على أنها "شريعة الخوف"، والأخلاق المسيحية على أنها "شريعة الحب". ولكن مؤلفًا -فيما نعلم- لم يحاول حتى الآن أن يستخلص -على هذا النسق من الأفكار- العنصر الغالب على الأخلاق الإسلامية، فها نحن أولاء قد أوردناه من حديث مؤسس هذه الأخلاق -ذاته، وهو ما يفسر، مرة أخرى، الفكرة المركزية لهذه الدراسة، أعني: أن النظرية الإسلامية تجمع مختلف المبادئ اللازمة للحياة الأخلاقية في تركيب منسجم، بحيث تجعلها جميعًا تتجه نحو الوسط العادل.

ولنعد إلى موضوعنا، ولنفترض أن شعورًا واضحًا بالخوف أو بالرجاء يمكن أن يولد لدى المؤمن طاعة نفعية، عن طريق توقع السلام الموعود. فلسوف نقول إذن بأن ما تقوم به الإرادة لتحويل هذه الغاية الوجودية إلى غاية إرادية، أي: لتجعل منها دافعًا للعمل -هذا التحويل يخلق بلا شك علاقة جديرة، أو مسافة معينة بين وجهة نظر المشرع، ووجهة نظر الذات.

1 انظر موطأ مالك، كتاب جامع، باب 11.

2 ابن ماجه، كتاب الزهد، باب 17، وكذا في الجامع الصغير 1/ 97 عن النعمان بن بشير.

ص: 531

ولما كانت هذه المسافة لا يمكن تجنبها تقريبًا في الأنفس الضعيفة، فإنها لا يمكن أن تنشئ جريمة أخلاقية، وإنما هي من قبيل اللمم الذي يغفره أي شرع عادل، وإن كان يعريه من أية قيمة إيجابية.

ولقد رأينا كيف يعرف الغزالي "النية الحسنة" بالمعنى الرفيع للكلمة، ثم هو يتحدث بعد ذلك عن هؤلاء الذين يدفعهم إلى الطاعة خوف العقاب، أو إغراء الثواب، فيقول:"الحقيقة ألا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى، وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين، وهو الإخلاص المطلق، فأما من يعمل لرجاء الجنة، وخوف النار فهو مخلص، بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة، وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج، وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط"1.

إن البحث عن السعادة المقبلة ليس سوى حالة خاصة لمفهوم أكثر عمومًا، هو السعي إلى غايات ذاتية، وصفناها بأنها مشروعة، ولكنها مبتذلة، وقلنا: إن الشرط في هذا التقدير "الوسط" ألا تكون الإرادة مدفوعة إلى الموضوع المراد، مستقلة عن الشرع، بل بناء على موافقة ضمنية على الأقل بأن تتابع السعي في هذا الموضوع، بهذا العمل أو ذاك.

ولنضف هنا شرطًا آخر يظل خفيًّا بعض الشيء، وغير محدد بصورة كافية. فلكي نستحق هذا التقدير "الوسط" يجب كذلك أن يكون التأثير الذي يمارسه القانون الأخلاقي على هذه الإرادة النفعية ذا طابع "مقيد ومحدد" لا أكثر ومعنى هذا: أنه يمنعها من أن تمضي إلى ما وراء الغاية المقصودة، ولكنه لا يقدم لها أي سبب صالح لتشجيعها على العمل، وإلا

1 الإحياء 4/ 369.

ص: 532

فإن الإرادة تسترد اعتبارها، كما ينظر إلى النية على أنها حسنة من الناحية الأخلاقية.

والواقع أنه ما دامت الإرادة لا تمسك من الموضوع المراد سوى كونه مباحًا، فكيف يتسنى لها أن تتجه نحو هذا الموضوع، بله أن تتجه إلى عكسه "الذي هو أيضًا مباح افتراضًا"، لو لم تكن مدفوعة بأشياء خارج الشرع، كالميل، أو العادة؟

إن الشهوة، حتى لو كانت مقيدة بالقاعدة، هي دائمًا شهوة، ولذلك نعد من باب التافه المبتذل ذلك السعي إلى الخير الشخصي، عاجله وآجله، بل هو فقط من باب المباح.

