الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب-
النية الحسنة:
من المعلوم، في الأخلاق العقلانية أن أكثر النظريات تشددًا، وهي نظرية "كانت"، تجعل المبدأ المحدد للإرادة الطيبة في الفكرة المجردة للواجب، باعتباره القانون الشكلي للعقل.
ولقد يجوز لنا أن نعتبر هذه النظرية مجرد بديل ميتافيزيقي للنظرية القرآنية. ولا ريب أن القرآن يقدم الأشياء في ضوء مختلف؛ لأنه يملأ هذا الشكل الفارغ للواجب بمادة مناسبة، ويعين لممارسة هذا الأمر السامي سلطة أكثر ارتفاعًا بصورة أخرى. فالمؤمن لا يذعن للواجب "كفكرة" أو "ككائن عقلي"؛ ولكنه يذعن له باعتباره متصلًا بحقيقة أساسية، ومن حيث هو صادر عن الموجود الأسمى الذي زودنا بهذا العقل، وأودع فيه الحقائق الأولى؛ بما في ذلك الحقيقة الأخلاقية في المقام الأول.
بيد أننا إذا نحينا هذه الفروق النظرية جانبًا، فسوف نلاحظ تماثل النظريتين فيما قامتا عليه أساس من اقتضاء عملي.
فالقرآن يعلمنا أن الرسالة الوحيدة للإسلام، الرسالة التي من أجلها خلق الإنسان، بل خلقت جميع الكائنات العاقلة، مرئية وغير مرئية، "إنسًا وجنًّا" -هذه الرسالة تنحصر في العبادة والخضوع للخالق جل وعلا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون} .
وتأتي آيات كثيرة لتكمل هذا الإعلان بأقوال أكثر تحديدًا، ومن ألفاظ هذه الأقوال نجد أن خضوع النفس لأمر الله يجب أن يكون خالصًا، دون شرك:{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} 1، {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} 3.
1 2/ 139.
2 7/ 29.
3 39/ 2.
ولكي نفهم جيدًا ما يقصده القرآن بهذا الإخلاص ينبغي أن نضيف مجموعتين أخريين من الآيات التي قدم لنا بها تحديدًا -هو في الحقيقة سلبي- ولكنه يعبر أصدق تعبير عن هذا الخضوع الخالص.
ففي المجموعة الأولى يلح القرآن على نقطة هي: أن سيطرة أهوائنا يجب أن تنتفي من أحكامنا، فهي شر وثن يتبع:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} 1، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} 2، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3.
وفي المجموعة الأخرى يريد القرآن أن يحرر أنفسنا من تأثير العالم الخارجي، فهو يمنعنا من أن نلتمس طاقتنا الأخلاقية في آراء الناس عنا، أو في المواقف التي يمكن أن يتخذوها حيالنا، فرضاهم وسخطهم، ومهابتهم وقدرتهم -يجب ألا نعبأ بها أو نبالي، وحسبنا في ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} 4، وقوله:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 5 -في مقابل قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} 6، وقوله:{يُرَاؤُونَ النَّاسَ} 7، ويريد القرآن أيضًا ألا نبالي بجزاء الناس أو عرفانهم:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 8، ومن
1 4/ 135.
2 28/ 50.
3 38/ 26.
4 الأحزاب: 39.
5 المائدة: 54.
6 النساء: 108.
7 النساء: 142.
8 الدهر: 9.
قبل كان من الأوامر الجوهرية الموجهة إلى النبي في بداية الوحي هذا الأمر الموجز المحكم: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} 1.
فأين يقع إذن المبدأ المحدد للإرادة إذا كانت قد قطعت هكذا عن كل هذه الدوافع؟
إن القرآن يدلنا عليه في هذا التحديد الذي يصف به الإنسان التقي، فيقول:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} 2.
وإن القرآن ليمضي في هذا الاتجاه إل حد القول بأن الذي يأخذ الصدقة ليس هو، الفقير، ولكنه الله سبحانه:{هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} 3، وللنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام تعبير رائع، حيث قال:"من تصدق بصدقة بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبًا، كان إنما يضعها في كف الرحمن، يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل"4.
فمن مجموع هذه النصوص يستنتج تحديد كامل للنية الحسنة، طبقًا لمفهوم القرآن، فهي حركة تعدل بها الإرادة الطائعة عن كل شيء، طوعًا أوكرهًا،
1 المدثر: 6. وقد توسع كثير من المفسرين في هذا المنع، حين حملوا هذا النص على معناه الأوسع، فجعلوه شاملًا لكل حركة في النفس، مهما قل غرضها الدنيوي، حتى ولو كان ذلك انتظارها لجزاء الله الواسع. ولسوف نناقش فيما بعد كون هذا التوسع في مفهوم الأمر يتضمن تحريمًا دقيقًا، ومطلقًا، أو توجيهًا إلى الأمثل.
2 الليل: 17-20.
3 التوبة: 104.
4 الموطأ: كتاب الترغيب في الصدقة، باب 1.
ظاهرًا أو باطنًا، كيما تتوجه نحو الجانب الذي تتلقى منه الأمر، إنها انفصال عن الناس، وعن أنفسنا، واتصال بالمثل الأعلى، والأزكى، والأكمل: الله جل وعلا.
والقرآن لا يقتصر على النصوص المحددة، التي غالبًا ما تأتي في ألفاظ مستوعبة، لتقدم لنا المثل الأعلى على أنه الموضوع الوحيد الذي يجب أن يضعه الإنسان نصب عينيه وهو يعمل:{وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 1، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} 2، {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 3، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُون} 4
…
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، ولكن القرآن من أوله إلى آخره يوجهنا نحو هذا الهدف. إنه مشروع عظيم ينتزع الأنفس من هذا الجو الأرضي، ويجذب أنظارها إلى السموات، بحيث يمكن القول بأن سيطرة هذه الفكرة الإلهية هي التي تحكم الخطاب القرآني.
ولكي نقتنع بذلك ما علينا إلا أن نفتح هذا الكتاب كيفما اتفق، لا أقول: إنه لا توجد صفحة واحدة فحسب، بل إنه لا يوجد سطر واحد، في المتوسط، لا نجد فيه ذكر الله، سواء باسمه، أو بضميره، أو ببعض صفاته5.
1 البقرة: 272.
2 النساء: 114.
3 طه: 14.
4 الروم: 39.
5 الواقع أن هذا الكتاب في صفحاته الخمسمائة التي يتألف منها عادة -بلغت القائمة التي أحصيناها لذكر الله فيه عددًا: "10620" مرة، أي: إن الله مذكور في الصفحة المكونة من 15 سطرًا عشرين مرة في المتوسط، وليس سوى "32" صفحة يقل في كل منها ذكر الله عن عشر مرات.
وإذن، فليس هناك بالنسبة إلى نفس قارئ القرآن إمكانية النسيان العميق، أو حتى الغفلة الطويلة، ما دامت دقات هذا العالم الروحي ترن في أذنيه وتعاوده بلا انقطاع، كيما ترده إلى النبع الأول للقوة والنور، ولا نظن أن هناك تدريبًا أبلغ تأثيرًا من هذا، حتى نبقي على انتباهنا يقظًا، وحتى نجعل نيتنا طاهرة ونزيهة.
ومع ذلك، فمما تجدر ملاحظته أن هذا القرآن لا يخلط مطلقًا في موضوع التنزه عن الغرض ما بين النية والعمل.
فالقرآن، على الرغم من أنه وصم أشياء هذه الدنيا بالانحطاط، لم يرد فيه أي توجيه أو وعظ يوجب على معتنقيه أن يتنازلوا عن الحياة زهدًا وتقشفًا. إنه بكل تأكيد يذم التطرف في كل شيء، ولكنه لا يحرم مطلقًا الرفاهية الفردية، ولا الازدهار الجماعي.
ففيما يتعلق بالرفاهية الشخصية نجده يقول في كلمات صريحة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 1.
وفيما يتعلق بنمو الزراعة، والتجارة، والصناعة، وتطور الكشف والحضارة بعامة -نجده يدعونا دائمًا إلى تحقيقه، دون أن يمنع شيئًا منه. ولا حاجة قط إلى تكرار النصوص في هذا الموضوع، بل يكفي أن نعطي منها نصًّا واحدًا، ذا أهمية لا حد لها، وذا ألفاظ تجعل من كل ما يوجد في الأرض، وعليها، وكل ما يوجد في البحر، وفي الهواء، مسخرًا للناس
1 الأعراف: 31-32.
