المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ جهد وترفق:

والشكل الوحيد للعزلة التي يمكن، بل ويجب، أن يعتبر نافعًا، ومرغوبًا فيه بالنسبة إلى كل الناس؛ لأنه يخلق القيم الإيجابية الأساسية هو الابتعاد الجزئي عن الضجيج الدنيوي، بقدر ما يلزم للاستجماع والتأمل الخصب. ولا أحد يماري في فضل هذا النوع من الانطواء، فهو الوسيلة الوحيدة، القادرة على إضاءة أفكارنا، وإعلاء مشاعرنا، وشحذ عزائمنا، ودعم صلاتنا بالقيمة المطلقة.

بيد أنه ليس بلازم أن يتم هذا الاعتزال خارج المدينة، وعلى حساب واجباتنا الأسرية والاجتماعية، فبدلًا من أن يعتبر انقطاعًا، ينبغي أن يكون بالأحرى اهتمامًا باسترداد أنفسنا خلال ساعات فراغنا، وبخاصة أثناء الليل، وهو ما يقصد إليه القرآن من قوله تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} 1.

وفضلًا عن ذلك فنحن نعلم أن هذا النموذج من العزلة الجزئية، والمتقطعة كان من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يختار مبعوثًا إلى العالمين، ومنذ ذلك الحين، لم يزل الرسول يفزع إلى هذه العزلة من وقت لآخر، وبخاصة خلال العشر الأواخر من رمضان، وإن كان ذلك في بيته، أو بجوار البيت، في مسجده.

ولقد اقتدى كثير من صحابته -رضوان الله عليهم- به في هذا الاعتكاف، وما زال بعض المسلمين الصالحين يقتدون به فيه، حتى يوم الناس هذا.

1 المزمل: 6.

ص: 651

3-

‌ جهد وترفق:

أتاح لنا بحث المشكلتين السابقتين أن نطالع أفق التشريع القرآني، فالجهد المادي لا يزيد عن الجهد الأخلاقي، إذ ليس له في نظر الإسلام سوى قيمة تتناسب مع الخير الذي يستهدفه الشرع. وليس هنالك نص يدعونا إلى التماس

ص: 651

المشقات حين لا يقتضيها الموقف، أو الواجب. فأما حين يكون العكس، وهو أن يشتمل عبء الحياة العادية على ثقله، فليس هناك ما يجيز لنا أن نتملص منه. فهما أمران مرفوضان على سواء:"التعصب" الأعمى، و"التنسك" الغبي الضيق الأفق.

فلنتناول الحالة التي يقتضي فيها تحقيق الخير الأخلاقي "بالمعنى الواسع للكلمة" تدخل طاقتنا. فعلينا إذن أن نسأل أنفسنا عن أهمية هذا الاقتضاء، هل هو يتطلب طاقتنا بكمالها، أم أنه يعين لها حدًّا تقف عنده، فإذا تجاوزته أصبح جهد الواجب الأساسي -واجب كمال، "على ما بيناه في دراستنا لدرجات الجهد الإبداعي"، وليس ذلك فحسب، ولكن الاقتضاء الآمر يخلي مكانه لنوع من الإجازة، حتى يبلغ حد التحريم؟

إننا إذا حكمنا على هذه المسألة ببعض النصوص فإن الجهاد يجب أن يستهدف المثل الأعلى، متناسيًا نفسه، وهكذا نقرأ في الآيات الأخيرة من سورة الحج الأوامر الآتية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} 1، وفي سورة آل عمران:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} 2.

1 الحج: 77-78، يجب ألا ننسى أن كلمتي صراع lutte، وجهاد combat في العربية، والفرنسية، هما من الألفاظ الدالة على الجنس، وهما يصدقان على الجهد الأخلاقي أو المادي في جميع المجالات، وفضلًا عن أن السياق لا يتضمن هنا أية إشارة إلى الحرب فيبدو لنا أن هذه الآيات قد نزلت قبل مشروعية هذا النظام. والواقع أن هذه السورة في مجموعها لا ترجع فقط للمرحلة الأولى من الهجرة، بل إنها تشمل بعض الاستثناءات المكية، وعلى ما قرره ابن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ": إن ما يزيد قليلًا على نصفها الثاني يرجع إلى مكة، وإذن فالنص يحمل الصفة الضرورية التي تجعله يذكر بمناسبة الجهد بمعناه العام، الذي نبحثه هنا، وكما قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"المجاهد من جاهد نفسه"، "انظر: الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب 2".

