المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خصائص التكليف الأخلاقي ‌ ‌مدخل … 2- خصائص التكليف الأخلاقي: كل قانون "مادي، أو اجتماعي، - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌خصائص التكليف الأخلاقي ‌ ‌مدخل … 2- خصائص التكليف الأخلاقي: كل قانون "مادي، أو اجتماعي،

‌خصائص التكليف الأخلاقي

‌مدخل

2-

خصائص التكليف الأخلاقي:

كل قانون "مادي، أو اجتماعي، أو منطقي، أو غير ذلك"، يحكم بالضرورة جميع الأفراد الخاضعين له، على نسق واحد، كما يحكم الفرد الواحد في مختلف ظروفه. وإلا فلن يكون القانون قانونًا، أعني: قاعدة عامة وثابتة.

وقانون الواجب، وإن كان ذا طابع جد فردي فإنه لا يتخلى عن هذا الطابع المشترك: إنه شامل، وضروري، ويتجلى طابع الشمول في القانون الأخلاقي، في القرآن، بوضوح لا ريبة معه، لا لأن مجموع أوامره يتوجه في جملته إلى الإنسانية جمعاء فحسب، وهو ما يقرره قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1. وقوله: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 2. وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3، وهو ما قد يحمل على معنى توزيعي. بل إن القاعدة الواحدة، ولتكن قاعدة العدالة، أو الفضيلة بعامة، يجب على كل فرد أن يطبقها على نسق واحد، سواء أكان تطبيقه لها على نفسه، أم على الآخرين:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} 4. {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} 5. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا

1 الأعراف: 158.

2 الأنعام: 19.

3 الفرقان: 1.

4 البقرة: 44.

5 البقرة: 267.

ص: 53

عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. وسواء أكان هذا التطبيق على أقربائه، أم على البعداء، على الأغنياء، أم على الفقراء: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} 2. وسواء أكان خارج الجماعة أم داخلها: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 3. على الأصدقاء أم على الأعداء: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4.

بل إنه، حتى في الحالة التي لا يشتمل نص التشريع فيها على لفظ عام، وحتى لو كان منزلًا بمناسبة ظرف فردي -فإنه يعتبر من حيث المبدأ قابلًا للشمول، أعني أن من الممكن أن ينطبق على جميع الحالات المماثلة، ومن ذلك ما أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"5.

وقد ذهب الجمهور إلى أن الحكم الوارد بشأن فرد واحد ينطبق على جميع الناس، ما دام القياس واضحًا بدرجة تقترب من التماثل. أعني: ما دامت الحالتان لا تفترقان إلا في صفات فردية يمكن التسامح فيها "بأن تختلفا في الأفراد، أو الزمان، أو المكان".

وأعتى خصوم القياس هجومًا عليه، من أمثال ابن جزم، يؤيدون

1 المطففين: 1-3.

2 النساء: 135.

3 آل عمران: 75-76.

4 المائدة: 2 و8.

5 موطأ مالك 3/ 147، باب البيعة. وفي رواية:"مثل قولي لامرأة واحدة""المعرب".

ص: 54

شمول الحكم ويدافعون عنه بقوة، باعتباره نتيجة ضرورية لشمول رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتساوي الجميع أمام الشريعة. وإنما كان مبدأ التعليل بالقياس موضع خلاف بين فقهاء المسلمين في موقف واحد، كما رأينا، عندما تكون الصفة المشتركة بين الحالتين غير محسوسة، ويحتاج استنباطها إلى إعمال العقل بطريقة أقل أو أكثر ذكاء، وهي حالة جزئية لا تحمل أدنى مساس بالمبدأ العام.

بيد أن شمول الواجب لا يعني امتداده إلى جميع الأفراد فحسب، ولكنه يستتبع كذلك تطبيقه على مختلف الظروف التي يمكن أن يوجد فيها فرد معين، وهذا النوع من الشمول هو ما يطلق عليه اصطلاحًا: الضرورة المطلقة -NECESSITE ABSOLUE. ولسوف نرى فيما بعد أن هذا الوصف غير صالح لتطبيقه بدقة على فكرة الواجب القرآني؛ فالواجب -على ما قرره القرآن- لا يفرض على الإنسان إلا عندما يكون ممكنًا، ولكنه ضروري بمعنى أنه لا ينبغي أن ينحني أمام حالاتنا الذاتية، ولا أمام مصالحنا الشخصية.

