الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نضللها ونجردها: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1.
ولكي نقول ذلك كله في كلمة واحدة: إن الجزاء الأخلاقي الثوابي يتمثل في الحسنة والسيئة، أي: في كسب القيمة أو خسارتها: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}
…
1 الشمس: 7-10.
2 المطففين: 7 و18.
2-
الجزاء القانوني:
حين ننتقل من الناحية الأخلاقية إلى الناحية القانونية، يكون الجزاء الثوابي قد فقد نصف معناه، فهو لا يحتفظ من طابعه المزدوج، الثوابي والعقابي، سوى بالطابع الثاني. و"الجزاء sanction" هنا يعني أساسًا "العقوبة" بالمعنى الواسع للكلمة، الذي يضم الإجراءات التأديبية، والإجراءات العقابية بالمعنى الصحيح على السواء.
والمجتمع الإسلامي، كسائر الأمم المتحضرة، لم يحرص على أن يمنح جوائز مادية لأولئك الذين يؤدون واجباتهم أداء كاملًا، فهؤلاء سوف يقنعون أولًا بنوع من الجزاء السلبي، الذي يتمثل في استظلالهم بحماية القانون، ليأمنوا على حياتهم، وأبدانهم، وأموالهم، وأعراضهم، من أي مساس بها. ثم هم بعد ذلك يقنعون بجزاء شامل من الرأي العام، الذي سوف يعاملهم بما يستحقون من الرعاية، والتقدير، والإطراء، وأخيرًا فهم سوف يتمتعون بتلك المقدرة الممتازة، التي تجلب وحدها الحياة الصحيحة، الشريفة، اللائقة بالإنسان، وتتيح له أن يؤدي دورًا ناشطًا في توجيه الشئون العامة، وفي توزيع العدل الاجتماعي، ذلك أن التشريع الإسلامي، يرى أن فساد الخلق
ليس هو السبب الوحيد الذي ترد به شهادة الرجل في المنازعات، بل إن مسلكًا طائشًا، أو زيًّا يخرج عن الاحتشام، أو انهماكًا في الملذات، حتى ما كان منها مباحًا -كل ذلك من شأنه أن يرد شهادة الرجل، ويجعله غير أهل لوظيفة القاضي، وبالأحرى غير أهل لوظيفة رئيس الدولة.
ولو أننا تناولنا بالدراسة النظام العقابي في التشريع الإسلامي فلا مناص من أن نميز فيه مرتبتين مختلفتين: فهناك الجزاءات التي حددها الشرع بدقة وصرامة، وهي التي تسمى "بالحدود"، وهناك جزاءات أخرى، تسمى "التعزيرات"، وهي متروكة لتقدير القاضي.
فالمرتبة الأولى، تتكفل بمجازاة عدد قليل من الجرائم1، هي "الحرابة" والسرقة، وشرب الخمر، والزنا، والقذف، أما الجرائم الأخرى فتتبع المرتبة الثانية.
وليس أهم ما يميز الطائفة الأولى -أن العقوبة فيها محددة تحديدًا دقيقًا،
1 ألا ينتمي القتل العمد إلى نفس المجموعة؟ يقول أكثر الفقهاء: لا، وحجتهم في ذلك أن حق أولياء القتيل يغلب هنا على الحق الجماعي، وحتى لو كانت القضية قد قدمت للقضاء فإن عفو هؤلاء الأولياء عن القاتل يكفي لسحب القضية من يدي السلطة العامة التي لن يكون لها حينئذ أن تدعي شيئًا ضد المعتدي. أما المالكية فتذهب إلى عكس ذلك، مستندة إلى بعض الأحاديث، التي كانت موضع جدل، وهي تقرر أن عفو أسرة الميت يكفي لتخفيف العقوبة، لا لإلغائها، والمجرم في هذه الحالة سوف يُعفى من عقوبة الموت، ولكن لا ينبغي أن يمضي مطلقًا بلا عقاب، ويرون من الخير أن يجلد مائة جلدة، ويقضي عامًا في السجن، أو التغريب، وذلك لتقليل فرصة عودته إلى الجريمة، وفي الوقت ذاته لتقليل الأثر المصاحب المعدي لهذا المثل السيئ.
