المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تحدده إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية - دستور الأخلاق في القرآن

[محمد بن عبد الله دراز]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: تحدده إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية

تحدده إرادة الخضوع للقانون، وأن أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية إذا لم يكن قد خالف القانون عن عمد. ولكن شتان بين هذا وبين أن نقول في حالة العكس: إن أكثر الأعمال ضلالًا مع النية الحسنة يسترد كل قيمته، ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي. فإذا كانت النية الطيبة تعذر صاحبها، فإن ذلك لا يستتبع أن تنزل منزلة مبدأ مطلق للقيمة الأخلاقية وعلى سبيل الإيجاز، ولكي نعطي لتفكيرنا شكلًا أكثر وضوحًا وتحديدًا، نقول: إن النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسئولية، ولكنها ليست بأي حال شرطًا كافيًا لهذه أو تلك.

وهذه هي رؤيتنا لدور النية في الأخلاق الإسلامية، والنص المشهور الذي يجعل منها محكًّا للأخلاقية لا يتيح لها أن تستوعب وتمتص قيمة العمل كلها، بل يجعلها شرطًا لصحة هذا العمل.

ص: 180

د-‌

‌ الحرية:

عندما يكون المرء قد عرف الشريعة، وعمل بإرادة، وعلى بصيرة من الأمر فليس معنى ذلك أنه يكون قد جمع كل شروط المسئولية، فأنا أعرف جيدًا أن هذا العمل محرم علي، ولست أخطئ طبيعته المادية، أو طبيعته الأخلاقية، وحين يتحتم على إرادتي أن تتدخل فإنها تتناوله من نفس الجانب الذي صار به محرمًا. فهو إذن عمل شعوري منبعث عن نية مزدوجة. بيد أنه إذا لم تكن إرادتي وحدها هي التي تحدثه، وإذا لم يكن مجال اختياري الحر خاليًا، كصفحة بيضاء، وكان مشغولًا بقوى أخرى هي التي حددت اختياري في اتجاه معين دون أي اتجاه آخر، وإذا لم يكن لإرادتي -وهي تواجه هذا التداخل غير أن تتبع تيارًا سبق أن خط لها- فكيف أنسب إلى نفسي عملًا كهذا، لم تسهم فيه شخصيتي إلا في جانب معين؟

ص: 180

ألا يجب علينا -بالإضافة إلى ما قررناه من أهمية ملكات "المعرفة" و"الإرادة" أن نبحث أهمية "قدرتنا" وأن نقرر "أن فاعلية جهدنا"، أي:"حريتنا"، شرط "رابع" في المسئولية؟

إن مبدأ التناسب بين المسئولية والحرية تمتد جذوره بعمق في الضمير الإنساني، بحيث لا يمكن تجاهله دون أن يبدو في موقفنا شيء من الإجحاف فإلى أي حد إذن -إذا أخذنا الإنسان كما هو، يمكن أن نتحدث عن مسئولية مشروعة؟

إنا لنعلم أن مشكلة الحرية قد أثارت منذ الأزل نظريتين متعارضتين إلى أقصى حد، على الصعيد المجرد على الأقل: الحتمية، واللاحتمية.

فإذا أصغينا إلى ما يقوله بعض المفكرين فلن يكون مجال مطلقًا لإرادة إنسانية حرة، بالمعنى الصحيح، ولقد كتب شوبنهور schopenhouer يقول:"هناك أناس طيبون، وآخرون خبثاء، وذلك مثلما يوجد حملان، ونمور. فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية، وعلم الأخلاق يصف أخلاق الناس، مثلما يصف التاريخ الطبيعي خصائص الحيوانات".

ويذهب سبينوزا spinoza إلى حد القول بأن الأعمال الإنسانية، شأن جميع ظواهر الكون، تنتج، وتستنبط بنفس الضرورة المنطقية التي يستنتج بها من جوهر المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين.

وهذا "كانت" بطل الحرية، الذي جعل منها المسلمة الأساسية للحاسة الأخلاقية، يعلمنا نوعًا من الحتمية الإنسانية، التي لا يحول طابعها المطلق والميتافيزيقي، من أن تتعلق بالصرامة العلمية، إذ يؤكد أننا لو كنا نعرف جميع الظروف والسوابق، فإن أعمال الإنسان يمكن التنبؤ بها بنفس الدقة.

ص: 181

التي يحدد بها كسوف الشمس. وقد كان عليه، لكي ينقذ الحرية، ومعها المسئولية -أن يخرجهما كلية من مجال التجربة، ومن عالم الظواهر، ليحبسهما في عالم مجهول، يراه غير قابل للمعرفة، وهو ما يتساوى عمليًّا مع إنكار واقعهما الراهن، حتى لا يبقى منه سوى تذكار دارس، وامل ملتبس.

ولم يتردد هوم hume في أن يقول هذا بألفاظ مباشرة: "إن شعورنا بالحرية ليس إلا وهمًا".

بيد أن مسئوليتنا عن كل عمل مقصود -على ما يعتقد أنصار الاختيار الحر- هي أمر قطعي، وفي رأيهم: أن الإرادة والحرية مترادفان1.

وعلى أية حال، فإن هاتين الفكرتين تغطيان على وجه التحديد نفس المجال. ولا يتعلق الأمر، بطبيعة الحال، أن ننسب إلى الإنسان القدرة الكلية على تنفيذ قراراته بحرية، برغم جميع العقبات المادية، وضد قوانين الطبيعة الصارمة. إذ يجب أن نكون قد فقدنا كل تفكير متزن حين نؤكد أننا نستطيع دائمًا أن نفعل ما نريد. وذلك بالرغم من حقيقة ما يقال -في الظروف العادية للحياة العملية، ومع تنحية الأعمال التي تحظرها قوة قاهرة-: إن "الإرادة هي القدرة"، بيد أن المعنى الحقيقي للفظ، وهو الذي يريد المدافعون عن الاختيار الحر أن يثبتوه شرطًا متحققًا للمسئولية -ليس هو "حرية التنفيذ""التي يدركون نسبيتها وارتباطها بألف ظرف خارجي"، بقدر ما هو "حرية التقرير"، التي يعلنون أنها لا تنفصم عن كل ضمير إنساني.

ولا أحد يضارع مطلقًا "ديكارت"، الذي مد حدود نشاطنا الحر إلى أبعد مدى، لا في مجال العمل فحسب، بل في مجال المعرفة أيضًا. فإرادتنا هي التي تحكم أو تمتنع، هي التي تثبت أو تنكر. وتتجلى هذه الحرية أولًا

1 قال ديكارت في "الإجابات على الاعتراضات الثالثة": "إن الإرادة والحرية ليستا سوى شيء واحد".