ولن يكون الأمر كذلك حين تكشف الإرادة من وراء اللامبالاة الظاهرية التي يبديها القانون، أسبابًا إيجابية "تجعل العمل أفضل من الامتناع، من الناحية الأخلاقية" فتسعى هذه الإرادة إلى الموضوع، لا من حيث هو مشبع لشهوة، بل من حيث إن هذا الإشباع سوف يكون فرصة لخير أخلاقي ندب إليه الشرع.

وإليكم أمثلة مستقاة من السُّنة النبوية:

1-

الكسب:

وذلك أن النشاط المنظم في اكتساب خيرات الأرض تتغير قيمته، تبعًا للهدف الجوهري الذي يختطه لنفسه، وتبعًا للروح التي تحركه.

فإذا كان الهدف هو الفرح بالتملك، وإمكانية التمتع بالحياة دون تعثر، فإنه يظل متوجهًا إلى الفطرة، ولا يستحق أكثر من أن يوصف بأنه

ص: 533

"لا بأس به". ومن هذا الباب قوله، صلى الله عليه وسلم:"لا بأس بالغنى لمن اتقى"1.

فأما إذا كان في مصدر هذا النشاط نظرة نزيهة، وإذا كان العامل يتحرك متطلعًا إلى نظام أفضل في توزيع السعادة العامة، وهو نظام يرجو أن يسهم فيه بهذا النشاط، سواء بأن ينسى نفسه، أو بأن يعتبرها فردًا في هذا النظام الشامل، حينئذ تصبح النية جديرة بالتقدير والثناء، بعد أن كانت نية مبتذلة، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري:"فنعم صاحب المسلم، ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل"2. ولعلنا نتذكر هنا ما سبق من قوله عليه الصلاة والسلام بشأن الخيل أنها: "لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر" 3.

2-

الكماليات:

وهذه القيمة ذاتها يمكن أن يوصف بها الاستعمال المعتدل لأدوات الترف والرفاهية بعامة4، وذلك إذا كنا لا نتصور هذه الكماليات على أنها تجيب عن تطلعنا، وتشبع حاجتنا الفطرية، بل بحسبانها إحسانًا ترتضيه العناية الإلهية، إلى جانب أن الرضا بها يجعلنا موافقين لمشيئتها:"إن الله جميل يحب الجمال" 5، ومعترفين -في الوقت نفسه- بفضلها:"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"6.

1 انظر: ابن ماجه، كتاب التجارة، باب 1.

2 البخاري، كتاب الزكاة، باب 49.

3 انظر: ص407.

4 من أمثلة ذلك الالتزام بحسن الهندام، والنعال، وقد ورد هذان المثالان نصًّا في استفسار يجيب عنه الحديث الوارد في سياق الكلام.

5 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبر.

6 الترمذي، كتاب الأدب، باب 53.

ص: 534

فإذا أخذت المسألة على هذا النحو لم يكن الاستمتاع المعتدل بما وهبنا الخالق من عناصر الطبيعة -مباحًا فقط، ولكنه يصبح مندوبًا إليه، من حيث إنه يتيح لنا أن نبرهن على شكرنا للمنعم المتفضل.

3-

الاستثناءات:

فالحرمان الإرادي مما مكننا الله منه يشبه إذن أن يكون اعتراضًا سيئًا وغير مهذب على على مقاصد الفضل الإلهي، ويصدق، هذا بخاصة على الحالات الاستثنائية التي يريد الشرع أن يوفر علينا فيها مواجهة بعض الصعوبات، فهو يحدث بعض الاستثناءات للقاعدة العامة:"إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه""أو""كما يكره أن تؤتى معصيته"1. فمن استعمل هذه الاستثناءات، بروح النظام والموافقة الكلية، لا على سبيل الترف والتفريط -فإنه يرتقي إلى ما فوق مرحلة براءة العوام، وهو يبرهن بذلك على تواضعه، وخشوعه أمام الله، حين يقر بعدالة كل إجراء رحيم، من لدنه، باعتباره تلطفًا إلهيًّا بضعفنا الإنساني.

