المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دور النية في المباشرة وطبيعتها - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

والواقع أنه لا يكفي أن نلفت النظر إلى أن اللفظ العربي: "الإسلام" يعني: "الانقياد"، أي: الخضوع للإرادة الإلهية، كما يعني في الوقت نفسه:"الإخلاص"، وهو استبعاد أي سلطان آخر على الإرادة الإنسانية.

ولا يكفي كذلك أن نقول: كم يؤكد القرآن ضرورة أن يستلهم كل فرد في أعماله النية النقية؟ لأنه يجب أيضًا أن نبين فيم يتمثل هذا النقاء؟ ومتى يتسنى لمزيج من الدواعي والبواعث أن يقوض أركانه، ويزيل بنيانه؟

ص: 473

‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

أ- دور النية غير المباشرة، وطبيعتها:

بيد أننا قبل أن ندخل في هذه التفاصيل ينبغي أن نقول ابتداء: إلى أي مدى تقاس قيمة عمل ما -في الإسلام- بأهدافه البعيدة؟ ونكتفي الآن بقولة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يلخص بمضمونها الكثيف، ويعمم بامتدادها إلى ما لا نهاية -ما لا يحصى من النصوص القرآنية وغيرها، مما سوف نرى منه غير قليل من النماذج خلال دراستنا، وذلكم قوله، عليه الصلاة والسلام:"إنما الأعمال بالنيات"1. وهذه القولة -التي استخدمناها من قبل لإثبات النية المباشرة، كشرط صحة، أعني: شرط وجود أخلاقي- يمكن أن تساعدنا أيضًا في أن نتناول النية بصورة أعمق، باعتبارها معيارًا للقيمة، وشرطًا أخيرًا للثواب والعقاب.

هذا الاستخدام المزدوج للنص، والذي جرى عليه من قبل جميع المفسرين -يجد تسويغه أولًا في اشتقاق الكلمة العربية: نية "= intention ". فهذا اللفظ في الواقع مشتق من جذرين امتزجا معًا بصورة ما:

أولهما: ناء بالحمل، أي: نهض به.

1 انظر: البخاري، الحديث الأول.

ص: 473

وثانيهما، نأى، أي: ذهب بعيدًا1.

فإذا تذكرنا الأصل المزدوج لهذا المصطلح فإنه يعني إذن نظرتين للحركة الإرادية، تقعان في آن واحد على العمل الماثل، الذي يكلف به الإنسان وعلى غايته البعيدة التي يستهدفها.

ومع ذلك، فلا حاجة بنا إلى أن نتمسك بهذه الإشارة الضمنية، ولنفترض أن هذه القولة تقصد بخاصة إلى الجزء الأول، ولا سيما في جانبه السلبي، ولكن لنقرأ بعد ذلك بقية النص، ولسوف نرى فيه المعنى الثاني، يستخرج ويتحرك كلما اطرد الخطاب، وأصبح محسوسًا شيئًا فشيئًا، يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى" 2، "في حال عمله" ثم يختم الحديث بهذه الجملة الثالثة والأخيرة:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"3.

ومن الواضح أن هذا الدور العظيم لمبدأ التقدير الأخلاقي ما كان له أن يتعين إلا بنية حقيقية، أصولية، منبثقة من المنبع العميق في أنفسنا، فلم تكن لتعينه بضعة أفكار سطحية، ناشئة عن تكلف لغة باطنية أو منطوقة.

1 يريد المؤلف أن مادة الفعلين واحدة، هي "ن، ء، ا"، وإن اختلف الترتيب في الأول عن الثاني، وهو ما عرف لدى الاشتقاقيين باسم "الاشتقاق الكبير"، ويعنون به أن بعض المجموعات الثلاثية ترتبط ببعض المعاني ارتباطًا غير مقيد بترتيب أصواتها، وهي فكرة صادقة في بعض الأصول، دون أن تصدق في كل أصل، وقد ضرب ابن جني مثلًا على ذلك بمجموعة "الجيم والباء والراء" وهي مهما اختلف ترتيبها تعبر عن القوة والشدة

إلى آخر ما قال، وشركه في الرأي أبو منصور الثعالبي صاحب "فقه اللغة". انظر: من أسرار اللغة 49 وما بعدها للأستاذ الدكتور إبراهيم أنيس. "المعرب".

