الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنافضات الإلزام
…
ثالثًا: تناقضات الإلزام
الحق أننا بإزاء فكرة الإلزام في ملتقى مجموعة من التناقضات العملية التي يحس كل فكر أخلاقي بأنه محير فيما بينها، والتي ينبغي حيالها أن يتخذ موقفًا، أيًّا كان، ومن بين هذه التناقضات نذكر اثنين رئيسيين:
أولًا- وحدة وتنوع:
حقيقة لا ريب فيها أنه إذا كانت الأخلاق علمًا فيجب أن تبنى على أساس قوانين شاملة وضرورية، لا أن تقوم على قضايا خاصة وممكنة.
وليس بأقل من ذلك صدقًا أنه إذا كانت الأخلاق علمًا معياريًّا، موضوعه تنظيم النشاط الإنساني فيجب أن تتناول الحياة في واقعها المحسوس. ولما كانت الحياة في جوهرها هي التنوع، والتغير، والجدة، فسوف نجد أنفسنا إذن أمام التتابع التالي:
فإما أن يكون نموذج السلوك الذي يقدمه لنا هذا العلم قد جاء ليكون ثابتًا وعامًّا.
وإما أن يكون قابلًا للتنويع والتعديل.
وفي حالة الفرض الأول سوف ترتد الإنسانية إلى نموذج وحيد متماثل مع
نفسه دائمًا، وسوف يختصر المكان إلى نقطة، والزمان إلى برهة، وسوف تتوقف حركة الكون، وسوف تمحى الحياة ذاتها، لتحل محلها فكرة مجردة، لا توجد إلا في تخيل عَالِم الأخلاق LE MORALISTE.
ولو أننا -على العكس- أخذنا في اعتبارنا أن العمل المفرد يتصف بالتفرد، ويستعصي على الاندماج في فكرة عامة، وهو خاضع فقط لتأثير الزمان، واختلاف المكان -فلن يكون هناك مجال للحديث عن قاعدة، أو قانون، أو علم
…
فماذا تكون في الواقع قاعدة مصيرها إلى الموت بمجرد تخلقها؟ وما حقيقة قانون لن يأمر سوى فرد واحد، بشكل فوري؟ وما كُنْه علم لا يملك أية عمومية؟
وهكذا، إما أن نحافظ على وحدة القانون، أو أن نحترم تنوع الطبيعة المحكومة بهذا القانون.
إما أن نبقي على بساطة القاعدة أو أن نخضعها لتعقد الحياة التي تطبق عليها. إما أن نرتقي إلى المثل الأعلى الخالص، والخالد، أو أن نهبط إلى الواقع المتغير إلى أقصى حدود التغير.
إما أن ننتصر "للجوهر" أو "للوجود".
فهاتان هما نهايتا الطريق التي يجب أن نصعد مرتقاها، وهما النهايتان اللتان لا نستطيع أن نقترب من إحداهما إلا إذا ابتعدنا عن الأخرى.
تلكم هي أولى الصعوبات الأخلاقية.
ثانيًا- سلطة وحرية:
لكن هنالك صعوبة أخرى، وهي مع ذلك ذات علاقة بالأولى؛ فمما لا شك فيه أن العلاقة المعبر عنها بلفظة -الإلزام- هي علاقة تجمع إرادتين مختلفتين، ومدفوعتين بطبيعتهما إلى إظهار اتجاهات متصارعة. "المشرع" الذي يأمر، وهو شديد الحرص على "سلطته"؛ و"الفرد" الذي يعمل، وهو يدافع عن "حريته".
ولما كانت سلطة المشرع تبقى محترمة بقدر ما تحتفظ القواعد التي تسنها بمعناها كاملًا قويًّا، دون مساس -فإن تنوع الظروف لا يتدخل مطلقًا لتحديدها، أو للتخفيف من وطأتها. وفي هذه الحالة يصبح القانون الأخلاقي مماثلًا لأي قانون من قوانين الطبيعة، يخضع له الفرد خضوعًا سلبيًّا، ويطبقه تطبيقًا أعمى.
ومعنى ذلك، أن "الإلزام" الصرف يقابله بالضرورة انتفاء للحرية، وخضوع تام.
ولكن، ما جدوى هذا الضمير حينئذ؟ الضمير الذي لن يغير حضوره أو عدمه شيئًا في مجرى الأمور؟
وإذا نحن اتجهنا إلى الطرف الآخر، وأرضينا الفرد العامل بمنحه حرية كاملة في الاختيار والتصرف، فستكون النتيجة عكسية، إذ سوف يتحول "الأمر" إلى مجرد "نصيحة" يمكن أن نقبلها أو نرفضها، بحسب تقديراتنا الشخصية.
ما الذي يجب علينا أمام هذه الدواعي المتعارضة؟ هل يجب أن ننحاز إلى أحد الجانبين، أو نحاول التوفيق بينهما؟ وإذا تعين الاختيار فأي الاتجاهين نختار؟ وإذا تعين التوفيق فعلى أي أساس يكون؟ تلكم هي المشكلة التي تتطلب حلًّا ولننظر الآن كيف اختلفت حلولها.
وفي السطور التالية، حتى نهاية الفصل سوف نهتم ببيان كيف أن الحل القرآني يمكن أن يعتبر توفيقًا منصفًا لجميع الأطراف الحاضرة في القضية، على حين أن لدى النظريات العادية اتجاهًا متفاوتًا في مقداره، نحو اختيار أحد طرفي التعارض، أو الآخر.
ولسوف نقصر الفقرة التالية -التي خصصناها للخاتمة- لنقوم بإثبات الشق الأول من هذه الدعوى المزدوجة؛ ونبدأ الآن بالشق الثاني، لنبرز الصعوبات التي تصطدم بها نظريتان سائدتان، نقدمهما هنا مثلين نموذجين، لاتجاهين متطرفين، أحدهما يمثل السلطة الصارمة للواجب العام، والآخر يدافع عن أصالة العامل النفسي ضد فكرة صرامة المنطق: النظرية الكانتية، ونظرية روه "RAUH".