المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ إمكان العمل:

وبدون هذا يصبح أكثر الأعمال مطابقة لنص القانون جسدًا ميتًا، وأمرًا دنيويًّا ليست له قيمة أخلاقية1.

وهكذا نجد أن ما يتميز به قانون الواجب كونه قانون حرية، وعقل، وقيمته ذاتية، ونشاطه ذو طابع روحي في جوهره.

بيد أننا ينبغي أن نعود إلى خصائص القانون الأخلاقي العامة التي يشترك فيها مع سائر القوانين والشرائع، كيما نقدمه في شكله القرآني الخاص. ولقد رأينا كيف ينظر القرآن إلى هذا القانون على أنه ضروري وشامل، ويجب أن نضيف أنه لا يترتب على هذا كونه غير مشروط إطلاقًا، فماذا تكون هذه الشروط؟

لدينا منها أنواع ثلاثة: أحدها ينظر إلى الطبيعة الإنسانية بعامة، والآخر ينظر إلى واقع الحياة المادي، والثالث ينظر إلى تدرج الأعمال.

1 انظر: فيما بعد الفصل الرابع، للفقرة 1- أ.

ص: 63

أ-‌

‌ إمكان العمل:

ولعل من نافلة القول أن نؤكد فكرة الإمكان المادي للعمل كشرط لا معدى عنه في الإلزام الأخلاقي. فليس الضمير العام هو الذي يعترف وحده بتلك الحقيقة البدهية القائلة بأنه لا يطلب الطيران من النوق. ولكن ذلك هو بذاته ما ورد في كثير من النصوص القرآنية. مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} 1. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 2. وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} 3.

1 الطلاق: 7.

2 الأنعام: 52، والمؤمنون:62.

3 البقرة: 286.

ص: 63

والظروف التي نزل فيها هذا النص الأخير تعيننا على تحديد معنى هذه الاستحالة، التي تبدو وكأنها غير متفقة مع الإلزام. ففي الآية السابقة عليه يقول الله سبحانه:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 1. وقد اعتقد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أنها تنطبق على كل ما يدور في الضمير: أفكارًا، أو عزائم، أو رغبات، أو هواجس، أو تخيلات

إلخ، تمسكًا منهم بحرفية هذا النص العام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصوم، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} "2. وهنا نزل هذا النص التفسيري المذكور آنفًا ليقول لهم: "إن التكليف لا يتوجه إلى الإنسان إلا في حدود وسائله، وهكذا أدركوا أن أحوال النفس التي لا تخضع للإرادة ليست في الواقع، ولا يمكن أن تكون موضوعًا مباشرًا للتكليف، فضلًا عن الوساوس، والغرائز والشهوات، والميول الفطرية.

ولذا، فإن جميع الأوامر ذات الاتصال بالحب أو البغض، وبالخوف أو الأمل -قد فسرت عقليًّا لدى الشراح على أنها قد جاءت لتحكم عملًا سابقًا نشأت عنه هذه الحالات، أو عملًا مصاحبًا أو لاحقًا، ولكنه لا يمكن أن

1 البقرة: 284.

2 للحديث بقية في مسلم، كتاب الإيمان، باب 56، وقد أخرجه أحمد وأبو داود في ناسخه، والطبري في تفسيره 3/ 97.

ص: 64

يكون من قبيل اللاإرادي. وهكذا نجد أن حب الله، وهو حالة عاطفية ولا إرادية في ذاتها، يمكن أن يكتسب بوساطة عمل إرادي، هو التأمل في رحمة الله التي لا تنتهي، وتذكر فضله الذي لا يفتأ يفيضه علينا؛ ذلك أن الناس جبلوا على حب من يسدي إليهم معروفًا، وبهذا المعنى غير المباشر أصبح حب الله أمرًا في قوله، صلى الله عليه وسلم:"أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة"1. وكذلك يمكن أن يكون حب الأقربين أمرًا محتومًا بفضل طرق شبيهة بتلك نسبيًّا، أو بفضل تصرفات عملية أخرى أكثر تقبلًا، وهي ما نجد له مثالًا طيبًا في قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا، وتذهب الشحناء" 2. وفي مقابل ذلك يبدو لنا الأمر: "لا تغضب" 3، مشيرًا إلى آثار هذه العاطفة، أكثر من أن يكون مشيرًا إلى أسبابها، إنه يريد أن يقول إذن:"لا تخلوا بين أنفسكم وبين الانزلاق في نتائج الغضب الطائشة، وقاوموا الحركات التي تسير في اتجاه فاسد بتوجيهها وجهة أخرى"4.

