الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثالثهم: "رجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفَق فيها، إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسحب على وجهه، ثم أُلقي في النار، أولئك أول خلق الله تسعر بهم نار جهنم"1.
ومن الواضح أن الناس، في هذه النيات الخربة، قد أصبحوا موضوع عبادة مشترك مع الله سبحانه، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرذيلة بعبادة الأوثان، وأسماها:"الشرك الأصغر"2.
وقد خصص الأخلاقيون المسلمون، وبخاصة المحاسبي، والغزالي فصولًا ممتازة لبحث منابع هذا الفساد القلبي، وأشكاله، وأدويته. ولما كان هدفنا الجوهري أن نستنبط المبادئ العامة الموجودة في القرآن، فإننا نحيل القارئ إلى هذين المؤلفين بالنسبة إلى كل المسائل التفصيلية.
1 صحيح مسلم، كتاب الجهاد وكتاب الإمارة، باب 43.
2 مسند أحمد 5/ 428-429 من حديث محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي. "المعرب".
هـ-
إخلاص النية واختلاط البواعث:
وإذن، فالنية توصف بأنها حسنة، أو عادية، أو سيئة، تبعًا لما إذا كانت طاعة الإنسان من أجل ذاته، أو كانت ذات هدف نفعي، مشروع، أو غير مشروع.
هذا التشريع يفترض أن تحكم الإرادة بمبدأ وحيد، صحيح، أو غير صحيح، وليس بوسعنا أن ننكر الإمكان النظري لهذا الإفراد، ولكن أدنى ما يمكن أن نقوله هو أنه نادر إلى أقصى حد.
وأكثر الحالات ورودًا هي الحالة التي تصطرع فيها أسباب كثيرة لصالح قرارنا، فماذا يمكن -تبعًا للمبادئ القرآنية- أن تكون القيمة الأخلاقية لقرار معين تشترك فيه مجموعة من البواعث؟
لنذكر أولًا النصوص التي سبق ذِكْرُنَاهَا1، والتي لا يمجد القرآن فيها فحسب، بل يطلب منا بقوة، أن يكون لنا قلب خالص من تأثير الدنيا، ومن أهوائه الخاصة، قلب يتخذ من الله عز وجل الهدف الوحيد لأعماله. وهذا هو مجموع الشروط التي تتحدد بها صفة "الخضوع الخالص" والتي قال الله عنها بأن وجود الإنسان على الأرض ليس له من سبب آخر سواها2.
ولقد يحاول امرؤ أن يبدو مترددًا بصدد المدلول الحقيقي لهذه الأقوال، فيقول لنا: ربما كان الغرض إقصاء الوثنية السفيهة، التي هي إدخال بعض المخلوقات هدفًا للتعبد في العمل العبادي، وهو ما لا يستتبع بالضرورة إدانة هذا الانحراف الدقيق للإرادة، الذي يتمثل في خليط من الدوافع إلى طاعة الله.
ولسوف نجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه المفسر الأول للقرآن، قد فهم النصوص المذكورة على التحديد، بمعناها الشامل، وتدل الظروف التي بدأ فيها نزول بعض الآيات -أيضًا- على أن الاهتمام كان في المقام الأول بهذا الخليط من الدوافع، أكثر من أي شيء آخر. وتلك هي الحالة التي نزل بمناسبتها آخر آية من سورة الكهف، وإليك القصة:
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاوس
1 انظر فيما سبق 2، ب.
2 إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56] .
قال: قال رجل: "يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني"1، فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 2.
فإذا تركنا تفسير القرآن، إلى أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا الكثير من هذه الأقوال، فقد روى البخاري ومسلم، واللفظ له عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه: أن رجلًا أعرابيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله"، وفي رواية:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"3.
قال المحاسبي: "وأكثر العلماء يرون أنه أشد الحديث، إذ لم يجعل في سبيل الله إلا من أخلص، لتعلو الكلمة وحدها، ولم يضم إليها إرادة غيرها"4.
