الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"merite" على كل صفة فطرية أو مكتسبة، جديرة بالتقدير، حتى لو كانت الجمال، أو الغنى.
وإنما يجب فقط أن نعترف بأن لدى الناس اختلافًا في نصيب كل منهم من عاملي الفضيلة؛ ويجب أن نلاحظ في الوقت نفسه أن الناس لا يتساوون دائمًا لا في موضوع الكفاح ولا في الشكل الذي ينبغي أن يبدو فيه جهدهم الأخلاقي.
وهنا نجد من المناسب أن نتعمق أكثر، لنكشف عن صيغة التوفيق بين أحكامنا الأخلاقية.
وإنا لنعتقد أننا نستطيع العثور على مفتاح الحل في التفرقة التي أثبتها القرآن بين نوعين من الجهد، أحدهما قد يطلق عليه "جهد المدافعة" effort eliminatoire والآخر هو "الجهد المبدع" EFFORT CREATEUR.
أ-
جهد المدافعة:
ونقصد بعبارة "جهد المدافعة" تلك العملية التي نضع فيها في مواجهة الميول الخبيثة التي تحثنا على الشر قوة مقاومة قادرة على دفع تأثيرها.
ولا أحد يستطيع أن ينازع في ضرورة عملية كهذه، كلما وجدنا أنفسنا أمام قوة معادية تريد أن تتغلب، فواجبنا الأول في هذه اللحظة، ومهمتنا العاجلة الملحة هي أن نسكت سورتها. ولقد رأينا أن القرآن لا يفتأ في كثير من المواضع يطالبنا بهذه المقاومة، وهو يعد أولئك الذين يعرفون كيف يقهرون شهواتهم بأعظم الغايات، يقول تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى، فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا،
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1.
ومما يذكر هنا كحكم عملي، من أحكام كثيرة: الصوم المطلق، الذي يفرضه القرآن، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، في الجزء الثاني عشر من السَّنة، وفي أحوال كثيرة غير هذه الفترة المفروضة. إن في ذلك بلا ريب تدريبًا عظيمًا، لحطم عبودية الجوارح.
ولكن، هل هذا الانتصار باهظ دائمًا، وفي كل مكان، لدرجة أنه يقتضينا تضحية مرهقة؟
إنه على الرغم من التشاؤمية المفرطة، التي تنظر إلى الحياة الأخلاقية من خلال منظار أسود، والتي ترى أن الشر قانون الطبيعة الذي لا يرحم -فإننا نجيب عن هذا السؤال بأنه ليس الأمر هكذا دائمًا.
وبدهي أننا لا نريد أن نتكلم عن فطرة ملائكيه، لم تطرح بالنسبة إليها مشكلة الشر مطلقًا، من حيث كان محالًا على مثل هذه الفطرة أن تفعل غير الخير. ولسنا نتكلم أيضًا عن مريض، ربما تنقصه كلية الطاقة العضوية، ليأتي شرًّا ما، وربما ينقصه الذوق العادي ليسيغ لذة معينة.
فهاتان الحالتان، ما فوق الأخلاقية SUPRAMORAL، والحياد الأخلاقي AMORAL، هما خارج القضية سواء.
ولكنا وإن بقينا في مجال الفطرة الإنسانية الكاملة، المزودة بالغرائز وبالعقل -نلاحظ لدى كثير من الأشخاص قدرًا من الانبعاث التلقائي فيما
1 النازعات: 34-41.
يصدرون من قرارات خيرة، وهو انبعاث ذو درجات لا تحصى، تصعد إلى أعلى درجة، وتهبط إلى أدناها، بحيث إن هذه القرارات لا تجد ما يقاومها حسيًّا من النزعات المضادة.
ولا يقتصر الأمر على حالة اتخاذ قرار عادي أو تافه فحسب، بل حتى في حالة اتخاذ قرار عظيم الخطر، نجد أن هذه العزيمة التي لا يحصل عليها الرجل العادي إلا بمجهود شاقّ، تتحقق لدى هؤلاء الأشخاص بطريقة أكثر يسرًا وطواعية.
وهذه الحالة الشبه تلقائية يمكن أن تحدث بطريقتين: فإما أن تكون منحة، بفضل استعداد فطري، وإما أن تكون "ثمرة جهد"، بعد فترة تتفاوت في طولها وفيما تخللها من معاناة.