2 آل عمران: 102.

ص: 652

لكن آيات أخرى كثيرة في القرآن، وأحاديث كثيرة في السنة، تحتفل فيما يبدو بإمكاناتنا الإنسانية، وقد خطا القرآن الكريم الخطوة الأولى، في هذا السبيل، بالآية الكريمة:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1، وهي التي نزلت على ما أخبرتنا السنة؛ لتلطيف الحدة الظاهرة في آية آل عمران:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} .

والواقع أن قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يضع حدًّا للعمل، لا بالنسبة إلى ما الله حقيق به، بمقتضى صفاته، بل بالنسبة إلى ما يمكن أن يبلغه الناس، فهو يعفيهم إذن من كل ما يتجاوز مقدرتهم، ولكنه يبدو في الوقت نفسه وهو يلزمهم بأن يسخروا كل قواهم في سبيل هذا المثل الأعلى.

فهل تأمر الأخلاق القرآنية إذن بأن نستهلك حياتنا، وأن نضحي بها عن طريق الإرهاق؟

إن هنالك أمرين آخرين يجلوان هذا الغموض، واقرأ في ذلك قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} 2، وقوله:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} "حقيقة ومجازًا".

ولو أننا نزلنا إلى بعض الأحكام الخاصة فسنرى اهتمامًا واضحًا بأن يكون تطبيقها أكثر اتفاقًا مع الإنسانية والعقل. فليس توقع الموت ضنكًا، أو

1 التغابن: 16.

2 النساء: 29.

3 البقرة: 195.

ص: 653

إكراهًا، هو وحده الذي يجعل مخالفة الشرع جائزة، بل لقد رأينا1 المرض، والشيخوخة، والضرورات التي تفرضها العمليات العسكرية، ومتاعب السفر، كل ذلك من الأسباب التي يمكن أن تفرض نوعًا من التقليل، أو التأجيل، أو التعديل في بناء العبادة الدينية.

وهنا مناسبة أن نبين معنى وهدف الاهتمام القرآني بتعديل الواجب تبعًا للموقف الذي يؤدى فيه.

ونلاحظ أولًا فيما يتعلق بالحالات التي يتعرض فيها الواجب لتعديل مفروض -أنها استثناء، وليست القاعدة. وهي استثنائية من ناحيتين: استثنائية بين الواجبات؛ لأنها تتصل أساسًا بالواجبات الدينية، ولا علاقة لها بتكاليفنا الإنسانية، فليس لواجب الأمانة ألف شكل، ولا لواجب الوفاء بالالتزام، ولو لواجب احترام حياة البريء من الناس، أو احترام ملكيتهم، وشرفهم

إلخ.

وهي استثنائية في تطبيقها؛ لأنها لا تعفي سوى الضعفاء والمعوقين.

ثم نذكر بعد ذلك أنه -حتى في هذا المجال المقيد بالواجب الديني- لا علاقة لهذه الحالات بالإيمان القلبي، وهي لا تؤثر إلا في جانب مادي معين من الواجب، مع محافظتها تمامًا على العنصر الجوهري.

ص: 654

إن أخطر المشقات لا تعفي المؤمنين من أداء صلاتهم، ولا تسمح بأي نسيء لتاريخ الحج، فالتعديل حتى في هذا النطاق، ليس إبطالًا ولا إسقاطًا.

وليس يغض من صدق هذا القول أن القرآن والسنة فيما خلا هذه التعديلات المحددة التي أقرتها النصوص والتي لا يحق لنا تعميمها -قد أقرا منهجًا عامًّا هو أن "الضرورة قانون" في قوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 1، وهما يتصوران هذه الضرورة في جانبها الرحب، والإنساني، كيما نوفر جهدًا قاسيًا وضارًّا، في حياتنا العادية، ولا سيما الدينية.