من لدن العناية الإلهية، قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} 1.
وكل ما في الأمر أن القرآن قد أخضع اكتساب هذه الموارد، وتوزيعها، واستعمالها لبعض القواعد العامة التي تكفل خير الجميع في عدالة، وجعل -فيما عدا ذلك- من هذا العالم معبرًا، ومنزلًا مؤقتًا:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} 2.
وهو لم يجعل من اهتمامات الدنيا كلها، ومن متعها، غاية، بل وسيلة لبلوغ أشياء أخرى، يقول القرآن:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} 3.
وإذن، ففيم تنحصر النزاهة التي علمنا إياها القرآن، إن لم تكن في الفكر، وفي النية؟ ذلك أنه إذا كان الشر الأخلاقي لا يمكن في الممارسة المادية لنشاط معين، يستهدف إنتاج الطيبات، وحيازتها، فلا يمكن أن يوجد إلا في الروح التي تملي هذه الممارسة. وما علينا إلا أن نستنبط، ثم نصوغ رأي الأخلاق الإسلامية في هذا الصدد، مميزين ست حالات، تختلف قيمتها أحيانًا اختلاف الليل والنهار:
1 الجاثية: 13.
2 آل عمران: 14.
3 الزخرف: 12-13.
أولًا: الحالة الأولى، التي تصف اللاأخلاقية الصريحة، وهي الحالة التي يكب الإنسان فيها على الاستيلاء على المادة، بدافع من حب التملك الغريزي الغشوم، دون تمييز أو تحرج، وبدهي أن هذه هي الحالة التي يكون الإنسان فيها مذنبًا، قانونًا وأخلاقًا، وهي ما يطلق عليه صراحة:"عبادة الهوى" في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} 1.
ثانيًا: بيد أن الذنب الأخلاقي لن يكون أدنى، إذا كان الجهد الذي يبذل لتحاشي هذه الطريقة المنحرفة أو تلك مفروضًا فقط؛ بالإكراه أو بالإرهاب، يمارسه الآخرون ضدنا، وبحيث إنه لولا وجود هذا المنع الخارجي لكنا قد تجاوزنا الحد، وخالفنا الشرع بإتيان هذه الطريقة، على الرغم من كونها منكرة. ففي هذه الحالة أيضًا يكون المرء تحت حكم الهوى، ما دام يخضع مكرهًا لتنفيذ حرفية الشرع، والقرآن يسجل من هذا النوع مواقف، في قوله تعالى:{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر} 2، وقوله:{وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 3.
ثالثًا: لنفترض الآن أن هذا الخبث الروحي غير موجود، ولكن ها هو ذا رجل توفر له مهنته العادية أن يعيش شريفًا أمينًا، فلنفترض أن ارتباط هذا الرجل بنوع حياته كان بحيث يستشعر كراهية عميقة لكل كسب خبيث، لا لأنه يعتبره مذمومًا من الناحية الأخلاقية؛ لأن مسألة من هذا القبيل لم تخطر له قط، ولكن لأنه ضد مزاجه، أو عاداته. فهذه الحالة المسالمة التي
1 الفرقان: 43-44.
2 التوبة: 98.
3 التوبة: 54.
لا تضر، هذه الغيبة التلقائية للشر -إنما تنشئ براءة الغريزة الصبيانية، لا انتصار الإرادة العاقلة1.
وإنما تبدأ الحياة الأخلاقية عندما يكون سعينا إلى العيش المشروع نتيجة اختيار واع، منطلقه التمييز بين الخير والشر، وقاعدته الامتناع عما هو محرم، والالتزام باستعمال المباح وحده. ومع ذلك فهذه ليست سوى بداية؛ لأنه إذا كان مستحبًّا بلا ريب أن يمتنع المرء إراديًّا عن الشر عندما يعرض له، فليس الأمر كذلك حين يبيح لنفسه استعمال شيء لم يذمه القانون الأخلاقي، فالإباحة ليست الوصية، وهذه أدنى من التكلف.
إن الإباحة بالمعنى الواسع للكلمة هي عدم التعارض مع الشرع، ولكنها بالمعنى الدقيق الذي نريده هنا هي: الإمكان الأخلاقي للعمل أو عدم العمل، غير أن الممكن لا يحمل في ذاته كل سبب وجوده. فهو وإن كان "شرطًا ضروريًّا" لكل وجود، إلا أنه ليس "بالشرط الكافي".
وإذن يجب أن نبحث في مكان آخر عن المبدأ الذي يضطرنا إلى استعمال حقنا بدلًا من أن نهمله، ففي هذا المبدأ تكمن قيمة اختيارنا.
فماذا يكون هذا المبدأ؟ إن الحالات الثلاث الآتية تجيب عن هذا السؤال.
رابعًا: عندما نسأل أنفسنا: لماذا نبحث عن رفاهيتنا المشروعة؟ فإننا نقتصر أحيانًا على أن نقول لأنفسنا: لأنه غير محرم، دون اعتبار للبواعث الأخرى المكملة.
1 تشبه حال هذا الرجل حال من يقاتل في صفوف المؤمنين، مدفوعًا بعاطفة الشجاعة وحدها، أو بدافع "الوطنية" المحدودة، وهو الذي لا يستحق مطلقًا لقب "المجاهد في سبيل الله". انظر البخاري، كتاب الجهاد، باب 15 "الرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل حمية"، فهؤلاء الرجال يبقون على هامش الأخلاقية.
فقد رأينا في هذه الحالة أن الدافع الحقيقي لعملنا لا يمكن أن يكون هو القانون من حيث هو قانون؛ لأن هذا القانون يصلح للنقيضين على سواء، ومن ثَمَّ فهو عاجز عن تفسير أيهما.
ولما لم يكن وراء "القانون"، و"المنفعة" بالمعنى العام مبدأ آخر محتم للإرادة، فإن الدافع الحقيقي لعملنا هنا هو إذن وبالضرورة "الهوى" الذي نجده لإشباع حاجاتنا الفطرية. ولا ريب أنه ليس الهوى الأعمى المستبعد للعاطفة، ولكنه هوى مستنير خاضع للعقل. ولكن ما أهمية ذلك، إذ إن المصلحة دائمًا، لا القانون، تظل في هذه الحالة أساس اختيارنا الخاص؟! وقد كان دور القانون أن يزيح العقبة أمام طريق مزدوج، ولكن الفطرة هي التي أعطت الأمر بألا يُختار سوى واحد منهما، كما لو كانت هذه الفطرة تترقب هذه اللحظة المواتية، التي بدا لها فيها أن القانون لا يبالي، فاختارت ما تفضله عليه.
إن توقع الاختيار العام، والخضوع له، أمران لهما قيمة ثمينة، ولكن الاختيار الخاص لا معنى له من الناحية الأخلاقية، فهو ليس جديرًا بذم أو بمدح من حيث هو في ذاته، وذلكم هو الموقف الذي أطلقنا عليه "الموقف السطحي"، والذي يعبر في هذا المجال عن أدنى درجة في سلم الأخلاقية.
خامسًا: إننا لم نواجه حتى الآن الحالات التي تستحق أن تذكر على سبيل الاستحسان. فالنية الحسنة ليست هي النية التي تكتفي بتحذيرنا من المحرمات، وإخضاع رغباتنا لما هو مباح، إنها أكثر اقتضاءً، ويجب فضلًا عن ذلك أن تتوفر لها اعتبارات أخلاقية إيجابية، صالحة لتسويغ اختيارها للموضوع المرغوب. وهكذا نجد أن كسب الإنسان عيشه، وأكله حتى يشبع جوعه، وارتداءه لباسًا نظيفًا، واستخدامه للرفاهية، ومسامراته البريئة -كل ذلك وغيره من الأعمال الكثيرة المماثلة، خالٍ مطلقًا من أي معنًى أخلاقي ما دام
هدفه الوحيد -أن يمتعنا متاعًا حسنًا بالحياة، حتى ولو لم نقع في الإفراط المعيب.