ومن الارتياب، أو مرض القلوب -كما حدثنا القرآن- ألا نذعن للقانون إلا حين نفيد منه، على حين يخضع له المؤمنون دون قيد أو شرط:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} 1.

والقرآن لا يعظم فحسب الإنفاق الذي يحدث على نسق واحد، في السراء والضراء:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} 2، ولا يمتدح فقط

1النور: 48-51.

2 آل عمران: 134.

ص: 55

الشجاعة التي تتحدى الجوع والعطش والنصَب: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} 1. ليس ذلك فحسب، وإنما هو يندد في قسوة بأولئك المرضى المنحرفين، الذين تمنعهم مثل هذه الحالات من أداء الواجب: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} 2.

وحين يتكلم الشرع الإلهي فلا كلام لأحد. يقول الله سبحانه في كلمات صريحة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3. أيمكن أن نجد تعبيرًا أعظم قوة من هذا؛ لإثبات الضرورة التي يفرض بها الواجب؟

ومع ذلك فلا ينبغي أن يلتبس هذا التعبير في أذهاننا باستعمالين آخرين لكلمة "الضرورة". فإن الضرورة الأخلاقية تفترق في وقت واحد عن "الضرورة المادة LA NECESSITE PHYSIQUE، وعن "الضرورة المنطقية -LA NECESSITE LOGIQUE".

فللقانون المادي على أجسامنا ضغط نتحمله مكرهين، دون أن نملك تحاشيه، وأما القانون الأخلاقي فهو بعكس ذلك يفترض حرية الاختيار، فهو يكلفنا، ولكنه لا يقهرنا قهرًا ماديًّا. إنه يدع لنا أولًا إمكان مراعاته، أو مخالفته "ودعك من مقوامته آخر الأمر"، وتلك هي القاعدة الأصلية التي لا يفتأ القرآن يعلنها، سواء فيما يتعلق بواجب الإيمان، أو بواجب الفضيلة العملية، واقرأ إن شئت هذه الآيات الكريمة: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا

1 التوبة: 120.

2 التوبة: 81.

3 الأحزاب: 36.

ص: 56

أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} 1. {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 2. {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 3. {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 5.

وهكذا يكون للفرد أمام الواجب الاختيار بحسب الواقع، ولكنه لا يملك هذا الاختيار شرعًا. فالضرورة الأخلاقية ليست إذن ضرورة وجودية، بل هي ضرورة مثالية. ومع ذلك يجب ألا نلبسها بالضرورة المنطقية، فكل ما هو ضروري منطقيًّا يفرض نفسه على العقل مسلمة من المسلمات، إذ ليس بوسع المرء ألا يرى ما رآه جليًّا، وكل ما هو ملزم أخلاقيًّا يفرض نفسه على الإرادة على أنه شيء لَمَّا يكن، ولكن يجب أن يكون. وهو ينتج من حكم على قيمة، لا من حكم على واقع.

وهكذا يتمثل سلطان الواجب بطابعه الخاص الأصيل، فهو لا يقهر الجوارح، ولا يُكْرِه المدارك، ولكن يفرض نفسه بخاصة على الضمير.

ومع ذلك اعتقد "كانت" أنه يستطيع أن يرد اللاأخلاقي L ' IMMORAL إلى ما ينافي المنطق L' ABSURDE، وإلى اللاعقلي L' IRRATIONNEL. وكان من قوله:"إن أي مبدأ خاطئ لا يمكن أن يقوم على هيئة قانون شامل دون أن يؤدي إلى تناقض، سواء في مفهومه ذاته، أو في الإرادة التي تريد رفعه إلى مرتبة الشمول"6.

1 النساء: 80.

2 البقرة: 256.