وهنالك نصوص كثيرة تلح على هذا الطابع الرحيم في الشرع القرآني.

أيجب أن نرى في ذلك تشجيعًا ما على الاعتدال في الجهد؟

إن من المفيد جدًّا أن نتأمل النغمة التي يعبر بها القرآن عن موضوع الرخص، فلقد عالجها بأقصى درجات الحذر والمخافتة، حتى لا نكاد نسمعها.

والواقع أنه لا يذهب إلى حد أن يقول: "اعملوا تبعًا لما يقتضيه الموقف"، ولا يقول أيضًا:"يجوز لكم أو يباح أن تعملوا هكذا". بل إننا لو تأملناه من قريب لرأينا أن الضرورة لم تلغ التكليف، وإنما هي ترفع أثر المخالفة فحسب، فمتى وقعت هذه المخالفة عفا الله عنها:{وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

1 الأنعام: 119.

2 النور: 33.

3 المائدة: 3.

ص: 655

ولكن ما هو جدير بالملاحظة أنه في الحالة التي يسمح بدرجة دنيا من الجهد يستنهض في الحال شجاعتنا؛ لنقاوم إغراء الضعف والفتور، وهو ينصحنا أن نتحمل الآلام التي تنشأ عن هذه المقاومة، وأن نتمسك في شجاعة بالحل الأمثل:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 2.

هذا التوجيه إلى نبل الجهد هو في الواقع لازمة لا يفتأ القرآن يعود إليها في كل مناسبة: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 4.

فهو بصفة عامة يحثنا على أن نختار من بين درجتي الخير الأخلاقي، أكرمهما، وأشرفهما، فالكرم أحرى من العدالة المدنية الدقيقة، والعفو أولى من القصاص، والله يقول:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 5، ويقول:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} 7.

فالقرآن لا يدعونا إذن إلى بذل أقل الجهد، وهو لا يرضى لنا أن نرتدَّ أمام المشقات الأولى "بل إن شعاره دائمًا هو: جاهدوا، اصبروا، صابروا، افعلوا الخير".

ومع ذلك، إن القرآن لا يمضي إلى حد الإفراط في هذا التوجيه، فهو يضع حدين أمام جهدنا الخادم المتحمس: أحدهما مادي، والآخر أخلاقي،

1 النساء: 25.

2 البقرة: 184.

3 الأحقاف: آخر آية.

4 الشورى: 43، وآل عمران:186.

5 البقرة: 280.

6 البقرة: 237.

7 النحل: 126.

ص: 656

فالجسم الذي يتألم من مرض لا يجب عليه أن يؤدي نفس الجهد الذي يؤديه الرجل الصحيح، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، ليس بواجب في بعض الحالات التي يتعرض لها المرء أن يكب على بعض الشعائر على حساب شعائر أخرى، ومن الآيات ذات الدلالة في هذا قوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} 1. فجهدنا يجب أن يتوزع توزعًا عادلًا على مجموع واجباتنا. ولما كان بدننا خادمًا لأنفسنا، فما كان له أن يرهق أو يستهلك في خدمة مثل أعلى محدود النطاق، لدرجة تسلمنا إلى العجز في مجالات الحياة الأخرى، ولقد علمتنا السنة من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"قم ونم، وصم وأفطر، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزورك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا" 2، وفي حديث آخر يقول سلمان الفارسي لأبي الدرداء:"إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، وأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه" ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم:"صدق سلمان"3.

وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، ينصح -تبعًا للحالة- بالإعراض، أو يلوم، أو يذم الإفراط في العبادة، كقيام الليل الطويل، وكصوم الدهر. ومن ذلك أنه رأى في أحد أسفاره زحامًا من الناس حول رجل يظلونه من الشمس، فسأل النبي، صلى الله عليه وسلم:"ما هذا؟ " فقالوا: صائم.

1 المزمل: 20.

2 صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب 84.

3 البخاري، كتاب الأدب، باب 86.

