الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة عامة:
إن تعليم الناس واجباتهم الحسية مهمة عظيمة، قام بها القرآن كاملة على خير وجه.
بيد أن هذه المهمة، رغم كونها الهدف الرئيسي من تعليمه، لم تكن فيه الموضوع الوحيد، فلقد اضطلع القرآن إلى جانب هذه المهمة العملية بمهمة أخرى، ذات طابع نظري. لقد قدم لنا كل العناصر الضرورية، كيما تتكون لدينا فكرة دقيقة عن الطريقة التي ينبغي أن نتصور بها معنى الأخلاق، من أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي الشروط تفرض نفسها؟
وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأية وسيلة تنال الفضيلة؟
والإلزام، والمسئولية، والجزاء، والنية، والجهد، تلكم هي العمد الرئيسية لكل نظرية أخلاقية، راعية بمراميها. ولقد خصصنا أساس هذا البحث في القرآن لدراسة هذه الأجزاء التكوينية للنظرية الأخلاقية.
فلنلق الآن نظرة سريعة تضم في رؤية شاملة مجموع النتائج التي انتهت إليها أبحاثنا، ولسوف نرى بعض السمات المميزة لهذه الأخلاق تتجلى لأعيننا، وهي السمات التي سنحاول أن نبرزها في الأسطر التالية.
أولًا: بأي معنى، وإلى أي مدى يمكن أن توصف الأخلاق القرآنية بأنها دينية؟
لا شك أن هذا المعنى لا يرجع فقط إلى أن القواعد التي تقررها هذه الأخلاق موضوعها الوحيد والجوهري -هو تنظيم العلاقات بين الإنسان، وبين الله تبارك وتعالى؛ إذ كان من اليسير التأكد أن وجهًا من وجوه النشاط الإنساني لم يفلت من تقنين تلك الأخلاق1، ومن هذا الجانب لم تعرف الإنسانية أخلاقًا أخرى أكمل من الأخلاق القرآنية.
ومن الممكن أيضًا أن نقرر أن الشعائر الدينية المحضة لا تشغل في هذه الأخلاق سوى أقل مكان. والحق أنه يجب أن نفرق هنا بين موقفين مختلفين: الامتداد والعمق، أو الظاهر والباطن. فإذا كان النشاط الذي يمارسه المسلم في كلا الميدانين: الحيوي والاجتماعي، يشغل بعامة -من حيث مظاهره الخارجية- مجالًا أرحب من المجال الذي يشغله بالعبادة، فإن حياته الباطنة تتميز -على العكس- بعمق التدين: فهو يحب الله فوق كل شيء، وهو يخضع كل شيء لإرادته، وهو يستوحي في كل موقف أمر الله ورضاه.
وليس ينبغي أن نعتقد أيضًا أن الأخلاق القرآنية أخلاق دينية، بمعنى أن رقابتها توجد فقط في السماء، وأن جزاءها فيما وراء الموت، إذ إنها تخول هذه الصلاحيات في نفس الوقت لقوتين مؤثرتين أيضًا هما: الضمير الأخلاقي، والسلطة الشرعية، وليس ذلك فحسب، بل إنها تكلف كل فرد في الأمة أن يحول بكل الوسائل المشروعة دون انتصار الرذيلة والظلم.
وهي أيضًا ليست دينية، بمعنى أنها لا تجد دافعًا إليها إلا في الخوف
1 انظر المختارات القرآنية التي سنصنفها بعد ذلك تحت عنوان: "الأخلاق العملية".
والرجاء، ولا تجد تسويغها إلا في إرادة عليا تملي على وجه الاستعلاء أوامرها، مستقلة عن كل ما يقتضيه العقل، والشعور الإنساني، وهي إرادة يجب على الإنسان أن يطيعها، دون مناقشة، أو فهم.
إنها ليست دينية بهذا المعنى؛ لأن القرآن لم يزل يدعو إلى هذه المفاهيم الإنسانية على وجه التحديد؛ لتسويغ أوامره، ومن هذه الوجهة نستطيع أن نقول: إنه قد زود تعليمه الأخلاقي بنظام تربوي غاية في الكمال، بحيث يصلح لجميع مراتب الأخلاقية.
