الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للدواء، والظروف الزمانية والمكانية للعلاج. قبل أن يصف الدواء الأكثر فاعلية والأقل إزعاجًا، في كل حالة تعرض عليه؛ فكذلك الأمر هنا، تتأثر العقوبة تبعًا لثقل الواجب المختان، وطبيعة المجرم، والظروف التي خالف فيها القاعدة، ومشاعر أصحاب الحق "حين تتصل الجريمة بأضرار ترتكب في حق الغير"، إن العقوبة حينئذ يجب أن تتنوع بدقة، ابتداء، من مجرد التأنيب على انفراد، أو التعنيف أمام العامة، على تفاوت في قساوته، حتى السجن، زمنًا يطول أو يقصر؛ والجلد، عددًا يقل أو يكثر، ولكنه لا يصح بعامة أن يبلغ عدد الجلد المنصوص عليه في الحدود "وهذه النقطة موضع خلاف".
هذه الطرق في العقوبة لا تقتصر على كونها قابلة لمختلف الأشكال المخففة على تفاوت تبعًا للحالة المعروضة، بل إن التعنيف ذاته يمكن أن يهبط إلى درجة نصيحة خيرة، أو تعليم خالص منزه، ليس هذا فحسب، بل إن من حق القاضي، وربما من واجبه -أن يغضي بكل بساطة عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق، وقد ورد في ذلك أثر منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الصحة العالية، قال:"أقيلوا ذوي الهيئات" -أو ذوي الصلاح- "عثراتهم، إلا الحدود "1.
1 انظر: أبو داود، ذكره السيوطي في الجامع الصغير1/ 48، طـ دار الكاتب العربي، والحديث مروي عن عائشة في مسند أحمد.
نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي
مدخل
…
3-
نظام التوجيه القرآني، ومكان الجزاء الإلهي:
لقد تناولنا حتى الآن التشريع القرآني في الجزاء الأخلاقي، والجزاء الشرعي، وعلى الرغم من اختلاف طبيعتها، وتعارض مجالات تأثيرهما، ومناهجهما، وأهدافهما، حيث يؤثر أحدهما مباشرة على النفس الإنسانية،
ويستهدف المطلق، على حين لا يبلغ الآخر مباشرة سوى الحواس الظاهرة، ولا يرى أمامه سوى النظام الاجتماعي. على الرغم من هذا كله، فإن بين نوعي الجزاء اللذين درسناهما آنفًا حظًّا مشتركًا، هو أنها ينتميان إلى مجال الواقع، وأنهما يمارسان في هذه الدنيا.
وعلينا أن ندرس الآن طبيعة الجزاء الإلهي، وامتداده، ثم نحدد مكانته في نظام التربية الأخلاقية القرآنية.
إن في العالم غير الإسلامي فكرة ذائعة تقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يلق عنتًا في هداية الشعب العربي؛ لأن الحرارة المحرقة، وظروف الحياة القاسية كانا لديه وسيلتين مؤثرتين لاجتذاب قومه، ودعوتهم إلى حياة أفضل، لقد قال لهم: افعلوا ما آمركم به، ولسوف يعطيكم الله أنهارًا وجنات، تأكلون فيها وتشربون ما تشاءون.
ولم يكن من شأن الأدب الشعبي وحده أن يدور حول هذه الفكرة: "جنة محمد". ولكن مؤرخين وفلاسفة كثيرين1 قد رددوا نفس المقالة، ولم يتخلصوا من تأثير هذه الأفكار الجارية، المقتبسة عن أفكار سابقة، هي في أغلب الأحيان منقولة سماعًا.
إن أولئك الذين ألفوا دراسة التاريخ العربي الإسلامي يدهشون من هذه الطريقة في تصور الأمور، ويستطيعون، على الأقل أن يقولوا: أنها تستند إلى معطيات مبتورة، فالصورة التي يقدمونها إليهم، وهم يصفون الشعب العربي في هذا الضوء المادي المسرف -تبتعد فعلًا عن الواقع نهارًا جهارًا،
1 انظر في ذلك مثلًا: Kant، Critique De La Raison Pratique، P. 130. G.-Demombynes، Institution Musulmanes، P. 62-3.