ففي الحالة الأولى، حين تكبت الأهواء إلى مستوى لا يكاد يدركه الشعور، وتحتل فكرة الخير في النفس مكانًا سَنِيًّا، يصبح العمل الصالح موضوع حب ومتعة. وهذه الحال العلوية التي تستهدفها الحاسة الأخلاقية هي حال كبار الصالحين، التي فطرهم الخالق عليها، وبخاصة الرسل، الذين اصطفاهم الله منذ البدء، لتبليغ الرسالة الإلهية، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1.
وفي الحالة الثانية لا تمضي الأمور هكذا إلا إلى حد معين، وبفضل كفاح شخصي متجدد غالبًا. وليس قانونًا فقط أن نقول: إن استخدام ملكة ما في اتجاه معين يغذي بنفس القدر هذه الملكة المستخدمة، ولكن الله سبحانه يتدخل بمعونة إيجابية لهداية من يبحث عن الطريق الصحيح، بحثًا جادًّا، والقرآن الكريم يعلن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا،
1 الأنعام: 124.
وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وفي الحديث القدسي عن رب العزة تبارك وتعالى:"وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته"2.
ولكن، إذا نزلنا أكثر من هذا، إلى مستوى الإنسان الوسط، ألا نلاحظ حالة شبيهة بهذه، شبهًا جزئيًّا؟
فحين نألف أن نقف أمام شهوة معينة، سواء لنفكر في صفتها التي لا تليق بكائن عاقل، أو لنحدس بنتائجها المخوفة، وحين تبلغ هذه التوقعات أو تلك القيم أن تملك علينا غالبًا تصورنا، وأن تنفذ إلى قلوبنا -ألا نحس في أنفسنا بقوة معينة نابضة، كانت إلى ذلك الحين غير محسة، وهي منذئذ تيسر أمر ابتعادنا عن الشر؟ وعليه، فإذا كان القديس مدفوعًا "بالحب"، والرجل الوسط مؤيدًا "بالعقل"، والعامي مقيدًا "بالخوف"، أو منجذبًا "بالرجاء" فإن المنهاج دائمًا هو هو، بصرف النظر عن ذلك الفرق النوعي بين الأفكار، والمشاعر، المتفاوتة في قدرها وشرفها. فالإرادة في هذه الحالة أو في تلك، مزودة بمحركات أخرى تساعد على انطلاقها، وحينئذ يصبح القرار أسرع وأيسر، ويقل الجهد بنفس النسبة.
ليس المراد من ذلك أن نقول: إنه لم يعد هناك صراع، وإنما نستطيع
1 العنكبوت: 69.
2 البخاري، كتاب الرقاق، باب 37. والمؤلف مجتزئ في الأصل ببعض جمل الحديث، وآثرنا إيراده كاملًا. "المعرب".
القول بأنه موجود، حتى في الحالة الحدِّية، التي لا يمكن تجاوزها، وذلك على الأقل ما يتضح من مجموع النصوص التي سوف نراها.
إن القوتين اللتين نواجههما هنا ليستا مسلحتين على قدم المساواة. والقاعدة العامة هي ما قال القرآن: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} 1، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما روي عن ابن مسعود، رضي الله عنه:"ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن". قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" 2، وتلك هي حال عباد الله الصادقين، فليس للشيطان عليهم سلطان:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} 4.
وإن التأثير الذي تتعرض له فطرتهم الحساسة من هذا العمل الشيطاني لهو أقل ثباتًا ودوامًا من التأثير الذي يمارس على عامة الناس، فهو مجرد ظلام خفيف ناشئ عن ظل سحابة عابرة، لا تلبث أن تتقشع:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 5.
والصدمة التي يحدثها التماس الشر في أنفسهم لا تتجاوز كثيرًا شكة الإبرة في بناء صلب: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 6.
1 يوسف: 53.
2 صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة، والنص الذي ذكره المؤلف:"نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم" هو من رواية عائشة رضي الله عنها ولكن بقية السياق تدل على أن المراد ما ذكرناه. "المعرب".
3 النحل: 99.
4 الإسراء: 65.
5 الأعراف: 201.
6 الأعراف: 200.
وليس يغض من صدق هذا القول أن نجد أكثر الناس صلاحًا هم كذلك أناس متمتعون بفطرتهم الكاملة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه: "إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر"1.