وبعكس ذلك، فإن من يزعم لنفسه القوة على تحمل المشقة، وعلى التزام الإجراء الصارم، الذي يتقرر في الظروف العادية أوشك أن يقول لله:"إنني أستطيع أن أستغني عن رحمتك".

4-

اللعب:

هل هناك ما هو أكثر ابتذالًا وتفاهة في نظر الحكمة القرآنية من اللعب

1 والحديث بالرواية الأولى، أخرجه البزار عن ابن عباس، كما في التغريب، والترهيب للحافظ المنذري 2/ 92، وبالثانية رواه أحمد عن ابن عمر، حديث رقم 5866 و5873. "المعرب".

ص: 535

واللهو؟ وكلما أراد القرآن أن يضع من شأن الحياة الدنيوية، وأن يحقرها -هل استعمل في ذلك سوى أن يصفها بهذين اللفظين: لعب ولهو؟

ومع ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن بعض الألعاب الرياضية "كالرمي، وتربية الخيل"، وهي ألعاب ذات قيمة، فقال عن عثمان، رضي الله عنه:"كل شيء ليس من ذكر الله فهو لعب ولهو، إلا أن يكون أربعة: ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فرسه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة"1.

وكما قال بعض الصحابة: من حكم علي، رضي الله عنه:"روحوا القلوب؛ فإنها إذا أكرهت عميت"، ومن أقوال أبي الدرداء:"إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو، فيكون ذلك عونًا لي على الحق"2.

لقد كانوا يرون أن من الخير أحيانًا أن يريحوا أنفسهم ببعض اللهو، حتى يشحذوا أذهانهم، ويستردوا طاقاتهم اللازمة لاستئناف النشاط الأخلاقي بالمعنى الصحيح.

من هذا كله تنبع نتيجتان واضحتان في الأخلاق الإسلامية:

الأولى: أن في هذه الأخلاق منطقة وسطى، بين الحسن والقبيح.

والثانية: أن تدخل النية الحسنة يجعل الأعمال المباحة أو المسموح بها فقط، أو حتى الأعمال التي قلما ندب إليها الشرع بعامة -يجعلها حسنة وجديرة بالثناء.

1 الجامع الصغير للسيوطي 2/ 93، وروى النسائي "وليس اللهو إلا في ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه ونبله". 6/ 185، ط. الحلبي. "المعرب".

2 الإحياء 4/ 364.

ص: 536

ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر هذه الصرامة التي لجأ إليها أكثر الحكماء والنساك في الإسلام؛ ليحرموا على أتباعهم، وأحيانًا على أنفسهم، أن يقبلوا على عمل من قبيل المباح فقط، أو ينتفعوا برخصة، وأن يتخلوا عن نزعاتهم حتى ما كان منها أكثر اتصالًا بالشرع، اللهم إلا في حالة الضرورة القصوى، التي يفرضها الحفاظ على الحياة؟ كيف نفسر هذا؟

والواقع أن منهجهم يتطلب أن يستشير كل فرد هواه، لا لكي يتبعه، بل لكي يأخذ جانب المعارضة منه تمامًا1، وهم يعلنون ضرورة أن يشغل المرء نفسه بواجب جوهري، هو "الواجب"، أو بواجب كمال هو "المندوب"، وهم يرون صراحة أن الإنسان مكلف بأن يقف في مواجهة الأشياء المباحة:"المباحات" -تمامًا كما يقف من الأشياء المحرمات. أليس في هذا خلط لنظامين اهتمت النظرية اهتمامًا كبيرًا بالتفرقة بينهما؟ وهل من المستطاع أن نوفق بين هذا الرأي، وتعاليم القرآن والحديث؟

أما فيما يتعلق بطريقتهم في صوغ تلاميذهم فإن لنا إجابة نستقيها من تعاليم الشيوخ أنفسهم، فهذه الصرامة في النظام، كما يقولون، ليست إلا نوعًا من العلاج يجب أن يفرضه المنتسبون على أنفسهم في مرحلة انتقال، تختلف طولًا وقصرًا، وهي طريقة لتحطيم قوة الشهوة الحسية في أنفسهم، التي تعتبر أقدم النزعات وأرسخها جذورًا في الفطرة الإنسانية، وبذلك يتم التمهيد لسيطرة العقل.