بل إن العقيدة نفسها يمكن أن ينظر إليها على أنها إلزام منبثق عن أمر

1 رواه الترمذي، وذكره السيوطي في الجامع الصغير.

2 رواه مالك في الموطأ 3/ 100، وزاد المؤلف "الغل عنكم" وقد يكون معنى:"تصافحوا" من الصفح، أو من المصافحة. "المعرب".

3 البخاري، كتاب الأدب، باب 76.

4 الواقع أننا نجد لهذا الموضوع علاجًا مشارًا إليه في الأحاديث، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كل من يتعرض لهذه العاطفة العنيفة أن ينعش وجهه وجوارحه بوضوء:"فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". أبو داود، كتاب الأدب، باب 3، ويعتمد علاج آخر على تغيير الوضع المادي: أن يجلس الغاضب إذا كان قائمًا: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع" - المرجع السابق.

وهنا مجال لمقارنة كل هذه الأساليب الفنية النفسية - العضوية بنظرية ديكارت ومالبرانش، التي قدمها كل منهما عن فن السيطرة على العواطف: -L ' ART DE MAITRISER LES PASSIONS-

ص: 65

واقع، ما دام الإنسان -أمام الوضوح الذي لا يقاوم- لا يملك إلا أن يذعن ويسلم.

ولذا نجد القرآن حين يريد أن يوجز وصاياه المتعلقة بالإيمان ينتهي بها إلى وصية واحدة هي التفكر في عزلة، أو في صحبة شخص آخر:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} 1 أي: بعيدًا عن تأثير الجماهير.

ومع ذلك فلقد شهد التاريخ الإسلامي جدالًا نشب بين الأشاعرة والمعتزلة حول هذه المسألة: هل الله سبحانه قادر على تكليف الناس بعمل المحال، فضلًا عن أن يكلفهم ما لا يطيقون؟

والغريب أنه على حين نجد المعتزلة -الذين يطلقون أساسًا العنان لعقولهم- يدافعون هنا عن حرفية النص، إذ بالأشاعرة -الذين يرفعون غالبًا لواء التشدد في الدين "دون أن يكونوا خير ممثليه كما يجب أن نعترف"- يدافعون عن القضية العكسية، مقررين أن من الممكن عقلًا وشرعًا لله سبحانه أن يكلفنا ما ليس في وسعنا، وأن يحقق ما لا يقبل التحقق، حتى لو كان محالًا. وعلة هذا الانقلاب في الموقف يسهل كشفها إذا ما وضعنا نقطة الخلاف في مكانها من مجموع كل مذهب.

فالمعتزلة يرون أن هذا الموقف مرتبط بنظام عقلي خالص، يزعم التوصل بنور العقل وحده إلى ذات الموجود الأسمى، وإلى الشرائع الأخلاقية التي تحكم أفعاله، كما يتوصل أيضًا إلى الشرائع التي تفرض علينا.

وفضلًا عن ذلك فإن الشرائع الإلهية ما إن تعرف حتى تستنبط منها

1 سبأ: 46.

ص: 66

مجموعة من القواعد المحددة، التي لا يقدر الله سبحانه على نقضها. فالله سبحانه طيب، وحكيم، وعدل.

وإذن فهم يقررون أما ما لا يتفق في ذاته مع هذه الصفات، بل ما نتصوره نحن من هذا القبيل، لا يقدر الله سبحانه على فعله، ولا يجوز أن يفعله.