والواقع أن "الرجل الصالح في الإسلام" لا ينبغي أن يتصور على مثال "الحكيم البوذي" المجرد من الشهوة، ولا على مثال الحكيم الرواقي الذي لا يبالي بالألم. بل الأمر بعكس ذلك، فبعض الأشياء يروق الرجل الصالح، وبعضها يكرهه، وما دام هواه الفطري أو الذي اعتاده لا يتعارض مع واجب، فهو في كلتا الحالين لا يحاول أن يقاومه. ومن هذا القبيل ما روته السنة عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل"2.
وما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه من أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره الثوم والبصل، وأنه قال:"من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته"3. وما روي عن خالد بن الوليد بن المغيرة أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه، فقيل: هو ضب يا رسول الله، فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا؛ ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر4.
1 صحيح مسلم، كتاب البر، باب 25.
2 صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب 32.
3 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب 24.
4 الموطأ 3/ 137.
ولقد "كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقًّا"1، وروى البخاري عن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته، تدعوه وتخبره، أن صبيًّا لها، أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول:"ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" فعاد الرسول فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع الصبي، ونفسه تقعقع، كأنها في شنة2، ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"3.
وهذه الظاهرة نفسها حدثت عندما: "اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: "أقد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: "ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه "أو يرحم" 4.
ومع ذلك فإن أحيا المشاعر وأعمقها لا تتفجر عنده في هذه المواقف العادية المألوفة، فلقد كان لاهتمامه بنجاة الناس، والآلام التي يحسها حين يرى
1 الترمذي، كتاب البر، باب المزاح.
2 قوله: تقعقع، حكاية صوت نزع الروح، والشنة: القربة البالية، أي: كأن روحه تتقلب في جسد ممزق، لا تستقر في مكان منه. "المعرب".
3 مسلم، كتاب الجنائز، باب 6.
4 مسلم، المرجع السابق.
ضلالهم، كان لذلك تأثير موجع على نفسه، والقرآن يخاطبه بقوله:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 1.
وكما تتجه عواطفه الرقيقة نحو هذه القيم العليا، نجدها تتجه وجهة أخرى، فيما حدثنا عن نفسه:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"2.
فالقداسة الإسلامية لا تتمثل إذن في لامبالاة مطلقة حيال الفطرة، ولكن في تفضيل مؤكد بصفة خاصة للقيم الروحية. ولذلك نجد أن القرآن حين يصف المؤمنين الصادقين لا يقول: إنهم لا يحبون إلا الله، ولكن يقول:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 3.
وإذن، فلكي نطرح مشكلة الجهد والانبعاث التلقائي لسنا بحاجة إلى أن نفترض حالة تكون فيها القوى المناهضة للواجب منعدمة تمامًا، بل حسبنا أن ننطلق من واقع عدم التساوي بين القوى المتصارعة؛ لأن أدنى تفوق للشعور الخير يجب أن يخفف بنفس النسبة من ثقل التكليف، ومن التضحية التي تفرضها المقاومة، ولقد ذكر القرآن هذه الملاحظة، فبعد أن أوصى بأن نستعين بالصبر والصلاة قال:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} 4.
وليس من العسير أن نرى -في الواقع- من خلال النزاع الذي يقابل بين قوى متنافرة على هذا النحو -انتصارًا يبدو، أو يتجلى في خطوطه العريضة، ونقول فقط:"في خطوطه العريضة" لأننا لسنا بصدد عمل خاص تبلور بصورة ما، ويقبل عليه الإنسان عند الاقتضاء بطريقة مباشرة وآلية، بل
1 الشعراء: 3.
2 النسائي، كتاب عشرة النساء، باب 1، ونص الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة". "المعرب".
3 البقرة: 165.
4 البقرة: 45.
هو مجرد وجهة يدل عليها بصورة إجمالية مبسطة، الاتجاه الأكثر نضجًا وتطورًا.
والآن، ما قيمة العمل الذي يؤدى في الظروف التي وصفناها؟
إنه عمل، لا هو بالتلقائي المحض، ولا هو بالكسبي الكامل، فهو ثمرة قوتين متضافرتين: الفطرة والشخص، كما هي الحال في كل عمل إنساني آخر، مع مقادير مختلفة، ولكن ألا ينبغي أن ينقص الثواب الشخصي كلما زاد إسهام الفطرة؟
هذا هو السؤال.