وإذا كنا نقضي عمرنا في هذا -وهذه بكل أسف حالة الجمهرة من الصالحين- فإن جملة متاعنا سوف تكون بلا وزن ولا قيمة، ولن يكون لنا أي رصيد أخلاقي، كما أن وجودنا الثاني سوف يكون مفتقرًا بنفس النسبة. في حين أن هذه الأعمال ذاتها يمكن أن تصير ثروات أخلاقية، إذا ما تدخلت أسباب شرعية مرضية لتسد النقص في وجهتها، مثلًا، حين أحافظ على بدني، من أجل أن أطيق بشجاعة تحمل الواجبات التي كلفت بها، وحين أقصد بأحاديثي العادية المحضة أن أوثق صداقة نزيهة مع إخواني، وحين أمارس نشاطي في الميدان الاقتصادي فأتصور شيئًا آخر غير مجرد المتعة بالتملك، سواء أكنت أريد أن أجنب أسرتي، أو أجنب نفسي مغبة العيش عالة على المجتمع، أم كنت أحب أن أنشر السعادة بين هؤلاء الذين هم أقل حظًّا، أن أتيح لجماعات من الناس أن يكسبوا عيشهم بشرف، أن أزيد في ازدهار بلدي، أو أزيد في قيمة هذا الصنع الإلهي بصورة أعم، هذه الكرة الأرضية التي استخلفنا الله فيها، كما يتيح لجميع المخلوقات التي تسكنها أن تعيش، وتتنعم، وتمجد خالقها.
وهكذا نجد أن الحكمة الإسلامية لم تعين حدًّا إجباريًّا لكسبنا الشريف، وإنما فرضت على عقلنا تلك الطريقة في رؤية أعراض هذه الدنيا على أنها غير جديرة بأن نطلبها، لا من أجل ذاتها، ولا من أجل ما قد تجلبه لنا من متعة، ولكن نطلبها لغايات معقولة، تصبح بها الأشياء المباحة مستحبة أخلاقيًّا، أو مأمورًا بها.
ولذلك فإن الحكماء المسلمين لم يتميزوا بنوع خاص من الحياة، وإنما تجدهم يبرزون في كل مكان، وفرصة ظهورهم في الحقل، والمصنع، والدكان، لا تقل عن فرصة ظهورهم في خلوة الزهاد، وصومعة الرهبان.
سادسًا: والواقع أن هنالك أمثلة نلمس فيها أجمل الشواهد على البعد عن الغرض، وهي أمثلة لا يهتم أصحابها بالحياة المادية، إلا لمامًا، وفي مناسبات نادرة، بقدر ما يصلح للقيام بحاجاتهم العاجلة، دون الاحتفاظ بشيء إلا ما يكفي للفترة ما بين عملين.
هناك رجال خلوا من أعبائهم الأسرية فعكفوا عكوفًا كاملًا على تثقيف قلوبهم، وعقولهم. ومع أنهم كانوا ملتزمين في الوقت نفسه بخدمة الدولة، في الجهاد العام، وكانوا بذلك في كفالة الأمة -فإنهم لم يكونوا يلمسون من عطائها غير القوت الضروري الذي يضمن بقاءهم، ثم يهبون كل فائض بعد ذلك.
كانت هذه حال جماعة معروفة باسم "أهل الصفة"، الذين أشار إليهم القرآن في قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 1، ومن الحالات النموذجية بين هؤلاء حالة أبي هريرة. وقد كان منهم أيضًا من تتاح لهم فرصة الحصول على نصيبهم في توزيع عام، وهم الذين يقومون بتوزيعه، ولكن عدم الاهتمام بمثل هذه الأشياء جعلهم ينسون أنفسهم، وهو ما حدث مع عائشة أم المؤمنين.
وكان منهم أخيرًا أناس لم يترددوا، وهم على علم تام بنتيجة عملهم، أن يهبوا إخوانهم ما كانوا هم بحاجة إليه، ونزل فيهم قوله تبارك وتعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 2، وقد
1البقرة: 273.
2 الحشر: 9.
قدمت لنا أيضًا عائشة مثالًا رائعًا على هذا الإيثار، وهذه الغيرية، فيما رواه مالك في موطئه قال: "بلغني عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن مسكينًا سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت
…
إلخ"1.
وبذلك نرى ما كانت تستهدفه هذه الأنفس الشريفة، فما كان لإغراء المنافع المشروعة في الحياة المادية، أن يستميلهم، ويضطرهم إلى طلبها، أو استعمالها عندما تكون في متناول أيديهم. لقد اقتعدوا قمة السلم الأخلاقي، بحيث ما كان لأمر ينشأ عن ذلك الهم المادي أن يحملهم على الهبوط منها، حتى لو كان في صورة موافقة، أو دعوة إلى الخير الأخلاقي الشائع المفضل، اللهم إلا أن تصبح هذه الدعوة تكليفًا، بمعنى أن يكون أمرها أمر حفاظ على الحياة بالمعنى الدقيق للكلمة، فحينئذ يكون لهم فضل النزول في النهاية، ولكن بقدر ما يؤدون هذا الواجب المحدد، الملح إلى أقصى حد، ثم يصدعون مرة أخرى إلى مكانهم الأثير.
وليس يعوزنا أن نقدم في الجانب المضاد أمثلة أخرى من بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظير حالة أبي هريرة، يمكن أن نضع حالة رجل من أغنياء الصحابة كابن عوف.
والحق أن الزهادة يمكن أن ينظر إليها على أنها كانت استثناء في العالم الإسلامي، ولم تكن القاعدة العامة، فإذا اعتبرناها من وجهة نظر مجردة فلسوف نعترف بأن تعميمها من أضر الأمور بحسن سير الحياة الإنسانية، لا من الوجهة المادية فحسب، بل من الوجهة الأخلاقية أيضًا.
1 الموطأ، جـ3، باب الترغيب في الصدقة.
والواقع أنه يجب أن يوجد في المجتمع أناس يكسبون فائضًا، ليجد آخرون قوتهم الضروري، ويجب أن يكون لكل إنسان حد أدنى من الفائض، لا لكي ينتج بصورة أفضل، ومستمرة فحسب، بل لكي يضمن لنفسه أيضًا ما هو ضروري، بما أنه ليس بين المفهومين خط فاصل، يفرق بينهما تفرقة واضحة في الواقع الملموس.
بل إن من الممكن أيضًا أن يقال: إن هؤلاء الذين يبقون عمدًا على هامش النشاط الاجتماعي يختارون، طبقًا لاعتبار معين، أقل المهمات الأخلاقية مشقة، متحاشين بذلك كثيرًا من الصدمات، وصنوف البلبلة، والإغراء. ولا ريب أن عليهم أولًا أن يبذلوا بعض الجهد حتى يحملوا أنفسهم على ارتضاء هذا الانزواء، ولكن متى ما تمت الخطوة الأولى، فإن كل شيء سيسير تلقائيًّا.
ومما لا شك فيه أن قوة ملكاتنا العليا لا تمتحن إلا في تشابك الاهتمامات وتعقدها. وتمكين الفضل في معرفة كيف نتوقى الاحتراق ونحن وسط النار؟ وكيف نكسب السماء ونحن مهتمون بشئون الأرض؟
إن حل مشكلات من هذا القبيل هو الذي يكشف عن نور روحنا، وصلابة إرادتنا، وطهارة قلبنا. بيد أن هذه الاعتبارات الأخيرة لا تطعن، في صورته المجردة، في أهمية سلم القيم الذي أشرنا إليه، والذي نلخصه في الجدول الآتي:
وفي هاتين الدرجتين الأخيرتين تتجلى النية الأخلاقية بالمعنى الدقيق للكلمة، أعني: الإرادة الجديرة بالثناء وبالأجر. فهي التي لا تكب على عمل مباح فقط، دون أن تلمس فيه خيرًا أخلاقيًّا، جديرًا بأن يلتمس وهي تتابع وتستهدف دائمًا تنفيذ الأمر، سواء أكان أمر واجب جوهري، أم أمر كمال.
هذا على حين أن الطيبة بالمعنى الأخلاقي الأعم تنحصر في حرصنا على ألا نخالف الشرع، وأن نطيع أوامره بعامة، سواء بإرادة تنفيذ ما يأمر به، أو بأن نبيح لأنفسنا ما يبيحه.
بيد أن هذه المطابقة الباطنية، حتى تلك التي توجد في أعلى درجات السلم، فيما يتعلق بالهدف المباشر -هذه المطابقة تشتمل أيضًا على نماذج كثيرة من الوجهة الغائية؛ فقد كان لدى أخلاقيينا اهتمام بالتفرقة هنا بين الدوافع الممكنة المختلفة، وحاول بعضهم أن يرتبها في سلم تدرجي.