ص: 182

في الشك المنهجي، أي: في القدرة التي نملكها على الرفض الإرادي لجميع أحكامنا المسبقة، وجميع معارفنا السابقة، الناتجة من حواسنا، أو من استخلاص قياسنا، سواء أكان هذا الشك لكي نصدر على إثره -حكمًا بصدقها أو كذبها النهائي، أم لكي نعلق حكمنا عليها تعليقًا محضًا مجردًا1. لكن هذا النشاط يبدو بشكل موضوعي في أحكامنا العادية، وهذه الأحكام لا يرفضها إدراكنا، بل قد تسبق هذا الإدراك وتتجاوزه، وكما يحدث في جميع الحالات التي نرتكب فيها خطأ نظريًّا، لا يكون هذا الخطأ سوى حكم إرادي، أصدرناه على الأشياء التي نعتقد أننا ندركها، على حين أننا لا ندركها في الواقع2. وحتى عندما نلجأ إلى البداهة فإننا نفعل ذلك بحرية أيضًا؛ لأننا كنا نستطيع أن نقاومها، ولا نقرها، "بشرط وحيد هو أن نرى من الخير أن نؤكد بهذا حقيقة اختيارنا الكامل"3.

ولنقف عند المشكلة الأخلاقية. أنحن في سعينا إلى الخير، والشر مصدر أحكامنا، أنحن علتها؟ أم أنها الثمرة المحتومة لطبيعتنا الثابتة، أو النتيجة الضرورية لحالات ضميرنا السابقة: الأفكار أو العواطف؟

أولع الحتميون بأن يقدموا لنا الطابع الفطري في إطار صارم إلى أقصى حد، لا يحتوي أية ليونة، أو مرونة، فالميول الطيبة أو الخبيثة التي نجتلبها معنا عند الولادة -هي فطرتنا، فكيف نكون مسئولين عن فطرة ليست صنعتنا، وهي على كل حال ليست صنعتنا الشعورية4؟

بيد أنهم لم يبرهنوا أولًا على هذا الطابع الثابت والمقرر لغرائزنا، ويبدو

1 انظر descartes. Premiere meditation

2 المرجع السابق: reponses aux 5 es objections

3 المرجع السابق: lettres au pere mersenne. lettre 47

4 ليفي بريل la responsabilite، chap. III & II

ص: 183

أن علم النفس المقارن يثبت على العكس أن الغرائز الإنسانية أقل صرامة، وأكثر قابلية للتغيير والتربية، يؤثر بعضها في بعض أكثر من غريزة الحيوان بسبب عددها الكبير، وتعقدها البالغ.

وإذا كان إنسان قد باشر -منذ الأول- سلطانه على الصفات الطبيعية للحيوانات غير المستأنسة، التي أصبحت بالترويض طيعة مستأنسة، بعد أن كانت متوحشة متمردة، فكيف لا يكون لدينا سلطان مباشر أو غير مباشر على طباعنا الخاصة، كيما نغيرها إلى خير أو شر؟ ألا تنطوي أعماق هذا الحكم المتشائم على مقدمة متسرعة، ودليل بليد؟ فقد اعتقد العقلاء، في كل زمان -على عكس ذلك- في فاعلية الجهد الذي نستطيع أن نمارسه على ذواتنا، ويبدو أيضًا أن التجربة تؤكد إمكان التحويل، المتفاوت في درجة عمقه.

ويبدو كذلك أن القرآن يعترف من جانبه بهذه القدرة المزدوجة، التي أوتيها الإنسان، على أن يطهر كيانه الجواني ويحسنه، أو يعميه ويفسده، يقول الحق سبحانه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 1.

ولنكن أقل طموحًا، ولنقرر -في الحقيقة- أن بعض عناصر طبعنا الأخلاقي تعصى على كل تطور أو تقدم، بيد أن هذا الجزء، ما كان له بداهة، أن يكون موضوع التكليف، أو المسئولية. فقد يكون المرء -بطبيعته- حزينًا أو فرحًا، متشائمًا أو متفائلًا، بليدًا أو حساسًا، دون أن يكون -لهذا- لاأخلاقيًّا. والإنسان ليس مسئولًا عن شذوذه النفساني، أكثر من مسئولية العليل عن عيوبه الجسمية.

1 الشمس 7-10.

ص: 184

وأخيرًا، وفي نطاق الفرض القائل بأن جزءًا من طبيعتنا يظل -مطلقًا- عصيًّا على كل تعديل -يجب أن نفرق بين المطالب التي توحي بها ميولنا الفطرية، والتي لا نملك شيئًا لمقاومتها، وبين علاقات هذه المطالب بإرادتنا.

ولسنا هنا نزعم أن الإرادة نظام منعزل، يعمل مستقلًّا عن بقية كياننا، فمع أنها تجد في ذاتها القوة الكافية، أو كما يقال في الفلسفة المدرسية "العلة الفاعلة" لأفعالها، فإنها بحاجة إلى أن تبحث خارجها عن دوافعها، وعلتها الغائية، التي لن تجد منبعها إلا في الجانب الأدنى، أو في الجانب الأعلى: الغريزة، أو العقل. ولكل عمل شعوري وإرادي دائمًا علة، وتتحدد ماهية هذه العلة تبعًا لما إذا كان الإنسان يسعى إلى الخير الحقيقي، أو المنفعة، أو المتعة، فيقول: لأن ذلك أفضل، أو أنفع، أو لأنه يمتعني أكثر. فالمستبد الذي يتخذ على وجه التعسف قراراته، دون أن يتردد أو يستشير، ثم يقول:"أريد لأني أريد" -هذا المستبد يخضع في الواقع لنوع من السبب الخفي، لا يعدو أن يكون الحاجة إلى أن يظهر استقلاله. وعندما يتردد المرء في لحظة معينة بين أمرين يريد أن يعزم على أحدهما، دون أن يجد مطلقًا أدنى سبب يفرضه، بل ولا أقل سمة من سمات التفضيل، ثم هو يعزم أخيرًا على أحدهما، لمجرد إلحاح ضرورة حسم الموقف، ولأنه كان لابد أن ينتهي منه -فذلك لأنه افترض فيما وقع عليه اختياره أسبابًا تتساوى على الأقل مع أسباب ما عدل عنه.

إن مشكلة تحديد الإرادة بوساطة دوافع أو علل أية كانت -قد أثارت في الفلسفة الإسلامية ثلاث تيارات مختلفة، هي التي نجدها لدى الأخلاقيين الأوربيين، وهي التي تستنفد كل الحلول الممكنة.