ومن هنا جاء، فيما جاء عنهم، القواعد الآتية: لا يجوز أن يخلق الله سبحانه شيئًا دون أن يقصد إلى غرض نافع بالنسبة إلى المخلوق، وهو ما يطلقون عليه:"رعاية الصلاح"، كما أنه يجب أن يحقق من بين الخيرين الممكنين أكثرهما نفعًا، وهو عندهم:"رعاية الأصلح". وليس لله سبحانه أن يتدخل في أعمالنا الإرادية، لا من أجل فرضها، ولا من أجل منعها، وفي مقابل ذلك يجب أن يزودنا بقدرة متكافئة لفعل النقيضين، ثم يتركنا نختار اختيارًا حرًّا فيما بينهما، فمن أطاع وجب على الله أن يثيبه، ومن عصا الله دون أن يتوب، وجب على الله أن يعاقبه، دون أن يغفر له، وإلا ارتكب ظلمًا.

وسواء أكان الأمر يتعلق بطبيعة واجباتنا نحو الله، أم نحو أنفسنا.

أم نحو الآخرين؛ فإن هذه الواجبات تصدر بالضرورة عن طبيعة الخير والشر. ولدينا عن هذه الطبيعة معرفة فطرية تقريبًا.

وحتى لو أننا افترضنا أن الله سبحانه لم يكن قد أظهر إرادته في الكتب المنزلة، ولم يوح أوامره إلى الرسل، فمن المؤكد أننا كنا سنعرفها، ثم نكون ملزمين باتباعها، وليس للكتب ولا للرسل من مهمة سوى إثبات آرائنا العقلية وإيضاحها.

فمن أجل مقاومة هذا الاغترار الشاطح، وهذه الثقة المتضخمة بالعقل الإنساني، هبَّ الأشاعرة يناهضون أفكار المعتزلة، فكرة فكرة، حتى

ص: 67

وجدنا أن روح المراء قد أدت بهم أحيانًا إلى أن ارتكبوا تطرفًا مضادًّا.

فالأشاعرة حين أرادوا أن يقارعوا البراهين بالبراهين، قصروا أولًا عن أن تكون لهم أرضية فلسفية ثابتة، وهي على كل حال أقل خطرًا، أعني هذا الموقف السلبي الذي يقوم على رفض الاحتكام إلى العقل في مثل هذه المشكلات، باعتبار أنه لا يصح قياس العقل المتناهي بالأشياء اللامتناهية.

أما في الجانب الإيجابي فإنهم قد أخطئوا حلًّا ليس بأقل حكمة، وهو حل بناء وقرآني بحق، يوفق بين الصفات المتعارضة، دون أن يغفل واحدة منها، أو يغلو في الاعتماد عليها، والأخذ بها.

فالقرآن يعلمنا من جانب حقيقةً هي: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} 1، فهل من الممكن أن نفهم هذه العبارة على أنها تحكم واستبداد مطلق؟ على حين يؤكد القرآن لنا من جانب آخر. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} 2

وما هو ذا نفس التقابل بين الصفات في صورة أخرى. فهو يقول في نص من نصوصه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} 3، ولكنه يقول في نفس النص:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4. ويقول في آية أخرى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} 5.

وكذلك الحال حين يعلم أن الله قادر على أن يهلك الناس جميعًا، الطائعين مع المذنبين: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ

1 المائدة: 1.

2 غافر: 20.

3 الأعراف: 156.

4 السابقة.

5 النساء: 147.

ص: 68

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} 1، أو حين يعلن أيضًا أن شيئًا في هذا الكون لا يستطيع أن يعارض ما فرض علينا من التكاليف الشاقة، ولا ما ابتلانا به من تصاريف مغمة:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ} 2. أليس واضحًا أن هذه الصورة الشرطية لم تتغير مطلقًا إلى مضارع الحال؟ ومن الممكن كذلك أن نؤكد أنها لن تتغير أبدًا من حيث إن الله سبحانه قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 3.

