الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس هذا هو كل شيء، فلنفترض أن القاعدة قد تقررت بالنسبة إلى الناس، وأني تلقيتها، ولكن ها أنذا، لدى ممارستي للعمل، يغيب عني هذا التعليم، يفلت مني كلية، لقد نسيته بكل بساطة. بل إنني قد أكون في حالة تسمح لي بتذكره، عندما أسأل عنه، ولكني لا أتذكر في الحال، بل أكاد لا أشعر بمجرد وجوده، وسواء كان هذا النسيان مجرد ذهول سطحي وعارض، أو نسيان عميق ودائم، مرضي أو عادي -فإن موقفي هو الاستعداد دائمًا أن أكف عن عملي المخالف، أو أوقف نشاطي الذي بدأته، بمجرد أن يذكرني أحد من الناس بالقانون. فكيف أكون مسئولًا عن عمل تم في مثل هذه الظروف؟
عندما يكون النسيان ظاهرة طبيعية، لا تصدر عن إرادتي، ولا ترجع إلى الخطأ من ناحيتي، فهل يكون من المقبول في منطق العدالة المطلقة، القائمة على واقع الأشياء، لا على التخمينات، أو اعتبارات المنفعة -أن أعد مسئولًا عن عمل كهذا، مع ملاحظة صفته القهرية؟ تعالى الله عن ظلم كهذا.
ومن ثم نجد أن القرآن، حينما أنطق المؤمنين بهذا الدعاء:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1، لم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن أضاف إليه هذا التعليق المطمئن:"قال -الله- قد فعلت"2.
1 البقرة: الآية الأخيرة.
2 صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب 54.
ج-
العنصر الجوهري في العمل:
لقد تحدثنا حتى الآن عن العلاقة التي تربط الفرد المسئول بالقانون، وقد رأينا أن المسئولية لا يمكن أن تثبت أو تسوغ في نظر القرآن إلا بشرط أن
تذيع شريعة الواجب، ويعرفها كل ذي علاقة بها، وأن تكون حاضرة في عقله لحظة العمل.
ولكنّا، فضلًا عن علاقتنا بالشريعة، لنا علاقة أخرى بالعمل، فالأولى "علاقة معرفة"، وهذه "علاقة إرادة". والضمير الكلي للفرد الأخلاقي يحتوي هذه العلاقة المزدوجة في آن، ومثله كمثل الفنان الذي يرسم لوحته، وهو ينظر إلى النموذج، سواء في مطابقته له، أو في استقلاله عن قواعده. وعليه، فإن المحكمة التي تهتم بأن تنسب أعمالًا إلى أشخاص لا تستطيع أن تصدر في هذا حكمًا عادلًا دون أن تلاحظ الطريقة التي تقع بها أعمالنا، وعلاقتها بشخصنا.
فالعمل اللاإرادي يجب أن يستبعد -بادئ ذي بدء- من مجال المسئولية، من حيث كان ينقصه مطلقًا هذا العنصر التكويني للشخصية. أعني: الإرادة، فالذي يكبو في سيره -مثلًا- لا يمكن أن يعتبر مسئولًا، لا عن سقوطه، ولا عن نتائجه المكدرة أو المستطابة، بالنسبة إليه أو إلى الآخرين.
والعمل اللاإرادي من الناحية الإنسانية هو "حادث"، وإن كانوا يطلقون عليه اصطلاحًا:"عمل" لأنه -حين نستخدم التعبير القرآني- لن يكون بعض ما تكتسبه أنفسنا1.
فهل نقول إذن -على النقيض-: إنه يكفي أن يكون العمل مرادًا لنا ليحمل علينا.؟
…
نعم
…
و
…
لا
…
نعم
…
إذا كان يراد بالحمل "سببية" على نحو ما، ولا
…
إذا كان الحمل مرادف "المسئولية الأخلاقية"؛ لأن هذه المسئولية ليست مجرد
1 من قوله تعالى في آخر البقرة {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} .
نسبة العمل إلى الإنسان بصفة عامة، بل لا بد من وجود صفة مميزة، وهي أن هذا العمل يؤدي إلى استحقاق من الثواب أو العقاب.
وعليه، فمن الضروري لكي نخلع على أي عمل هذه الصفة، أن يكون هذا العمل الإرادي متصورًا من ناحية صاحبه بنفس الطريقة التي تصوره بها المشرع. وكما أنه في المنطق لا يوجد تماثل أو تعارض إلا إذا أخذ الطرفان المتماثلان، أو القضيتان المتعارضتان في ظروف واحدة، فكذلك الحال في علم الأخلاق، لا يوجد طاعة أو عقوق إلا إذا كان هناك توافق كامل بين العمل باعتباره مأمورًا به أو محرمًا، وبين ذاته باعتباره قد حدث فعلًا.
