الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: الإجماع
وهكذا رأينا من كل وجه، في أي ظرف، يمكن لسنة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون مبدأ للإلزام، فما الظن إذن بتلك السلطة الرفيعة التي خص بها المصدر الآخر للتشريع، والمسمى بالإجماع، أو الحكم المجتمع عليه في الأمة..؟
الحق أن سلطة الإجماع يمكن أن تستقى من بعض النصوص القرآنية، مثل قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.
وليس يهمنا أن يقال: إن هذه الآية موجهة إلى الأمة المحمدية بعامة، أو هي موجهة إلى الجيل الأول الذي شهد الوحي، وهو قول أكثر احتمالًا، فهناك دائمًا، أنى توجهنا، جماعة من الناس، رأيهم مجتمع، وقد يصدقه الكتاب الكريم، ليصبح رأيًا منزهًا من الناحية الأخلاقية، يجل عن أن يرضى شرًّا، أو يمنع خيرًا.
وهناك استدلال مماثل يفيد مزية الإجماع، ويمكن أن يستقى من آية أخرى، فبعد أن قرر القرآن لأولي الأمر من المسلمين نفس حق الطاعة الذي قرره لله ورسوله -نجده يضيف مباشرة تحفظًا، هو أنه في حال النزاع يجب الرجوع إلى السلطتين الرئيسيتين:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2. ومن هذا النص يؤخذ أنه طالما
1 آل عمران: 110.
2 النساء: 59.
وُجد اتفاق مشترك فلن يكون هنالك مقتض للجوء إلى أي معيار آخر، لإقرار العدالة، فيما يواجه أولي الأمر من ظروف.
فإذا ما رجعنا إلى الوثائق التي ترويها السُّنة فسوف نرى أن هذا الامتياز غير مقتصر مطلقًا على عصر الصحابة، على ما قد يفهم من هذه النصوص القرآنية، ولكنه ممتد بلا نهاية إلى جميع الأجيال المسلمة.
وحسبنا هنا أن نذكر نصًّا منها، معترفًا بصحته، وهو غاية في الصراحة في هذا الصدد، قوله، صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" وفي رواية: "حتى تقوم الساعة"1.
وإذا كانت عصبة الحق لا تزال باقية في العالم الإسلامي فإن فكرة الاتفاق الإجماعي على الضلالة سوف تكون إذن مستبعدة، على أنها أمر محال من الوجهة العملية في العالم الإسلامي.
فقد انتهى الرأي إلى اعتبار الإجماع في أي عصر سلطة عليا لا معقب لها، وهي تستطيع أن تحكم على نصوص القرآن والحديث ذاتها، ولا يمكن أن تحكم بهما، ولا أن تبطل برأي آخر، سابق أو لاحق. وعامة المسلمين يخضعون في الواقع لهذه السلطة دون مناقشة، اللهم فيما خلا بعض الخوارج والمعتزلة والشيعة.
ولكن، كيف نوفق بين موقف كهذا وبين الخضوع المطلق، والولاء العميق الذي يضمره المسلم لله، ولكتابه، ولرسوله الذي هو المبلغ عن الله،
1 البخاري، كتاب الاعتصام، باب 10. وقد فسر البخاري هذا الحديث ذاهبًا إلى أن الطائفة المذكورة في النص "هم أهل العلم".
والمبين لكتابه؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الموقف بخاصة متوافقًا مع منطق الإسلام، الذي يبغض أشد البغض كل انقياد أعمى، ولا يفتأ يمجد العقل، والرأي الناضج، حتى في عقائده الأساسية؟
من هنا نفهم إلى أي حد أثارت هذه النظرية رجلًا من العقليين، هو النَّظَّام، فدفعته إلى أن يعلن أن:"الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد"1، ولا قيمة لإجماع لا يقوم على حجة.
فإذا تأملنا من قريب رأي النظام فسوف نجد أنه لم يكن مصيبًا مطلقًا، ولا مخطئًا مطلقًا، فهو محق لأنه يدافع عن مبدأ سام اعترف به القرآن، ولكنه أخطأ حين اعتقد أنه كشف عن شرط أولي جهله كل الناس قبله.
فلا بد إذن من إيضاح لتحديد هذا الإجماع، الذي يمكن أن يعتمد عليه المسلم، كسلطة تشريعية مؤكدة، ومعتمدة عند القضاء.
فكلمة "إجماع" تترجم عمومًا بكلمة consensus 2، consensus، ominium، وهي ترجمة غير كاملة تمامًا والواقع أنه لا يجب أن نتصور هذا الاتفاق على طريقة تصويت شامل، ناشئ عن استفتاء مفروض على شعب بأكمله، أو على جميع الشعوب الإسلامية، بحيث يشترك فيه أجهل الناس وغير المختصين، على قدم المساواة مع أعلم الناس. كما لا يجب أن نتمثل المجموعة المقترعة على هيئة مجمع ديني، أو جمعية عامة، أعضاؤها منتخبون أو معينون، تجتمع تحت سقف واحد لمناقشة بعض المسائل العقيدية، أو الاقتصادية، أو السياسية، فالإجماع لا يشبه شيئًا من هذه المنظمات الغربية، لا في شكله، ولا في موضوعه.