فالمبتدئ، والطيب، والحكيم، والقديس، كل هؤلاء يحدون فيه ما يشبع حاجتهم إلى الاقتناع سواء على المستوى العقلي أو العاطفي، الصوفي أو الإنساني، لدرجة أن أكثر أوامره حتمية في الظاهر، وهو الذي نتلقاه دون أن يتضمن سببًا محددًا لتسويغ وضعه -هذا الأمر إنما يقوم في الحقيقة على المفهوم العام للحكمة الإلهية، وعلى مفهوم غير محدد للخير يرمي إليه.
ولا ريب أن العنصر الديني يعود في جزء منه، في اعتبار المشرع -إلى هذه العلاقة الثلاثية: سواء باعتباره جانبًا من الحياة الإنسانية يحتاج إلى قاعدة منظمة، أو باعتباره ضمانة كبرى للنجاح في تطبيق القانون، أو باعتباره تسويغًا لهذا التحديد أو ذاك، مما قد يبدو لنا غير ذي أهمية في ذاته، أو قد لا تكفي أنوارنا وبصائرنا للكشف عنه أو تفسيره من الناحية العقلية.
بيد أنه في جميع الحالات "لا يتراكب العنصران: الديني والأخلاقي"، ولا يستطيع أحدهما أن يعرف الآخر.
ألا يمكن أن نحصل على هذا التراكب من ناحية واحدة على الأقل، حين
ننظر إلى الأخلاق القرآنية من حيث مصدرها التشريعي؟ فهل ينشأ النفوذ الذي يمارسه الواجب على كياننا، من "سلطة دينية محضة" في نظر القرآن؟
إننا نتردد في تأكيد ذلك بشكل قاطع، دون تحفظ، أو تقييد:
أولًا: لأن شريعة الضمير -طبقًا للقرآن نفسه- سابقة في الوجود على شريعة الدين الإيجابية، فلقد نفخ الشعور بالخير وبالشر، وبالعدل وبالظلم، في كل نفس إنسانية منذ كان الخلق.
أولسنا نشهد في الواقع ظهور الحس الإخلاقي عند الأطفال ابتداء من عمر التمييز، واستمراره خلال جميع الأعمار، حتى لدى الملاحدة؟
ثم ألسنا نشهد بين المذنبين أنفسهم من يعترفون بذنوبهم، ويأسون عليها دون أن يملكوا الشجاعة للتخلص منها، أليس هؤلاء هم الجمهور الغفير؟
وثانيًا: لأن الشريعة الإيجابية لم تأت لنسخ الشريعة الطبيعية، ولكي تعزل السلطة الخاصة التي ثبتت هذه دعائمها. فهي لم تبطل الشريعة القديمة، وإنما صدقتها، ومدت في عمرها، وحددتها. أما فيما يتعلق بالضمير، فهي لا تكتفي بأن تستلزمه فحسب، بل إنها بعد أن تغذيه، وتنوره، تعتمد عليه من جديد لدعم سلطانها الخاص.
والواقع أن الشريعة الإيجابية، لا تستطيع أكثر مما تستطيع الشريعة الطبيعية أن تكون إكراهًا يفرض نفسه علينا، دون مراعاة لقبولنا وموافقتنا، فإن الأمر الإلهي لا يمكن أن يصبح بالنسبة إلينا تكليفًا أخلاقيًّا إلا برضانا. ولا يعتبر الإنسان أنه قد أطاع واجبه الديني إذا كان يؤديه دون إيمان بطابعه التكليفي، كأساس في نظام الأشياء الثابتة.
"فالواجب الأول هو الإيمان بالواجب"، ويجب أن أتلقى من ذاتي الباطنة الأمر بطاعة هذا الأمر الأعلى.
ولذلك نجد القرآن يذكر المؤمنين بالتزامهم العام، بموجب عقد الإيمان -قبل أن يطلب منهم طاعتهم المخلصة. وهكذا لا تكون الصفة الإلهية للأمر القرآني سوى لحظة وسيطة، بين شعورين إنسانيين يستحثهما دائمًا.