ص: 657

فقال: "ليس من البر الصيام في السفر"1. "يعني في مثل هذا السفر الشاق".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام، حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء، فرفعه إلى يديه ليريه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول:"قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر"2.

ولهذا أيضًا موقف مماثل، ولكن في مجال آخر، "فقد حدث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يتهادى بين ابنيه "يتوكأ عليهما" قال:"ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي3، قال:"إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب"4.

ومع ذلك، فإن هذه السنة نفسها تروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته أن يبذل جهدًا كبيرًا مماثلًا لما نصح الآخرين بالإعراض عنه، فهو لم ينم ليلة كاملة مطلقًا، وأحيانًا كان يقوم في صلاته، في ناشئة الليل، حتى تتورم قدماه. ولقد كان يقضي الليل كله في العشر الأواخر من رمضان بخاصة، قائمًا يصلي، وكان يأمر أصحابه أن يفعلوا مثل ما يفعل، فعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: "من كان اعتكف معي

1 البخاري، كتاب الصوم، باب 35.

2 البخاري، كتاب الصوم، باب 37.

3 يريد أن يحج إلى الكعبة ماشيًا. "المعرب".

4 البخاري، كتاب العمرة، باب 58.

ص: 658

فليعتكف العشر الأواخر" 1. وكثيرًا ما كان يواصل الصوم، ليلًا ونهارًا، خلال أيام كثيرة متوالية، فيقال له في ذلك "إذ كان يفعل ما ينهاهم عن فعله" فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ " 2، أو يقول كما في حديث آخر: "لا تواصلوا "، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" 3.

وهنا ندرك الصفة النسبية للجهد المحمود، فليست القوة المادية، وحدها هي التي لا يتساوى نصيب الناس فيها، بل إن الطاقة الأخلاقية كذلك فما يعد إفراطًا وتعصبًا بالنسبة إلى بعض الناس، ليس كذلك بالضرورة بالنسبة إلى آخرين. وإذا دعم الحب، والخوف، والأمل النفس فإن سائر الآلام والمشقات التي يتعرض لها المرء لا يحس بها، أو تكون على الأقل محتملة، وهي في كل حال أقل إضرارًا. إنها تجلب السرور إلى القلب، والسعادة إلى النفس المخلصة، ولذلك أبدى جمهور من المسلمين الأوائل هذه الروح في التضحية الكريمة، ولم ينكر أحد مآثرهم. وإن القرآن ليشير إلى العمل المستبسل الذي أبداه "صهيب" في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 4، وذلك أنه حين كان المشركون يقتفون آثار النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين أرادوا الهجرة معه -أقبل صهيب مهاجرًا نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته، ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلًا، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم.

1 البخاري، كتاب الاعتكاف، باب 1.

2 المرجع السابق، كتاب التهجد، باب 6.

3 المرجع السابق، كتاب الاعتصام، باب 5.

4 البقرة: 207.

ص: 659

قالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه، ففعل. ومن الواضح أن الواجب لم يكن ليقتضي هذا الذي فعل، ولكنها التضحية التي سجلها القرآن في محكم آياته، وهي تضحية مدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه صهيب بالمدينة وقال:"أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع"1.

ولعلنا نعرف قصة الأخوين الجريحين في غزوة أحد، يحكي أحدهما القصة فيقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي "أحدًا"، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي، أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.

ولمحة أخرى ذات مغزى، فيما روي عن جندع بن ضمرة أنه كان شيخًا كبيرًا، فلما أمروا بالهجرة، وشدد عليهم فيها، مع علمهم بأن الدين لا حرج فيه، ولا تكليف بما لا يطاق -قال لبنيه: إني أجد حيلة، فلا أعذر، احملوني على سرير، فحملوه، فمات بالتنعيم، وهو يصفق يمينه على شماله، ويقول: هذا لك، وهذا لرسولك2.

وإذن، فلم تكن وصية النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء أن يوفروا جهدهم إلا رحمة بهم، فهو يريد أن يتفادوا بعثرة القوة، والجهد الضائع الضار. وهو يقصد

1 أسباب النزول، للواحدي، ط. الحلب، ص39. وورد أيضًا في السيوطي: تفسير الدر المنثور.