ولنذكر مع ذلك أن هذا الخلاف لا موضع له إلا في حالة القتل العادي، الذي يحدث في مشاجرة، مثلًا، أما حالات القتل البشعة، أو المتعمدة، مثل: الاغتيال، أو القتل غدرًا، والإيقاع في كمين
…
إلخ، فإن كل المذاهب مجمعة على أن عفو الأفراد قاصر مطلقًا في هذا الصدد. وأن من الواجب تطبيق عقوبة الإعدام على القاتل.
كيفًا وكمًّا. ولكنها فضلًا عن ذلك ذات صبغة مطلقة، وهي بهذا المعنى لا يتوقف تطبيقها، لا على حالة المذنب، "ذا سوابق أو لا، قابلًا للإصلاح أو غير قابل، يخيف الناس أو لا يخيفهم"، ولا على مشاعر الضحايا.
صحيح أن لهؤلاء الحق في ألا يلاحقوا المجرم أمام القضاء، سواء بأن يعفوا عن عمله العدواني عفوًا تامًّا، أو بأن يصطلحوا متراضين معه، وحينئذ لا يكون للجزاء الشرعي مجال. ولكن متى صارت الجريمة عامة، أعني متى اتصلت بعلم السلطة المختصة -فإن أصحاب الحق يكونون بذلك قد تنازلوا عن حقهم، وبذلك يصبح الجزاء في هذه الحالة، البتة، من شأن الصالح العام، ويجب أن يطبق بلا هوادة أو رأفة.
إن الصرامة في هذا الصدد لا تجعل مجالًا أمام أي تنازل أو حل وسط، ولا شك أننا نعرف قصة السرقة التي ارتكبتها امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف العربية، والتي أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبتها، وفي كلمات بلغت غاية القوة، مبدأ مساواة الجميع أمام القانون، فحين تشفع لديه في هذا لموضوع واحد من خيرة أصحابه، قام وخطب في الناس هذه الخطبة القصيرة:
"أيها الناس، إنما أضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"1.
وهذه حالة أخرى تزيدنا علمًا، ذلك أن صفوان بن أمية، حين أجاب دعوة النبي التي أمر به المسلمين المضطهدين خارج المدينة أن يجيئوا ليستقروا في هذه العاصمة الإسلامية، وقيل له: إنه إن لم يهاجر هلك، غادر مكة، مسقط رأسه، وجاء ليستقر بجوار قائده الروحي، وما كاد يصل حتى رغب
1 انظر: البخاري، كتاب الحدود، باب 12.
في أن يستريح في المسجد هنيهة، فنام في المسجد، وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده. فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"فهلا قبل أن تأتيني به"1.
وهكذا نجد أن العفو عن هذا النوع من الأخطاء غير صحيح إلا إذا كان في المجال الخاص، فمتى علمت السلطة العامة بالجريمة يصبح تطبيق الجزاء "الحد" أمرًا جازمًا لا رجعة فيه. وقد ورد بذلك نص آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله:"تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب"2.
فالسرقة -إذن- تحتم في الشريعة الإسلامية، قطع يد السارق، بنص القرآن:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3.
والحرابة عقوبتها، إما الموت، وإما تقطيع الأيدي والأرجل، وإما النفي:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 4.
والعقوبة المنصوص عليها في القرآن للزاني، هي مائة جلدة:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 5، ولكن يجب أن نضيف إلى هذه العقوبة، تبعًا للأحاديث:"تغريبًا عامًّا".
وعلى أية حال، فإن عقوبة الموت يجب أن تستبعد من هذا المجال، إذا
1 مالك بن أنس: الموطأ، كتاب الحدود، باب 9.
2 أبو داود: ذكره السيوطي في الجامع.
3 المائدة: 38.
4 المائدة: 33.
5 النور: 2.
ما التزمنا حرفية النص القرآني، الذي ذكرناه آنفًا، والذي لا يفرق بين المحصن وغير المحصن، أي: بين البكر والمتزوج، ولكن المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته قد أثبت هذا الفرق، وبمقتضاه يستحق الأشخاص المحصنون، الذين تثبت عليهم جريمة الزنا -عقوبة الموت كأشنع ما يكون.