3 الغاشية: 22.

4 يونس: 99.

5 النور: 54.

6 Kant: fondement De La metaphysique des moeurs، P. 142:

ص: 57

لقد نظر برجسون في بعض الأمثلة التي رأي الفيلسوف الألماني أن يستشهد بها على نظريته، ثم أعلن أنه لا يستطيع أن يوافقه على رأيه إلا بشرط أن يفهم هذا المعنى أو ذاك، لا في تعريفه المادي البسيط، بل بما يشمل طابعه الإلزامي، وجميع شروط الأخلاقية. وفسر ذلك بأنه ربما يكون من باب التناقض أن نجد من ائتمن على وديعة، مع تعهده بردها صراحة أو ضمنًا، يتملكها، فهو حين يفعل ذلك لا تصبح الوديعة وديعة1.

ولكن، أليس واضحًا أن نظرية "كانت" -حتى مع هذا التقييد- تظل دائمًا غير مثبتة؟ بل نقول: إنها غير قابلة للإثبات أيضًا، مهما تكن قوة الجدل التي يمكن استخدامها؛ ذلك أنه حين يسحب اليوم تعهد أخذ بالأمس فإن الناتج عن ذلك يعد تباينًا "CONTRASTE" بين موقفين متقابلين، ولكنه ليس مطلقًا تناقضًا CONTRADICTION بالمعنى الصحيح. "فهذا التعهد يجب أن يلتزم". هذه قضية قانون، "ولكنه لم يلتزم" -وتلك قضية واقع. أية استحالة داخلية في هذين التقريرين؟ فما دام وجها التقابل غير صادرين من نفس المصدر، ولا يعودان إلى نفس المراجع، وما دام الإثبات والنفي لا يقعان معًا على نفس الشيء، وفي نفس الظروف -فلا يمكن أن يكون هنالك أي تناقض منطقي، دون أن نخترع مصطلحًا جديدًا. "فالعقل يتقاضانا أمرًا". نعم، وهو لا يفتأ يفعله

"والشعور يقبل أو يرفض". واأسفًا.. لكن ذلك هو قانونه.

ذلكم هو الصراع الخالد بين المثل الأعلى والواقع، بين شريعة الأخلاق، وشريعة الفطرة، وخير دليل على عدم تناقضهما أنهما تعملان معًا؛ على حين أن المنتناقض هو الشيء المطرود من حظيرة الواقع بداهة.

1 Bergson، Les deux sources de la Morale et de la religion، p. 86.

ص: 58

فبدلًا من القول "بالتناقض" نجد أن بعض من يرى تسمية الأشياء بأسمائها يقول فقط: إنه "تعويق"، أو "إخفاق" فهو تعويق للمثل الأعلى الذي ينزع إلى التدخل في الواقع، ولكنه يجد نفسه ممنوعًا منه، وهو إخفاق للضمائر الأخلاقية في انتظارها للقيمة.

لسنا نريد أن نتلعب بالكلمات، وليطلقوا ما يشاءون على هذا العمل، الذي لم تعد به الوديعة وديعة، فإن ما يثبت أن الخطأ الأخلاقي لا يكمن في هذا التبديل البسيط هو أنه يكفي أن يغير صفته أحد العوامل الأخلاقية "كأن يتنازل المالك عن حقه للمستودَع" لكي يصبح غير مستحق للوم.

فلننظر الآن. لا أقول: في واقعة رفض إنسان للتكليف الأخلاقي بالتزام كلمته بعد قبوله، ولكن في مبدأ شخص كهذا يسمح لنفسه في حال حاجته، أن يعطي وعدًا كاذبًا، ما الذي يحدث على وجه الدقة إذا ما حولنا هذا المبدأ إلى قانون شامل؟

لا شك أن الارتقاء -إلى هذا المستوى- بالعمل الذي يسمح الإنسان به لكل فرد أن يخدع الآخرين -سوف يعرض للضرر من لم يكن يريد له هذا الإنسان أن يخدع به. ومنذئذ يبدو التعارض، وقد انتقل إلى الصعيد التشريعي ذاته.