ولنأخذ على ذلك مثلًا، أنك تخرج لممارسة القنص في إحدى الغابات، أو الصيد في إحدى البحيرات، وتعتقد أنك قد صوبت سلاحك نحو صيد، على حين أنك فعلًا أطلقت النار على إنسان، وتريد أن تصطاد سمكة، فيكون ما أخرجته طفلًا غريقًا يفجؤك. فمع أن التماثل حادث في هذه الأعمال من "الناحية المادية" مع الأعمال التي تشكل موضوع القانون، نجد أنها غير متماثلة من "الناحية الكيفية"، فقد أردت عملًا مباحًا أو محايدًا، على حين أن القانون قد رسم عملًا ملزمًا أو محرمًا. لقد كان موضوع تنظيم القانون هو حياة الكائن الإنساني، ولكنك لم تقصد إلى إنقاذ حياة كائن إنساني أو إنهائها، فليس ما أزمعت تحقيقه هو العمل المستحق للثواب أو العقاب.
وإذن فإن الاستحسان الأخلاقي، أو الاستهجان كلاهما حكم يقوم على الصفة المحددة التي تصورتها القاعدة. فأي انحراف بريء للإرادة يرى الأشياء بصورة مختلفة -لا يقع مطلقًا تحت طائلة القانون.
وعندما يقول القرآن: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 1 -نتساءل: ماذا يقصد بهذه الأيمان؟
1 البقرة: 225 والمائدة 89.
أما المفسرون فقد جاءوا في هذا الصدد بتعريفين مختلفين تمامًا، يقول ابن عباس في جمهرة من المفسرين:"هو ما يجري على اللسان في درج الكلام والاستعمال، لا والله، وبلى والله، من غير قصد لليمين"، ولكنّ مالكًا يرى أن التفسير الأفضل الذي تمسك به دائمًا هو الذي يحدد هذا النوع من الأيمان على أنه:"حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، فهو اللغو"1.
ولسنا نريد أن نختار أحد هذين التعريفين، فنحن نعتبرهما كليهما حالتين خاصتين، في نطاق القانون العام لعدم المسئولية، ولو أننا قابلناهما بالنص لوجدنا أن التعريف الأول يتفق بصورة أفضل مع آية سورة المائدة، حيث توضع الأيمان الخفيفة في مقابل الأيمان المؤكدة:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ، على حين أنها في سورة البقرة تقابل الأيمان التي ينشئ الحنث فيها ضررًا متعمدًا:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . وهكذا ينتج من مجموع النصين أن العمل "الإرادي"، الذي "انعقدت عليه النية" وحده هو الذي يستتبع مسئوليتنا.
بيد أن هذه الصفة الثانية تستحق أن نركز عليها ونحددها أكثر. ذلك أن هناك ضربًا من الخطأ، لا ينصب على موضوع نشاطنا، بل على قيمته ومغزاه الأخلاقي، فقد يخطئ المرء، لا في العمل الذي يؤديه، بل في نظامه، أعني في علاقته بالقانون، فخطئي ليس ناشئًا عن الجهل؛ لأني مدرك لموقفي مدرك في الوقت نفسه للمبدأ الذي كان من الواجب أن يخضع له هذا الموقف، وكل ما في الأمر أني أرى الأشياء من زاوية تجعل سلوكي لا مؤاخذة عليه في نظري، فموقفي شبيه بموقف القاضي، الذي يسأل نفسه في مواجهة حالة
1 انظر الموطأ للإمام مالك، كتاب الأيمان والنذور، وانظر في المشكلة كلها تفسير البحر المحيط 2/ 179. وقد أثبت آراء أخرى لكل من ابن عباس ومالك. "المعرب".
معينة عن المادة التي تنطبق عليها بشكل أفضل، أو ما التفسير الأحسن لتلك المادة؟ أو ما درجة امتدادها؟ وهل من الممكن أن تنطبق على الحالة المنظورة، ولكن القاضي -مع هذا كله- ينتهي مع شديد الأسف إلى تبني حكم خاطئ.
ولنأخذ مثالًا آخر، يتعلق بالمقاتل، وهو مثال نأخذه من القرآن، فقد ألاحق عدوًّا شرسًا، فأضطره إلى السقوط والعجز، فيطلب السلام، ويضع السلاح، وأسأل نفسي إذا كان هذا فعلًا طلبًا مخلصًا، أو هو مجرد حيلة إستراتيجية، ثم إنني أحكم تبعًا لماضيه القريب، وصفته الحاقدة، وأفترض أنه لا يمكن أن يكون قد تغير فجأة، فأقرر قتله، وأقتله. فالعمل الذي تم على هذا النحو هو عمل إرادي ومقصود، ولكنه ليس مقصودًا بالمعنى الكامل، وهو مقصود بوصفه الطبيعي، لا بوصفه الأخلاقي، لقد كان لدي القصد إلى أن أقتل إنسانًا، ولكن لم يكن لدي القصد إلى مخالفة القانون؛ لأني بدأت بافتراض أنه خارج على القانون.