2 المرجع السابق.

3 المرجع السابق.

ص: 474

فهذه النية الزائفة قد تستر إلى حين الانطلاقة الواقعية لدوافعنا، ولكنها لا تبلغ قط أن تغيرها.

وعندما أعمل، في الحرب، تحت سلطان الكراهية، وبروح الثأر، لا يفيدني في شيء أن أبعد تفكيري عن هذا الهدف بأن أقول لنفسي: سوف أدافع لا عن مصلحتي، بل عن حقيقة مقدسة. فنحن لا نلغي وجود العالم بإغلاق أعيننا كيلا نرى شيئًا، وسد آذاننا كيلا نسمع شيئًا. وليس بوسعنا أن نتملك الفضيلة بمجرد تفكيرنا فيها، أو حتى نطقنا باسمها، فالرجل العاقل لا يرى في هذه الشكلية سوى ستار جد رقيق لا تلبث أن تنكشف وراءه الحقيقة.

لسنا ننكر في بعض الحالات صعوبة تبين الدوافع الخفية لأعمالنا. ولسنا نذهب إلى حد تأييد "كانت" فيما ذهب إليه من الاستحالة المطلقة لاستكناهها1، فهذه الفكرة على ما لاحظه "دلبوس delbos"2 تبدو لدى "كانت" متصلة بنظريته التي تقول باحتمال وجود إرادة إنسانية علوية، تجري اختيارها خارج الزمان، ومن ثم لا تستجيب لأي معرفة تجريبية.

1 انظر: Kant. Fondement. Meta، 2 Section، 2. Alinea

2 فيكتور دلبوس، فيلسوف فرنسي "ولد في فيجاك عام 1862، وتوفي في باريس عام 1916"، كان أستاذًا في السوربون، وقد كتب جملة من المؤلفات، منها:

Le probleme moral dans la philosophie de Spinoza et dans I'histoire du spinozisme.

المشكلة الأخلاقية في فلسفة سبينوزا، وفي تاريخ الأسبينوزية، وكانت رسالته:

Essai sur la formation de la philosophie pratique de Kant

دراسة في تكوين الفلسفة العملية عند كانت. وقد ترجم إلى الفرنسية: أسس ميتافيزيقا الأخلاق لكانت

إلخ. واختير عضوًا في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية عام 1911 "انظر: Grand Larousse T. 3)) "المعرب".

ص: 475

بيد أننا ما دمنا في نطاق ما يقبل المعرفة -ندرك أن الصعوبات التي تثيرها دوافعنا العميقة كثيرة، وحتى لو افترضنا أن هذه الدوافع الحقيقية قد كشفت، فإنها ليست سهلة المراس بحيث يمكن إقصاؤها وشغل مكانها بمجرد صارف من صوارف الفكر، كيفما أردنا.

بل قد يجوز لنا أن نتساءل: إذا ما كانت النية بعامة يمكن أن تكون موجهة؟

يرى الإمام الغزالي أن الإنسان لا سلطان له مباشرة على هذا التوجيه، وفي ذلك يقول:"إنما النية انبعاث النفس وتوجهها، وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها، إما عاجلًا، وإما آجلًا، والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه، واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلانًا وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه، وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه، وذلك مما قد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث، الموافق للنفس، الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده، وذلك مما لا يقدر على اعتقاده من كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغًا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة، بها تجتمع، ويختلف ذلك بالأشخاص، وبالأحوال، وبالأعمال، ويضرب الغزالي لذلك مثالًا فيقول: "فإذا غلبت شهوة النكاح مثلًا، ولم يعتقد غرضًا صحيحًا في الولد، دينًا ولا دنيا، لا يمكن أن يواقع على نية الولد، بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية هي إجابة الباعث، ولا باعث إلا بالشهوة، فكيف ينوي الولد، وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاح اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها، لا يمكن أن

ص: 476

ينوي بالنكاح اتباع السُّنة، إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه، وهو حديث محض ليس بنية. نعم طريق اكتساب هذه النية مثلًا أن يقوي أولًا إيمانه بالشرع، ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد، من ثقل المؤنة، وطول التعب وغيره. فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب، فتحركه تلك الرغبة، وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد، طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناويًا، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه، ويردده في قلبه من قصد الولد -وسواس وهذيان"1.