ولنذكر أن تعبير القرآني -مع ذلك- يبدو أنه يفتح الباب لهذا الإجراء، على أنه غاية التطور التشريعي في هذا الموضوع، والواقع أن الجزاء المنصوص في القرآن، بالنسبة إلى النسوة الزانيات، كان في البداية الحبس:{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} 1. وبدلًا من أن يفرض هذه السبيل جاء النص النبوي اللاحق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم مبينًا لها: "خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة، ثم نفي سنة" 2.
وأخيرًا نجد أن القاذف يستحق تقريبًا نفس العقوبة، ما دام قد افترى على الآخرين كذبًا، واستحل لحمهم، فله ثمانون جلدة، بدلًا من مائة:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3.
أما فيما يتعلق بعقوبة تعاطي الخمر، فليس في القرآن، أو في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نص يذكرها، بيد أنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جرت العادة أن يجتمع نفر من المؤمنين حول ذلك الذي عاقر الخمر، فيسمونه ضرب العصا، والنعال
…
إلخ. وبعد وفاة الرسول جمع الخليفة الأول كبار الصحابة، واستشارهم في الأمر، ليتذكروا العدد التقريبي الذي كان يُضربه السكارى،
1 النساء: 15.
2 صحيح مسلم: كتاب الحدود، باب 3.
3 النور: 4.
فقدروه بأربعين "ضربة بزوج من النعال"، وفي عهد عمر رضي الله عنه استشارهم مرة أخرى، وانتهى الأمر إلى ثمانين جلدة، "مستبدلًا بكل ضربة نعل ضربة سوط"، وقد كان بين أعضاء المشورة علي كرم الله وجهه، فعللها على النحو التالي:"إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى عليه حد المفترين"1.
أما عبد الرحمن بن عوف، فقد كان يرى في هذا العدد أقل حل يمكن أن يتصور، من حيث كان أدنى عقوبة عرفها القرآن، وفي الحديث:"أخف الحدود ثمانون"2.
وبهذا الطريق المزدوج، العقلي والنقلي، بلغ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم نفس النتيجة، فأخذ قرارهم المشترك كقاعدة -قوة القانون.
ونحن نعترف الآن، بأنه -فيما عدا الإجراءات الاستثنائية التي اتبعت ضد "الحرابة"- نجد أن الضمير المعاصر قد أجفل فعلًا من هذه الإجراءات البالغة القسوة، والتي يقصد الإسلام بها أن يعالج بعض الاضطراب في السلوك الإنساني، وبعض جرائم القانون العام.
وفي هذا العصر الذي بلغت فيه رقة مشاعرنا درجة، نكره معها -أكثر فأكثر- أن نعرض المجرمين الشواذ للألم البدني -كيف نستطيع أن نتقبل هذه الآلام الرهيبة التي يراد أن يتعرض لها ضعاف الإرادة، عندما يزلون في حياتهم الخاصة أو العامة؟ كيف نتقبل ذلك دون أن نرتعد؟ وهكذا
1 موطأ مالك: كتاب الأشربة، باب 1، ولم ترد جملة "فأرى عليه حد المفترين" في الموطأ. "المعرب".
2 الترمذي: كتاب الحدود، باب 14.
ضربت مجتمعات إسلامية كثيرة -صفحًا عن تطبيق هذه الأشكال من العقوبات، منذ زمن طويل، بفعل صلاتها بالعالم الأوروبي.