2 ذكر المؤلف مغزى القصتين، نقلًا عن الشاطبي في الموافقات 3/ 254، ونقلناهما بنصهما عن نفس المرجع. "المعرب".

ص: 660

إلى أن يتدارك لديهم ردود فعل الإفراط: كالنفرة والتراخي، وتصدع العمل وهجره، وعدم التوازن أو إهمال الواجبات الأخرى التي ليست بأقل أهمية. وهو يستهدف أن يتحاشى التكلف، والأساليب المتجاوزة للحد، التي يبغضها، أولًا وقبل كل شيء، ولقد أمره ربه أن يقول:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} 1.

بيد أن هذه الرحمة التي يبديها تجاه الناس لا تنفي لديه، أو لدى من يريدون ويستطيعون الاقتداء به التزامًا واضحًا نحو أنفسهم أن يبذلوا أشجع الجهد، ولكنه في الوقت نفسه أعقله وأوفقه.

وجملة القول أننا هنا أمام تركيب تلتقي فيه الشدة واللطف، أما وهذا هو الفقه القرآني في هذه المسألة، فلسنا نجد أصدق من أن نقدم بين يدي هذا الفقه شاهدًا من النص ذاته، وهو يجمع هاتين الفكرتين في آية واحدة:

يقول تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 2.

وكذلك ترد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم تعبيرات مماثلة، والواقع أنه كان يقرر دائمًا أن أهم سمات النظام الإسلامي أن يضم صفتين معًا في وقت واحد: إنه "متين"، وإنه "يسر"، وذلك قوله، صلى الله عليه وسلم:"إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق""ولن يشاد الدين أحدًا إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا"4.

1 ص: 86.

2 الحج: آخر آية.

3 انظر مسند أحمد، من طريق أنس.

4 البخاري، كتاب الإيمان، باب 29، 3/ 199. "المعرب".

ص: 661

أمن الممكن أن نختط منهجًا قادرًا على أن يحدد مضمون هذا المفهوم المركب عن "الجهد النبيل المعتدل"؟

إذا كنا نقصد بالتعريف صيغة رياضية صحيحة بصورة شاملة، فيجب أن نطرح هذا التعريف جانبًا، سواء نظرنا إلى الشيء المعرف من الخارج أو من الداخل.

فلنتناوله أولًا من الخارج.

ولا شك أن بوسعنا القول بعامة، بأن جدلية العنصرين اللذين تتكون منهما الفكرة المراد تعريفها يجب أن تؤدي بهما إلى وضع وسط، بين "الخمود" و"الجموح".

بيد أن هذا الوضع الوسط لا يمكن تخيله في صورة نقطة هندسية، تبتعد عن الطرفين بمسافة متساوية، ذلك أن الاختلاف البالغ في الظروف الفردية، والذي ينتج عن آلاف الأوضاع التي لا نملك السيطرة عليها -يوجب على العكس أن نتمثل المقياس العام في منطقة مركزية، تتردد هي الأخرى بين قطبين، يميلان تارة إلى جانب، وأخرى إلى جانب آخر، فيحتويان بهذه الصورة على درجات لا تنتهي.

ولكي تحدد هذه المنطقة المركزية لن يكون لدى الناظر سوى أن يركن إلى الذوق العام وتقديراته التقريبية المبتسرة، تبعًا للتجارب اليومية. والواقع أننا نعلم متى تفتر الطاقة وتقترب من الخمود، ومتى تصير مفرطة محمومة، فنضع الجهد المعقول بين هذين في درجات مختلفة.

ومن هنا نفهم أن القرآن قد التزم باستخدام هذا المقياس العام، وهو يوجه عظاته إلى الناس، ولهذا كان البرد، والحر، والعرق، والتعب، والعطش، والجوع، وما شاكل ذلك من المصاعب التي لا تمنعنا من ممارسة أعمالنا، هذه

ص: 662

كلها لا ينبغي في نظر القرآن أن تعفينا من بذل كل قوانا لأداء واجبنا الأخلاقي. وكما نبذل أحيانًا جهدًا إضافيًّا لكي نوفر حاجات الأفراد الذين نعزهم، ونتكفل بهم، فكذلك ينبغي أن نتحمل أكثر، من أجل واجب أكثر ضرورة، ونتقبل أعظم التضحيات في سبيله:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 2.