وروى النسائي عن أبي أمامة الباهلي، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
1 مرسل، أخرجه الحاكم في المستدرك موصولًا، انظر: السيوطي، لباب النقول في أسباب النزول 146.
2 الكهف: آخر آية.
3 البخاري ومسلم، كتاب الجهاد؛ ومسلم، كتاب الإمارة، باب 42.
4 الرعاية لحقوق الله: 197، وفيه فيما يبدو خطأ مطبعي في قوله:"إذا لم يجعل" وما ذكرناه أنسب لأنه تعليل. "المعرب".
"لا شيء له"، ثم قال:"إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه"1.
وأكثر من ذلك صراحة أيضًا ذلك الإعلان الإلهي الذي نقرؤه في حديث قدسي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"2.
وهكذا نرى تبعًا لهذه النصوص أن جميع البواعث التي تنضاف إلى إرادة الطاعة تعرض قيمة العمل للخطر، وتحرمه من رضا الله تبارك وتعالى.
بيد أننا ينبغي أن نسأل أنفسنا إذا كانت النفس حين تواجه هكذا بأشكال مختلفة من الواجب، فتنقاد لسلطان الأمر ولنهزته معًا -أتكون مستحقة للذم شأن النفس الخاضعة لأهوائها خضوعًا محضًا ومجردًا؟
إن هنالك حالة، مجمعًا عليها، لا يقلل تدخل الشعور الحسي فيها من قيمة الإرادة في شيء، وذلك عندما يكون القرار قد اتخذ بمقتضى الشرع، ولكنا على إثر استحسان غيرنا له نرتضيه أكثر، فالفائدة التي ننالها حينئذ في رأينا ليست السبب في عملنا، بل هي نتيجة له بصورة ما. وتلك هي الحالة الواردة في الحديث، حالة الرجل الذي قال:"يا رسول الله، أسر العمل، لا أحب أن يطلع عليه، فيطلع عليه، فيسرني ذلك". لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل: "له أجران؛ أجر السر، وأجر العلانية"3.
1 النسائي، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر.
2 انظر مسلم، كتاب الزهد، باب 5، ونقله المؤلف:"تركته وشريكه" وهو مخالف لنص مسلم كما حققناه. "المعرب".
3 الترمذي، كتاب الزهد، باب أعمال السر، وذكره المحاسبي في الرعاية 192، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود وطه سرور.
إن المفسرين متفقون على أن هذا القول يصدق في حالة افتراض أن انكشاف السر لم يحدث إلا بعد أن تم العمل، فهل يصدق أيضًا في حالة ما إذا فوجئ الإنسان، وهو يؤديه؟
لقد أراد المحاسبي -بعد أن ذكر الخلاف في هذه النقطة- أن يحسم النقاش، فأحدث تفرقة نوافقه عليها، فهو يلاحظ في الواقع أن السرور الذي يحس به المرء حين يرى في طريق الخير، قد تكون له أسباب مختلفة، ليس لها كلها نفس القيمة، فمثلًا: قد يكون منبعًا للسرور الأخلاقي الحقيقي أن يعطي المرء القدوة الصالحة من نفسه للآخرين، لا لكي ينال الحظوة عندهم، بل لكي تجد الفضيلة بهذه الوسيلة أكبر عدد من المشايعين لها، والعاملين بها. ولكنه ليس محظورًا أن يرتضي المرء هذا الانكشاف غير المتوقع، والذي لم يحاوله، حين يرى فيه نوعًا من الأجر الإلهي، أو دليلًا على أن مآثره الصالحة أهل لاستحقاق رضوان الله.
أما فيما يتعلق بسرور الإنسان الطبيعي بأن يكون مقدرًا في الناس، فذلك معدود دائمًا نقصًا بالنسبة إلينا، ولكنه لا يعتبر محرمًا إلا إذا توقفنا عنده وقنعنا به، فإذا ما اختزل إلى شعور لاإرادي، وعابر، ترددنا في المبالغة في خطورته، وهو ما لم يمنع الأنفس الكبيرة من أن تتألم منه، وتود لو أفلتت من إساره تمامًا1.
