الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: النية والدوافع
مدخل
…
الفصل الرابع: النية والدوافع
"النية" l'intention بالمعنى الواسع للكلمة: حركة تنزع بها الإرادة نحو شيء معين، سواء "لتحقيقه"، أو "لإحرازه".
والموضوع المباشر للإرادة الفاعلة هو "العمل" الذي تشرع في أدائه، ولكن هذا المشروع لا يكون ممكنًا كمشروع إرادي على وجه الكمال، إلا حين يلمح الإنسان في صميم العمل ومن ورائه شيئًا من الخير، أيًّا كان، يزكيه في نظره، وينشئ له سبب كينونته. وفي هذا يكمن الموضوع غير المباشر، أو الغاية الأخيرة التي يقصد إليها الجهد العاقل، الواعي، والتي يتطلع إلى بلوغها.
وتطلق كلمة "غاية" FIN أو "هدف" BUT على ذلك الموضوع البعيد، من حيث هو حقيقة مستقبلة يتعين السعي وراءها وبلوغها، ولكنه من حيث هو مبدأ أو فكرة، تحفز النشاط الإرادي، وتمهد له، يطلق عليه "باعث" motif أو "دافع" mobile، فهما كلمتان معتبرتان بعامة مترادفتين تمامًا، على حين أنهما تشتملان على قدر كافٍ من الألوان الدلالية، يحدد لتصوراتنا دورًا مختلفًا في هذا الإعداد للعمل. فباعتبار أنها "باعث" تصور فكرة الخير الأسمى حالة عقلية صرفة، تستخدم في تسويغ العمل المعتزم، وجعله معقولًا، وبيان مطابقته للقانون أو الشرع.
بيد أننا حين نتجاوز هذه المرحلة العقلية نجد أن فكرة الهدف تتمثل
لنا كقوة محركة تدفع نشاطنا، وحين ننظر إليها من وجهة هذا التأثير على الإرادة فإننا نطلق عليها اسم الدافع mobile.
ويمضي "كانت" إلى ما هو أبعد من ذلك في هذه التفرقة، حين يطلق كلمة "دافع mobile" إطلاقًا نوعيًّا على الغايات الذاتية، الصادقة بالنسبة إلى الشخص فحسب، على حين يطلق "البواعث motifs" مرادًا بها عنده الغايات الموضوعية، الصادقة بالنسبة إلى جميع الكائنات العاقلة1.
وأيًّا ما كان أمر هذه الألوان الدلالية، فإن نقطة انطلاقنا في هذا الفصل هي التفرقة الواضحة بين نوعين من مطالب الإرادة هما: الماهية le quoi، والسبب le pour quoi.
فمن المسلم لدينا في الواقع أنه في أي قرار عادي يتخذ بعد تأمل كافٍ -لا بد للإرادة من نظرتين: إحداهما تنصبّ على العمل، والأخرى على الغاية وهذه العين الغائية للإرادة قد تغض الطرف، ولكنها لا تكون مغلقة بصورة كاملة مطلقًا، ولقد يبتعد الموضوع الذي تتأمله من مجال الشعور الواضح، ولكن لن يقلل ذلك من حقيقة حضوره فيما تحت الشعور، أو في اللاشعور، وهو أكثر عمقًا وخصوصية. بل إن هذا الموضوع هو المبدأ الأول الذي يلهم الإرادة ويحدد حركتها نحو العمل.
هاتان النظرتان للإرادة هما موضوعان مختلفان من موضوعات الدراسة في العلم. فعلى حين أن النية الغائية يكثر تناولها بخاصة لدى الأخلاقيين، نجد أن علماء النفس والقضاة مشغولون أكثر بدراسة النية بمعناه العام، والموضوعي بعامة، بحيث يجوز لنا أن نفرق بين هذين النوعين من النية، بأن نطلق
1 انظر: Kant، Fondement de la meta. Des Moeurs، 2 section، p. 148.
عليهما، كل على حدة: النية الأخلاقية، والنية النفسية، "أو السيكولوجية" لا لأن الأخلاقية لا تهتم باختيار الموضوع المباشر "فهذا الاختيار بعكس ذلك هو شرطها الأولي"، ولكن لأن الفعل الذي يفقد فقدانًا كاملًا هذه النية الأولى -لا يدخل في مجال الأخلاق amorale1، أعني يكون محايدًا؛ على حين أن الإرادة التي تسعى وراء غايات غير مشروعة هي إرادة ضد الأخلاق immorale، أعني: آثمة.
أما النية النفسية، فإنها لا تفعل أكثر من أن تمنح العمل حق الحياة، إنها تجعله صحيحًا، يعتمد عليه، والنية الحسنة أخلاقيًّا تجلب إليه ما يناسبه من القيمة. ولقد كان من المستحسن دون شك أن يحدد هذان النوعان في اللغة الشائعة بتسميتين مختلفتين، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، بكل أسف، بل لقد خلطت اللغة بينهما دائمًا في لفظ واحد، تاركة لنا مهمة تمييز المعنى الدقيق المراد منه، بحسب السياقات، أو الظروف التي يستعمل فيها. أما الذين يولعون بالوضوح والتحديد، فينبغي عليهم إذن أن يلجئوا إلى صفات مميزة، مثل: الأولى، أو الثانية، المباشرة أو غير المباشرة، النفسية أو الأخلاقية، الموضوعية أو الغائية.
ومع ذلك، فإن بعض الأخلاقيين يحتفظون باسم "نية intention" للمعنى الذي يرتبط بالعمل، وباسم "القصدية intentionnalite" للمعنى الذي ينصرف إلى الغاية، حتى يبددوا هذا الغموض، ويختصروا الكلام في نفس الوقت.
أما نحن، فسوف نعنون هاتين الدراستين بكلمتي:"النية intention" و"الدوافع mobiles" -من أجل مزيد من الوضوح.
1 يقصد بهذه الكلمة أنه ليست فيه فكرة الأوامر الأخلاقية، فلا علاقة له بها. "المعرب".