إن هناك أولًا حالة تبدو فيها -بداهة- استحالة القول بالإيجاب، وهي حالة الرجل الوسط الذي يحرز التقدم، وتعتبر هذه المرونة الفطرية بالنسبة إليه كسبًا للإرادة، فلنقف الآن أمام هذه الحالة.
أليس بخسنا للعمل الأخلاقي الذي أصبح ميسورًا نسبيًّا، معناه أننا ننكر الجهد ذاته، في خير نتائجه؟
لقد طالما ذكرنا أن الغاية من الصراع لا تكمن في الصراع نفسه، بل في النصر الذي يسفر عنه. ومع ذلك فلا ينبغي لهذا النصر أن يحمل على معنى عرضي أو صدفي، فإذا كنت للمرة الأولى أصارع ضد إغراء معين، واستطعت أن أفلت منه فليس ذلك سببًا كافيًا لأن أمنح لقب المنتصر، فمن ذا الذي يدري ماذا كنت أكون لو أن الصدفة لم تسهم بجانب من العمل، صغر أو كبر؟ ولقد قيل في المثل: إن عندليبًا واحدًا لا يصنع الربيع1.
1 هذا المثال بالفرنسية هو:
"UNE HIRONDELLE NE FAIT PAS LE PRINTEMPS"
والمراد به أن عملًا واحدًا لا ينهض مطلقًا بتقييم الإنسان والحكم عليه، كما أن وجود طائر واحد من هذا النوع لا يسوغ الحكم بأن الدنيا ربيع، أي: إنه لا بد من كثرة الأعمال، كما لا بد من آلاف من العندليب للتبشير بالربيع. "المعرب".
ولا شك أن هذا هو السبب في أن أرسطو قد وضع الفضيلة في طائفة العادات. فنترك إذن الظروف تتغير، ولندع الفرصة تسنح في أشكال مختلفة، فإذا ما حصلت على نفس النصر، فحينئذ أستطيع أن أنشرح له، ولكنه ليس انشراحًا كاملًا أيضًا.
ذلك أنه، إذا كنت في كل مناسبة ينبغي أن ألجأ إلى نفس مصادر الدعم، وأن أعاني نفس المصاعب، حتى أضمن لنفسي المطابقة الأخلاقية في سلوكي، فإني أؤكد بذلك أن صفة التمرد في فطرتي تبقى كاملة، إن لم أقل: إنها بدت عاجزة عن أن تتطور. ولعل المثال الكلاسيكي عن الطفل الذي يحاول أن يغرق كرته في الماء دون جدوى -يعطينا صورة كاملة عن هذه المحاولات المتماثلة دائمًا، دون أن تحرز تقدمًا.
لسوف يبذل المسكين قصاراه ليغرق كرته، ولسوف تثب كرته وتطفو كلما تركها، إلا أن يخرقها، أو يربط فيها ثقلًا.
ولسنا نغالي مطلقًا، حين نؤكد أن كل الاهتمام الأخلاقي، كما وصفه المتصوفة المسلمون، كان موضوعه على وجه التحديد أن يوقف ضرورة هذا الانهماك في المقاومة، وأن يحقق نوعًا من التوازن الداخلي، أو يقترب منه بقدر الإمكان.
وهاك مثالًا من بين ألف أخرى تصدق هذه الحقيقة، وقد سيق إلينا في القصة التالية التي يستبطن فيها أبو محمد المرتعش ذاته:
فلقد كان من عادة هذه الصوفي أثناء حجه السنوي أن يفرض على نفسه كل أنواع المشتقات، كان يحتمل الجوع والتعب، دون أن يشعر بأي اعتراض في نفسه، حتى ظن أنه قد أصبح متحكمًا في ميوله الغريزية، إلى أن وقع حدث تافه فتح له عينيه، ولنتركه يتحدث، قال: "وذلك أن والدتي
سألتني يومًا أن أستقي لها جرة ماء، فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ، وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع"1، وما لبث صاحبنا في استعادته لما قام به أن أدان كل أعماله السابقة، وأدرك أن مهمته لما تكن قد بلغت غايتها.