فعندما يكون المرء في طريقه لأداء واجبه، فيتساءل: لماذا أفعل هذا؟ -يكتفي أحيانًا بأن يقول لنفسه: لأن هذا هو واجبي. وإذا لم تكن هذه
الإجابة منطوقة، وإذا كانت دقيقة وصادقة، فإنها كذلك غامضة بحيث يمكن أن تستحيل إلى مجموعة من الأسباب، متعاقبة أو متصاحبة. وإذن، فإن علينا أن نغوص في ثنايا ضميرنا وطواياه، وأن نلح في تساؤلنا: ولكن لماذا نؤدي هذا الواجب؟
…
فربما تعرفنا بهذه الطريقة على الدافع الخاص الذي يدفعنا إلى طاعته والخضوع له. ولنسلم بأن تحركنا لم يكن إكراهًا، ولا ميلًا غريزيًّا، أو عادة مكتسبة، وإنما هو الشرع المقدس الذي يفرض علينا هذه الطريقة أو تلك من طرق العمل.
ويبقى إذن أن نعرف على وجه التحديد كيف تأثرنا بهذا الشرع؟
…
أهو إجلال لله، أم حب له؟ أخوف من عقابه أم طمع في ثوابه؟ أحرص على تحقيق الخير الذي يستهدفه الشرع، أم مجرد خضوع للأمر الصريح، دون نظر حتى إلى علة هذا الأمر؟
لقد عدد أبو طالب المكي هذه الحالات المختلفة للنفس، وهي الحالات التي يمكن أن تؤثر على المؤمن، وتدفعه إلى أداء واجبه. ومع أنه أدرجها جميعًا تحت عنوان واحد هو:"من أجل الله" فإنه يعترف بسلم معين فيما بينها، ولكنه لم يقل: كيف ينتوي أن يرتب درجاته؟ 1، ولا شك أنه يفترض أن هذا التدرج معروف من قبل بملامحه البارزة على الأقل.
والواقع أننا -فضلًا عن النصوص القرآنية المذكورة في بداية هذه الفقرة- نجد المبدأ الأساسي للواجب واردًا في هذا التعبير الجميل من تعبيرات الكتاب الكريم.
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} 2، ونجد تعبيرًا آخر أكثر دلالة في الحديث الشريف الذي يمتدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم خلق:"سالم" مولى "أبي حذيفة" حين قال: "إن سالمًا شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله ما عصاه".
1 انظر: قوت القلوب، المطبعة المصرية، القاهرة، 4/ 40.
2 المدثر: 46.
هذا الثناء الموجز ذو معنى كبير؛ لأنه قد أرسى المعالم الأولى في سلم التدرج الذي سوف ينمو بعد ذلك وينمو، بفضل الأخلاقيين المسلمين.
فالحكيم الترمذي يلح بخاصة في كتابه "مسائل وأجوبتها" على إحساس الإجلال والتوقير أمام العظمة الإلهية، وهو يعظم دور هذا الإحساس الفعال، لا ضد النزعات الشريرة، باطنة وظاهرة فحسب، وإنما كذلك ضد الغفلة، وذهول النفس. ولكي يبلغ الناس هذا الهدف يقول الترمذي:"والعباد محتاجون في انقطاع الوسوسة إلى الخوف، لا خوف العقاب، ولكن خوف العظمة، حتى تذهل النفس وتنقطع وسوستها"1.
وحين جاءه أحد تلاميذه يشكو إليه عجزه عن تركيز فكره أثناء الصلاة، أجابه الحكيم بطريقة الرمز فقال على سبيل الإيجاز: "ما تقول لو أن دارًا فيها غرف وقصور، وألوان الأغاني والسرور، فبينا هم في فرح ذلك السرور والطرب إذ دخل داخل، فقال: جاء الأمير -أليس تخمد تلك الأصوات، ويذهل أولئك القوم عن جميع ما هم فيه لهول مجيئه وهيبته؟.. قال: نعم، قلت: فكذلك هذا الصدر الذي فيه ألوان السرور، بما يتعاطى من أحوال الدنيا، ويتقلب فيه من درك المنى، فيفرح القلب به، وينتشر في الصدر دخانه، وتشره فيه نفسه، فتلك الأحاديث كائنة فيه، فإذا ولج القلب باب الملكوت فعاين من عظمة الله تعالى وجلاله وكبريائه ذهلت نفسه عن كل شهوة وذبلت، وانخشع القلب
…
"2.
وفي رسالة أخرى أضاف بعد أن عرف الطريقة التي ينبغي على المؤمن أن يلتزمها حين يقرض الله قرضًا حسنًا، بإعطاء ماله للمحتاجين، وأنه لا يصح
1 مسائل وأجوبتها ص268 من المجموع. "المعرب".
2 مسائل وأجوبتها ص276 من مجموع الترمذي. "المعرب".
أن ينتظر بهذا الإعطاء أجرًا من صاحب المنة، إن كان قد أخرج الإعطاء من قلبه، "ولم تبغِ نفسه ثوابها، فكأنه من القبيح أن يقول: يا رب، أي شيء تعطينا بهذا؟ "1.
أما الغزالي فسيكون أشد وضوحًا، ومباشرة وهو يقول:"وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى؛ لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها، فضلًا عمن يتعاطاها"2. وهو حين يتحدث عن شعور الحب يبدو أنه يجعله في سمو شعور الإجلال؛ لأنه يعتبره من صفات ذوي الألباب، من كبار الأتقياء. ويقول: إن هؤلاء الأتقياء لا يطمعون إلا في التقرب إلى الله، ورؤيته، والاستماع إليه، ومعرفته بحق، وهم بهذه المعرفة سوف يعرفون حقيقة كل شيء، أما هم فإن "عبادتهم لا تجاوز ذكر الله تعالى، والفكر فيه، حبًّا لجماله وجلاله"3.
أما فيما يتعلق برأيه في مشاعر المؤمنين، بالخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، فلسوف نراه فيما بعد.
بيد أن أحدًا -فيما نعلم- لم يتوج هذا التدرج قبل الشاطبي "المتوفى عام 790هـ"، فلقد تولاه بالبحث الدقيق للمقارنة الأخيرة، وهي المقارنة التي تحاول معرفة ما إذا كان من حقنا، ونحن نؤدي واجبنا، أن ننظر إلى المسببات التي يفترض أن تنتج عنه، والتي نعلم من جانب آخر أن الشرع يستهدف تحقيقها، أو أن الأمر على عكس ذلك، فيجب أن تقتصر أنظارنا على العمل ذاته، دون أن نشغل أنفسنا بأي شيء يسفر عنه، وبعبارة أخرى، على
1 جواب المسائل ص210 من المجموع.
2 الإحياء 4/ 363.
3 الإحياء 4/ 363 ط. الحلبي.
ما عبر به المؤلف نفسه: إذا قيل لك: لِمَ تكتسب لمعاشك بالزراعة أو بالتجارة أو بغيرها؟ قلت: لأقيم صُلْبي، وأقوم في حياة نفسي وأهلي، أو لغير ذلك من المصالح التي توجد عن السبب، أو قلت: لأن الشارع ندبني إلى تلك الأعمال، فإنا أعمل على مقتضى ما أمرت به، كما أنه أمرني أن أصلي، وأصوم، وأزكي، وأحج، إلى غير ذلك من الأعمال التي كلفني بها، فإن قيل لك: إن الشارع أمر ونهى لأجل المصالح، قلت: نعم، وذلك إلى الله، لا إليَّ1. ولقد بحث المؤلف هذه القضية ونقيضها، في صفحات جميلة، وطويلة من موافقاته2، ذاكرًا على التوالي الأسباب التي تساق لتأييد كل منهما، ثم يختم بحثه بقوله بأن الحل الأخير يتصل بعوامل كثيرة، وينبغي أن يختلف باختلاف الحالة، "وهذان القسمان على ضربين: أحدهما: ما شأنه ذلك بإطلاق، بمعنى أنه يقوي السبب أو يضعفه، بالنسبة إلى كل مكلف، وبالنسبة إلى كل زمان، وبالنسبة إلى كل حال يكون عليها المكلف. والثاني: ما شأنه ذلك، لا بإطلاق، بل بالنسبة إلى بعض المكلفين دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض الأزمنة دون بعض، أو بالنسبة إلى بعض أحوال المكلف دون بعض"3.
وإن أهمية المشكلة، وعمق تحليلها، ليبيحان لنا أن نطيل الحديث قليلًا في تلك الفكرة الجدلية، حتى نعطي للقارئ بيانًا واضحًا وكاملًا بقدر الإمكان، على أن نسمح لأنفسنا فيما بعد بتعديل الصيغة أو إكمالها.