لكنها مسألة أن نعرف، ما إذا كان لهذه الانفعالات السريعة أسس متينة في العقل، أو في المصلحة الواقعية للأفراد، أو الجماعة؟
ومع ذلك ماذا يعني تحرجنا أمام عقوبة؟ ألا يعني هذا -في حالة النزاع بين الشرع المنتهك، وحق الفرد الذي خالفه- أننا نخص حق هذا الفرد بأهمية كبرى، وفي الوقت نفسه نعطي للشرع قيمة أقل من قيمة الفرد؟ ولماذا لا نتحرج، حين نكون محتلين بعدو، خارجي أو داخلي، من أن نوجه إليه أقسى الضربات، وأن نعد له ردعًا رهيبًا، بما في ذلك حرمانه من الحياة؟
ذلك لأن غريزة المحافظة على النفس، التي تحتل من أنفسنا مكانة متميزة -تكبت حينئذ مشاعرنا العادية، المنطوية على المودة، والأخوة الإنسانية، تكبتها وتدفعها إلى وراء. ثم إن رد فعلنا تجاه جزاء معين يقيس -بالضبط- الفعل الذي تمارسه علينا فكرة الواجب ذي الجزاء، وهكذا فإن الضمير العام الذي لا يتحرج قط من أن يضرب انحراف أعضائه بقسوة، لا يدل من ذلك الجانب على عدم إحساس بالألم الإنساني، بقدر ما يدل على إجلال عميق، واحترام ديني "بحرفية هذه الكلمة" للقانون المنهار. ذلك هو المقياس الذي يجب أن نقيس به المسافة التي تفصل المفهوم الأخلاقي المعاصر، عن مفهوم المجتمع الإسلامي الأول.
فإلى أي مدى كان هذا المجتمع يشعر بعمق صفة القداسة في الإخلاص الزوجي!! وبأي استهجان كان يقوم في وجه خيانة الزوجين، أحدهما بالنسبة للآخر؟! وبأي احتقار كان ينظر إلى مهانة اللص، وخبال المخمور، ودناءة النمام؟ َ!
الحق أن تلكم الأمة لم تكن ينقصها العطف والرحمة الإنسانية، ولكنها كان يجب أن تسكت هذه الرقة المصطنعة، وتتجاوزها بروح النظام والطاعة، وصدق الله:{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 1.
أما فيما يتعلق باحترام شخص الإنسان، وحق الفرد في الأمن، فمن البدهي أنهما ما كانا لينشدهما إلا أولئك الذين يعرفون كيف يحافظون على كرامة الإنسان. وليس يقتصر أثر الزلل على أنه يفقد الفرد قيمته فحسب، بل إنه يجعله عرضة للتجريح، وهو لا يلوم إلا نفسه إذا أصابه هذا التجريح؛ لأنه هو نفسه الذي مزق أستاره الواقية.
واستمعوا إلى هذا التأمل العميق لشاعر عربي:
يد بخمس مئين عسجد وديت
…
ما بالها قطعت في ربع دينار
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها
…
ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري
على أننا ينبغي أن نذكر أن هذه القسوة ضد اللصوص ليست سوى قسوة ظاهرة، وفي نطاق النظرية، أما من الناحية العملية، فكلما كانت العقوبة أشد تنكيلًا قل غالبًا تطبيقها، فعظم الجزاء يجعل مخالفته أدنى إغراء وأقل إغواء، فلا يجد النظام أمامه عقبات كبيرة يتعين عليه اجتيازها كيما يسيطر سيطرة كاملة.
وما علينا لكي نقتنع بهذا إلا أن نرجع إلى السجلات القضائية في البلاد التي تعاقب على السرقة بالغرامة، والتعويض، أو الحبس، وفي بلد آخر كالعربية السعودية، حيث ما زال الجزاء القرآني معمولًا به، هنالك سوف نجد أعدادًا لا حصر لها من الرجال الذين لا يرجى صلاحهم، وهنا يكاد
1 النور: 2.
الناس يكونون معصومين. ولربما قيل: إنه فرق في الطبيعة، ولقد زرت بنفسي الحجاز؛ في أوائل عام 1936م فأذهلني أني حيثما وجهت وجدت تباينًا كاملًا بين بلادنا وهذا البلد، فإن السرقة لم تختفي من المدن فحسب، بل إنها لم تلحظ حتى في الجبل، والصحراء، بل لم يشك في حدوثها، أو يظن. حتى إن حقيبة ضائعة ملقاة على الطريق غير المأهولة، والتي لا يمكن أن تصبح مأهولة، يحتمل أن تبقى في مكانها إلى ما لا نهاية، دون أن يجرؤ امرؤ على لمسها، ولو بدافع الفضول. ومع ذلك فكل شيء هنالك كان يغري بها: الفقر المدقع بين سكان الجبال، وثراء السياح والحجاج، وندرة وسائل المواصلات، وعدم وجود الشرطة، تقريبًا، على مسافة بعيدة. ولكن كان حسب ابن سعود، في مستهل ارتقائه السلطة، بضعة أمثلة واعظة، وإن كانت عنيفة، حتى يقضي مرة واحدة، وفي كل مكان على كل محاولة للسرقة، والاختلاس في مملكته الواسعة، وكأنما كانت معجزة.