فإذا ما نحيت هذه الحالات، فإن المشكلة الحقيقية تكون حين تسبق النظرات النفعية العمل، ثم تصبح إلى حد معين من بين الأسباب التي تفرضه، فذلك هو ما يطلق عليه بالمعنى الصحيح:"اختلاط البواعث".
1 ومن ثم نقرأ في دعاء من أدعية السُّنة: "وأستغفرك لكل خير أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك".
ولقد سبق أن قلنا: إن النية المسبقة يجب أساسًا أن تكون خالصة، ليصدق عليها أنها حسنة. ولكن أهذا الصفاء المطلق واجب محتم، لا يتضمن درجات، ويعتبر إهماله حرامًا يتساوى في خطورته مع السعي الخالص والمجرد إلى المنفعة؟ ثم نسأل أولًا: هل الفطرة الإنسانية قادرة دائمًا على نوع من التجرد كهذا، وهل هي تضحي بنفسها تضحية كاملة من أجل مثلها الأعلى، دون أن تجد فيه في الوقت نفسه ما يجذبها إليه؟
وأيًّا ما كانت الطريقة التي سوف يجاب بها عن هذا السؤال، فإننا نبادر إلى القول بأننا نعتقد أن المبادئ القرآنية تدعونا إلى أن نكون أقل تشددًا بالنسبة إلى المواقف المتوسطة، منا بالنسبة إلى الطرف المقابل.
والواقع أنه إذا لم يكن الشيء داخلًا في نطاق قدرة النفس، وإذا كان من المقرر الثابت -من ناحية أخرى- أنه لا أحد يمكن أن يكلف إلا في حدود وسائله، فيجب بداهة أن نفسر جميع الأقوال التي تتطلب هذا الإخلاص المطلق على أنها بناء لنقطة الذروة في القيمة، التي يجب أن تسعى جهودنا نحوها، دون أن تبلغها أبدًا.
ولسوف يكون الابتعاد عن هذا المثل الأعلى بلا شك "عيبًا"، ولكنه لن يكون "ذنبًا"، سوف يكون نقصًا ولكنه لن يكون فسادًا وخروجًا عن الأخلاق.
ولا حاجة مطلقًا إلى أن نكره النصوص لتفسيرها على هذا النحو، إذ يكفي أن ننظر إلى الفروق في اللهجة التي يصدر بها الحكم بسوء النية، والحكم بالنية المختلطة. فمتى ما بدا اختلاط البواعث، لاحظنا الاختفاء المنهجي لذلك النذير بالعقاب، الذي تستتبعه النوايا الآثمة، ورأينا النصوص تقتصر على القول بأن ذلك لا يستحق أن يوصف بأنه "في سبيل الله"، أو أنه
"لا يرضي الله"، أو أنه "لا يستحق لديه أجرًا"، أو أن "الله غني عنه"
…
إلخ. وما أشبه ذلك من الصيغ المخففة، التي لا تثبت للعمل صفة الإثم، وإن كانت قد خلعت عنه القيمة الإيجابية.
فأما إذا ثبت أن الفكرة المحضة للواجب تستطيع أن تتقدم وحدها في قراراتنا، على جميع الأفكار سواء أكان ذلك بنوع من الاستعداد الفطري، أما كان بوساطة تكرار الجهد، وإذا ثبت أن كل تشويه يخالط نقاءها لا ينتج إلا عن إهمال ناشئ عن خطأ -فهذه نقطة يجب أن تؤخذ حينئذ في الاعتبار، ويتعين أن ننظر في درجة الذنب.