والعمل الذي يتم بهذا اللون من النية يصفونه بعامة بأنه "عمد بشبهة"، أو "عمد بتأويل"، وهو في مقابل "العمد بغير شبهة"، من ناحية، و"الخطأ" من ناحية أخرى. وبعد هذا لتقسيم الثلاثي نأخذ العمل "العمد بشبهة" لنميز فيه نوعين من التفسير المسوغ، أحدهما "ذو التأويل القريب" وهو الذي يعذر، والآخر "ذو التأويل البعيد" وهو الذي يدين.
هنا أيضًا، يجب أن ننتقد هذا المسلك المغالي في الموضوعية، والاهتمام بالصفة القانونية التي تملي تفرقة كهذه، فأصحاب هذا الاتجاه يريدون: أن يحكموا على الناس، لا تبعًا لحالة ضميرهم الفعلية، ولكن تبعًا للحالة التي يزعمون أننا نصادفها لدى الغالبية من الأفراد الأسوياء، ثم بنوع من الاستقراء الناقص، دون أن نفتش عما يحدث فعلًا لدى شخص أو آخر.
هذه الفكرة المجردة، التي تصبح فيها الذات وحدة حسابية، والتي تختفي فيها كل أصالة فردية -تتفق تمامًا مع حاجات الحياة الاجتماعية، بيد أن الأخلاقية ليست مطلقًا أمرًا استقرائيًّا، كما أن المسئولية الأخلاقية لا يمكن أن ترتبط إلا بشخص مادي، ولما كان واضحًا بدهيًّا أن المسئول على بعد يمكن أن يصدق، فإن التأويل البعيد ليس هو الباطل. ومن هنا كان على علم الأخلاق أن يدع هذه التفرقة لعالم الاجتماع، وأن يستبدلها بأخرى تناسبه، وبدلًا من أن تخضع الشرعية للتأويل القريب، يجدر بنا أن نميز المخلص من غير المخلص.
ولقد يحدث -في الواقع- ألا تكون نيتي غير العدائية سوى نية موجهة، مصطنعة تجيء بعد فوات الأوان؛ لتسويغ نية أخرى أبعد غورًا، وتأصلًا في نفسي، وهذه النية الأخيرة لا يمكن تسويغها، وهي فعلًا غير سائغة في نظري، بشرط أن أقوم فقط بتحليلها لنفسي بنفسي، وأن تكون لدي الشجاعة لمواجهة الدوافع الحقيقية لعملي. في هذه الحالة، لا شك أن نيتي الثانية لا قيمة لها، وهي عاجزة من كل وجه عن أن تخلصني من المسئولية الأخلاقية، مع أنها قادرة على أن تبرأني قانونًا.
ولقد نجد مثالًا على هذا القصد المشتبه في الحالة السابق ذكرها، وهي الخاصة بملاحقة العدو الجانح للسلم، الذي تحدث عنه القرآن والحديث: القرآن في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} 1، والحديث في قوله صلى الله عليه وسلم للصحابي:
1 النساء: 94.
"أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله"1.
ولكن حين تكون نيتي خاضعة تمامًا لوجهة نظري، وأكون مقتنعًا بأني لا أنتهك الشرع -"ما خلا الحالة التي ارتاب فيها في جهلي، ثم لا أبحث عن مخرج منه"- فإن أحدًا لا يستطيع أن يلومني على مثل هذا الموقف المتسم بالإخلاص، حتى لو كان منحرفًا؛ ذلك أن كل امرئ منا يُحكَم عليه تبعًا لما في نفسه مهما يكن الأمر، والله يقول:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} 2.
أما فيما يتعلق بالتعارض المنهجي الذي جعلوه بين العمل الذي يتم "بحسن نية"، والآخر الذي يتم "بغير قصد"، فهذا التعارض صحيح إذا كان يراد بكلمة غير المقصود ما لا تتجه إليه الإرادة مطلقًا، كليًّا أو جزئيًّا. ولكن التعارض لن يكون ذا موضوع إذا كان المراد القول -على العكس- بأن "الخطأ" هو ما ليس مقصودًا أخلاقيًّا على وجه الكمال، ذلك أن العمل الذي يتم بحسن نية حينئذ لن يكون سوى حالة خاصة من العمل غير المقصود "الخطأ" بعامة. وهذه الخاصة التي لا تنشئ سوى فرق في الدرجة بينه وبين العمل اللاإرادي، المحض -ما كان لها أن تعدل شيئًا من صفته البريئة، ومن ثم- غير المسئولة.