ويبقى بعد ذلك أنه على الرغم من فداحة الجرم الذي اقترفه الزاني، فإن الطريقة التي قصدت السُّنة أن تعاقبه بها لا تفتأ تروعنا، وهي رجم كائن إنساني وكأنه كلب مسعور!!
ومع ذلك، إن بضع ملاحظات هنا من شأنها أن تخفف هذه الصفة التي تصدمنا. ذلك أن القرآن من أول وهلة قد أحاط تشريع هتك العرض بعامة بعدة احتياطات تجعل إثبات الجريمة أمرًا في غاية العسر، إن لم يكن مستحيلًا من الناحية العملية، فالمبلغ الذي لا يعتمد في تبليغه على شهادة أربعة رجال عدول صادقين، يشهدون، لا على معاشرة امرأة لرجل أجنبي في حجرة واحدة فحسب، بل على وصف الواقع المحدد -هذا المبلغ ما لم يكن كذلك يعاقب هو نفسه بثمانين جلدة، بتهمة البلاغ الكاذب.
ثم ترد منذئذ شهادته أمام القضاء، والله يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1.
كذلك لسنا نجد في السُّنة مثالًا واحدًا قامت فيه الإدانة بالزنا على الشهادة، بل إن الحكم صدر على أساس من الإقرار التلقائي للمذنب نفسه.
وحتى هذا الإقرار التلقائي -وهو النقطة الثانية- لا يكفي في ذاته لكي يفرض إدانة، بل يجب التأكد من أن المعترف يدرك تمامًا ما يقول "أعني أن الأمر بالنسبة إليه لا يعني مطلقًا تعبيرًا مجازيًّا. زنا بالقلب، أو بالعين
…
إلخ، أو فعلًا زوجيًّا محرمًا في لحظة معينة، كفترة الصوم مثلًا
…
" ويجب أيضًا أن يصر على هذا الإقرار حتى النهاية، وألا يكذبه مطلقًا بإنكار لاحق، صريح أو ضمني.
وهناك أيضًا نجد أن كثير من الفقهاء الذين جعلوا من حالة "ماعز" قاعدة عامة، لا يرتبون على هذا الإقرار أثرًا إلا بشرط أن يتكرر أربع مرات، في موضع الشهود الأربعة2. وأيًّا ما كان أمر هذا التفصيل، فإن قاعدة في الإجراءات العامة تظل دون مراء مسلمًا بها، هي: أن براءة كل فرد هي الأساس الأول.
والواقع أن التشريع الإسلامي يجعل من حياة الإنسان، وبدنه، وماله، وعرضه -أشياء مقدسة، أو حرمات، وهو ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"إن دماءكم وأموالكم، وأعراضكم -وفي رواية: وأبشاركم- بينكم حرام كحرمة يومكم هذا"3.
1 النور: 4.
2 انظر صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب 14.
3 البخاري: كتاب العلم، باب 9.
وإذن فلسنا نستطيع أن نخرج من هذا اليقين الأولي إلا بيقين عكسي، أي: إنه يجب أن نستنفد كل الفروض المعقولة لمصلحة المتهم، وألا ندينه هكذا اعتباطًا، على حين يمكن أن تثبت براءته بسبب صحيح1.