وحسبنا أن ننظر نظرة كمية إلى تحليله المزدوج لنستطيع القول -على الفور- بأن النظرية التي تنتصر لها أكثر الأسباب الأخلاقية هي النظرية التي تتطلب
1 الموافقات 1/ 196 و198.
2 انظر صفحات 193-237.
3 الموافقات 1/ 235.
قصر النية المطلق على العمل، بحيث تمزج "ماهية" الإرادة "بعلتها"، فتجعلهما شيئًا واحدًا لا غير.
ويستطرد الشاطبي ليقول بأن هذه الطريقة في تصور الواجب تتفق اتفاقًا تامًّا مع حالتنا البشرية، كخاضعين للشرع، لا كأصحاب حقوق على الشارع، يطالبون بها. يقول: "ومن الأمور التي تنبني على ما تقدم: أن الفاعل للسبب، عالمًا بأن المسبب ليس إليه، إذا وكله إلى فاعله، وصرف نظره عنه -كان أقرب إلى الإخلاص، والتفويض والتوكل على الله تعالى، والصبر على الدخول في الأسباب المأمور بها، والخروج عن الأسباب المحظورة، والشكر، وغير ذلك من المقامات السنية، والأحوال المرضية، ويتبين ذلك بذكر البعض على أنه ظاهر.
أما الإخلاص، فلأن المكلف إذا لبى الأمر والنهي في السبب، من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي -خارج عن حظوظه، قائم بحقوق ربه، واقف موقف العبودية، بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه، فإنه عند الالتفات إليه متوجه شطره، فصار توجهه إلى ربه بالسبب، بواسطة التوجه إلى المسبب، ولا شك في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص.
وأما التفويض فلأنه إذا علم أن المسبب ليس بداخل تحت ما كلف به، ولا هو من نمط مقدوراته كان راجعًا بقلبه إلى من إليه ذلك، وهو الله سبحانه، فصار متوكلًا ومفوضًا. هذا في عموم التكاليف العادية والعبادية، ويزيد بالنسبة إلى العبادية أنه لا يزال بعد التسبب خائفًا، وراجيًا، فإن كان ممن يلتفت إلى المسبب بالدخول في السبب، صار مترقبًا له، ناظرًا إلى ما يئول إليه تسببه، وربما كان ذلك سببًا إلى إعراضه عن تكميل السبب، استعجالًا لما ينتجه، فيصير توجهه إلى ما ليس له، وقد ترك التوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه.
وهنا تساق لنا حكاية التقي المخدوع الذي "سمع: أن من أخلص الله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"، فأخذ -بزعمه- في الإخلاص لينال الحكمة، فتم الأمد، ولم تأته الحكمة، فسأل عن ذلك فقيل له: إنما أخلصت للحكمة، ولم تخلص لله"1.
هذا إلى جانب أن الإنسان يبرهن بالانقطاع الذهني بين العمل ونتائجه على أنه يؤمن بالله أعظم من إيمانه بنفسه؛ لأنه حين يفصل السبب عن نتيجته فلن يرى بعد ذلك هذه النتيجة شيئًا بدهيًّا، لوجود سببها، بل سيراها صادرة عن إرادة الخالق وحدها.
ولسوف تكون محاسن هذا الموقف العاقل مضاعفة: فتبدو أولًا، وبشكل مباشر، على ذواتنا، ثم في طريقة أدائنا لواجبنا، ثم يكون لها انعكاسات على موقفنا في المستقبل. وحسبنا لكي نقدر الحالة النفسية حق قدرها، لدى من يؤدي واجبه؛ لأنه واجبه ليس غير -أن ننظر إلى أي حد يؤدي انتظار النتائج، إلى إقلاق الروح، وخلق الكثير من الهموم.
فالمرء يسأل نفسه قبل حدوث أي شيء: ترى هل سيتم جهدي أو يخفق؟ وإلى أية درجة سوف يعرف النجاح؟
وبعد حدوث الفعل، يسأل نفسه، تبعًا لكفاية النتيجة: لو كنت فعلت أفضل أما كنت كسبت أكثر؟ أو يقول حين يحكم بأن تصرفاته كانت غاية في السلامة: يا لظلم القدر!!
1 الموافقات 1/ 219-220. والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب 5/ 189، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، "انظر: فيض القدير 6/ 44". "المعرب".
فهذا التمزق، والتبعثر، وذاك القلق، والغم، وذلك التمرد، والسخط على القضاء -كل ذلك نتيجة نظرة متبجحة ألقيناها على السر المستكن في ضمير الغد
…
فلنسدل إذن ستارًا كثيفًا بين الحاضر والمستقبل، ولنقم حجازًا فاصلًا بين العمل وآثاره، فبذلك نتخلص من هذا الموكب الحزين.
وحينئذ لا نواجه سوى هم واحد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هم تنفيذ واجبنا الماثل، فلنقبل على العمل إقبالًا كاملًا، ولنكل أمر الباقي إلى الله، فهو الذي يحمله عنا، أفضل منا قطعًا. يقول الرسول:"من جعل الهموم همًّا واحدًا كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، ومن تشاعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك"1.
وهكذا نجد أن بساطة الهدف، وتركيز الجهد، والأمن النفسي -هذه كلها هي المحاسن التي تجلبها النزاهة الكاملة إلى النفس المخلصة.
فأما العمل فلسوف يكسب على هذا النحو ثباتًا واستقامة وكمالًا، فلقد يحدث في الواقع أن تنسينا عجلتنا في جني ثمرات جهودنا -أن نلتفت إلى تفصيل ضروري، أو أن تحملنا على تعديل طرائقنا، حتى نطوعها للهدف المقترح. وهل كان لخداع العمال، وللغش التجاري مصدر سوى هذا البحث عن النتيجة؟
أليست النتائج التي يصل إليها عالم، والتخاذل الذي يصاب به بطل، والتراخي الذي يقع فيه مؤمن غيور -أوليست هذه كلها أبلغ أمثلة في هذا المجال؟
فأما إذا كان الأمر بالعكس، فاقتصرنا على مراعاة قاعدة الواجب،
1 الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب 30.
واتباع النموذج الذي تدلنا عليه، فإن العناية الخاصة التي نضفيها على العمل لإكماله، والمثابرة التي نؤديه بها -كل ذلك سوف يجعل هذا العمل في نظرنا نموذجًا فنيًّا جديرًا بالتقدير في ذاته، لا باعتبار الثمرة التي يحتمل أن تنتج عنه.
وأخيرًا، فإن هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء سوف تزودنا بفضيلتين ضروريتين، لمواجهة جميع الاحتمالات، التي قد تنتج عن أعمالنا. فإذا لم تؤت جهودنا ثمرتها، فقد كنا من قبل هيأنا أنفسنا تقريبًا لذلك، ولن تكون المفاجأة كبيرة. بل سوف نتحمل أكثر النتائج سوءًا بمزيد من الشجاعة، يعدل ما توقعنا من شر، وحسبنا أننا -على الأقل- لم نعلق عليهما أملًا كبيرًا.
أما إذا أسفرت جهودنا -على العكس- عن نتائج طيبة، فهي بالنسبة إلينا، مفاجأة جميلة، ما كان لنا أن نطيق شكر المنعم بآثارها، على إحسانه إلينا، أبدًا.
فهذه بينات كافية لتأييد النظرية، التي ترى أن إخلاص النية ينحصر في أن يستغرق الإنسان استغراقًا مطلقًا في العمل التكليفي، منقطعًا عن أية نتيجة.
أما النظرية المعارضة، فليست هي الأخرى أقل استنادًا إلى أسبابها الخاصة. ونبادر إلى القول بأنها لا تزعم أنها تضع في مكان هذا المبدأ مبدأ آخر أثمن منه، وإنما هي تنازع فقط في حق هذا المفهوم، أن يستأثر بكل القيمة، بحيث توصم كل إضافة ذات اعتبار آخر باللاأخلاقية. أي: إن هذه النظرية تريد أن ترينا عجز فكرة "العمل التكليفي، أو التحريمي" عن أن تنشئ القوة اللازمة للعمل، أو الامتناع عنه، والضرورة الأخلاقية لأن يضاف إليها وجهتا النظر الآتيتان:
أولًا: من حيث الثمرات الطبيعية التي تحدد مضمون العمل وأهميته.
وثانيًا: من حيث الأثر الذي تتمثله الإرادة لنفسها، والذي يسوغ في نظرها، التكليف الأخلاقي بالبدء في العمل.