"فالهدف من الجهد إذن هو تقليل الجهد"، وأعظم ميزة نحصل عليها منه هو أن يجعلنا مستقلين عنه شيئًا فشيئًا، وذلك في نفس الوقت الذي يجعلنا فيه أكثر إلفًا للعمل الذي درب عليه.
ولا ريب أن ذلك لا يكون نتيجة عادة نتصورها في شكلها الإستاتيكي الخالي من أية محاولة، بل من حيث هي منبع ديناميكي ينمو بالتطبيق، ويعدل نفسه بتعديل موضوعه، وهو يتيح لنا السيطرة على الموقف، في أكثر الظروف تنوعًا، ومفاجأة.
يجب أن يتعمق الصراع، ويتأصل، ويتحول إلى طبع خاص، فيصبح وكأنه فطرة ثانية، وبهذا وحده يمكن للمرء أن يتحدث عن أخلاق متحققة، لا عن أخلاق منشودة.
ويجب أن نذكر أن هاتين المرحلتين، من الصراع، والانتصار، أو بصفة
1 الرسالة القشيرية 49 ط. 1957، وأخبار أبي محمد المرتعش ورد بعضها متناثرًا في هذه "الرسالة". وجاءت مجموعة في "طبقات الصوفية" لابن عبد الرحمن السلمي ص349 وما بعدها، بتحقيق الشيخ نور الدين شريبة، وفي الطبقات الكبرى للشعراني 1/ 106 ط. الحلبي، وقد كان رضوان الله عليه شديدًا على نفسه، كثير الشك في عمله، وكان يقول:"سكون القلب إلى غير الله عقوبة عجلها الله للعبد في الدنيا"، وروي أنه اعتكف مرة في العشر الأخير من رمضان فرأى المتعبدين يتهجدون، والقراء يقرءون، فقطع الاعتكاف، وخرج، فقيل له في ذلك، فقال: لما رأيت تعظيمهم لطاعتهم، واعتمادهم على عبادتهم لم يسعني إلا الخروج، خوفًا من نزول البلاء عليهم. "المعرب".
أعم، هاتين المرحلتين من الإضافة الخارجية، والتقدم التلقائي قد صيغتا في اللغة العربية بصيغتين مختلفتين، ومعبرتين خير تعبير، رغم أنهما من أصل واحد: خلق، وتخلق، فكلمة "خلق، أو أخلاقية" بالمعنى الصحيح تعني تلك القدرة الفطرية أو المكتسبة، التي ينبثق عنها السلوك تلقائيًّا وبعبارة أخرى: الخلق هو الشكل الثابت لوجودنا الباطني، في مقابل الخلق، وهو الشكل الظاهري الذي وهبه الله لكل مخلوق.
وطالما لم نحصل على هذا الثبات الذي بفضله تفيض الأعمال، في دفعة كريمة وتلقائية فإننا نظل في حالة التخلق، أعني حالة الاختبار والمحاولة، من أجل نسلك بطريقة أو بأخرى.
ويستعمل اللفظ غالبًا في هذه الصيغة بمعنى محقر، يقترب من التصنع والتظاهر. وهكذا يكفي أن نتأمل تعريفات الألفاظ، حتى نعرف في أي جانب نضع القيم العليا.
وشأن العمل، كشأن المعرفة: فلكي "نعمل" كما هي الحال حين "نحكم"، كلا الأمرين يستوجب "رأس مال" يقتطع منه.
وإذا لم يكن في يد الباحث عن الحقيقة نظام من المبادئ الأولية، ومن القوانين العامة، وما دام لا يستطيع أن يحدس بالوجهة التي يوجه إليها بحوثه -فإن عمله يصبح من أطول الأعمال وأشقها.
أمن حقنا أن نقول: إن الإنسان يكون عالمًا بقدر ما يزداد بطؤه في التوصل إلى الحقيقة؟
إني أتوقع أن أحدًا لن يوافقني على هذا القول، ولكن، ألا يجب علينا أيضًا، منذئذ، أن نحدد الإنسان الصالح بأنه ذلك الذي يجد رهن تصرفه
مجموعة من الوسائل الخاصة القادرة على إسكات صوت الهوى سريعًا، وجعل القرار الحسن أسرع وآكد؟
إن الأخذ بالرأي المقابل، الذي يحدد العمل الأخلاقي بأنه الذي يؤدي مع أكبر قدر من المقاومة -معناه الإصرار الغريب على أن يظل الإنسان في المرحلة البدائية، حيث يكون عرضة لحشد من المشاعر الشرسة، غير المستأنسة، التي لا يستطيع مقاومتها إلا إذا استدعى جهد أكثر المقاتلين يأسًا.