وبالرغم من قلة التحديد الظاهرة في هذا التعريف الخارجي إلا أن له ميزة مزدوجة، هي أنه يتطابق مع المنهج القرآني، ويلبي في الوقت نفسه المطالب الأساسية للأخلاقية.

ونلاحظ فيما يتعلق بالقرآن أنه في جميع المواضع التي يتحدث فيها عن الدواعي المعفية من هذه الشعيرة أو تلك -لا يستخدم سوى ألفاظ شائعة في عموم الجنس، مثل "المرضى""المسافرين"

إلخ. فهو حين اكتفى بالمعنى القريب الذي يفهم عمومًا من الصعوبة في موقف كهذا -لم يقل مطلقًا أي درجات المرض، ولا أية مسافة أو مدة في السفر. ولذلك فقد اختلفت آراء الفقهاء إلى أقصى حد عندما حاولوا تحديد أدنى مسافة يقطعها المسافر ليسمى مسافرًا، فبعضهم جعلها مئات الفراسخ، وآخرون عشراتها، وغيرهم بعضًا منها.

بيد أن عدم التحديد بهذه الصورة كان ضروريًّا في نفس الوقت لإنقاذ

1 التوبة: 40.

2 التوبة: 81.

ص: 663

حرية الضمير الأخلاقي، ولولاه لما بقي للفرد أثر من حرية الاختيار. وبهذه الطريقة التي استخدمها القرآن في التعبير بوضوح ومرونة -استطاع أن ينشئ إطارًا متوافقًا لبناء هذا الوسط الأخلاقي المشترك بين جميع أعضاء الجماعة، ولكنه إطار غني بالألوان يمكن أن نجد في داخله درجات كثيرة من القيمة الأخلاقية.

وفي هذا الإطار يدعى كل فرد إلى ممارسة نشاطه، بأن يضع نفسه على درجة مناسبة العلو، في سلم القيم، تبعًا لطاقته المادية، ومطامحه الأخلاقية.

وبهذا يتضح معنى ذلك الحديث الصحيح الذي يقرر أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون "مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم"1.

والقرآن لا يعتمد فقط على الضمير الإنساني حين يغفل تحديد الشروط لهذه الرخصة أو تلك، بل إنه يرجع إليه صراحة في تحديد بعض واجباتنا الأسرية، والاجتماعية، التي يتركها غير محددة من الناحية الكمية، مكتفيًا بالقول بوجوب أدائها في صورة إنسانية وهو يجمل هذه الصورة الإنسانية في كلمة "المعروف":{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} 4، بل إن القرآن الكريم غالبًا ما يضع أفكار الخير والشر تحت اسم "المعروف، والمنكر".

1 البخاري، كتاب الصوم، باب 36.

2 البقرة: 228.

3 البقرة: 233.

4 البقرة: 236.

ص: 664

بيد أن المقياس الحقيقي للفكرة المركبة التي تشغلنا هنا لا يمكن تحقيقه إلا من الداخل، حيث يجب أن يترك لتقدير كل منا بنفسه، وليس معنى ذلك أن يحدد كل منا مقياسه مرة واحدة، بل يجب أن يتنوع هذا المقياس ليقابل في كل تجربة بين قيمة طاقتنا المتاحة، وأهمية أعبائنا، دون أن نغفل جانب التوافق في مجموع تكاليفنا.

ولقد يحدث -دون شك- أن تقود المرء رغبة خفية في التملص من الواجب، فيفيد من هذه المرونة في القاعدة العامة، ليطبقها على حالات مقاربة، من نفس الطبيعة في الظاهر، وفي هذه الحالة ننقذ المظاهر دون أن تكون الأخلاق قد نالت حقها بمثل هذا التصرف.