ففي المقام الأول توجد نظرية جمهور أهل السنة، ومعهم قليل من المعتزلة، ويرى هؤلاء المفكرون أنه لكي يمكن اختيار أحد النقيضين اختيارًا نهائيًّا،

ص: 185

وتحقيقه، يجب مطلقًا أن تتوفر فيه بعض الشروط الخاصة، وأن تكون له علة تقتضيه اقتضاء تامًّا، يجعل من المستحيل أن يختار النقيض، وإذا عدم هذا ظل الجانب المختار في حالة الإمكان، دون أن يبلغ مطلقًا درجة الفعل1.

وتأتي بعد ذلك نظرية الخوارزمي والزمخشري، وقد اكتفيا ببعض الأسباب المرجحة، بدلًا من اشتراط ضرورة علة موجبة2.

ثم تأتي أخيرًا نظرية أكثرية المعتزلة، وهم يرون أن الاختيار الإرادي لا يتطلب وجود شيء سوى ذاته، وفي رأيهم أن الفاعل المختار لا يمكن تحديده أو تميزه عن الموجب بالذات إلا بقدرته المزدوجة على الفعل أو الترك، بحسب إرادته وحدها، وبنفس الإمكان، دون أن يخضع أو يستمال ببعض الأمور الخارجة عن اندفاعه الخاص. ومن المألوف في هذا الصدد مثال الإنسان الذي يواجه عدوه، فيأخذ في الهرب، ويجد نفسه في مفترق طرق، فيختار أي الطريقين المفتوحين أمامه، ولقد تردد الرازي وبعض الأشاعرة بين النظريتين المتطرفتين3.

1 انظر: منهاج السنة، لابن تيمية، جـ1 ص110.

2 المرجع السابق 2/ 5، قال ابن تيمية:"وهو باطل، فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنًا فيحتاج إلى مرجح، فما ثم إلا واجب أو ممكن، والممكن يقبل الوجود والعدم". "المعرب".

3 منهاج السنة 1/ 111، وقد صور ابن تيمية تردد هؤلاء على هذا النحو، قال: كانوا "إذا ناظروا المعتزلة في مسائل القدر أبطلوا هذا الأصل، وبينوا أن الفعل يجب وجوده عند وجود المرجح التام، وأنه يمتنع فعله بدون المرجح التام، وينصرون أن القادر المختار لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بالمرجح التام، وإذا ناظروا الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وإثبات الفاعل المختار. وإبطال قولهم بالموجب بالذات سلكوا مسلك المعتزلة والجهمية في القول بأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، وعامة الذين سلكوا مسلك أبي عبد الله بن الخطيب وأمثاله تجدهم يتناقضون هذا التناقض". "المعرب".

ص: 186

ولقد سبق أن قررنا أننا لا نميل إلى الفكرة الشائعة لدى المعتزلة، فهذا النوع من الاختيار المتعسف يجب في كل حال أن يستبعد في موضوعنا؛ لا لأنه أدنى درجات الحرية فحسب، على ما قال ديكارت، ولكن لأننا نرى أن الإرادة اللامبالية هي إرادة ناقصة، فهي ليست سوى نصف إرادة، والنصف الآخر آلية وصدفة. فأنا عندما أقف في الصباح أمام أزياء كثيرة، كلها لائق، ومناسب للموسم -أجدني في لحظة اختيار محير، ولكني تحت ضغط ساعة الرحيل أعزم على اختيار واحد، أيًّا كان، إن إرادتي لم تتصور هذا الزي إلا مع غض النظر عن خصائصه، ناظرة إليه على أنه نموذج لفكرة عامة لم تحرم منها النماذج الأخرى. إن كل ما أحرص عليه هو أن آخذ زينتي باحتشام قبل الخروج، وهذا الجانب من عملي هو بكل تأكيد إرادي، وله علته. ولكني من الناحية التفصيلية عندما أقول:"سواء على هذا أو ذاك" أرفع يدي تلقائيًّا، ولا يكون موضوع الاختيار هو ما أضعه أمامي.

ويختلف الأمر عن ذلك في مجال الأخلاق، ففي هذا المجال تكون الإرادة دائمًا مانعة. فهي سلبية وإيجابية في آن واحد. إذ إنني حين أرغب في هذا لا أرغب في ذاك، وهو ما يقطع أساسًا بافتراض باعث، أيًّا كان:"منفعة" أو "واجب". والأمر كذلك في كل اختيار إرادي بالمعنى الصحيح. ولقد فطرت النفس على ألا تتم أي اختيار دون أن تجد فيه تناسبًا معينًا بين الإجراء الذي تتخذه، والهدف الذي تبلغه، "فالإرادة" بحسب تعريفها، "هي السعي وراء الغاية".

إن اعتبار الاستقلال خاصة مميزة للإرادة الإنسانية ليس إذن تخصيصًا لها بالقدرة على أن تمارس ذاتها دون دافع، أو غاية، وعلى أن تقطع صلاتها بجميع قوى الطبيعة الأخرى؛ بل إن هذا الاستقلال لا يصح أن يتخذ ذريعة لقطع منابع هذه القوى، أو إسكات الأصوات التي تحفز الإرادة، وإنما يعنينا فقط أن نثبت أن الصلة بين إرادتنا الخاصة ومزاجنا أو الطريقة التي تعودناها

ص: 187

في التفكير أو الشعور -لا تنبثق مطلقًا من ضرورة حقيقية، مهما يكن ما نقصد بكلمة "ضروري".

فأنا لست أميل إلى هذا الفريق. أو ذاك بفعل الضرورة المنطقية، على طريقة سبينوزا "علاقة اتحاد أو التحام" مع دام الحل العكسي لا يستلزم تناقضًا.

ولست أفعل ذلك أيضًا خضوعًا لضرورة تجريبية "علاقة سببية أو تسلسل أو علاقة تضامن وثيق لا ينفصم".

فليس حقًّا، على الرغم مما يقوله سقراط وأفلاطون، أن العلم بالخير الحقيقي يحتم إرادة فعل الخير؛ لأن من الممكن فعل الشر، بسبب الضعف، مثلما يمكن تمامًا فعله بسبب الجهل. وليس حقًّا كذلك، مهما يقل ليبنز: إن الخير الذي أدركه بذاتي يمنعني مطلقًا من أن أفضل خيرًا أتخيله فحسب، فقد أفعل ما أكره، وأحرم نفسي مما أحب، وذلك مثلما أقبل مشروبًا مرًّا على أمل بعيد في صحة أفضل.