وفي الواقع، لنا أن نتساءل من هذه الوجهة الثانية: كيف نمنع البطل الذي يدافع عن وطنه، والمصلح الذي يبتغي إنهاض أمته، من أن يكون لهما أدنى تطلع إلى الهدف من نشاطهما، ومن أن يكون لهما أي اهتمام ببلوغ الغاية من أعمالهما؟!
إن إرادة قصر نظر هذين الرجلين الصالحين على العمل، من حيث مضمونه العاجل والمباشر، والرغبة في أن نفرض عليهما هذه الغشاوة القاسية التي تحول بينهما وبين أن ينظرا إلى بعيد، ألا يعني كل ذلك حرمانهما من منبع حماسهما ذاته؟ أليس معناه أننا نكلفهما ألا يباليا بأمن أمتهما، وتقدمها؟
ومن هو ذلك الرجل ذو النشاط الوافر الذي يقنع تمام القناعة، بمجرد أن يسير نظام قيادته "وإستراتيجيته"؟
إن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة في هذا المجال، فكلنا نعلم كم كان حريصًا على نجاح رسالته، وكم كان يدعو الله أن يمنح أمته الإيمان ويهديها سواء السبيل، هذا الحرص الذي نجده لدى كل رجال ماضي العزيمة، لا ينبغي، في الحقيقة، أن يتحول إلى وسوسة مريضة، كما لا ينبغي أن يبلغ درجة البرود واللامبالاة. وقد كان دور القرآن على وجه التحديد أن يضبط هذا الحرص الشديد لدى النبي، وأن يسكب في قلبه القلق هذا العزاء، وتلك السكينة، حتى يبلغ به درجة الاعتدال، ولذلك كان من آيات
القرآن قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 1.
وقوله: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 2.
أما فيما يتعلق بالثمرات الطبيعية للعمل فحسبنا أن نتأمل حالة الرجل الذي يهم بعمل خبيث، ونتأمل الفرق في ضميره بين ثقل الشر الموجود في موضوع نشاطه المباشر وبين الخطر الأخلاقي لهذا الشر نفسه، عندما يكون قد تأمل امتداده، سواء من خلال انعكاساته القريبة والبعيدة، أو بفعل انتشار القدوة السيئة، التي سوف يعطيها للآخرين.
إن الذنوب التي قد تبدو لنا من أول وهلة -ذات أهمية ضئيلة، لا تلبث- بعد أن نتناولها من هذه الزاوية -أن تكشف لنا عن شناعة، وأن تجعلنا نقيس المسئولية التي تصدر عنها على أوسع مدى، بحيث يمكن أن يقال: إن الأخلاقية تزداد هنا عمقًا، كلما كسب أفق العمل مجالًا متسعًا.
إن هذا المبدأ هو الذي يسوغ قولنا: إن ترويج درهم زائف أشد خطرًا من سرقة مائة درهم، نظرًا إلى استمرار الغش الذي يحتمه هذا العمل في تداول النقود، فعلى المروج وزرها، بعد موته، إلى أن يفنى ذلك الدرهم.
وقد استطاع الغزالي استنادًا إلى هذا المبدأ أن يقول: "ومن نظر إلى
1 الكهف: 6.
2 النحل: 127.
3 هود: 12.
وجه غيرالمحرم فقد كفر نعمة العين، ونعمة الشمس، إذ الإبصار يتم بهما، وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويتقي بهما ما يضره فيهما، فقد استعملهما في غير ما أريدتا به، وهذا لأن المراد من خلق الخلق، وخلق الدنيا وأسبابها -أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى، ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، والتجافي عن غرور الدنيا، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالغذاء، ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض، وخلق سائر الأعضاء ظاهرًا وباطنًا، فكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة؛ فلذلك قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ....} الآية، فكل من استعمل شيئًا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية"1.
وقد استخلص الشاطبي من هذا التنازع بين الأدلة المتعارضة النتيجة الآتية: أنه لا ينبغي إذن أن نرفض جملة، أو نقبل قبولًا عامًّا كل ما يترتب على النظر في المسببات، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله، فهو الذي يجلب المصلحة، وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به، فهو الذي يجلب المفسدة2.
ومع اعترافنا بضرورة التفرقة بين الاعتبارين، فإن صياغتنا للفكرة سوف تكون مختلفة اختلافًا يسيرًا.
1 الإحياء 4/ 88.
2 الموافقات 1/ 235.
هنالك أولًا حالات تصلح فيها هذه الطريقة في تقدير الأعمال بنتائجها الموضوعية، التي يمكن أن تستتبعها، لا في رفع درجة تشددنا الأخلاقي فحسب، أو في النظر بعين الخطورة إلى أخطاء كنا من قبل نعتبرها أقل خطرًا، بل إن هذه الطريقة قد تصلح أحيانًا في تغيير طبيعة أحكامنا ذاتها، المتعلقة بهذا العمل أو ذاك.
فهل هناك ما هو أكثر منافاة للقانون من ترك الجريمة دون عقاب، وترك الباطل يغتصب مكان الحق، وترك الظلم يتسلط؟؟
ولكن، إذا كان اللوم الذي يوجه ضد خطأ معين يثير من الأخطاء ما هو أشد خطرًا، وإذا كان التشهير بالباطل يستتبع إظلام الحقيقة، وإذا كان التمرد على الطاغية، مع العجز عن إقرار النظام، لا يؤدي إلا إلى إراقة دماء الأبرياء، وجعل الاستبداد أشد تحكمًا، كما لم يكن -إذا كان ذلك جائز الحدوث، أوليس هذا هو موضع تطبيق المبدأ المشهور:"تجنب أسوأ الشرين، وتقبل أخفهما"؟؟
وسوف لا يقتصر الأمر على أن نقول: إنه "من الممكن"، بل "من الواجب" أن نعتبر مقدمًا جميع النتائج التي يمكن التنبؤ بها، والتي يمكن أن يؤثر اعتبارها من قريب، أو من بعيد، على تنظيم الواجب الحسي، وتحديده بذاته.
والشاطبي، والحق يقال، يعترف بذلك في مواضع أخرى.
ولقد نلاحظ حقًّا في هذه الحالات، أن النظر الذي نوجهه إلى الأثر أو المسبب لا يزودنا "بدافع للعمل" ولكنه يزودنا على الأصح، بشرط أو "مسوغ للتشريع" أي: إن فائدة هذا النظر في دفع الإرادة أقل من فائدته في إضاءة الطريق أمام فهم الواجب، طالما أنه ينبغي أن يتم، من قبل أن
يصبح أمر الواجب مفروضًا على الإرادة. والواقع أن السير الطبيعي يقتضي أن يكون الضمير واعيًا أولًا، بالشروط الكاملة للعمل الذي نؤديه، وقد يؤدي هذا الوعي إلى اعتبار العمل تكليفًا مطلقًا، دون اللجوء إلى اعتبارات أخرى، أو قد يتبلور في صورة تطمئننا مسبقًا إلى أن الخير الذي بدأناه لا يستتبع شرًّا أكبر منه، أو أن الواجب الذي نتصوره لا يبطله واجب آخر أكثر جوهرية.
وحين يتم إقرار نظام العمل على هذا النحو، حينئذ فقط، يمكن للنتائج المتوقعة من هذا العمل أن تصبح غايات تعتمد عليها الإرادة في التنفيذ.
إن هذه الملاحظة حكيمة، وليس بوسعنا سوى أن نسلم بها، ونتفق معها.
فلنترك إذن جانبًا الأمثلة التي ذكرنا آنفًا، ولنقتصر على بحث القيمة الأخلاقية لاعتبار النتيجة، لا كإسهام في تحديد الواجب، بل كمحرك للإرادة، التي وعت وعيًا كافيًا موضوع نشاطها. وهنا أيضًا نلاحظ أن جميع النتائج لا يمكن أن تعامل على قدم المساواة، فهناك نتائج يمكن أن تستخدم "كغايات موضوعية"، ذات قيمة أخلاقية لا جدال فيها، وهناك نتائج أخرى ليست سوى "غايات ذاتية" يمكن أن تكون "مشروعيتها" مجالًا للجدل؛ ونتائج ثالثة "ذاتية أيضًا"، ولكن بالمعنى الأدنى لكلمة "الذاتية" الذي يعني "الأنانية المذمومة"، ويمكن أن يقال عمومًا:"إن هذه الأنواع الثلاثة من الغايات توافق الطبقات الثلاث للنية، التي نحن بسبيل عرضها".