هذه المرحلة البدائية التي لم ير فيها أكثر فلاسفتنا الأخلاقيين حرصًا1 سوى حالة عابرة، قابلة لأن تجتاز، وتستبدل بعكسها -ما كان لها بداهة أن تكون "قانونًا"، أو "نظامًا شاملًا" للقيم. ذلك، أن الحياة الأخلاقية المثلى -على هذا الرأي- لن تكون فقط حياة المبتدئين، والتلامذة، بل ستكون بالحري، حياة الأشرار والفاسدين. ولسوف يكون نموذجنا هو الإنسان الذي لا يستطيع أن يعزم على أن يسير في الحياة بشرف إلا إذا فرض على فطرته نوعًا من العنف المؤلم، وإلا إذا أتى بعض الحركات القاسية راغمًا.
ومع ذلك فإن وجهة النظر هذه هي عكس ما يبدو لنا من موقف القرآن تمامًا، فلقد رأينا كيف ذم الحق تبارك وتعالى، أولئك الذين لا يؤدون واجبهم بمسرة ونشاط، والذين {لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} 1، ورأينا بأي أسلوب فضحهم وكشف سترهم؟
وكان أرسطو إذن على حق في أن يقول: إن الذي لا يسر لأداء الأعمال الطيبة ليس خيرًا حقًّا.
1 انظر مثلًا: المحاسبي، الرعاية، الفصل 50.
2 التوبة: 54.
لقد تناولنا حتى الآن الحالة التي لا يكون فيها هذا الطبع الكريم، والخير هبة من الطبيعة، بل كسبًا للجهد، والعمل الذي يؤدى بعد هذه الهداية، هو مقابل مقاومة متجمعة، في الماضي، قليلة كانت أو كثيرة، وإن كان أداؤه الآن دون مقاومة كبيرة.
وإنا لنؤكد أن العمل الذي يتم في هذه الظروف -يرجع الفضل فيه إلى الكفاءة الشخصية، فالانبعاث الناشئ عن الجهد لا يناقضه، بل يستشعر فيه أنه أصله، فهو استمرار له وتتويج، باعتباره الغاية، والوسيلة.
ولقد يعترض علينا، بأننا حين نعلل على هذا النحو، نصور الإرادة الإنسانية، وكأن فيها تلك القوة المطلقة المغيرة للكائن الأخلاقي، بصرف النظر عن جميع القوى الأخرى التي تساعد على تغييره، بل ننظر إلى تلك الإرادة، مستقلة حتى عن الفضل الإلهي؟! وفي إجابتنا على هذا الاعتراض ننكره أشد الإنكار. فمما لا شك فيه أننا نقع في خطأ فادح، حين نرتكب خلطًا كهذا في عرض الأخلاق القرآنية. ولقد آن الأوان لنتحدث صراحة عما تركناه غامضًا في فرضنا. فلنقل إذن في كلمة واحدة: فِيمَ يتمثل تدخل هذا العامل العلوي، الذي يتجلى لنا في القرآن، وفي الحديث؟
وإنه ليتمثل لنا غالبًا، باعتباره يؤدي دورًا محددًا في تكوين الطبع الأخلاقي، فهو يأتي تلبية لجهد إنساني مستهل، أو منجز، وهو يجيء على إثر هذا الجهد، سواء لتغذيته ودعمه، أو لإثرائه، والإفضاء به إلى نتيجته. وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 1، ويقول:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 2، ويقول:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} 3.
1 العنكبوت: 69.
2 محمد: 17.
3 يونس: 9.
وإذن، فهناك دائمًا شيء يأتي أولًا من جانبنا، فالإنسان -لكي يتلقى النور- ينبغي أن يطلبه، وأن ينشرح له، ينبغي أن يظهر حاجته إليه، وأن يمد إليه يديه، وأن يخطو خطوات نحوه، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم:"ما يكن عندي من خير لا أدخره عنكم، وإنه من يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر"1.