ويصف لنا ستيوات ميل s. mill، على أساس من العنصر المشترك بين رأيي أفلاطون وليبنز، يصف لنا حدث الإرادة، كسائر أحداث الضمير الراهنة، على أنها محتومة بوساطة الحالات السابقة، وعلى طريقة كرة البليارد، التي تتحرك عندما تتلقى صدمة الكرة الأخرى، في الاتجاه الذي تدفعها إليه. فذاتنا قد تشهد هذا المنظر بطريقة سلبية، أو بالأحرى: هذه الذات لا توجد من وجود خاص، إذ ليس في هذا العالم سوى مجموعة من الظواهر يسود بينها قانون الأقوى.

ولكن إذا لم يكن حدث الإرادة سوى نتيجة طبيعية للأحداث السابقة، فيجب أن يكون ممكنًا تحسبه والتنبؤ به، لا أقول: بالنسبة إلى المشاهد

ص: 188

اليقظ، بل بالنسبة إلى الشخص ذاته، بنفس اليقين الذي نتنبأ به بظاهرة طبيعية.

غير أن هذا التنبؤ لا يكذبه لدينا فقط واقع تقديرنا للقرار الواجب اتخاذه، وهو ما يبدو عديم الجدوى إذا ظهر أمامنا اتجاه متوقع الحدوث، بل إن القرآن يعلن إلينا أن هذا التنبؤ مستحيل على الفكر الإنساني:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 1.

ولا ريب أن من الممكن أن نخاطر بفرض حول احتمال حدوث حدث ما، وأن نصوغ حكمًا بالاحتمال على أساس سلوكنا السابق، غير أن هذا الحكم سوف يكون حظ إثباته بوساطة الأحداث بقدر ما تستهوينا عاداتنا، ولا يكون قط بقدر ما نلجأ إلى الاستخدام المتنوع لحريتنا.

هذا الإدراك الميكانيكي للحالات النفسية، تعارضه معارضة قوية نظرية الحرية عند برجسون. فأفعال الضمير -كما يقول برجسون- لا توجد متفاصلة، ولا تبقى برانية، بعضها بالنسبة إلى بعض. فمتى ما بلغت عمقًا معينًا تتداخل، وتمتزج، وكل منها يعكس النفس بأكملها. فمن المستحيل إذن أن نطبق عليها مبدأ السببية، الذي يفترض وجود حدين متميزين، هما السبب والنتيجة.

ومن ناحية أخرى: هذه الأفعال الجوانية لا تظل مماثلة لذواتها، فمجرد بقائها وحده يعني أنها تتغير، وتتطور كأي كائن حي، ولا ترجع بعد إلى وضعها الأول. وعلى هذا النحو فإن نفس السبب، إن وجد سبب، لا يمكن أن يظهر مرات عديدة، وإذا كان يعطي نتيجته مرة واحدة، فلن يعيدها بعد ذلك أبدًا.

بيد أن لنا ملاحظة، هي أن هذه النظرية لم تستطع تخليص إراداتنا من

لقمان: الآية الأخيرة.

ص: 189

ربقة السببية الميكانيكية إلا بشرط إخضاعها لسببية ديناميكية. والحق أنها تقر التفسيرين معًا، وترسم لكل منهما مجاله الخاص، محتفظة للأول بنصيب الأسد.

ويقول برجسون: إننا طالما بقينا على اتصال بالعالم الخارجي، وطالما التزمنا أوامر المجتمع، فإن حالات ضميرنا تظل متقاربة على سطح ذاتنا، ولا تندمج في كتلة الذات. ومن هنا كان إمكان أن تتداعى هذه الحالات، بحيث يدعو حضور إحداها الأخرى. ولذلك، فنحن نؤدي في أغلب الأوقات أعمالنا في حالة من الوعي الآلي، وهي الأعمال التي تنطبق عليها النظرية الميكانيكية.

فأما إذا حدث أن انتزعنا أنفسنا من العالم الخارجي لكي نصبح وقد استرددنا ذاتنا، وأن عدنا من المكان إلى الزمان، ومن اللغة إلى الفكر المحض، ومن المشاعر المتلقاة إلى اقتناعنا الشخصي -إذا حدث هذا -وهو أمر نادر جدًّا- فإننا نعود للارتباط في الوقت نفسه بذاتنا الأساسية، ولسوف تكون أعمالنا الحرة هي تلك التي تصدر عن هذه الذات، والتي تلخصها، "وتنتزع منها كما تنتزع ثمرة ناضجة".

فمن الممكن إذن أن نتساءل: أليست الحرية، في تعريفها على هذا النحو، هي في جوهرها حتمية الطبع؟

أما برجسون فلا يخفي هذا، وهو يقول:"عبثًا ما ندعيه: إننا نخضع حينئذ لتأثيرطبعنا، فطبعنا هو أيضًا ذاتنا"1. وإذا كان الأمر كذلك.

1 انظر: Bergson، Essai Sur Les donnees Immediates de la conscience. Ch. III p. 129.

ص: 190

فإن مشكلة الحرية لا يبدو أنها تتقدم كثيرًا، فإن العبد إذا ما غير سيده لم يخرج عن كونه عبدًا.

لقد كانت نظريات تداعي المعاني تقدم لنا تفاعل أفكارنا بشكل ما -على أنه مباراة لكرة القدم، تشتجر فيها قوى متضادة، موجودة في داخلنا على هيئة ذات معزولة، لا ينتصر منها إلا أقواها. أما ديناميكية برجسون -فعلى الرغم من التنازلات الكبيرة، التي منحتها لخصومها- فهي تعتقد أنها تكشف عن عدد من الحالات، ينبثق قرارنا فيها عن قوة واحدة، بالغة العمق، وهي تنمو وتزدهر، بلا توقف، كأنها نار مستمرة.

ولكن مهما يكن ما نذهب إليه بشأن هذه القوة: واحدة أو متعددة، عميقة أو سطحية، فإن الميكانيكية والديناميكية تتفقان في الرجوع إلى طبيعة يستحيل علينا أن نغير اتجاهها، أو أن نوقف حركتها، ومهما تكلمت الديناميكية عن "الحرية" وعن "الاحتمال" فإنها تقرر أيضًا "الضرورة" و"الحتمية" أو إذا كان هناك احتمال فإنه احتمال تقول به "ذات لاشعورية"، تختار من بين إمكانات منطقية كثيرة -طريقة نموها، اختيارًا أعمى، وعلى غير هدى.