وأقصد بعبارة "غاية موضوعية" تلك الغاية التي يرى الضمير مكانها خارج الذات أساسًا، وأن فائدتها التي تستطيع الذات أن تجنيها منها لن تكون في حساب الإرادة، من حيث هي موضوعية، مع أن بوسع هذه
الفائدة: إما أن تتحقق في نفس الوقت بمفردها، وإما أن تكون هدفًا لحركة أخرى من حركات الإرادة.
والغاية الذاتية هي -بعكس ذلك- النتيجة التي تنتظرها الذات من نشاطها، "من حيث هو نافع لها".
إن "المبدأ الأسمى" للأخلاقية يجب أن يلتمس في "موضوع النية"، والإرادة التي يمكن أن توصف بأنها "طيبة" ليست هي الإرادة التي تطلب، أو تتلمس، أجر جهدها، ولكنها التي تقدم نفسها، وتستفرغ جهدها، وتستنفد كل ما في طاقتها، دون حساب، إنها هي التي "تنسى ذاتها في سبيل مثلها الأعلى".
ولقد وجدنا أن هذا المثل الأعلى يتقدم إلينا في شكلين مختلفين، كلاهما يعرضه علينا القرآن. ففي الشكل الأول تقف النية عند صورة الواجب المجردة، وتحركها فكرة وحيدة، هي أنه يجب أن ينفذ الأمر، من حيث هو أمر علوي: أطع الله لأنه حقيق أن يطاع، بهدف أن تمتثل لأمره، وأن تنال رضاه، دون أن تحاول أن تفهم: لماذا أعطى هذا الأمر، وبغض النظر عن الأسباب الصالحة لتسويغه. فذلكم هو الشكل الأول للإخلاص.
بيد أن هناك شكلًا آخر أقل تجريدًا لهذا المثل الأعلى، الذي ينبغي أن نخلص له، فبدلًا من أن نتوقف عند الشكل، ننفذ إلى المعنى العميق للأمر، ونحاول أن نوفق هدفنا الخاص مع هدف الشارع. فنحن نهتم بإرساء قواعد النظام، والعدالة، والحق، ونستهدف في كلمة واحدة تحقيق الخير الذي نعرف أنه مقصود الشرع، أو نحدس بأنه كذلك مسبقًا.
وكما رأينا فإن القرآن الكريم يقدم غالبًا، في الصورة الأولى، هدف الإرادة الطيبة، ولكن على الرغم من كونها قليلة العدد فإن النصوص التي
تجعل من الخير في ذاته مثلًا أعلى للنية -قد جاءت صريحة، وهكذا يحض القرآن المؤمنين على جهاد أعدائهم، لا طاعة لله فحسب، ولكن لينقذوا المستضعفين:{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} 1، وليضعوا حدًّا للمحن القاسية التي يتحملها هؤلاء، وضروب الإغراء التي يعرضها الكفار عليهم كيما يفتنوهم عن الدين:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} 2.
ومع ذلك، فما هو هذا الجهاد في سبيل الله؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدده لنا في هذه الكلمات:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"3.
فأي هذين الموقفين أسمى أخلاقيًّا؟
في رأينا أن الإجابة التي تقدم عن هذا السؤال ينبغي أن تختلف، تبعًا للأولوية التي تعطى للإيمان، أو للعقل.
والحق أنه لن يكون مقبولًا لدى أهل العقل أن نضع في أعلى درجات السلم ثقة معصوبة العينين، ثم نخفض إلى المرتبة الثانية -الضمير المستنير الذكي. فالإنسان الذي يطيع أمرًا، دون أن يحاول فهم أسبابه، خاضع للصفة الآمرة في الحكم فحسب، على حين أن من يطيعه مدركًا أنه عدل، ومعقول، يشعر تجاه الشرع بالمزيد من الإعجاب والاحترام. وكذلك النية التي تستهدف إدراك المعنى العميق للحكم، فإلى جانب أنها لا تنقص من جمال
1 النساء: 75.
2 البقرة: 193.
الإيمان مهما بلغ، تزيده بما يدعمه ويحصنه، فلا يتزلزل أمام عوادي الزمن.
أما أهل الإيمان، فيرى أن الإيمان الذي يحتبس في حدود الذكاء إيمان مقيد مبتور، إن لم نقل: إنه غير موجود، وهو يشهد، في الواقع، بأن ثقتنا في موضوع تصديقنا أدنى من ثقتنا في أنفسنا، أعني: في أنوارنا الجزئية.
وإذن، فلا إيمان بالمعنى الصحيح، إلا حيث تنقطع هذه الأنوار، وإلا حيث لا نلجأ إلى أي دليل خاص ومناسب؛ لكي ندعم صدق قضية معينة وعدالتها، بل نلجأ إلى سبب شديد العموم يشيع في كل شيء ولا يكمن في القضية المطروحة، وإنما في السلطة التي تطرحها.
ويضيف أهل الإيمان إلى ذلك أن من يعتمد على أنواره الخاصة، كيما يوفق بين نيته وأهداف التشريع الإلهي، يظل دائمًا دون المثل الأعلى الكامل، مهما يكن نزيهًا في غرضه، ومهما سما هدفه. إذ إن الفكر مهما كان نزيهًا، ومهما سيطر عليه الاهتمام بإقرار نظام عالمي عادل ونزيه، لا يظل مقيدًا بالمخلوق دون أن يحقق الارتفاع إلى الخالق فحسب -بل إن أي جهد عقلي لا يستطيع مطلقًا أن يطمئن إلى قدرته على أن يكشف حِكَم الله في هذا النظام أو ذاك، وأن يحيط بها علمًا.
وإذن فلا شيء من هذه الأهداف التي تتجه إليها جهودنا سوف يكون مساويًا في القدر أو الرفعة لما يقوم برضا العقل الإلهي، وهو رضا لا ينال كاملًا إلا حين نريد ما يريد ذلكم العقل وبسبب العلل المعروفة، والمجهولة التي يمكن أن يدركها.
وهنا نقطة الذروة التي تحكم كل القيم، والتي لا يوجد فوقها أي هدف ممكن لأكمل النوايا.
ولا شك أن مقارنة هذين الهدفين لا ينبغي أن تفرض فيما بينهما خيارًا يستبعد أحدهما، ولا أن تدعهما يتعاقبان أمام الإرادة، إذ إنهما بالأحرى، عنصران مكملان، يؤدي التنوع في القيمة الواقعية إلى جعلهما لازمين لكمال المثل الأعلى، بل إننا نستطيع أن نؤكد أيضًا أنهما يتعايشان فعلًا في الأنفس المطمئنة، مع قدر من التنوع يغلب أحدهما تارة، والآخر تارة أخرى، في الضمير المستنير. ذلك أن المؤمن الذي يطيع أكثر الأوامر غموضًا، حتى ما يبدو منها قاسيًا، قلما يقصد أن يخضع نفسه لنزوة، أو اعتساف. فهو حتى حين لا يرى تلك الأوامر ومضة عقل، لا يقلل ذلك من اعتقاده الجازم بأن هناك أوامر أخرى مفعمة بالحكمة، وهو يخضع لها ضمنًا، ويسعى في تحقيقها دون أن يفقه طبيعتها، وذلك هو ما تحدث عنه القرآن في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} 1 -هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن الاهتمام بتحقيق الخير الأخلاقي الذي يدرك دون كبير عناء في أكثر الأوامر الواضحة عدلًا -لا ينفصل مطلقًا في ضمير المؤمن عن شعور يجده في نفسه، يتفاوت في درجة غموضه، ولكنه يحمل في طياته رضاه العام، وغير المشروط، بكل القواعد الأخرى، وبدون هذا الرضا لن يكون جديرًا بلقب "المؤمن":{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2.
وهكذا نجد أن وجهتي النظر بالنسبة إلى الأخلاق الدينية متعاضدتان،
1 النساء: 66.
2 النساء: 65.
وتتضمن إحداهما الأخرى. ومع ذلك فليس ينقص من الحقيقة أن أسمى الوجهتين، وأرحبهما أفقًا، هي وجهة نظر الإيمان المطمئن، والخضوع المطلق، فهي التي تستلزم بالضرورة الوجهة الأخرى، دون أن تكون مستلزمة لها بنفس القدر من الضرورة.