وقد نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ لأننا لو افترضنا أن هذا العلاج الأخلاقي قد استمر ونجح، لبقي أن الفطرة الحسية لم تنعدم لذلك. فهذا القدر الكبير من الأفكار، ومن المطامح، ومن العادات التي اكتسبت من جديد -يمكنه فعلًا أن يحد من سلطان ميولنا الغريزية، أو يخففها، ومع ذلك فإن هذه الميول تظل ماثلة، ولا يختنق صوتها قط اختناقًا كاملًا، بل إن الأمر ليصل أحيانًا، عندما يتزامن أمر العقل مع دافع الأنانية، أننا لا ندري -على وجه القطع- لأي الأمرين خضعنا.

ويجب أن نلاحظ جيدًا أن الذين قد يتسلط عليهم هذا الشك ليسوا هم العامة من الناس، أولئك الذين يطلقون العنان لأهوائهم، وليسوا أيضًا هم حديثو العهد بالدين، فهم قلما يتنبهون إليه. فمن الواضح أنهم لما كانت مبادئهم حتى الآن متفردة، لا تزاحمها مبادئ أخرى مضادة، فلا مجال لأن يخطئوا تبين المبدأ الواقعي الذي يلهم أعمالهم، ولن يكونوا بحيث يفسرون نواياهم الخاصة بتشابه الأقوال أو الصور، عندما تبدو لهم مظلمة أو غامضة.

1 الإحياء 4/ 362 ط. الحلبي، وقد نقلنا هذا النص بصورة أوفى مما في الأصل.

ص: 477

وإنما يقع في هذا الصالحون من الناس، أولئك الذين قد يجدون بحق، كل عناء في تمييز دوافعهم الحقيقية، وفي تهدئة وساوسهم في هذا الموضوع.

وبالرغم مما يبدو في هذا من تناقض، فمن الممكن القول بأنه على قدر ما يحققون من تقدم أخلاقي يجب أن تزداد مخاوفهم من ألا تسترهم في نظر أنفسهم تلك الطبقة السميكة من مكتسباتهم الجديدة، فتدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم إنما يعملون دائمًا حبًّا في الفضيلة.

ألا يحدث في الواقع أن يكتشفوا أحيانًا، وبعد فوات الأوان، أنهم كانوا في ذلك مخدوعين، وأنهم إنما كانوا يعملون في هذه المناسبة أو تلك لإرضاء النزعة الخفية من طبيعتهم؟

ولكن هل يمكن لهذه الأسرار العميقة، التي تنزع غالبًا إلى أن تختفي عن أكثر الاختبارات دقة -أيمكن أن تغيب عن رقابة الله الذي هو {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} 2.

ولهذا نجد في الأخلاق الدينية -أكثر من أية أخلاق أخرى- ضرورة تفرض نفسها على كل فرد، هي أن يستعمل الدقة وعمق النظر في اختبار ضميره، بقدر ما يمارس من جهد شجاع لتحرير نفسه من كل تأثير، سوى التأثير الذي يفرضه الشرع، ويرضاه.

والحق أنه لا يوجد شرع عادل يكلفنا بأن نحمل أكثر مما تطيق فطرتنا، حتى ندرك ما لا نستطيع إدراكه، أو نجاهد ما لا نطيق هزيمته. ولكنا عندما توقفنا قوة هذه الفطرة، قبل أن نصل إلى نهاية الطريق، "فعند نقطة

1 المائدة: 7.

2 الملك: 14.

ص: 478

الإيقاف هذه يختلف موقف الضمير الذي يخضع لقانون العقل وحده، عن موقف من يخضع لقانون الجلال والفضل الإلهي، وإليكم نقط الخلاف هذه ":

فمن الناحية العقلية، تبعًا لوجهة النظر التي نأخذ بها، وتبعًا لمزاجنا أيضًا -نرى أن العجز عن "فعل الأحسن" الذي نجد أنفسنا فيه لا بد أن يترجم في ضميرنا بشعورين متناقضين، ينتهي كل منهما إلى نتيجة لا ترضى النزعة الأخلاقية؛ إذ إننا من الناحية القانونية نعتبر أنفسنا قد أدينا ما علينا، ما دمنا غير ملزمين مطلقًا بعمل المستحيل.