وهكذا يلتقي من طريق أخرى "برجسون" مع "كانت"، فكلاهما يقرر عجز ذاتنا التجريبية والشعورية عن أن تفعل شيئًا سوى تلقي عملها جاهزًا من ذات أخرى، أطلق عليها أحدهما: الذات الأساسية، وأطق عليها الآخر: الذات الماهية المعقولة moi noumenal وكل ما يفرق بينهما في هذا المجال أن برجسون يضع هذه القدرة في واقع محسوس، وقد كان بحكم إخلاصه لنزعته البيولوجية يدافع عن تلقائية "الدفعة الحيوية" في نموها الطبيعي، الذي تتحدى به جميع التدبيرات المحسوبة.

غير أن هذه ليست أيضًا الحرية بالمعنى الذي يشغلنا، فهي بدلًا من أن

ص: 191

تدعم مسئوليتنا الأخلاقية، لا تفعل -على العكس- سوى أن تقوضها فإذا كانت إرادتنا تنبثق من طبعنا، وكان طبعنا مفروضًا علينا قدرًا مقدورًا، فإننا نظل في حلقة مقفلة: لا أحد يقدر أن يكون سوى ذاته.

إن الحرية التي تقوم كشرط لمسئوليتنا يجب أن نبحث عنها في مجال آخر غير الطبيعة الواقعية أو المحتملة "الكائنة"، أو التي في طريقها إلى التكوين. يجب أن تكون هذه الحرية ذات طابع يسيطر على الطبيعة ولا يخضع لسيطرتها، أو تكون -كما قال سبينوزا "طبيعة فاعلة" لا "طبيعة منفعلة"1.

والواقع أننا عندما نجيب بالإيجاب على هذا السؤال: "هل ما نزال "أحرارًا" في قراراتنا، مع وجود أمزجتنا، وعاداتنا، وأفكارنا، وعواطفنا الراهنة؟ " -فإننا نعلن بذلك أننا شيء مختلف، أكثر من مجموع هذه المعطيات، وأننا ما زلنا نملك فوق كل هذه الأنشطة الخاصة نشاطًا آخر أسمى، هو نشاط ذات محسوسة وكلية، قادرة على أن تنظم نفسها بألف طريقة مختلفة. ونزيد الأمر تأكيدًا فنقول: إن إعلان هذا النشاط ليس مع ذلك إدعاء لقدرة خيالية ووهمية، وليس الأمر مطلقًا أمر نقض كامل لعالم جواني، ثم إعادة صنعه على حالة أخرى لم يكن عليها. وليس الأمر بالنسبة إلينا أن لدينا قدرة مطلقة على اختلاس عنصر، أو مجموعة عناصر من كياننا، أو منع حركتها، أو عزل إرادتنا عن هذا المجموع، لكي نمارسها في فراغ، بلا دافع، وبلا غاية. وليس المراد هو مواجهة الطبيعة، من حيث ما فيها من عنصر جوهري، وحتمي، بل مواجهتها من حيث ما فيها من عنصر مرن قابل للتشكيل.

ومما نعترف بضرورته إطلاقًا أن كل نشاط إرادي يفترض وجود دافع

1 تعبيره بالفرنسية هو: une nature naturante، et non pas une nature nature.

ص: 192

يحركه، وأن كل حركة تستهدف غاية تبلغها. بيد أن هذا الدافع، وهذه الغاية ليسا وحيدين في الطبيعة، ولا سيما عند اتخاذ قرار فيه قدر من التدبر وإعمال العقل.

إن ضلال الحتمية "ميكانيكية وديناميكية" لا يكمن في أنها تستدعي صورة توازن في الدوافع، أو صورة دفعة من المزاج، فأي إنسان يرقب أحواله بانتباه يفطن إلى هذا التناوب في الأهداف التي تتبدى له مع الأسباب التي تؤيدها، بصورة تتفاوت في درجة اختلاطها كما يحس في نفسه نوعًا من التردد الذي لا يتوقف إلا بعد اتخاذ القرار. ولكن خطأ كل نظرية طبيعية يكمن في أنها تغفل "حدثًا وسيطًا" يعتبر هو اللحظة الحاسمة في تخلق القرار"، وذلك حين تصور لنا الإرادة على أنها نتيجة مباشرة لهذه الحالات الخاصة، أو على أنها ازدهار تلقائي لجذورها العميقة. فالمرء لا يحمل على اتخاذ القرار بنفس الطريقة التي تجعله يرفع يده "ليهرش" في المكان الذي يحتاج فيه إلى "الهرش"، حتى لو كان نائمًا.

إن الإرادة ليست نتيجة مباشرة لتكون الأفكار إلا في حالة وحيدة، هي على وجه التحديد حين لا توجد "مسئولية" ولا "حرية"، وتلك هي حالة الاضطراب العقلي، التي ما تكاد تظهر فيها فكرة وحيدة، تسبق غيرها، حتى تقتحم الطريق على الملكات الأخرى، وهو ما يكفي لتحريك نشاطها الضروري لتحقيق هذه الفكرة، بطريقة الفعل المنعكس، دون أن تترك لها وقتًا تكبح فيه جماحها.

أما في الحالات العادية السوية التي تزعم النظريات الحتمية أنها تقوم عليها -فإن هناك دائمًا مسافة بين فعل الطبيعة، ورد فعلنا الإرادي عليه، وتبدو هذه الفترة ضرورية -أولًا- لأن الموجود ليس فكرة وحيدة، بل فكرتان متضادتان، تعرضان لاختيارنا، وتطلبان حقهما في أن تتحولا إلى واقع.

ص: 193

ولقد يحدث تارة أن تكون الأهمية التي نعلقها على عرضهما متساوية تقريبًا بما أننا نجد بعد التدقيق أن النقص في جانب تعوضه الزيادة في الجانب الآخر، وهكذا يتضح توازنهما على مسرح الضمير، وغالبًا ما تتجدد عودتنا إلى نفس نقطة التفكير ومعاودة النفس. وعلى هذا النحو نظل مترددين للحظة في اختيارنا بين مشروع جميل جدًّا، قليل التكاليف، ولكنه هش، ومشروع آخر أقل جمالًا، وفادح التكاليف، ولكنه متين. وهذا الموقف المتحير القلق يصيبنا، عندما يطلب منا أن نختار بين عمل أكثر فائدة ولياقة، وآخر أكثر فضلًا، وأعظم ثوابًا.