فمن الوجهة التحليلية نجد أن "العنصرالديني" و"العنصر الأخلاقي" مفهومان مستقلان، لا رابطة بينهما ضرورية، وهما إجابة عن نوعين من المثل الأعلى مختلفين: أحدهما يتعلق "بالكينونة" والآخر "بالمصير"، ففي المجال الأول يكون المثل الأعلى هو الكائن الكامل، الحق، الجميل في ذاته، وهو موضوع المعرفة، والتأمل، والحب. وفي المجال الثاني يكون المثل الأعلى هو العمل الكامل، الذي نسميه: الفضيلة، موضوع الطموح، والإبداع.
وإنما نقرب بين هذين المفهومين نتيجة اتفاق منطقي، وحكم تركيبي -كما يقول كانت- حين نجعل من الله الخالق سيدًا مشرعًا، وحين نتخذ من توجيهه أمرًا أخلاقيًّا. ولكي نبلغ هذه النتيجة يجب أن نمر ضرورة بمجموعة ثالثة من الأفكار الوسيطة. فنحن لا نميز فقط لدى الخالق صفات أخلاقية بوجه خاص: كالعدالة، والحكمة، والكرم، ولكننا أيضًا نتخذ من شرعه "شرعًا لنا"، ونجعل أمره "أمرنا" وبدون ذلك يظل المفهومان بالنسبة إلينا منفصلين لا يمكن وصلهما.
وثالثًا وأخيرًا: فإن المتأمل في الأخلاق القرآنية لا يجد فقط أن هنالك واجبات أسرية واجتماعية كثيرة قد تركت دون تحديد من الناحية الكمية، وعهد بها إلى تقدير الضمير المشترك، بل إن كل تكليف قرآني يجعل شرط تطبيقه مجموعة من الاعتبارات، تحترم الوسع الإنساني، وتحسب حساب الواقع المادي، والتوافق بين الواجبات. ومن هنا فهو يخول كل ضمير فردي جزءًا من النشاط التشريعي، وهو جزء ضروري لصوغ واجبه المادي في كل لحظة.
وعندما يعلن القرآن أن قيده لطيف، وحمله خفيف، فإن هذا اللطف يأتي بلا شك في جانب كبير منه نتيجة هذا التدخل الثلاثي للضمير الإنساني، في الاعتراف بالواجب، وتنظيمه.
ومن هنا نرى أن هذا التدخل لم يقتصر على أن أحاط بالعامل الديني، حين استبقه وأصحبه، وألحقه بعناصر إنسانية، ولكنه حوله إلى عامل أخلاقي بالمعنى الصحيح.
وهكذا لا نستطيع أن نخلع على هذه الأخلاق نعتًا دينيًّا فحسب، سواء من حيث التشريع، أو الجزاء، أو التسويغ، أو المادة التي هي موضوع تعليمها، إذ كان الجانب الديني لا يخالطها دائمًا إلا باعتباره عنصرًا واحدًا، في تركيب كبير جدًّا.
ومع ذلك، فهناك نقطة لا يظهر عليها الطابع الديني ويغلب فحسب، بل إنه يحتل كل مجال الضمير، وبهذا يجعل من الممكن، بل من الضروري أن يطلق على هذه النظرية لقب: الأخلاق الدينية. هذه النقطة هي "النية" أو جانب القصد، وفيها ينفرد المعنى الديني حقًّا، دون منازع.
إن الهدف الذي ينبغي لنشاط المؤمن الطائع أن يتوخاه وهو يؤدي واجبه لا يكمن في طيبات هذه الدنيا، ولا في السرور والمجد في الأخرى، ولا في إشباع شعوره الخير، بل ولا في إكمال وجوده الباطن.
إنه الله، الله الذي يجب أن يكون نصب أعيننا، وأية غاية أخرى تدفع الإنسان للعمل هي في ذاتها انتفاء للقيمة وعدم.