بيد أن ملاحظة نقصنا الأساسي "الجواني"، وليكن اضطراريًّا، يجب أن تثير فينا شعورًا باحتقار أنفسنا، فلسنا نملك ألا ندين هذه الفطرة العقيمة إدانة لا نقض فيها ولا إبرام؛ لأنها غير جديرة بمطامحنا الأخلاقية.

وهكذا نجد أن الاعتبار الأول، وهو اعتبار منطقي، لا حرارة فيه، يمنح نشاطنا وهمتنا إجازة، ويدعونا إلى أن نستريح في هدوء على هذا الحد، كأنه لا يقبل التجاوز بحال. فإذا ما ارتضينا هذه الوقفة، واستطالت قليلًا فسرعان ما تتحول إلى تقهقر تدريجي.

وإذا كانت ملاحظة هذا البون ما بين واقعنا ومثلنا تشعل -بالعكس- النار في قلوبنا، وتجعلنا ثائرين ضد أنفسنا، فقلما يكون ذلك من أجل إصلاح فطرتنا، وهو أمر نعتبره -على سبيل الفرض- مستحيلًا، بل هو من أجل أن ننقم على ظرفنا التعيس. هذه الكراهية التي لا جدوى من ورائها، والتي تسمى "اليأس"، تقود الإنسان حتمًا إلى نفس الوقفة أولًا، ثم إلى التقهقر الذي أشرنا إليه منذ قليل. وذلكم هو الإنسان، طالما اعتمد على قواه، وأنواره الخاصة.

هذا كله في مقابل نفس مغذوة بالإيمان، مملوءة بالثقة في هذه الحقيقة

ص: 479

الحية والعلوية، هذه الحقيقة التي لا حدود لخيرها ولا لقوتها، والتي هي موضوع حبنا واحترامنا ونطلق عليها: الله.

إن النفس التي تثق في هذه الحقيقة لا ترتد أبدًا إلى ذلك اليأس القاتل، ولا إلى ذلك التساهل البليد نحو الذات. ذلك أن فكرة لطف الشرع الإلهي الذي لا يأمرنا بأن نخرج من فطرتنا، يقابلها في ضميرنا فكرة العلم الشامل العلوي لخالق هذا الشرع. هذا العلم الشامل وحده، الذي يطلع على أعماق قلوبنا، والذي يقيس قياسًا دقيقًا حدود قدرتنا -هو الذي يستطيع أن يحكم بحق إن كنا لا نزال نطيق أن نبذل جهدًا، لكشف نقائصنا المستورة، نقائص سلوكنا الباطني، وتصحيحها -هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، إن فكرة وجود الله ذي الجلال في كل مكان، تلك الفكرة التي تملأ نفوسنا اهتمامًا بالأخلاق، وبالصرامة نحو أنفسنا -هذه الفكرة يخففها بدورها فكرة الرحمة التي تمد يدها دائمًا إلينا، لا من أجل أن تتلقى أولئك الذي يرجعون من غفلتهم، ويحاولون أن ينهضوا من كبوتهم فحسب، ولكن من أجل أن تساعدهم، وتمدهم بقوة يتراحب مداها دائمًا.

في هذا الضوء يصف لنا القرآن حالة نفس المؤمن، فهي ليست يائسة من روح الله:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 1، ولا هي آمنة من مكره:{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 2 وإنما هي دائمًا في منتصف طريق، بين الأمل والخوف، أو بالأحرى، تغذي كلا الشعورين في وقت واحد:{يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 3.

وإذن، فهو حوار حي، بين لطف وهمة، وشجاعة وأمل، وهو حوار يتعهد شعلتنا، دون أن يحرقنا بها، ويرطب قلوبنا دون أن يسلبها حميتها،

1 يوسف: 87.

2 الأعراف: 99.

3 الزمر: 9.