ولقد يحدث تارة أخرى أن يبدو أحد الحلين في صورة أفضل، وأعظم تقبلًا بالنسبة لما ألفنا من عادات، واستعدادات، ويبدو الحل الآخر مردودًا بنفس الوسائل، ولكنه ليس بأقل منه في نظر العقل، وهو بذلك يعتبر عائقًا بالنسبة إلى الأول، يحول بينه وبين أن يتحول تلقائيًّا إلى حيز الفعل.

بيد أن المسافة التي تفصل حدث الإرادة عن أحداث الضمير الأخرى، تتميز باختلاف طبيعتها بخاصة، فبين هذه الأحداث وحدث الإرادة تنافر أساسي، وانقطاع للاستمرار، فالمرء لا ينتقل من هذه الحالات إلى هذا الفعل، على سواء. فمن فكرة معينة تولد طبيعيًّا نتيجة، ومن اتجاه رغبة، ومن عاطفة حالة للنفس مناسبة، ومن خليط هذه كلها، أو من اندماجها يولد حدث مركب، ليس هو الإرادة بعد، وإن أقرب الحالات إلى الإرادة هي الرغبة، ولكن، "من الرغبة إلى الإرادة توجد كل المسافة التي تفصل الدعوة عن الاستجابة".

إن الإرادة ليس معناها أن نصوغ "طلبًا" بل أن نصدر "مرسومًا"، إنها لا تعني أن نمد يد سائل، بل هي التقدم بخطوة فاتح، والإرادة ليست "امتدادًا" لسلسلة في سلسلة معطاة، بل هي "بدء" سلسلة أخرى ينبغي

ص: 194

أن تعطى. والواقع أن للسببية الإنسانية طابعها الخاص الذي لا يئول إلى غيره. فقبل أن ترتضي الإرادة دافعًا معينًا أو حافزًا، تخلع عليهما أولًا نوعًا من التلوين، وتحولهما إلى صيغة عقلية، حين تلصق عليهما هذا العنوان:"إني أعتنق هذا المبدأ كقاعدة سلوك".

وحاشانا أن نقلل من أهمية نوازعنا العميقة، وعواطفنا القوية، وأفكارنا الواضحة -في صوغ أحكامنا، فذهننا يقترح علينا حلًا معينًا، وإحساسنا يستحثنا إلى آخر. وربما كان يكمن في الغضون الخفية لضميرنا سبب يوجهنا إلى حل ثالث. ولكن هذه القوى مجتمعة، بما فيها آخرها، وأكثرها مباشرة، لا تستطيع أن تفسر وحدها عمل الإرادة الحاسم، فهي سببه الكامن، ولكنها ليست السبب الكامل، ويتمثل عملها في كونها نوعًا من الدفع والتحريض، أكثر من كونها نوعًا من التسبيب. ولا ريب أنها ببراهينها المقنعة، أو نداءاتها العاطفية، تتوق إلى أن تنتزع منّا قرارًا، ولكنها لا تبلغ أن تكر هنا من أجل الحصول عليه، فكأن دورها مقتصر بطبعه على إعداد السجل، والدفاع عن القضية.

وقد يبلغ وزن تأثيرها علينا بهذه الوسيلة أن تميل بنا إلى هذا الحل أو ذاك، ولكن المنحنى الذي ترسمه لنا بهذا التأثير لا يكون حلقة محكمة، وعلينا نحن، إما أن نقوم هذا المنحنى، أو نستمر في حركته التي بدأت كيما ننهيه، "أو بالأحرى نتقدمه لنقابله في منتصف الطريق".

وعلى ذلك، فبهذه العوامل وحدها يبقى عمل الإرادة، وكذلك موضوعها في عالم الممكن، فمن أجل أن نحقق وجود ممكن واحد، من بين ممكنات كثيرة يلزم "عامل جديد"، ضغطة إبهام تفتح له الطريق إلى عالم الواقع.

هذا العامل الجديد هو تدخل "ذاتنا الكلية" بنشاطها "التركيبي"، لتحسم المناقشة، وتصدر حكمها النهائي، الذي لا قيمة لسواه، وفي ثناياه كل

ص: 195

النتائج الأخلاقية. والواقع أن ذاتنا غير المنقسمة هي التي تتركز جملة في القرار، في هذه اللحظة الحاسمة، فهي التي تحكم نهائيًّا على قيمة هذا الهدف أو ذاك، وهي التي ترجح دافعًا على آخر. وليس من النادر بالنسبة إلى الجانب الأضعف سلاحًا خلال المداولة -أن يحرز قصب السبق في القضية، بفضل معروف يريد قاضينا أن يسديه إليه في النهاية. وإذن فهذه الذات العليا ترقب دائمًا التأثير الطبيعي لملكاتها وقواها، وموضعها منها كموضع سائق القطار خلف ماكينته، أوتي القدرة على أن يتدخل في كل لحظة لإيقافها، أو تغيير سرعتها، أو اتجاهها.

وهكذا نستطيع أن نوجه اختيارنا، بأعظم ما نريد له من تنوع، دون أن ننتهك قوانين الطبيعة الظاهرة أو الباطنة، بل وبمساعدة هذه القوانين. نستطيع مثلًا أن نحرك خيالنا ليمثل لنا بصورة أوضح وأدق -موضوع العمل الذي أحالته العادة أو الغريزة إلى مخطط غامض مختلط، ونستطيع أن نقرب من بؤرة شعورنا ما سبق أن رفضه في خلفيته، وأن نركز فيه انتباهنا، وأن نقوم أسبابه، وإذا لم نكشف لصالحه قيمًا داخلية أوردنا له قيمًا أخرى، شخصية محضة، وألححنا بكل ثقلنا، بحيث نحول إرادتنا عن مجراها الحالي لتختار طريقًا جديدة. وهي حتمية أيضًا، لو أردنا1، ولكن بشرط أن تكون "محدَّدة"، لا "محدِّدة""محكومة لا حاكمة، مقضية لا قاضية"، إنها ليست النير الذي نتحمله بخضوع يشبه خضوع الرهابنة، ولكنها آلة ذات حدين، نستطيع أن نمسك بها من كلا طرفيها،

1 وأقول: لو أردنا

إذ الواقع أن الملكات الأخرى المسخرة لا تحدد بذاتها وحدها الإرادة مطلقًا. بل كل دورها أنها تيسر لها الممارسة، وتتيح لها فرصة أكبر كي تستعلن وبالرغم من كل شيء أستطيع أن أقول: نعم، ولكن لا أريد. ولكي أحافظ على وضعي. وأبقى ممتنعًا أمام جميع المثيرات، سوف يكون أمامي دائمًا فرصة لأستعمل هذه الوسيلة الفعالة للمقاومة، التي تتمثل في أن أحول عنها نظراتي، وأفكر في أشياء أخرى.