ولا مرية في أننا يجب أن نخاف، وأن نرجو، وبوسعنا أن ننشد رفاهتنا المادية والأخلاقية لذاتها، أو لأن هذا هو واجبنا، أو حقنا، ولكن لا لأنه
أجر طاعتنا. فإن ذلك لو حدث يكون على الأقل مخالفة للأخلاقية كما علمناها القرآن، إن لم يكن انتهاكًا، ونقضًا للشريعة.
وإذا كانت السمة المميزة لنظرية أخلاقية تنبع من المبدأ الذي تطرحه على الإرادة، كهدف لنشاطها، فإننا نرى الآن في آية أسرة يجب أن ننظم الأخلاق القرآنية. ففي نظر هذه الأخلاق ليست اللذة، ولا المنفعة، ولا السعادة، ولا الكمال -ليست هذه كلها بقادرة في ذاتها على أن تنشئ هذا المبدأ، وكل ذلك يجب أن يكون خاضعًا لسلطان "الواجب"، بأقدس معاني الكلمة، وأكثرها واقعية، وأسماها درجة.
ولكن، قد جرى العرف على تسمية القوانين الأخلاقية بحسب العنصر الغالب في مضمونها: فرديًّا، أو اجتماعيًّا، صوفيًّا أو إنسانيًّا، شريعة عدل، أو شريعة رحمة، وهكذا
…
وليس شيء من هذه الصفات ذات الجانب الواحد، بمناسب هنا، فيما يبدو لنا.
إن هذه شريعة توصي "بالعدل" و"الرحمة" معًا، وتتواثق فيها العناصر "الفردية"، و"الاجتماعية" و"الإنسانية" و"الإلهية" على نحو متين. بيد أننا لو بحثنا في مجال هذا النظام عن فكرة مركزية، عن الفضيلة الأم التي تتكاثف فيها كل الوصايا، فسوف نجدها في مفهوم "التقوى"، وإذن، فما التقوى، إن لم تكن الاحترام البالغ العمق للشرع؟
هكذا نصل إلى فكرة الواجب، مطروحة هذه المرة على الصعيد العاطفي، كمحرك للإرادة. وعلى هذا الصعيد يبدو لنا "الاحترام" في المركز، بين شعورين متطرفين، يركبهما، ويلطفهما:"الحب"، و"الخوف". ولما كان "الاحترام" ناتجًا بصورة ما عن تزاوجهما فإنه يؤدي دورًا مزدوجًا، حين يستخدم كمحرك، ولجام في آن، ويطلق عليه في جانبه الأخير بخاصة:
"الحياء" وبهذا الشعور على وجه الدقة حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح هذه الأخلاق.
وأيًّا ما كانت وجهة البحث فإن المرء يرى أن هذه الأخلاق وهي تستهدف المثل الأعلى -تعمد إلى تجميع كل القوى، وكل أشكال الحياة الأخلاقية، ثم تردها ثانية إلى نقطة توازنها. ونخص بالذكر الطريقة التي استطاعت بها أن توفق بين "حرية" الفرد و"تنظيم" إرادته، لقد حققت هذا التوفيق بفضل طابعها المتوسط بين المرونة والصرامة، والذي بفضله تتكيف تبعًا لأكثر ظروف الحياة اختلافًا، دون أن تتراخى مع ذلك أمام إغراء شهواتنا، وتقلب إحساسنا.
والواقع أن هذه الشريعة تميز تمييزًا واضحًا بين الاتجاهات شديدة العمق للنفس الإنسانية، وحاجاتها العابرة، المشروعة أو غير المشروعة؛ كما أنها تفرق بين ما ينبغي أن يترك دون مساس؛ لأنه فريضة ظرف شامل لا يتغير، وبين ما يترك لحكم كل منا؛ لأنه يتغير بتغير الملابسات والظروف، وبين ما ينبغي إصلاحه، أو إسقاطه، باعتباره إضافة زائفة، صدرت عن طبيعة غريبة شريرة.
ولذلك أثبت القرآن مراعاة لهذه الأحوال المبدأ الثلاثي المتمثل في: "الفرض"، و"المباح"، و"المحرم".
فذلكم هو العامل الأول الذي جعل من هذا المقياس الدقيق للحكمة القرآنية رابطة بين الحرية والتنظيم.