ولكن هل يستتبع هذا التنازع في الواقع تناقضًا: إنه يريد، ولا يريد -أن يكون مخدوعًا؟ إننا نعتقد أن هذا التعارض الظاهر لم ينشأ إلا عن غموض في معنى اللفظ "يريد"، الذي يؤدي هنا دورًا مزدوجًا، عمليًّا ACTIF، وعاطفيًّا AFFECTIF. فالواقع أن "إرادتنا" بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهو أنها القدرة على اتخاذ قرار -تستطيع تمامًا -كما يفعل المولع بالمخاطرة - أن تقر نظامًا عامًّا، يكون امتداده قابلًا ليؤثر فيما نطلق عليه اصطلاحًا كلمة "إرادة"، وهي ليست سوى حساسيتنا أو قدرتنا على الرغبة.

ص: 59

وعلى هذا النحو فإن القاضي "يريد"، ويرى عقوبة المذنب عدلًا، بصفة شاملة، وإن كان "لا يحب" أن يكون هو نفسه معاقبًا عند الاقتضاء.

وعود إلى مثال الوعد الكاذب لنتساءل: ألا يتضمن السماح للآخرين بأن يخدعوا الناس -أن يدعي الكذاب الداهية أن بوسعه أن يفسد أحابيلهم ويفلت من شراكهم، دون أن يحتاج إلى الخروج على مبدئه؟

ولكن سوف يقال لنا: ألسنا حين ألغينا الثقة في الكلمة المعطاة قد أتحنا لمبدأ الوعد الكاذب أن يدمر فكرة الوعد ذاتها، وهي التي تفترض إمكان الوثوق بالغير؟ إن من السهل أن نكشف عن الحيلة التي تسلك بها في الخفاء أفكار كثيرة في فكرة واحدة. وبرغم كل ذلك فإن فكرة الوعد ليست لأجل هذا متناقضة، لا في جوهرها، ولا في وجودها، ولا في إمكان أن تؤثر على بعض العقول، ما دام في الناس مخدوعون. وإنما يطرأ التناقض في اليقين بنهايتها، فنحن على ذلك بعيدون جدًّا عن آية ضرورة منطقية.

إن ما هو ضروري منطقيًّا يتمثل لنا حقيقة تحليلة ساكنة STATIQUE، وذلك هو اتفاق الفكرة مع ذاتها، على حين أن الضرورة الأخلاقية هي بالأحرى ذات طابع تركيبي متحرك DYNAMIQUE، فهي تصف علاقة بين مجالين مختلفين، وذلك هو سعي الفكرة نحو كينونتها كما هي الحال. وليس معنى ذلك مطلقًا أن جوهرها يكفيها في ذاتها لكي توجد في الواقع في فكرة الموجود الكامل عند "ديكارت". إذ إن المفهوم الأخلاقي لا يمكن أن يندمج في الواقع، إلا بوساطة نشاط فاعل مريد وحر، ولكنها "أي: الضرورة الأخلاقية" متصورة بوساطة هذا الفاعل كقيمة جديرة أن تتحقق، وحافظة لإرادته على أن توجدها. وفي كلمة واحدة: فإنها الإلحاح على مثال أعلى عملي يطلب حقه في الوجود الفعلي.

ص: 60

بهذه الفكرة عن القيمة العملية نترك مجال الخصائص العامة المشتركة بين جميع القوانين، لننتقل إلى الخصائص النوعية للقانون الأخلاقي.

لقد أدرك "كانت"، بفضل تعمقه الفكري الملحوظ -الاختلاف الكبير الذي يفصل أساسًا القاعدة الأخلاقية عن جميع القواعد الأخرى العملية، ويكمن هذا الاختلاف في الفكرة الأرسطية عن "الغاية" و"الوسيلة"، ويعني الاختلاف بين ما ينبغي أن نسعى إليه "لذاته"، أو "لشيء آخر". وإنها لفكرة خصبة، تلك التي عرف "كانت" كيف يستخدمها لحسن الحظ، والتي نتناولها بدورنا، حين نستخرجها من مذهب "كانت" الشكلي.