فالمدد الإلهي مشروط إذن بجهد إنساني، وهذا الجهد مع ذلك يحتفظ بقيمته كاملة، فأما السكينة، والراحة اللتان تعقبانه فإنهما لا تنقصان من أجره شيئًا.
والحق أن القرآن لا يذكر في بعض آياته هذه العلاقة، على أنها بين شرط ومشروط، بل إنه أحيانًا لا يشير أدنى إشارة إلى المحاولة الإنسانية، وهو حين يتحدث عن الهداية الكاملة التي يحظى بها الأصفياء، يقدمها على أنها ثمرة إنعام خالص، جاء بفضل الله مباشرة، وهو ما نقرؤه في قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} 2، {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُْ} 3؛ لأنه {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} 4، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 5.
1 البخاري، كتاب الرقاق، باب 19. وقد ذكر المؤلف في الهامش "ومن يستعفف". "المعرب".
2 الأنعام: 125.
3 المجادلة: 22.
4 الفتح: 4.
5 الحجرات: 7.
بيد أن ترك الذكر لا يعني بالضرورة النفي، ولو أننا أردنا أن نحكم على هذا الموقف ببعض هذه الآيات نفسها فلسوف يظهر أن هذه المنحة السماوية لم تكن إلا أجرًا على موقف محسن أبداه هؤلاء الناس من قبل:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 1، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} 2. فهناك إذن إيمان يحتاج إلى تقوية، ومشاعر جديرة بالإثابة.
ولن نمضي -بطبيعة الحال- إلى حد أن ندعي أن العمل الإنساني سابق مطلقًا، فمن البداهة أن وجودنا العضوي، والنفسي، والاجتماعي، سابق على وجودنا الأخلاقي، ثم إن الإمكانات الموجودة بالقوة في باطن هذا الوجود الأخلاقي تسبق النشاط الشعوري، وتعد له.
بل إننا لنمضي إلى القول بأن هنالك نوعًا من المدد الإلهي الإيجابي للأنفس ذات الاستعداد الطيب، وزيادة في القوة تغنيها عن مزيد من الجهد في المقاومة، ضد الاتجاهات السيئة.
وإنا لنقف أمام هذه الحالة الأخيرة كيما ندفع برهان النظرية المناقضة إلى نهايته.
فلنفترض إذن أن النصوص تعني هذه الأنفس المتميزة، وأن هذه القوة التي اكتسبتها ليست في جانب منها نتيجة تدخلها الإرادي والمجاهد. ومع أننا نقرر مع القرآن أن هذه الأنفس باستعدادها الطيب للتقوى:{كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} 3 -فإننا نسلم أنها استحقت ذلك فعلًا: {فَضْلًا
1 الفتح: 18.
2 الفتح: 4.
3 الفتح: 26.
مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 1 -حينئذ يثور أمامنا سؤال هو: ماذا بقي إذن لجزائهم؟ وكيف نفسر حقيقة أن القرآن لا يدخر مدحًا إلا وجهه إليهم، ولا وعدًا حسنًا إلا أعده لهم؟
هنا تظهر بكل وضوح "المناقضة" بين "الجهد"، و"الانبعاث التلقائي".
فأما القائلون بالقيمة الذاتية وغير المشروطة للجهد فربما أرادوا أن يلطفوا من حدة رأيهم، فيقترحوا علينا صورة من الاحتكام. ويقولون لنا: إن غيبة الجهد في مواجهة شهوة مستبعدة لا يضعف الخلق، بشرط أن يبقى هذا الجهد في حالة تحفز وحركة لمجاهدة شهوات أخرى باقية، ولا يحدث إلا في الحالة القصوى -عندما تقهر جميع الأهواء الفاسدة- أن تصبح "الأخلاقية" غير ذات موضوع؛ لأنها سوف تخلي مكانها حينئذ "للقداسة".
هذا الحل لا يبدو لنا مقنعًا:
أولًا: لأن النصوص لا تفرق بين نفس أعفيت من هذا الصراع إعفاء كليًّا، وأخرى أعفيت منه جزئيًّا، وليس هذا فحسب، بل يبدو أنها تضفي أعلى القيم على النفس التي تبغض الرذائل كلها وتمقتها:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 2.