كيف لا نفرق -في الواقع- في حكمنا على نفس حالكة السواد، شديدة الفساد، وأخرى تحاول في صراعها مع الإغراءات الخاصة -أن تخفف، أو توازن، أو تمحو الشر بالخير؟ أوَلم يحدثنا القرآن عن أولئك الذين {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} 1؟
والحق أن هذه الآية تتحدث عن عملين منفصلين، أو لهما سيئ، والثاني، وهو الذي يتمثل بخاصة في الاعتراف بالذنب، وفي التوبة عنه؛ وظيفته أن يكفر عنه، على حين أن الحالة التي تشغلنا هنا، كما يجب أن نعترف، مختلفة عن ذلك: فهي لا تتصل إلا بعمل وحيد، هو نفس العمل، مدفوعًا بنية مختلطة، تأخذ من الحسن والقبح معًا. لكن ذلك فيما نعتقد ليس سوى تفصيل، فالتماثل جوهري بين الحالين، بحيث توجد فيهما دائمًا عناصر متنافرة في مجموع العمل، وبحيث إن وجود بعض الأشياء المقبولة بين هذه العناصر يجعلنا نأمل في رد فعل أكثر رحمة، لدى الحكم الأعظم، عز وجل. وأما أن يظهر هذا الاختلاط في جزء واحد، أو في أجزاء مختلفة فقليلًا ما
1 التوبة: 102.
يهم: ذلك أن التحليل الدقيق الذي يقوم به الحكم لن يكون أكثر تدقيقًا في حالة منه في حالة أخرى، لكي يميز فيها الظروف المخففة أو الملطفة. فإن القرآن يؤكد لنا في مواضع كثيرة أن الحكم الأخير سوف يصدر في ظروف توزن فيها أقل التفاصيل التي للإنسان أو عليه، أي: إن شيئًا مما يكون في صالحنا لن يضيع، حتى لو كان مثقال ذرة.
ولقد استطاع الغزالي، انطلاقًا من هذا المبدأ القرآني أن يضع في هذا الموضوع نظرية راعت إلى حد كبير تنوع المواقف، وهي جديرة أن يوقف عندها.
يرى هذا المؤلف أن من الواجب أن ندرس درجة تأثير كل عنصر من هذا الخليط، مأخوذًا أولًا على حدة، كما لو كان موجودًا وحده في مجال الضمير، ثم يؤخذ بعد ذلك في علاقته بالعنصر الآخر، ومن هذا الدرس، وتلك المقارنة تنتج ثلاث حالات ممكنة: فإما أن يكون كل من الباعثين قويًّا، حتى ليستطيع أن يدفعنا إلى العمل لو كان منفردًا1، وإما أنهما لا يكسبان هذه القوة إلا باجتماعهما، وإما أن أحدهما فقط يملك هذه الطاقة، والآخر ليس سوى قوة مكملة، عاضدة ومعاونة، تجعل مهمة الأول أكثر يسرًا.
ويمضي في تصوير هذه الحالات، بتسمية الحالة الأولى: مرافقة، والثانية: مشاركة، والثالثة: معاونة.
وعلى الرغم من اختلاف هذه الحالات في طبيعتها، فإن الأولى والثانية يجب أن يندرجا في مجموعة واحدة، هي: حالة المساواة "سواء أكانت مساواة في الفعل أم في الترك". وبعكس ذلك تنقسم الحالة الثالثة إلى نوعين
1 أو بتعبير الغزالي: "بحيث لو انفرد لكان مليًّا بإنهاض القدرة" الإحياء 4/ 354.
مختلفين، تبعًا لما إذا كانت السيطرة والتفوق من حظ القوة الأخلاقية، أو من حظ قوة الهوى والعاطفة، فلم يبق للحكم على هذه المجموعات الثلاث، بعد تحديدها سوى أن ننصب الميزان، ثم نرى أي الكفتين سوف يرجح.
ومثال ذلك -على ما ذكر هذا الأخلاقي- أن زيدًا من الناس سألك حاجه، ولنفترض أنه يستحقها بوصفين: الفقر الذي أصابه، ووشيجة القرابة التي تربطه بك، فقضيت حاجته.