والواقع أنه على حين أن فن الحياة بما اشتمل من قواعد الحذق والفطنة لا يتطلب نشاطنا بشكل جاد، إلا بناء على هدف محبب، فإن القانون الأخلاقي وحده هو الذي يفرض النشاط لذاته، أعني: بموجب القيمة الذاتية التي يتضمنها. فأمر الواجب هو وحده الذي يمكن أن يسمى "إلزامًا" بالمعنى الحقيقي. أما الأوامر الأخرى فهي ليست سوى نصائح مجردة، تدل على الوسائل لمن أراد أن يبلغ الغاية.

ولسوف ندع جانبًا -مؤقتًا- مسألة معرفة ما إذا كان الإنسان قادرًا دائمًا على تصور واجبه في تجرد كهذا.

لسنا نتكلم الآن من وجهة نظر الفاعل، ولسوف نناقش فيما بعد1 النظرية التي تجعل من هذا الإخلاص المثالي في نية الإنسان، واجبًا صارمًا. لكنا نؤيد فقط "كانت" فيما ذهب إليه، من أنه لما كان كل اعتبار للنتيجة غريبًا عن فكرة الواجب، فإن القانون الأخلاقي من حيث هو لا حاجة به مطلقًا لأية قيمة خارجة عنه، يسوغ بها أمره. وإنما ينبغي، بل ويكفيه لكي يؤكد سلطته، أن يقدم لنا العمل على أنه إلزامي، وحسن في ذاته، بقطع النظر عن أية نتيجة مستحسنة، أو مستهجنة.

1 انظر فيما بعد الفصل الرابع، الفقرة الثانية، ب.

ص: 61

فإذا ما أحللنا أحد هذه الاعتبارات محل الآخر انقلب نظام الأمور، ولم يعد عملنا ذا صلة بعمل الأخلاقيين.

بيد أنه إذا كان حقًّا أن أي نشاط يمكن أن يكون عادلًا، ونافعًا، ومستحسنًا في آن، فليس محظورًا على المشرع أن يضاعف الأسباب المسوغة لنظامه، ولكنه لن يكون حينئذ قد اقتصر على دور الأخلاقي؛ وإنما هو يضيف إلى هذا الدور أشياء أخرى ليست مع ذلك متعارضة. وأي مربٍّ حاذق يجب أن يلجأ إلى هذه الطريقة ليضمن فاعلية تعليمه. ولسوف تزداد مبررات هذه الإضافة كلما اتصلت بتربية المبتدئين، فأما إذا ما حققت الحاسة الخلقية بعض التقدم فإنها تصبح بالتدريج أكثر نقاء؛ لتكتفي في النهاية بذاتها، وبهذا المنهج التدريجي يبدو لنا أن القرآن قد سار في تعليمه الأخلاقي1.

ويجب أن نشير إلى أن هذه السمة المميزة للإلزام الأخلاقي من ناحية التشريع، تصاحبها جنبًا إلى جنب، سمة أخرى تتصل بناحية التطبيق.

ذلك أن العمل الأخلاقي لا يتمثل أبدًا في واقع مادي: لاشعوري، أو لاإرادي، أو غير مقصود، فعلى حين تقنع الشريعة "بمادة" العمل وحرفيته الجافة، تتطلب الأخلاقية منه "روحه". بل إننا -دون أن نتخذ موقفًا في الجدل المشهور الذي ثار بين فقهاء المسلمين حول الضرورة المطلقة في أن يؤدي المرء واجبه لمجرد كونه واجبًا- نجد أن هنالك واقعًا في الإسلام لا يقبل الشك، هو أن قداسة الواجب تقتضي أن نتأملها -على الأقل- في لحظة العمل، ولا بد أن يتخذ الذهن في تلك اللحظة وضعًا، لا يكون قصوره للعمل خلاله من جانبه المادي وحده، بل تكون له التفاتة إلى طابعه الإلزامي بهذا المعنى دون غيره.

1 انظر فيما بعد: الفصل الثالث، الخاتمة.

ص: 62