1 انظر: الغزالي في المستصفى 1/ 173.
2 كلمة لاتينية معناها: الاتفاق بين عدة أشخاص، أو عدة هيئات. "المعرب".
أما من ناحية الموضوع فإن دور الإجماع هو حسم مشكلة جديدة1، ذات طابع أخلاقي أو فقهي، أو عبادي، دون أن يكون من شأنه أن ينظر في مسائل الحياة التطبيقية، أو في مسائل الدين النظرية.
فأما الحياة المادية فلأن أي نص لا يعصمنا من أن نرتكب خطأ يتوقع أن يحدث في أي قرار مشترك بهذا الصدد، وأما المسألة الاعتقادية فلسبب يختلف عن هذا، والواقع أنه إذا كان احتمال خطأ الأمة بأسرها في موضوع ديني، ذي طابع عملي -أمرًا ينبغي أن يستبعد من الافتراض، فمن الأولى أن يستبعد ذلك فيما يتعلق بموضوع الإيمان. وغاية الأمر أن يقال: إن الرجوع إلى الإجماع في هذا المجال لا تلتقي عنده بالرضى كل المشاعر والقلوب2.
وإذا كان بعضهم قد أجازه في المسائل الثانوية، فإن أحدًا لم يوافق عليه فيما يتصل بالعقائد الأساسية، فليس لمسلم الحق مطلقًا في أن يلجأ إلى سلطة الآخرين ليؤسس إيمانه، فإن بناء الدين على أساس لا يوضع إلا بوساطة الدين نفسه هو أشبه بالدوران في حلقة مفرغة.
وأما من حيث الشروط التي ينبغي أن يتم بها التصويت لإنشاء سلطة تشريعية قطعية الأحكام -فإن القاعدة الثابتة تبدي إلحاحًا شديدًا على جوهر الموضوع، وإن ظلت غير عابئة مطلقًا بالشكل الخارجي، الذي
1- نقول: "جديدة"؛ لأنه إذا كانت المشكلة قد درست من قبل فلذلك حالتان: أن تكون المناقشة قد انتهت إلى اتفاق أو اختلاف، ففي حالة الاتفاق لا تكون إعادة دراستها عديمة الجدوى فحسب، بل ينبغي ألا يكون لها موضع، وهي أشبه بما إذا كانت المشكلة قد حلت بوساطة الوحي المباشر، وفي حالة الاختلاف سوف يكون لحصول على اتفاق لاحق بعض الفائدة بلا شك، ولكنه لن ينشئ إجماعًا مؤكدًا وحاسمًا؛ لأن الرأي -تبعًا لكثير من الأصوليين- لا يموت بموت أصحابه، وبذلك لن يكون الاتفاق إجماعيًّا.
2 انظر: ابن عبد الشكور في "مسلم الثبوت" 2/ 246 هامش المستصفى.
يمكن أن يتولاه تنظيم الهيئة المقترعة. وكون الأعضاء معينين أو غير معينين بوساطة الدولة، منتخبين أو غير منتخبين بوساطة الشعب، واجتماعهم في جلسة عامة، أو تفرقهم في أنحاء الأرض -كل ذلك لا يؤثر في شيء على قيمة النتيجة، بشرط أن تكون صادرة في دقة وإحكام.
فجوهر القضية أن يكون كل عضو مدركًا لاستقلاله الأدبي، ولمسئوليته الأخلاقية، وأن يعبر عن رأيه في حرية، بعد تأمل ناضج في المشكلة المعروضة.
بيد أن الأمر الجدير حقًّا بأن يشد اهتمامنا هو: أن أحدًا لا يمكن أن يعتبر عضوًا في هذه الجماعة إلا إذا حاز من قبل صفة العالم المتخصص في المادة، أعني: أن يحقق الشروط المطلوبة فيمن يكون له حق الرجوع مباشرة إلى المصادر؛ ليستقي منها الأحكام على منهج العلماء. وبعبارة أخرى: يجب ألا يقتصر جهد جميع الأعضاء على أن يضعوا تحت أيديهم الوثائق اللازمة لحل هذه المشكلة أو تلك، بل يلزمهم أيضًا أن يكونوا متمرسين بنقد النصوص التي تحتاج إلى إثبات، عندما لا يكون لديهم نقد موثق. ويلزمهم بعد ذلك أن يعرفوا اللغة معرفة عميقة، في أسلوبها الحقيقي، وفي أسلوبها المجازي، وأن يحسنوا إدراك الأفكار الأساسية، والأفكار الثانوية، سواء أكانت هذه الأفكار ملفوظة أم ملحوظة، ويلزمهم فضلًا عن ذلك أن يكونوا على قدم راسخة في تاريخ التشريع الإسلامي للمسألة، وأن يحيطوا بأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ إن وجد. وأخيرًا: يجب أن يتعمقوا روح الشرع، وغاياته التي يهدف إليها، من خلال تطبيقاته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فالإجماع على هذا أبعد شيء عن أن يكون تلفيقًا لآراء متعسفة، ذاتية، طائشة، ناتجة آليًّا عن التقليد، أو مدفوعة بروح المحاباة المغرضة. إنه