وكلنا يعرف التأثير المشئوم الذي يحدثه في النفس تعود التساهل، فلكي يتم استئصال هذه الرذيلة من أنفس المبتدئين يجب أن يتعاطوا أولًا دواء على

1 انظر الحكيم الترمذي، كتاب الرياضة، ص345 و348 من المجموع. "المعرب".

ص: 537

هذا النحو من القسوة. فهم يبرئون المتطرف بالنقيض المتطرف، حتى يعود المرء بعد ذلك إلى الوضع العادي، ومتى ما انطرحت عن نفسه أثقال هذه القوى المناهضة للأخلاق سمح لها بإرخاء العنان لجوارحها شيئًا فشيئًا، إذ كانت مطمئنة منذئذ إلى قدر من النور في القلب، يعصمها من الوقوع في ظلمات الحواس بسهولة.

هذه الطريقة في معالجة نفس المبتدئين في الطريق بقسوة لا تبدو لنا مع ذلك إبداعًا أو ابتكارًا، حين نضعها في مجموع النظم الإنسانية المناظرة لها، فلقد اتبع الناس في كل عصر نفس المنهج كلما أرادوا أن يحدثوا تغييرًا ذا طابع عميق، وهكذا تصنع الأم لتفطم ولدها، كما يفعل المروض ليستأنس الوحوش، ويدرب جوارح الصيد1.

أما فيما يتعلق بالنساك أنفسهم، فلما كان سعيهم إلى اكتساب التطهر بالجهد والجهاد، فليس من المستبعد أنهم قد فرضوا على أنفسهم هذه القساوة في بداية2 مضمارهم. لكنهم إذا تخطوا هذه المرحلة التعليمية يتبعون بصفة عامة المسيرة العادية، ولا يلجئون من بعد إلى هذا التكلف.

1 انظر: كتاب الرعاية للمحاسبي ص79-80، وأيضًا كتاب الرياضة للحكيم الترمذي ص375 من المجموع، قال: فكذلك النفس إنما تجيب ربها عز وجل فيما أمرها بعد فطامها عن عادات الأمور التي اشتهت ولذت، فإذا فطمتها ألزمتها الدعاء، وثناء الرب ومدائحه ونجوه، حتى يأنس بذلك، ويألف الذكر، حتى ينكشف الغطاء بعد ذلك فيألف ربه عز وجل وكذلك تجد الصبي قد ألف ثدي أمه، حتى لا يكاد يصبر عنه ساعة، فإذا فطمته اشتد على الصبي وبكى وقلق، فإذا دام الفطم نسيه وأقبل على الطعام والشراب، فكلما وجد حلاوة الأطعمة والأشربة هجر الثدي، وعاف ذلك اللبن، وكذلك الدابة

إلخ. وضرب الترمذي قبل هذا النص مثلًا بالبازي يربى ويدرب حتى يأنس بصاحبه ويألفه إذا دعاه. "المعرب".

2 وذلك كأن نجد سهل بن علي المروزي وقد تعود حينًا ألا يمر بالسوق إلا مغضيًا بصره، وسادًّا أذنيه بقطع من القطن، وفي نفس هذه المرحلة من الزمن كان يأمر أخت زوجته أن تستتر دونه، ولكنه بعد ذلك هجر كل هذه الاحتياطات. وهناك شخصية أخرى، لم يذكر اسمها، من جيل التابعين، فرضت على نفسها الصمت المطلق لسنوات عديدة، وقد وضع الرجل في فيه دائمًا حصاة، لم يكن يخرجها إلا لحظة الصلاة، والطعام.

"المؤلف". انظر: كتاب الرياضة للحكيم الترمذي، ص375-376 من المجموع. "المعرب".