فقد يجوز في الواقع -وهو ما يحدث غالبًا بالنسبة إلى الملاحدة- أن يكون السعي في سبيل الخير العام من حيث هو صادر عن نوع من الاستعداد الفطري الخير، الذي يحبب إليهم الإحسان، ويزين لأعينهم العدالة لذاتهما، بمعزل عن أوامر الشرع ووصاياه. ولقد رأينا أن هذا النوع من التلقائية ليست له قيمة أخلاقية، على حين أن فكرة طاعة الله لا تخلو مطلقًا من إدراك أوامره على أنها أحكم الوسائل التي تهدف إلى تحقيق أعظم الخير للإنسان، وللكون أجمع. فإذا كان طول النظر، وعمق التأمل، شرطًا في صيرورة هذا المفهوم واضحًا غير ملتبس، راسخًا غير مهتز، وإذا كان توفر درجة أسمى من درجات التقدم الأخلاقي شرطًا في بلوغ هذا المفهوم مركز الصدارة من أفق الضمير، فإن ذلك لا يحول دون أن يكون متضمنًا في عقيدة الإيمان، وهو موجود فعلًا؛ على الرغم من أنه قد يكون غامضًا، على نحو ما، في نفس كل مؤمن، حتى لو كان من أوساط المثقفين.
فلنمسك الآن عن القول في هذه الدرجات المتنوعة من المثل الأعلى الأخلاقي، كيما نلخص الحديث عن الصيغة الأساسية الصالحة لمختلف الدرجات. هذه الصيغة هي: توحيد موضوع الإرادة مع موضوع الشرع، سواء توقفنا عند شكله، أو تغلغلنا في جوهره. ولو أن المرء ثبت نظره على هذا الموضوع فسيجد فيه "الموضوعية" التي تعرف بها شجاعة النفس وشرفها، سواء حين يقف بعيدًا عنه، إجلالًا لمشرع، أو حين يقترب منه بجاذبية الحب، وبدافع العرفان.
فمتى ما تركنا هذه الذروة، هبطنا على الفور إلى مستوى الغايات الذاتية أعني:"المنفعة". وليس هنالك وسيلة أمام إرادة ملتزمة حقًّا، للخروج من هذه المعضلة: فإما أن تكون في خدمة الشرع أو الخير في ذاته، وإما أن تمضي للبحث عن الخير الشخصي. فهل لنا أن نقول: إن هذين النوعين من الخير يمكن أن يتطابقا تطابقًا كاملًا، بل يمكن أن يصلا إلى حد الامتزاج؟
لا مانع عندي من الموافقة على أن الخير العام قد يكون في نفس الوقت خيرنا الخاص؛ ولكن قد يتساءل المرء، من وجهة نظر الذات الفاعلة: إذا ما كان بوسع الذات، بحركة واحدة لا غير، أن تفيض خارجها فتهتم بالشرع، ثم تستدير إلى نفسها، مدفوعة بالأنانية؟
وحتى لو افترضنا أن هذا الأمر ممكن فإن هذا الهدف المزدوج يرجع -على كل حال- إلى نوعين من "الدوافع"، ينبغي أن ندرسهما الآن، كلٌّ على حدة1.
والمسألة الآن هي أن نعرف قيمة هذه الدوافع الذاتية. هل يجب أن نؤثم كل اهتمام بالخير الشخصي، حتى لو كان من أكثر أنواع الخير مشروعية باعتباره متنافرًا مع شرط العباد المخلصين، وباعتبارنا مكلفين بأن نكرس كل عمل من أعمالنا لله؟
هذا هو الرأي الذي أيده أكثر الأخلاقيين المسلمين حماسًا وغيرة، حتى إن صرامة "كانت" ليست بشيء إلى جانب صرامتهم، وهم يرون أن واجب كل فرد ليس تقييد رغباته فحسب، وإخضاعها للقاعدة، بل إنه يجب ألا يكون له رغبة أخرى غير رغبة البذل. ذلك أن تخصيص بعض الجهد لإشباع الفطرة، من حيث هي، معناه أننا نقيم إلهًا آخر غير الله. وهذا
1 أخرنا اختلاط الدوافع إلى الفقرة الخامسة والأخيرة.
هو المبدأ "الثالث المستبعد في الأخلاق"، فليس بين الفضيلة والرذيلة من حد وسط، فحيثما لا يكون فكرنا موصولًا بالله فإنه ينقلب ضده.
وما هكذا يفكر المعتدلون الذين هم الأغلبية، ولسوف نرى أن اعتدالهم ينتهي في آخر المطاف إلى ما نطلق عليه: الصرامة الكانتية.
لقد تساءلوا أولًا عما إذا كان هذا التجرد المطلق حيال الفطرة ممكن الوقوع عمليًّا، أو حتى إذا ما كان ممكنًا إنسانيًّا؟ فمن منا يستطيع أن يتباهى بأنه لا يعرف الاهتمام بشخصه، وبأنه يطيق أن يستغني عن كل نتيجة، أخلاقية أو مادية، قد ينتجها نشاطه؟ من ذا يستطيع أن يدعي أن الصحة، والحياة، والرفاهية، والسلام، والصداقة مع الجار، وحتى العلم، والذكاء، وكيفيات القلب، والعقل، هي في نظره أشياء لا قيمة لها، وليس لها قط جاذبية، أو سلطان عليه؟
لقد استطاع أبو بكر الباقلاني أن يصف أنصار هذا التجرد المطلق وصفًا قاسيًا، فقضى بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ، وقال: هذا من صفات الإلهية، وحاول أيضًا أن يرد عليهم أدلتهم الدينية. لقد كانوا يريدون في الواقع بهذه الطهارة المزعومة للنية أن يجنبوا المؤمنين أن يقعوا في هذا النوع من الشرك، الذي هو عبادة المنفعة، لقد أرادوا البراءة عما يسميه الناس حظوظًا، ولكن الباقلاني يلاحظ أنهم بهذه القرينة يقعون في الشر الذي أرادوا أن يتجنبوه؛ لأنهم لم يفعلوا سوى أن ألهوا الإنسان، حين خصوه بدرجة من الكمال، هي في الحق صفة من صفات الله1.
وبدون أن نذهب إلى حد الزعم بأن الإنسان لا يتحرك إلا لحظ ومنفعة،
1 الباقلاني: ذكره الغزالي في الإحياء 4/ 369، وأيده.
هل يمكن أن نقرر عقلًا أن أحدًا من الناس لا يسمح له في أية حالة أن يبحث عن خيره الشخصي من حيث هو؟ وهل يمكن مثلًا أن نحرم على إنسان مهدد بالجوع والعطش أن يعمل "أعني: أن يأكل ويشرب"، تحت سلطان هذه الضرورة الفطرية؟ وهل ينبغي إذن أن ينتظر بضع لحظات كيما يستحضر أولًا أمر الواجب، فلا يعمل إلا بهذا الأمر، حتى لو كان هذا الانتظار يجعل أية محاولة للإسعاف غير مفيدة؟
إن هذا المثال وحده كافٍ لنعترف بقساوة وسخف هذا الرفض المنهجي لحق الإنسان في أن يسمع لصوت فطرته، ويستجيب لندائها البريء، وكل ما يجب علينا ألا ننساه هو: أن المسألة ليست مطلقًا أن نجعل من المنفعة المقبولة عقلًا مبدأ ثانيًا من مبادئ الأخلاقية، فشتان ما بين المنفعة والمبدأ والناس، كل الناس، في كلا المذهبين، متفقون على أن الأخلاقية "واحدة"، وعلى أنه لا توجد خارج إرادة الطاعة "بوجهيها" أية قيمة أخلاقية، "موضوعية" في أي مكان.
أما المعتدلون فيحاولون ببساطة أن يزيلوا هذه اللعنة التي أراد بعض الصوفية أن يصموا بها دون تمييز كل سعي ذي غاية ذاتية، مهما كان. أي: إنهم، بعبارة أخرى، يودون أن يجعلوا في مكان هذا التقسيم الثنائي تقسيمًا ثلاثيًّا، يصح بمقتضاه أن نجعل بين "الثواب" و"العقاب" مجرد "البراءة"، وبين اكتساب القيمة وفقدانها، نضع "اللاقيمة" la non- valeur، وبين مستوجب الثناء ومستوجب الذم مجرد "المشروع"، وبين التكليف والتحريم الإباحة.
هذه التفرقة ذات الطابع الثلاثي لا تمثل جميع نواحي التشريع القرآني فحسب، ولكنا نجدها عند الحديث عن النية، على وجه التحديد، معبرًا عنها بصورة واضحة في حديث مشهور، رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وجميع المحدثين، وفي ألفاظ هذا الحديث أن واقع تربية الخيل والاعتناء بها