فلكي تقيس قيمة عملك ليس أمامك سوى أن ترجع إلى التجربة التي تجريها على نفسك، فإن كنت متأكدًا أنك حين يتقدم إليك أجنبي في حال الفقر ذاتها، أو حين يتقدم إليك أحد أقربائك الموسرين -يسألك نفس الحاجة، فإنك تحس نفس الهزة والأريحية، ففي هذه الظروف نحكم بأن في كل من الباعثين، إذ انفرد، سلطة متساوية على نفسك، وقد اجتمعا جميعًا، فأقدمت على الفعل، وكان الباعث الثاني رفيق الأول1.
وكذلك الأمر في حالة العكس، حين لا يظفر الأجنبي الفقير، ولا القريب الغني بإحسانك، فإن الأسباب المنفردة تكون عديمة الفاعلية بدرجة متساوية.
فأما إذا كنت تعرف مثلًا أن فكرة شقاء الغير تكفي -منفصلة عن أي اعتبار- لغرض إحسانك، وأن رباط القرابة لا أثر له سوى تسريع حركتك، دون أن يطيق إثارتها وتفجيرها -حينئذ تجب التفرقة بين جانبين
1 قدم الغزالي مثالًا آخر من ترافق البواعث بالصورة التي حددها، فقال: "وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام، ودخل عليه يوم عرفة فصام، وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية، ولولا الحمية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة، وقد اجتمعا جميعًا، فأقدم على الفعل
…
" انظر: الإحياء 4/ 354. "المعرب".
في نيتك، جانب رئيسي متغلب متفوق، وجانب آخر مساعد، خاضع له.
ومن البديهي أنه في حالات تساوي التأثير بين الواجب والمنفعة يجب أن ينظر إلى العمل على أنه باطل، فالخير والشر يتقاصان، ويتزايلان، فإذا رجح الباعث الأخلاقي كان له أجر، ولكنه نظير فضل من القوة، بالنسبة إلى دافع الهوى.
وبعكس ذلك لو أن باعث الهوى كان أقوى من باعث الواجب، فإن العمل يكون مستحقًّا للعقوبة، ولكنها أقل مما إذا كان مفروضًا بسبب خبيث.
ذلك أنه كما أن أصغر كمية من الغذاء، أو الدواء، لا بد أن تحدث تأثيرها الطيب، أو السيئ، على أبداننا، فكذلك لا بد أن يضفي أقل ميل للإرادة، وأخف اتصال لها بالخير أو الشر، على أنفسنا قدرًا مساويًا من النور أو الظلام، من القرب أو البعد عن الله.
ويتساوى في ضعف الاحتمال أن تسحق كثرة الشر سحقًا كاملًا قلة الخير، أو أن تمحو قلة الشر محوًا كاملًا كثرة الخير، إذ لو حدث هذا لوضعنا الشرع في مأزق حرج، ولحرمنا من كل أمل ولن تستطيع النفس الإنسانية أن تفلت من هذا الخليط إلا في ظروف نادرة1.
ولكي ندعم هذه النظرية، يمكن أن نستمد دليلًا إيجابيًّا من القرآن الكريم، عندما يبيح للحجيج أن يشتغلوا بحياتهم المادية، خلال سفرهم
1 هذا الظرف النادر هو حالة الإخلاص الكامل لوجه الله تعالى، وهي حالة التجرد المطلق من كل البواعث الدنيوية، يقول الغزالي "الإحياء 4/ 368": والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة
…
حتى قيل: "من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا، وذلك لعزة الإخلاص". "المعرب".
"بالتجارة مثلًا"، إلى جانب اشتغالهم بواجباتهم الروحية، وذلك قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} 1، ولكن على شرط أن تكون الواجبات الروحية هي المحرك الأول2.
أما فيما يتعلق بالنصوص التي عرفناها من قبل، والتي تحكم بالبطلان على كل شرك في البواعث -فيجب، كما ذكر الغزالي، أن نقيدها بالحالة التي تبدو فيها هذه البواعث متساوية، كما تدل عليه كلمة "شرك" عادة3.