وإليك عوامل أخرى.
فإذا ثبت مبدأ كل قاعدة، وجوهرها على هذا النحو، وجب أن يظلا ثابتين إلى الأبد، ومقدسين على وجه الشمول. بيد أنه لما لم تكن صيغة بعض
هذه المبادئ أو الجواهر قد حددت تحديدًا ماديًّا، ولما كان تعريفها، وشكل تطبيقها قد تركا صراحة للذوق السليم، فإن القضية تصبح قضية الحكم، والتذوق الشخصي.
بل إن بعض واجباتنا التي نالت تحديدًا عدديًّا معينًا -لم تنله إلا من بعيد، وفي خطوط عريضة، وبهذا وضعت بين حدين متباعدين، كيما تتجنب الطرفين المتناقضين فحسب، حين نمارس نشاطنا، أي: تتجنب السقوط أسفل مما تتطلب الفضيلة، أو التبعثر دون جدوى، ومن غير حدود. وبين هذين الطرفين تدعى الحرية الفردية إلى أن تمارس ذاتها في البحث عن درجات، تتزايد رفعة، ولكنها دائمًا متوافقة مع المقتضيات المختلفة للحياة الأخلاقية.
هذه الطريقة التي يقدم القرآن لنا بها قاعدة الواجب ليست ميزتها فقط أن تخفف إصر التكليف، وأن تحمي قيمة الشخصية الإنسانية، بدلًا من أن تحولها إلى مجرد آلة. وليست ميزتها فقط أنها قد أتاحت إشباعًا عادلًا ومعقولًا لاتجاهين متعارضين في الإرادة الفردية: أعني حاجتنا المزدوجة إلى المطابقة، والمبادرة -ولكنها ذات أهمية عظمى في المستوى الاجتماعي، فبفضلها استطاع القرآن -كما قلنا- أن يبدع إطارًا متجانسًا بقدر يكفي لتكوين هذا الوسط الأخلاقي، المشترك بين جميع أعضاء الجماعة، ولكنه أيضًا متنوع بقدر يكفي لتدخل في نطاقه درجات كثيرة للقيمة.
وأهم العوامل في هذا النجاح يتمثل في أن جميع القواعد أو أغلبها، تشتمل على أمرين:"أداء واجب"، و"تحقيق خير"، أو بالأحرى: أداء "واجب جوهري"، و"واجب كمال".
ويبدو القرآن في النقطة الأولى متشددًا، لا يقبل أية مساومة، ولكنه في الثانية تتحول صرامة الأمر إلى حث وتشجيع.
وهكذا يجب أن تتضمن أنظمتنا الاجتماعية كلها جانبًا ثابتًا، محافظًا،
يصان عن هوى الناس، وصروف الظروف، وجانبًا ديناميكيًّا، متطورًا، متحررًا. وبذلك تتحقق أحلامنا في "الاستقرار" و"التغيير" وحاجاتنا إلى "النظام"، و"التقدم".
ونضيف إلى ذلك أن القرآن يواكب الطريق الذي يبدأ من الواجب المشترك، حتى الواجب الكامل المنوط بمبادرة كل فرد وشجاعته، فيطبع كل مرحلة من الطريق بدرجتها من الثواب. وهو حين يغمر بكرمه مختلف تطبيقات الفضيلة المتدرجة -فإنه يدعو هؤلاء وأولئك من أوليائه أن يرتقوا دائمًا، دائمًا أسمى الدرجات.
في هذه الظروف نستطيع أن نختم البحث قائلين:
لو افترضنا أن الإنسانية سوف تبقى أبدًا، وأنها سوف تغير ظروف حياتها إلى ما لا نهاية، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن أنى توجهت -قاعدة لتنظيم نشاطها أخلاقيًّا ووسيلة لدفع جهدها، ورحمة للضعفاء، ومثلًا أعلى للأقوياء.
وأدنى ما يمكن أن نقوله في الأخلاق القرآنية: إنها تكفي نفسها بنفسها على وجه الإطلاق، فهي:
"أخلاق متكاملة".