وإذن، فبدلًا من أن يؤكد الأشاعرة القدرة الإلهية الكاملة، التي غاب عن المعتزلة تأكيدها، وبدلًا من أن يجعلوها في مقابل الحكمة التي حاول المعتزلة إبرازها -نجدهم بدافع الحمية، وقلة الحنكة النظرية- قد ألغوا تقريبًا الحكمة من أجل القدرة. بحيث لم يحتفظوا منها إلا بالاسم وحسب.

فعندما نجد عملًا محكم التدبير، كامل التنظيم، بحيث يكون لكل جزء وظيفته داخل المجموع، أو عندما نرى أن واقعًا قد انتهى إلى نتائج طيبة، فإن العادة قد جرت على أن نفسر الأمور بعضها ببعض، وأن نحمل هذه العلاقة في المكان، أو في الزمان، وهذا التضامن البنائي، أو هذا التتابع التاريخي، على غاية مقصودة.

قال الأشاعرة: هذا تشبيه!! فإن هذا التفسير الإنسان لا يصدق على الأمر الإلهي، حيث لا موضع لافتراض وجود غاية، بحسب مذهبهم، والله يفعل ما يريد، دون أن يقصد إلى أية غاية. ومن عباراتهم في ذلك:"إن الله لا يفعل شيئًا لأجل شيء، ولا بشيء، وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما، وهو يفعل أحدهما مع صاحبه، لا به، ولا لأجله؛ لأنه خالق كل شيء ومليكه"4.

1 المائدة: 17.

2 البقرة: 220.

3 الأنعام: 12.

4 ابن تيمية، منهاج السُّنة النبوية 1/ 127-128.

ص: 69

ونقول نحن: ليكن هذا، ولكن أليس الأشاعرة مضطرين -على الرغم من هذه الإرادية التي لا تتقيد بغاية، وليس لها ما يقابلها أو يوازيها- إلى أن يعترفوا بأن مجال الإرادة والوجود أكثر تقييدًا من مجال الإمكان، والقدرة المطلقة؟ لا شيء حينئذ سوف يحول دون أن يتفق ما يبدعه الله، أو ما يأمر به، مع مقتضيات العدالة والخير، ولو أنه لن يكون محدودًا بهما.

أما فيما يتعلق بهذه الحالة التي تشغلنا فلسوف يرضينا لو استطاعوا أن يؤكدوا لنا أن الله سبحانه لا يكلف الناس إلا وسع قدراتهم، وهو تكليف، إن لم يكن بالشرع، فليكن على الأقل بالواقع، وتبعًا لعرف دائم لا يقبل التغير.

لقد فهم أكثر الأشاعرة تعقلًا هذا المعنى1، ولكن الآخرين استهواهم المضي في المراء، فجذبهم إلى بعيد. لقد أجهدوا أنفسهم ليجدوا وسيلة بارعة لإثبات فكرة التكليف بالمحال في ذاته، لا من حيث هو حق القدرة الإلهية فحسب، ولكن باعتباره واقعًا قد حدث فعلًا. ثم نجدهم يدعون في جرأة نموذجية أن لديهم على ذلك أمثلة مادية في القرآن نفسه، وإليك لقطتهم الثمينة.

لقد ساقوا مثلًا على ذلك حال بعض الكفار الذين أعلن القرآن أنهم سيموتون في الكفر، من مثل قوله تعالى:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} 2، وقوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 3. ولسوف يكون ذلك مهما بذل في سبيل هدايتهم من جهد: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} 4.

1 المرجع السابق.

2 المسد: 3.

3 المدثر: 26.

4 البقرة: 6.

ص: 70

فهؤلاء الناس لم يكونوا أقل تكليفًا بالاعتقاد في الحقائق المنزلة، بما في ذلك كفرهم الدائم، وهم على ذلك يفعلون المستحيل:

أولًا: لأن أمرًا مما علم الله عدم وقوعه، لا يمكن أن يوجد.