1 البخاري، كتاب الديات، باب1، والحديث كما رواه البخاري عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما يحدث قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرَقة من جهينة قال: فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم. قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لي: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذًا، قال:"أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله"، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. "المعرب".
2 الإسراء: 25.
وإذن، فإذا أردنا أن نصوغ الشرط الثالث للمسئولية الأخلاقية قلنا: إن العمل المنوط بالمسئولية هو العمل الذي يكون القصد إليه كاملًا، أعني: أنه العمل الذي تهدف فيه الإرادة، لا إلى الصفات الطبيعية لموضوعه فحسب، وإنما كذلك إلى صفاته الأخلاقية على نحو ما أدركها المشرع. ويجب أن يكون العمل متصورًا لدى فاعله على النحو الذي أجيز به، أو حرم، أو أمر به، ومن حيث هو كذلك. وأي اختلاف في الرأي، أو انحراف في القصد، في صفة أو أخرى، يخرج العمل من دائرة الملاحقة بنص الشرع؛ لأنه إذا كان العمل الذي تقرر حكمه في الشرع غير العمل الذي وقع -لم يكن لهذا الذي وقع أن يكون له إذن نفس الحكم، فهو في افتراضنا حدث حتمه خطأ لاإرادي.
وعليه، فحين نؤكد أن خطأ من هذا القبيل لا يمكن أن يكون محسوبًا فلسنا نفعل سوى تفسير القول العام الذي جاء به القرآن نفسه، حين يعلن:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 1، وكذا قوله:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَاْ} بتفسيره الذي ذكرناه آنفًا.
وقد يقال: إذا كانت هذه هي الأهمية التي تخص بها النية أو القصد، وإذا كانت المسئولية الأخلاقية دائمًا ذات ارتباط بهذه النية أو القصدية، أفلا يستتبع ذلك أن تصبح "النية" في رأيك هي كل "الأخلاقية"، أو كما يعبر "كانت":"إن الشيء الوحيد في العالم الذي هو خير في ذاته هو الإرادة الطيبة"؟
هيهات أن يكون ذاك، لا لأن من التناقض أن نضع الخير المطلق في حالة
1 الأحزاب: 5.
شخصية تناسب ضمير كل فرد1؛ لأن النسبية الوجودية لهذه الحالة لا تحول دون أن تكون لها قيمة أخلاقية مطلقة. ولكن ما يدفعنا إلى رفض هذه النظرية هو أنها أولًا تجرد السلوك من كل قيمة خاصة، ثم هي بعد ذلك -حين تغالي في تقدير النية في العمل- تقع في ذلك التناقض الذي يجعل كل شيء حسنًا ما دمت تصطحب في فعله نية أن يكون حسنًا، حتى ما كان من الأعمال غريبًا أو مستحيلًا.
وأخيرًا، فإن هذه النظرية، حين تكون منطقية مع نفسها بكل دقة، تؤدي إلى إلغاء كل تقدم، وإزالة كل تفاوت في القيمة الأخلاقية. فإذا كانت النية الحسنة هي كل الأخلاقية فيجب أن نعامل على قدم المساواة -ضمائر وأعمالًا جد متباعدة على سلم القيم. ومن ذلك أن أكثر الناس جهلًا، وأكثرهم تعصبًا، حين يقع فريسة وهم عضال، فيعتقد أن يماثل إرادته بالشرع -هذا الرجل يحق له -استنادًا إلى هذا المنطق- أن يحظى بنفس التقدير الذي يستحقه في نظرنا أكثر الناس حكمه، وأعظمهم استنارة.
بيد أن "كانت" لم يدخل في اعتباره كل هذه الصعوبات؛ لأنه -على وجه التحديد- يلتزم بسلم مجرد، تصبح فيه الفكرة العامة للواجب وحدة دون تنوع، وهو لا يريد أن يكلف نفسه عنت تصور الضمير في واقعه المتعدد، والمحسوس. أي: إن "كانت" لا يأخذ من العنصر الثلاثي للضمير الأخلاقي، وهو:"المعرفة"، و"الإرادة"، و"العمل" -سوى جانب واحد هو: الإرادة.
ونحن متفقون تمامًا مع "كانت" فيما يقرره من أن أكثر الأعمال نفعًا، وكذلك أكثرها نزاهة، ليست له قيمة أخلاقية إذا لم تصحبه، بل إذا لم
1 انظر: paul janet، la morale، L. I، p. 42.