وإليك الملاحظة الثالثة والأخيرة، التي تمس أساس المشكلة ذاته، فنحن إذا أكدنا أن التشريع الإسلامي لا يسعى إلى كشف الجرائم الخاصة، وأنه لا يلزم أحدًا، ولا يدعوه أن يعترف بها -لم يكن هذا القول كافيًا، فالحقيقة هي أن المصدرين الرئيسين للتشريع الإسلامي لا يكتفيان هنا بمجرد الامتناع، وإنما يتخذان موقفًا واضحًا وصريحًا. فالقرآن يحرم علينا صراحة أن نستطلع أسرار إخواننا، فقال سبحانه وتعالى:{وَلا تَجَسَّسُوا} 2، وهكذا يقطع نصف الطريق على الواشين. وليس يخضع للقضاء سوى الرذيلة التي تتفشى، وتعرض نفسها، وتتحدى، أما حالة الإنسان الذي يستتر، وترتعد فرائصه حين يخضع لأهوائه، وهو الواقع الذي لا ينكشف لنا، لا بذاته، ولا بوساطة صاحبه فإنه سوف يكون من اختصاص محكمة أخرى غير محكمة البشر، والطريقة التي سوف يحاكم بها تتجاوز معرفتنا الراهنة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" 3، وحتى لو أنني فاجأت أحدًا من
1 ونقول "صحيح"؛ لأن أي افتراض وهمي، أو معارض بالوقائع لن يقوى -كما بين ابن حزم في كتابه "المحلى" جـ11 ص243- على أن يفرض إدانة، أو يؤسس براءة، وإذن فمن الواجب ألا نحمل القولة القانونية المشهورة:"ادرءوا الحدود بالشبهات" -على معنى شامل غير مسلم به، وهي قولة معدودة غالبًا على أنها حديث، مع أن أصلها في الواقع لا يرقى إلى أكثر من الجيل الثاني من المسلمين، ولكن حين قيدت القولة على هذا النحو وفسرت كما هو مطلوب، أصبح ممكنًا قبولها، بل قبلت فعلًا من الجميع.
ومع ذلك يروي الترمذي قولة أخرى شبيهة بهذه، ويرفعها إلى النبي، صلى الله عليه وسلم:"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم".
2 الحجرات: 12.
3 من حديث في البخاري، كتاب الإيمان، باب 10، وهو نص مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة من أصحابه منهم عبادة بن الصامت. "المعرب".
الناس -دون قصد مني- وكان يحاول أن يسرقني، أو يرتكب خطأ أخلاقيًّا شخصيًّا، بل لو قبضت عليه متلبسًا بجرمه، فلست ملزمًا بأن أقدمه للعدالة، وقد كان من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أسلم، يقال له: هزال: "يا هزال، لو سترته بردائك لكان خيرًا لك" 1 -أي: إننا في تقديمنا إياه إلى العدالة يجب أن نكون -في غالب الأمر- على بصيرة بأمره، ومراعاة لجميع الظروف التي أقدم فيها على فعلته، فعلى حين أن من الأفضل لخير الناس جميعًا أن يسلم محترف الجريمة الشرير إلى السلطة الشرعية، نجد أن المسكين الذي ربما أخطأ صدفة، وبتأثير الضعف -قد يستحق أن يشمله عفونا2.
ومن ناحية أخرى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستهجن ذلك الميل الخطير لدى بعض الناس، الذين يقعون في الحرام خفية، ثم إذا بهم يثرثرون بما فعلوا، وينشرون قصة مغامرتهم هذه، فرحين غير مبالين، يقول الرسول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم
1 الموطأ، كتاب الحدود، باب 1.
2 قال ابن حزم في المحلى 11/ 185: "فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح بالبراهين التي قد أوردنا قبل، أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام، وصحته عنده، فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح؛ لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد، ورفعه أيضًا مباح، إذ لم يمنع من ذلك نص، ولا إجماع، فإذ كلا الأمرين مباح فالأحب إلينا، دون أن يفتى به، أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورًا، فإن آذى صاحبه وجاهر فرفعه أحب إلينا"، وغرض الظاهرية من هذا الموقف أن يرجح دائمًا الجانب الذي يحقق مصلحة الجماعة والفرد معًا، فإن تعارضت المصلحتان قدمت مصلحة الجماعة وأدب الفرد تأديبًا بقدر ما يستحق بانحرافه، وفي ذلك أيضًا تربية لمن تقع له عورة مسلم، أن يسترها، إيثارًا وترفعًا عن التعرض لأعراض الناس، حتى من يقعون تحت طائلة القانون. فأين هذا ممن يلغون في أعراض الأبرياء، ومن حرفتهم تلفيق التهم للعباد ونشر الأكاذيب لتدمير أخلاقيات المجتمع، وهدم سمعة الأفراد؟! "المعرب".
يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" 1.
ما الفائدة التي يجنيها امرؤ في الواقع من أن يجعل الآخرين شهودًا على سقوطه؟ ولماذا يضم إلى فساده ومجونه وقاحة الاستعلان به، بدلًا من أن يستره حياء، كما يستر عورته؟ وأي جنون أن يجلب امرؤ على نفسه احتقار الناس، فضلًا عن احتقار الله له، واحتقار ضميره ذاته؟ وأي جنون أن يضيف في النهاية إلى شقائه الأخلاقي شرًّا ماديًّا على جانب من القساوة كبير؟
ومع ذلك فهناك من يفعلون ذلك قصدًا، وهم على بصيرة من الأمر، هناك من يجيئون يطلبون عقابهم، كيما يشبعوا حاجة ظاهرة إلى التوبة، ويتحملون في ثبات أشد الآلام فظاعة، دون أن يجدوا في ذلك شقاء، بل إنهم يستشعرون فيه سعادة عميقة وشافية، ويرونه وسيلة إلى أن يتخلصوا نهائيًّا من دنسهم الأخلاقي.
إننا نتخذ تجاه هؤلاء -على العكس- موقفًا فيه الكثير من التعاطف معهم، ونستشعر إعجابًا عميقًا بلمحتهم البطولية.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من أنه تباطأ -ابتداء- في تقبل اعتراف ماعز، لم يكتف -انتهاء- بالنزول على إلحاحه، ولكنه أكبر شجاعته، وعرف لرجوعه إلى الله قيمته العليا، فقال، صلى الله عليه وسلم:"لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتها" 2، وأثنى كذلك على ما قاسته المرأة
1 انظر: البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه.
2 انظر: صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب 51.
الجهينية فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله؟ "1.
وإذن فليس لنا أن نلوم الشرع، بل إنه الفرد، في نهاية الأمر، الذي ربما يعد قاسيًا، أو متهاونًا في حق نفسه.
فإذا ما نحينا جانبًا تلك الجرائم والجنايات التي أتينا على ذكرها فإن ما تبقى من مخالفات للقانون الأخلاقي، أو القانون الاجتماعي يستوجب عقوبة تأديبية متنوعة، ولكن الشريعة الإسلامية لم تقدم لهذه العقوبات التأديبية جدولًا يختلف باختلافها، ولم تحرص على تقديمه.
ولا ريب أن عقوبتي الموت والقطع -من حيث الشعور العام- مستبعدتان من الجزاء التأديبي، فالأولى خاصة بالقتلة، والزناة، والثانية خاصة بالسرقة وقطاع الطرق، بيد أنه فيما خلا هذا التحديد السلبي ليس هناك أي تحديد إيجابي للإجراء الذي يتخذ بالنسبة إلى كل حالة نوعية ولا بالنسبة إلى كل حالة خاصة.
فعلى حين أنه بالنسبة إلى الجزاء المحدد "أو إقامة الحدود" تكون مهمة العدالة محددة تحديدًا دقيقًا، بإثبات الوقائع، التي متى اتضحت تستدعي بصورة ما -عقوباتها تلقائيًّا، فإن اهتمام المحكمة هنا يتجه بعد ذلك إلى مرحلة ثانية ليست بأقل أهمية: هي اختيار العقوبة التي ينبغي تطبيقها، وفي هذا الاختيار سوف يتحرك ذكاء القاضي وفطنته -في الظاهر- حركة بالغة الحرية، ولكن هذه الحرية في الواقع ليست سوى مرادف للمسئولية الثقيلة. إذ لما كان هنالك اعتبارات مختلفة تجب مراعاتها، وكان على عنصر النسبية أن يتدخل فإن القاضي سوي يؤدي هنا دور الطبيب المعالج تمامًا، فكما أن الطبيب يجب أن يرعى مزاج المريض، والخصائص النفسية الكيمائية
1 المرجع السابق.