ص: 538

وإذا كنا أحيانًا نراهم في أثناء مرحلتهم النهائية يمتنعون عن عمل مباح فلا ينبغي أن نرى بالضرورة في هذا الامتناع حرمانًا مفروضًا، أو تحريمًا إراديًّا لما يجيزه الشرع؛ وذلك لأن لدينا تفسيرين لتزكية سلوكهم: فإما أنهم لم يشعروا بحاجتهم إلى استعماله، فهم يختارون أحد النقيضين المباحين على سواء، وإما أنهم لانشغالهم بمراقبة حركة القلب، وتوجيهها إلى خير نية ممكنة -يسقطون العمل الذي تحركهم إليه نية مبتذلة، مؤثرين عليه عملًا آخر، لا يرتابون في قيمته الأخلاقية، على ما ذكره الغزالي:"من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى، وانتقلت الفضيلة إليه، وصارت الفضيلة في حقه نقيصه؛ لأن الأعمال بالنيات، وذلك مثل العفو، فإنه أفضل من الانتصار في الظلم، وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل"1، أي: إن اختيارهم قد يختلف من حالة إلى أخرى، تبعًا للجهة التي تملي عليهم بالفعل دافعًا أرقى، وهو موقف شريف، ومعقول تمامًا، حينما تكون هنالك فرصة للعمل، ولكنه لا يكون كذلك حين تقتضي الظروف عملًا سريعًا؛ لأنه حينئذ يجب أن نميز بين واجبين أداء: أن نعمل، وأن نكون على نية حسنة، فإذا لم يبلغ المرء أن يحقق الثانية،

1 الإحياء 4/ 364.

ص: 539

فهل من سبب يدعوه إلى إهمال كل شيء؟ 1.

وإذن فإن حكماءنا، في انتظارهم وبحثهم عن القيمة العليا، لم يذهبوا مطلقًا إلى حد اللامعقول. أليس من التناقض الأخلاقي في الواقع أن نترك الشر يستشري، في انتظار المثل الأعلى؟

لا شك أن من الشجاعة، والشهامة والرجولة، أن نتحمل -كما ينبغي- ضراوة الجوع عندما تفرضها علينا ضرورة أخلاقية أو طبيعية، ومن الجميل والجليل أن يعاني المرء تجربة العزوبة العفة؛ فذلك أحرى من أن يوقعه الزواج في سوء أخلاقي.

وإن القرآن ليدعونا إلى هذا الجلد والتحمل والمصابرة، حتى في الآيات التي يمنحنا فيها الرخص. ولكن للامتناع حدودًا يصبح التصلب والمكابرة من ورائها، لا أقول: نكالًا يرفضه الشرع فحسب، بل أمرًا ضد إرادة الله ورضاه.

ومن المفيد أن نرى كيف تتعاقب هذه الأفكار الثلاثة في نفس الفقرة القرآنية: 1- الإباحة2- النصيحة بالصبر والجلد 3- استبقاء الرفق،

1 انظر: المحاسبي -كتاب الرعاية، 169، قال: إن إبليس "يدعوك إلى الحذر من الرياء بترك العمل، ولما لم تطعه في ترك العمل دعاك إلى الرياء ليحبط عملك، فلما لم تطعه ولم تجبه إلى ذلك حذرك الرياء بترك العمل، فقال: إنك مراء، فدع العمل، فردك إلى ما أرادك عليه، من ترك العمل أولًا، فلما لم تجبه إلى تحذيره ورثك أمنه، فأمنته، إذ لم تفطن أنه إنما أراد أن يحرمك ثواب العمل إذ عرض لك بتحذير الضرر، وأنك تريد بذلك الإخلاص، فلم تخلص لله عز وجل شيئًا حين تركت العمل؛ لأن الإخلاص أن تعمل، وتحذر الرياء، وتنفيه عن عملك، فيخلص لك عند ربك عز وجل وليس الإخلاص أن تترك العمل، فلا يخلص لك عز وجل عملك.

فعلى المريد الإخلاص في عمله، فإن ترك العمل إرادة الإخلاص فلم يخلص لله عز وجل عمله ولكن تركه". "المعرب".

ص: 540

وذلك في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .... {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .... {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} 1 وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ}

{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} 2.