ومن الواضح أنه لا يمكن التحدث عن الأخلاق إلا بقدر ما يكون المرء صادقًا مع نفسه، وهذا هو التحفظ الذي ما زال القرآن ينفثه في آذاننا:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 2.

وهو يثبت من حيث المبدأ بطلان أي عذر لا يستمد منبعه من الصدق: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 3.

ولقد يحدث أيضًا أن يتخلى المرء عن الجهد قبل أن يصطدم فعلًا بإحدى العقبات، لا بسوء نية، ولكن بنوع من التراخي والإهمال. فهو يتخيل ابتداء أن عقبات سوف تصادفه، فيقول في نفسه: لن أفعل هذا، فقد

1 المائدة: 3.

2 التوبة: 91.

3 القيامة: 14-15.

ص: 665

أمرض، ولن أفعل هذا، فقد يعيبه الناس علي، ولن أعطي الفقراء، فقد أصبح الغداة فقيرًا. وليست هذه في أكثر الأحيان سوى أوهام محضة، أو بلغة القرآن، هي أفكار شيطانية، والله يقول:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} 1.

كلا

فيجب ألا نتقهقر إلا أمام استحالة واضحة لأعيننا، أو على الأقل عرفناها بالتجربة معرفة كافية.

يجب أن نبدأ دائمًا بإرادة الطاعة، وأن نشرع في العمل، حتى لو بدت المهمة لنا أكثر مشقة:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 2 "لأنفسهم".

ولقد نصل إلى سد لا نتوهم اجتيازه فييسر الله الخروج منه بفضله، وتجربة الأنفس الكبيرة خير دليل على ذلك، وحسبنا أن نذكر هنا مثال إبراهيم وولده إسماعيل:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، أو مثال أم موسى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين} 4. وتلك هي حال من يخضعون لإرادة الله تبارك وتعالى:

1 البقرة: 268.

2 النساء: 66.

3 الصافات: 103-107.

4 القصص: 7.

ص: 666

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 2.

ولقد يحدث أخيرًا أن يكتفي المرء -وهو يؤدي واجباته الأساسية، ويطرح الذنوب الفاحشة- بهذا المستوى المتواضع للرجل الطيب، ومعنى ذلك أنه بدأ -دون شك- بتثبيت مثله الأعلى عند درجة متوسطة، هي أقصى ما يبلغه الجهد المعتدل، وهو خطأ يختلط به "الهدف" و"العمل".

إن اعتدال العمل لا ينبغي أن يتأتى، ولا يمكن أن ينال، إلا على أساس نية تستهدف أعلى قيمة وأسمى درجات الكمال. وأي حد يهبط عن هذا المستوى ستكون له بالضرورة انعكاساته على الإرادة: التوقف، والتناقص والكفاف.

والآيات القرآنية التي تأمرنا بأن نجاهد حق الجهاد في سبيل المثل الأعلى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ، دون التفات لإمكانياتنا -هذه الآيات ليس لها من معنى إنساني آخر. فهي حين تعين لنا هذا الهدف الأسمى، وحين تزكي مطامحنا الأخلاقية إلى غيرما حد -تحاول في الواقع أن تدفع جهودنا إلى أعلى درجة ممكنة في توترها. ولقد رأينا إلى أي حد يحث القرآن الناس أن ينشدوا الأفضل، وأن يسابقوا إلى المراتب الأولى. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا المفتاح، ويحركه بهذا الجهاد النبيل. فهو على حين يأمرنا في نطاق الأشياء المادية أن نقنع بما قسم الله لنا، ناظرين إلى من هم أدنى منا من إخواننا، يوصينا في النطاق الأخلاقي بعكس ذلك، يوصينا بحرارة أن نسمو دائمًا بأنظارنا إلى من هم أسمى منا، وأن نحاول

1 الطلاق: 2.

2 الانشراح: 5-6.

ص: 667

الاقتداء بهم، وفي ذلك يقول، صلى الله عليه وسلم:"خصلتان، من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله، لا شاكرًا ولا صابرًا. من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله به عليه، كتبه الله شاكرًا صابرًا. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منها، لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا"1.

1 الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 58.

ص: 668