ومن ناحية أخرى فإن الصيغة، على الرغم من تلطيفها، قد اقتبست كثيرًا من المبدأ المتناقض، الذي بنيت عليه الصيغة القديمة، فهي تنظر دائمًا إلى الجانب "غير المهذب" من النفس؛ فلا خلق إلا بقدر ما يكون هناك من شرور، يجب مجاهدتها، فبين الأخلاقية والجهد "الدفاعي" علاقة وثيقة إن لم يكونا شيئًا واحدًا.
1 الحجرات: 8.
2 الحجرات: 7.
وأما حلنا فشيء آخر تمامًا.
ذلك أننا -من ناحية- نبقي للنصوص هدفها الشامل، فنحن نرى أن النصر مهما تراحب مداه، وأية كانت علته يمنح النفس المتحررة من أدرانها أجرًا أعلى بالنسبة إلى النصر الذي يظل هدفًا لإغراءات الشر المتحفزة.
وبدلًا من أن يسير تقديرنا متوازيًا مع مشقة المقاومة يجب أن يزيد كلما نقصت هذه المشقة. فالقول الحق في نظرنا، هو القول الذي يقرر علاقة عكسية بين القيمة وضرورة الجهد المحارب، فالقيمة مرتبطة بتقهقر هذه الضرورة، لا بتقدمها.
ولكنا، في مقابل ذلك، لا نقفل حلقة الأخلاقية بعد هذا الانتصار؛ لأننا بدلًا من أن نوفق بينها وبين جانب واحد من نشاطنا، نحدد لها "مجالين" ثانيهما ليس أزهدهما قيمة، فبعد أن نصارع ضد الظلام، يواجهنا الصراع في النور، وكل شهوة نحكمها هي عقبة نجتازها، ونير ننزعه، ودرجة من الحرية والخصوبة نرتقيها.
فمنذ أن تصبح الإرادة الطيبة لا يناوئها عدوها، وحين لا تصبح هنا ضرورة للجهد المكافح، "فإن جهدًا آخر يطرح نفسه، ويفرضها". فالوقت، والقوة اللذان كانا مخصصين لأعمال "الهدم" وإزالة الأنقاض سوف يدخران منذئذ، إلى أن يصبحا أعظم قدرًا، وأكثر استجماعًا، لأعمال "الإنتاج والبناء".
لقد عرفت الأخلاقية أحيانًا بأنها: "فن السيطرة على الأهواء"، وهذا التعريف ناقص؛ لأنه لا يعبر إلا عن الجانب السلبي، والوجه الأدنى قيمة من العمل، بل إنه في رأينا مرحلة تمهيدية. فالأخلاق بالمعنى الكامل للكلمة هي أيضًا وبصفة خاصة مشروع لتحقيق القيم الإيجابية، وصيغة أمرها
المبدئي ليست: "كف نفسك عن الشر" بل هي: "افعل الخير". وكل ما في الأمر أننا نجد أنفسنا أحيانًا، وبشكل ضمني، مضطرين إلى أن نوجه هجومنا ضد العدو، الذي يروم تحويل أنظارنا عن هدفنا الأساسي.
وحسبنا لكي نقتنع بهذا أن نقرأ هذا التدرج في الوصايا الإسلامية:
فعن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"على كل مسلم صدقة"، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق". قالوا: فإن لم يستطع، "أو لم يفعل"؟ قال:"فيعين ذا الحاجة الملهوف". قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فيأمر بالخير" أو قال: "بالمعروف". قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة"1.
هذا ومن الأمور الشائعة تشبيه الأخلاق بالطب، فأحدهما للنفس من حيث كان الآخر للبدن.
وإذا كان فن الطب لا يكتفي بأن يكون موضوعه أن يعالج الحالة المرضية للجسم، كيما يوفر لها الصحة، بل يهتم أيضًا، وبأوفى قدر، بالحالة العادية، من أجل صونها، وتحسينها، فإن مهمة مماثلة ينبغي أن تناط بطب النفوس: فمن واجبه أن يصف لكياننا الجواني نظام التغذية، وطريقة اتباعه لتحقيق أنسب الظروف لتنمية هذا الكيان.
وهكذا يأتي "الجهد المبدع" فوق "جهد المدافعة"، وبعد أن حددنا موقف القرآن حيال جهد المدافعة، يجب أن نرى الآن موقفه من جهد الإبداع.
1 هكذا الحديث كما جاء في البخاري، كتاب الأدب، باب 33. وفيما ذكره المؤلف في الهامش بعض اختلافات. "المعرب".