والحكيم المسلم لا يستطيع أن ينكر هذه الدرجات، وإذن، فهو عندما ينظر إلى درجة من الأخلاقية أرفع، على أنها واجب حتم، يعلم علم اليقين أن دونها مكانًا يجوز له أن ينزل إليه، ويجب عليه أن يلجه عند الضرورة؛ لأن التصلب العنيد الذي يقف ضد الفطرة حتى النهاية هو بلا ريب جريمة ولذلك قال مسروق:"ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه، فلم يأكل، ولم يشرب حتى مات دخل النار"3.

إننا لا نملك مطلقًا أنفسنا؛ لا نملك أن ننفقها، ولا نملك أن ندخرها، وحينما يطلب الشرع الأخلاقي منا تضحية معينة يجب علينا قبولها عن طواعية ورضاء، فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك حين يعفينا منها؟ إن الامتثال لأمر الفطرة بوساطة أمر الشرع الأخلاقي هو الذي يؤدي قطعًا إلى النية الباسلة، ولكن لا حرج علينا أن نمتثل لهذا الأمر بموجب الرحمة لذاتها، حين يبيح لنا الشرع ذلك. وكل ما يمكن أن يؤخذ على هذا السعي إلى غايات ذاتية مشروعة هو أنه ليس فيه من الأخلاقية سوى طابعها السلبي.

ولكن، قد يقال لنا: إنك قسمت غايات الإرادة إلى مجموعتين: موضوعية، وذاتية، وبعد أن قصرت القيمة الأخلاقية على الإرادة التي يكون هدفها غاية موضوعية، قسمت الغايات الذاتية إلى مشروعة، وغير مشروعة،

1 البقرة: 184-185.

2 النساء: 25-28.

3 الموافقات 1/ 206، وقد عالج الشاطبي في الصفحات من 205-211 مسألة "لا يطلب من المكلف ترك الأسباب المباحة". "المعرب".

ص: 541

ومن ثم ينتج أن أفضل ما ترتضيه لنية ذاتية هو أن تكون بريئة، أو جائزة. أفلا توجد إذن غايات تتصف بكونها ذاتية، وهي إلى جانب ذلك ذات قيمة باعتبارها ذاتية؟ وألا يقلل هذا دائمًا من قيمة كل منفعة شخصية، فينحط بها إلى أدنى درجات الأخلاقية، إن لم يجعلها موضع الاتهام العقيم، وبحيث لا تستطيع على كل حال أن تنشئ دافعًا صالحًا؟

أما فيما يتعلق بالنفع الحسي، الذي لا يتصل بوصفه كذلك بالأخلاقية إلا من بعيد فإني أوافق على أن يوصم بهذا النقص، ولكن هنالك أيضًا نفعي الأخلاقي، بالمعنى الصحيح، فهل ترى أن تحمله قدر الخير الحسي نفسه، فتقصيه أيضًا من مجال المبادئ المحددة للإرادة على وجه مقبول؟ وإذا كنت أهتدي، حين أقبل على أعمالي الفاضلة، برغبتي في أن أكتسب الصفات الراسخة لنفسي: طهارة قلبي ونور عقلي، وقوة إرادتي -فهل يمكن القول دون تعارض في الحدود بأن الإرادة التي تسعى إلى خيرها الأخلاقي لا تتحرك بنية أخلاقية حسنة؟

ونجيب عن ذلك: بأنه يجب أن نعلم أن الأخلاق العقلية، كأخلاق قدماء الإغريق، والرواقيين منهم بخاصة، ترى في نية كهذه أنها ليست حسنة، فحسب، بل هي أفضل ما يمكن تحقيقه، وإذا كان جوهر النفس هو معرفة الحقيقة، وملازمة الفضيلة، وإذا كان أكمل الأعمال في كل شيء -من ناحية أخرى- هو العمل الذي يهدف إلى تحقيق كمال جوهره -فيجب أن نستنتج من ذلك أن المبدأ الأخير في الأخلاقية لا يمكن أن يكون غير البحث عن هذا الكمال.