وثانيًا: لأنه ربما كان من المتناقض أن يؤمنوا بهذا الوحي الخاص، الذي يقرر أنهم لن يؤمنوا أبدًا، وبذلك يكونون في حالتي إيمان، وعدم إيمان.

ويقدم فخر الدين الرازي هذا الاستدلال المزدوج، ويضاعف من حوله الأقوال، كأنما هو العقبة الكئود التي لن يستطيع العقليون أن يفلتوا منها أبدًا1.

بيد أنه حتى لو افترضنا أن المقدمات صادقة، فلسنا نرى في هذا الاستدلال المزدوج سوى ضروب من القياس الكاذب.

وأول الاستدلالات، وهو ما يستمدونه من علم الله السابق -يقوم على نوع من الخلط بين "الممكن" و"الواقع"، بين "الجوهر" و"الوجود" فليس معنى كون الشيء لا يوجد، أو لن يوجد أبدًا -أن يكون مستحيلًا في ذاته. فالعلم لا يغير جوهر الأشياء، فضلًا عن واقعها، إنه يسجل هذا الواقع، ثم يحكيه، ويعبر عنه، ولو كان كل ما علم الله أنه لا يوجد -"مستحيلًا" لوجب القول -لنفس السبب- بأن كل ما علم الله أنه يوجد "ضروري". فماذا بقي في الكون إذن لتتحقق فيه الإرادة الإلهية؟

وأما الاستدلال الثاني: فهو يقوم كذلك على خلط منطقي بين نوعين من القضايا، أحدهما قائم بذاته، والآخر معلق بغيره؛ فالإيمان وعدم الإيمان قضيتان متناقضتان، مفترض أنهما قد استوفتا كل الصفات المطلوبة.

1 التفسير الكبير، للرازي 1/ 185.

ص: 71

ولكن إيمان الفرد، بأنه لن يؤمن أبدًا -حدث واقعي بالنسبة لمن لا يؤمن، ما دام أنه يحسه في نفسه، ويعرفه بالتجربة المباشرة، والشخصية.

وحين أخفقت كل محاولات الأشاعرة في هذا المجال القرآني، وجهوا بحوثهم إلى مجال أكثر رحابة، وأعظم اعتمادًا على العقل الخالص، وها هم أولاء يريدون أن يبرهنوا لنا على أن التكليف بالمحال هو من جانب معين قاعدة عامة، أكثر من أن يكون قاعدة خاصة في الشرع الإلهي.

ويقف خصومهم المعتزلة ليدافعوا عن الحرية الإنسانية مقدمين إياها على العمل، حين يكون لكل امرئ أن يجرب قدرته المزدوجة على أن يعمل، أو يمتنع عن العمل.

ويعترض الأشاعرة على هذا بأن القدرة كانت قبل العمل احتمالًا، والقدرة الفعلية مصاحبة للعمل1، من حيث إنه لا يمكن أن تمارس هذه القدرة تأثيرها على الضدين إلا تباعًا، فإذا ما شغلت بأحدهما بقي الآخر محالًا، ما دام الأول في طريق التحقق، فالذي يخالف الأمر، ويستخدم نشاطه في مناقضته هو حينئذ غير قادر على الطاعة، في حين يمارس المعصية، وهو مع ذلك مكلف في اللحظة ذاتها بأن يؤدي واجبه، وبهذا يكون عدد الحالات الاستثنائية الشاذة -أعني: التي يكون موضوع التكليف فيما أمرًا لا يقبل التحقق- مساويًا على الأقل لعدد الحالات السوية.

ولكن من ذا الذي لا يرى في هذا الكلام سفسطة خالصة؟

الواقع أن أحدًا لا يمكن أن يفكر في تفسير الأمر الموجه إلى عاصٍ،

1 قارن هذا بنظرية برجسون عن الحرية، القائمة على عدم القدرة على التنبؤ بالعمل، وعلى ديناميكية الذات الفاعلة.

ص: 72