والغزالي -على الرغم من الطابع العقلي والنقلي معًا لهذا التصنيف، والذي يبدو لنا عند التجريد ذا سمات صحيحه منزهة- لا يدعي بتقديمه أنه قد وجد الحل العملي النهائي للمشكلة، والمقياس الصحيح الذي يمكننا من الحكم على أنفسنا بأنفسنا، على طمأنينة. بل إنه -على العكس- يحذرنا من "الخطر العظيم" في أن نركن إلى أحكامنا الخاصة، التي قد تجعل هذا العنصر أو ذاك أغلب على قصدنا بين مجموع البواعث.
ثم يقول: "نعم، الإنسان فيه على خطر عظيم؛ لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله، ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي، وذلك مما يخفى غاية الخفاء، فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص، والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه، وإن بالغ في الاحتياط"4.
1 البقرة: 198.
2 ربما ذكرنا في هذا الصدد أيضًا قوله تعالى في سورة [الحج: 27-28] : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} وإن لحظنا تقدم الجانب المادي على الجانب الروحي في نسق الآية. "المعرب".
3 انظر: الإحياء 4/ 368.
4 الإحياء 4/ 374.
وقد سبق هذا الشك أيضًا لدى المحاسبي، ولكن بصورة تذكرنا بالنظرية الديكارتية عن الدليل النظري، فهو مع اعتقاده أنه من الممكن، بل مما تفرضه الضرورة الأخلاقية -ألا نبدأ عملًا إلا عن يقين بأننا نقصد به وجه الله وحده، إلا أنه يرى أن انقضاء بعض الوقت قد يتيح الفرصة للنسيان أو الغفلة، مما يستوجب خوفنا من تسرب بواعث أخرى إلى نفوسنا لا نكون متنبهين لها1، كالارتياح والسرور باطلاع الناس على أعمالنا، أو ركون القلب إلى شيء من ذلك مما لا يلتفت إليه، ثم لا نزال حذرين حتى نفرغ، ثم نمسك عن إظهارها، يقول المحاسبي:"فإذا مضى عليه وقت من الأوقات، ولو كان كطرف العين، مما يمكن المخلوق فيه النسيان والسهو، فالخوف أولى به؛ لأنه لا يدري لعله قد خطرت خطرة بقلبه: رياء أو عجب، أو كبر، أو غيره، فقبلها وهو ناسٍ، لا يذكر أنها رياء، فيكون مشفقًا، خائفًا، فالخوف على عمله، والوجل والإشفاق من أجل ذلك، بل الأمل والرجاء أغلب وأكثر؛ لأنه قد استيقن أنه قد دخله بالإخلاص لله وحده، ولم يستيقن أنه راءى بشيء منه، فالإخلاص عنده يقين، والرياء هو منه في شك، فخوفه إن كان قد خالطه رياء كان ذلك الخوف مما يرجو أن يصفيه الله له، لإشفاقه على ما لا يعلم فيه، فبذلك يعظم رجاؤه، وإن لم يكن خالطه رياء فذلك زيادة على عمله، وعبادة منه، وكلما أشفق ازداد نعيمًا بالطاعة، وأملًا في الله عز وجل، إذا أيقن أنه دخله بالإخلاص، وختمه بالإشفاق والوجل من علم الله عز وجل، فبذلك يعظم رجاؤه وأمله، ويتنعم بطاعة ربه عز وجل"2.
1 ومع ذلك فلا يبدو المحاسبي متشددًا في مسألة معرفة ما إذا كان يجب أن يكون لكل عمل نية جديدة. مؤكدة الإخلاص، فعلى الرغم من أنه يفضل أن يكون ذلك كذلك -يكفي، كما يؤكد، أن يصدق المرء في نية العامة، بألا يطيع الله إلا لذاته، ومتى شعر بسيطرة فكرة أخرى وجب أن يدفعها بازدراء، مجددًا نيته في ألا يعمل إلا لله. "المحاسبي، الرعاية 200".
2 السابق 198 و199.