ويجب أن نؤكد فضلًا عن ذلك أن من المستحيل من وجهة نظر الأخلاق القرآنية أن نقابل بين هذين النوعين من الخير الشخصي؛ لأنه على حين يقدم القرآن لنا مسألة البحث عن الرفاهية المادية على أنها مجرد أمر مباح، فإنه

ص: 542

لا يقتصر على أن يجعل من طهارة القلب شرطًا للسلام والسعادة الأبدية فحسب، ولكن عنوانًا ذا قيمة للاكتساب، والاجتهاد الذي لا يفتأ يستثير جهدنا إليه، واقرأ إن شئت قوله تعالى تعبيرًا عن المعنى الأول:{يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 1، وقوله:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} 2 -ثم اقرأ عن المعنى الثاني قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3، وقوله:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 4، وقوله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} 5.

وإذن، أليس من الواجب أن نجعل من هذا النوع من الخير الشخصي استثناء من القاعدة العامة؟

ومع ذلك، فعلى الرغم من كل الاعتبارات التي تنتصر لمصلحة هذا الاستنتاج -فإنا نعتقد أن في مبدأ "الكمال" غموضًا، ومن ثم، عجزًا عن أن يكون في ذاته، وبمفرده، الباعث الأخلاقي الأسمى.

والواقع أنه يحدث غالبًا أن ننشد الكمال في صفاتنا العليا، العقلية والأخلاقية، لا ننشدها لذاتها، بل لكي نحصل بكمالها على شيء من المرونة، وسرعة العمل، وعلى كفاءة أحسن، دون أن نتطلب من أجل هذا أن تخضع ممارستها لقاعدة الواجب خضوعًا دقيقًا، وفي هذه الحالة لا يعتبر.

1 الشعراء: 89.

2 ق: 33.

3 التوبة: 103.

4 الأحزاب: 33.

5 الأحزاب: 53.

ص: 543

الكمال في نظرنا غاية في الواقع، بل وسيلة لبلوغ غايات أخرى، يجب أن ينظر إليها بدورها بعين الاعتبار، حتى نحسن الحكم على قيمتها، تبعًا للمقياس الأخلاقي.

وحتى عندما نرى في هذا الكمال غاية أخيرة، بقطع النظر عن كل ما تبقى، فهل يكون عملنا حينئذ سوى إشباع هذا الميل الفطري الذي يقضي بأن على كل كائن أن يحقق كمال جوهره؟

وهذا الجوهر المثالي، النقي أكمل ما يكون النقاء، والذي نتخذه نموذجًا هل يمثل بالنسبة إلينا شيئًا آخر سوى أنه موضوع اهتمام فني؟ وليس بخاف أنه لا الغريزة، ولا ذوق الفن، من مبادئ الأخلاق، ولا يمكن أن تكون كذلك، وأقصى ما يمكن أن تبلغه هو أن نظل معها في مستوى البراءة. ولن يكون الأمر على هذه الحال لو أننا تصورنا هذا الكمال في النفس والعقل، لا كتلبية لحاجاتنا أو أذواقنا، بل في علاقته بالقاعدة الأخلاقية، سواء من حيث هو أداء لواجب، أو من حيث هو كفاءة كبرى على أدائه.

وهكذا نستطيع أن نستنتج، برغم التناقض الذي نواجهه في إثبات الاستنتاج -أن جميع الغايات الذاتية المشروعة، مهما اختلفت في ذاتها، لا تختلف بوصفها كذلك، على صعيد النية. ولما كانت قيمتها من هذه الناحية نسبية ومشروطة، فإن المبدأ الأخير للأخلاقية يجب أن يبحث عنه في غاية موضوعية ثابتة، تخضع لها الإرادة دائمًا وتخلص.

من أجل هذا لا نجد في الآيات التي يمجد القرآن بها صنائع الإحسان، يؤديها المتصدقون، بنية تثبيت أنفسهم -لا نجد هذا الهدف المذكور إلا في المحل الثاني، وبوصفه عنوانًا فرعيًّا؛ إذ كانت النية الأساسية ابتغاء وجه الله، وكسبًا لمرضاته، ولاحظ ذلك في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ

ص: 544