ص: 196

كيما نضبطها بوساطة نوع من التكييف المبدع، الذي يتوافق مع أي هدف من أهدافنا المتعارضة. وحيث قد اشتملت هذه الحتمية، على تحديدات كثيرة، فإنها على هذا النحو هي ذاتها غير محددة.

وإذا كانت إرادة الإنسان الفاضل، وإرادة المجرم لا تمارسان غالبًا إلا في اتجاه وحيد، فمعنى ذلك أن كلًّا منهما بدأ بأن شد إرادته إلى محرك خاص، مع احتفاظه بحريته في أن يأخذ، ويدع، ويتفنن، كيفما شاء.

إننا مهما صعدنا إلى أعلى الدرجات في سلم الفضيلة، أو هبطنا متردين في منحدر الرذيلة، فإن أحكم الناس كأشدهم فسقًا، كلاهما يستشعر في نفسه القدرة على أن يتوقف، أو ينكص على عقبية، أو يعاود الكر. وإذا كانا لا يفعلان ذلك فلأنهما لا يريدانه؛ لا لأنهما لا يقدران عليه. فهما يستطيعان أن يقدما دليلًا مرئيًّا وملموسًا على هذه القدرة العملية، في مواجهة الخصم، الذي ربما كان ينكر قدرتهما على أن يفعلا ما لم يتعوداه. بل لقد سبق لكل منا أن قدم هذا الدليل، غاية ما هنالك أننا لما كنا مزيجًا من الميزات والعيوب فإن الفرق بين الأشخاص لم يعد أن يكون مسألة نسبية.

ولا ريب أن فوق هذه الحرية الطبيعية، التي هي "قدرة مزدوجة" حرية أخرى أخلاقية بنوع خاص، هي "الواجب بالمعنى الدقيق".

فالحرية الأولى: هي القدرة التي نختار بها أيًّا من النقيضين، والثانية: هي "حسن استعمال" الأولى. فهي التخلي النهائي عن الشر، والاختيار الفعلي للأفضل. بيد أن الحرية هنا ليست حرية الخلاص، تلك التي تبرئ مسئوليتنا، ولكنها الحرية التي تشترط المسئولية وتقوم أساسًا لها. والمهم هو معرفة ما إذا كنا في جميع الأعمال الإرادية نملك فعلًا هذه القدرة على النقيضين، أي: إذا كنا، رغم ضغط طبيعتنا، وضغط الطبيعة الخارجية في جانب حل

ص: 197

معين "وحينما لا يستهدف هذا الضغط إلغاء إرادتنا كلية، كما في حالة التنويم أو الجنون" -نستطيع أيضًا، وبكل حرية، أن نختار، دون إكراه أو اضطرار؟

ولكي نزيد الأمر تحديدًا: فإن الأمر يتصل بمعرفة ما إذا ما كنا، ونحن نختار الشر في ظروف ترجح جانبه -نستطيع أن نختار الخير "والعكس".

وفي كلمة واحدة: هل نحن حقًّا -تبعًا للخيار الذي نقوم به- صناع لثوابنا، أو شركاء في شقائنا الأخلاقي؟

إننا لا نمضي إلى حد الإدعاء بأن لدى جميع الناس قوة متساوية على فعل الخير والشر، وبأن هذه القوة توجد عند الفرد الواحد، في مختلف الظروف. فالهبوط أيسر من الصعود، سواء بالمعنى المادي، أو بالمعنى الأخلاقي. ومن الممكن أن نقول: إن لدى الإرادة بعامة ميلًا إلى متابعة الخير المحسوس، العاجل، أكثر من الخير الروحي أو الآجل، ذلك أنها قد تشعر بالكثير من الصعوبة في أن تتبع أوامر العقل، أكثر مما تجده في السير وراء الميول الفطرية، والعادات الموروثة أو المكتسبة. وربما كان أكثر دقة أن نقول: إن جميع الأشخاص لا يجدون نفس اللذة بالنسبة إلى كل الرذائل، فلكل إنسان نقطة ضعفه الصغيرة، ومن هنا يقاوم بعض الغوايات بصورة أقل شدة مما يقاوم به بعضها الآخر. وكل ما في الأمر أننا ينبغي ألا نضخم هذه الصعوبة، إلى حد أن نجعل منها نوعًا من الاستحالة.

ولعل ليبنز leibniz يقول لنا:

"أليس قانونًا شاملًا أن كل قوة تعمل حيث تجد مزيدًا من اليسر، وقليلًا من المقاومة؟

فلماذا تريدون أن تجعلوا من القوة الأخلاقية استثناء من القاعدة؟ ".

ص: 198

إن التفكير على هذا النحو هو سفسطائية صارخة، حين نضع المصطلحين للمقارنة في ظروف غير متساوية، فإن ما يصدق على قوة عمياء، مستسلمة لذاتها، لا تملك غير معطياتها الراهنة، لا يكون كذلك عندما نجعل خلف جهازها صانعًا ماهرًا، يكفيها تبعًا لحاجاته، مستخدمًا الإمكانات التي تنطوي عليها. ولسوف يبدع هذا الصانع الماهر بحيلة مناسبة ضروبًا أخرى من اليسر، ومن المقاومة. ثم يعمل بحيث يجعل الجسم الذي يسقط، إما أن يتوقف عن السقوط، أو يحمل في الهواء وبحيث يجعل الماء الذي يصب في الوادي يعاود الصعود إلى السفح.

ونضع أنفسنا في نفس الظروف، وحينئذ لن تكون القوة الأخلاقية بحيث تقدم أي استثناء. والواقع أنه عندما تجعل الذات اختيارها في الجانب الذي ينطوي على مقاومة أكبر "ولنفترض أن ذلك حيث تأتمر بأمر الشرع أو القانون" فإنها تدعو من أجل هذا احتياطاتها من الطاقات القوية، حتى تعوض نقص القوى الموجودة. فتارة يكون هذا المدد ذا طابع "فكري"، حيث يكون التعليل العقلي من أجل معادلة ثقل الغريزة الهادئة، أو العادة الجامدة. وتارة أخرى ذا طابع "مادي" سواء لتحاشي موقف مثير، أو لتحويل تيار عرم، لانفعال يرفض المناقشة والتفاهم. وهكذا لا يدرك القرار الأخلاقي في هذه الحالات إلا بواسطة جهد من المقاومة جديد، وهو جهد يتضاعف أثره حين لا يقتصر على إعادة إقرار التوازن المتخلخل فحسب، بل حين يهيئ قلب النظام المبدئي للثقل، ويرجح الميزان إلى الناحية المقابلة.