ص: 480

فكل شيء متوازن، ومتناسب، وهذا هو مجموع الشروط الضرورية، والكافية لبناء عمل دائم وخصب، فهل تستطيع النزعة الأخلاقية أن تجد في غيره بيانًا أفضل؟

والآن، إذا كنا قد أثبتنا مبدأ النية العام، وبعد أن حددنا أنه لا يمكن أن يعني مطلقًا نية سطحية، أو مصطنعة، بل لا مناص من دوافع حقيقية تتعمق في أنفسنا، كيما تجد فيها جذورها العميقة، وتطهرها -نستطيع الآن أن نشارف الموضوع الرئيسي في هذا القسم، ألا وهو دراسة المجموعات المختلفة لهذه الدوافع، وتمحيص نظمها في الأخلاق الإسلامية، كل على حدة.

وفي أثناء هذه الدراسة للنية الغائية، سوف نصادف كل نوع منها، ابتداء من أجدرها بالمدح، حتى أحقها بالذم، مارين بمنطقة وسيطة، في مستوى عادي، يمكن أن توصف باللامبالية، ولو لم يرق ذلك في نظر بعض الأخلاقيين والمتصوفة المسلمين؛ إذ كيف نجمع في حكم واحد رفضًا لمبدأين متباعدين، أحدهما عن الآخر، المبدأ الذي يقف ضد الشرع، والآخر الذي يمكن برغم كل شيء أن يجعل الشرع أكثر فاعلية؟

ألم يعلمنا القرآن والسُّنة بطريقتهما في تقدير الأمور -أن بين الطرفين من "الخير والشر"- مكانًا للفظ وسط، وأن بين "المأمور به" و"المنهي عنه" يوجد المسموح به أو "المباح"؟

إن في القرآن ثلاثة تعبيرات هي: "كتب عليكم، حرم عليكم، وأحل لكم"، وهي أكثر التعبيرات شيوعًا، والقرآن يعين بها المجموعات المختلفة في تشريعه، فلماذا لا يطبق نفس التقسيم الثلاثي على الروح "أي: الدوافع" التي تحرك أنواع السلوك المختلفة؟

ص: 481

وإذن، فلكي نحكم بأن نية معينة هي طيبة، أو خبيثة، أو جائزة فحسب -لا يكفي دائمًا أن ننظر فيها إلى المفهوم المجرد، بل يجب في الوقت نفسه أن نحسب حساب عاملين آخرين، قد يعدل تدخلهما حكمنا تعديلًا عميقًا:

الأول: نوع العمل الذي نقصد إلى ممارسته، لتحقيق غاية معينة؛ لأنه إذا كانت الأشياء ذات القيمة المادية، يمكن أن تستعمل وسيلة للتوصل إلى غايات هذه الدنيا، فليس الأمر كذلك بالنسبة إلى واجب مقدس، ينبغي أن يتصور لذاته، أو لغايات أسمى.

والثاني: الدور الذي يناط بباعث أو آخر ليؤديه في بناء قوتنا المحركة، تبعًا لما إذا كان وحده، أو مشتركًا مع باعث آخر، وفي هذه الحالة الأخيرة حسبما إذا كان يكون في هذه الشركة عنصرًا رئيسيًّا، أو ثانويًّا؛ لأنه في أي خليط من الدوافع المختلفة لا يجب أن ننظر إلى طبيعة كل عنصر مضاف فحسب، بل ننظر كذلك إلى الأهمية النسبية التي نعلقها على كل من هذه العناصر في المجموع. وإذا كان الإنسان ذاته خليطًا فكيف لا نبالي بالعمل الذي يدل على طبيعته بصورة أفضل؟

إن من المناسب فقط أن نحكم عليه تبعًا للتفضيل الذي يمنحه لهذه الغاية على تلك الغاية الأخرى، ومعنى النسبة يقتضيه، كما يقتضيه المبدأ القرآني، الذي سوف توزن طبقًا له أعمالنا، حتى لو كانت في وزن الذرة.

وعلى هذا النحو نجد أن خطة هذه الدراسة قد تحددت بالفعل، رغم أنها شديدة التعقيد، والتداخل، ولسوف نعرض على التوالي نظرية هذه الأشكال الثلاثة من النية، على أن نفترض أن كل واحدة منها هي صاحبة السيطرة على الضمير، ثم نشرح في النهاية مختلف الطرق التي يمكن أن تمتزج بها الدوافع الكثيرة، لكي تسهم في تحديد اختيار إرادتنا.

ص: 482