ولكي تكون لدينا صورة تقريبية للصعوبات التي تلقاها إرادتنا في استعداداتنا الموروثة أو المكتسبة -يكفي أن نتصور إنسانًا غارقًا في نوم عميق، وهو يسمع رنين ساعة منبهة، إننا نخلط بين نظامين مختلفين تمامًا حين نقول: إن قانون الطبيعة الذي يضغط على البدن، ويشل حركته،

ص: 199

يعوق بنفس القدر إرادة الاستيقاظ. فالحقيقة أنه يكفي أن تمتد اليقظة لبضع لحظات كافية لتحريك الشعور، وتضمن عدم سعادة النوم في الحال -فإن هذه الحالة الطبيعية تترك أمام الإرادة ثلاثة مواقف ممكنة للاختيار على سواء: فقد يقول المرء لنفسه، وجسمه لا يزال في حالة خمود:"يجب أن أواصل راحتي"، أو "أرجو أن أستيقظ، ولكني لا أستطيع أن أعزم"، أو "يجب أن أنهض للعمل". ومن الواضح أن الموقف الأول المعادي للواجب في إصرار، لا يمكن أن يكون مما تفرضه الطبيعة، إذ إن المرء يستطيع، دون أي تغيير في الوضع المادي -أن يتخذ الموقف الأوسط الذي ينطوي على إرادة ضعيفة، وهذه الإرادة هي المعادل العملي للهروب. وعليه، فمتى ما بلغ المرء مرحلة اختيار هذا الحل الوسط أصبح من اليسير أن يتحقق من صحة هذا الحكم الذي نصدره مسبقًا عن عجز إرادتنا. وبحسبنا أن نشرع في محاولة، مجرد انتفاضة مصطنعة، حتى نسقط كل وهم عن حقيقة حريتنا. نعم، إنه مع قليل من التوتر، ومع شيء من الحماس ينهض أكثر الناس نعاسًا، ويمضي في عزمه1.

ولقد أثبتت التجربة في الواقع أن أكثر الإرادات اعتدالًا تحس في غمار عملها، وأمام التحدي، بأنها قادرة على أن تقاوم مقاومة عنيفة تأثير الغرائز

1 هذه الفكرة التي عالجناها هنا أشار إليها حديث معروف، يتعلق على وجه التحديد بمقاومة هذا الميل الضعيف إلى الاستيقاظ. وتتألف الطريقة المأمور بها من مراحل متعددة، تهدف إلى تحطيم هذه القيود المادية المفروضة على الإرادة -بعضها في إثر بعض: انطق كلمة تذكرك بالواجب، قم، اغسل وجهك وأعضاءك بالماء

إلخ. فإذا كان الجسد قد انتعش على هذا النحو بقدر ضئيل من الجهد المؤلم في البداية، فإنه سوف يرد إلى النفس بعد ذلك راحتها ومسرتها. "انظر البخاري، التهجد، باب 12" اهـ. "المؤلف".

ونص الحديث كما ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". "المعرب".

ص: 200

الأولية، ونوازع التسلط، وتهديدات الظروف الخطرة، راضية أن تصحي بأغلى ما تملك، وليس يصدق هذا بالنسبة إلى الشهداء فحسب، وهم الذين يضحون مختارين بحياتهم من أجل مثلهم الأعلى، ولكنه يصدق أيضًا على أكثر الجنود تواضعًا، وهم الذين يرسلون إلى الحرب، فيخوضونها دون أن يعرفوا لماذا؟ بل لمجرد أن يطيعوا رؤساءهم.

وربما تقول لي: إنني أبذل كل ما في وسعي ولا أصل. وليس هذا صحيحًا بإطلاق، فإذا كان قلبك، تلك الطبيعة الصغيرة -لا يقدر على شيء يقاوم به الزحف الكاسح للطبيعة الكبيرة، وإذا كان لا بد لجاذبية بعض الشر، وكراهية بعض الخير، أن تحدث أثرها على هذا الجزء المنفعل من كونك، فلم لا ترثي لهذه الحال؟ ولماذا لا تحتقر هذه الطبيعة في ذاتك، بناء على نصيحة العقل؟ ولماذ تضرب عن هذا كله، وتضع نفسك من هذا الجزء بمثابة القاضي الأعلى، والحكم الأخير؟ ولماذا لا تكتفي بتقبل هذا الوضع، والاغتباط به، فإذا بك تصدر أوامرك إلى قواك التنفيذية لكي تجعل نفسها في خدمته؟

في هذا الوضع بالتحديد تكمن اللاأخلاقية، وفي محاولة التغلب عليه تبدأ المسئولية. وليست هذه المحاولة كامنة في مادية الحدث، ولا يرجع إخفاقها إلى عجز حساسيتك، ولكن حسم الموقف يكمن في الزيادة التي تضيفها إليه، في آخر تلوين تطبعه به، وفي خاتم سلطتك الذي تضعه عليه.

ومرة أخرى، إذا كان الشر ينزع حقًّا إلى أن يحدث لا محالة، على الرغم منك، فلماذا إذن تستقبله، وتسارع إليه؟ ابق إذن على الأقل في مكانك، ودع الطبيعة تعمل، ولن تفعل الطبيعة شيئًا بدونك، اللهم إلا إذا صار العمل اندفاعيًّا، أعني لا إراديًّا، ولا تبعة فيه ولا مسئولية.

وهكذا تتحدد المسئولية الأخلاقية، تلك التي رأى دعاة الحتمية أنها

ص: 201

غير موجودة عند الإنسان من كل وجه، فإذا هي على العكس تثبتها آراء خصومهم في كل مكان، حيثما وجد قرار تنعقد عليه النية، ومهما يكن من إكراه الطبيعة، الذي لا يقاوم في الظاهر، سواء أكان إكراهًا ماديًّا، أم اجتماعيًّا، أم نفسيًّا.

فما موقف القرآن الآن في مواجهة المشكلة؟

لنذكر أولًا عنصرين جوهريين للإجابة، صادفناهما في النص، أثناء هذا العرض:

1-

غيبية أفعالنا المستقبلة: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} 1.

2-

قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الجواني: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 2.

ونضيف الآن عنصرين آخرين:

3-

عجز جميع المثيرات عن أن تمارس إكراهًا واقعيًّا على قراراتنا.

والواقع أن القرآن يذكرنا في مواضع كثيرة بهذه الحقيقة، فإن أكثر نصائح الحكمة إقناعًا، وأقوى دعوات الشر إغراء -لا تحدث أدنى تأثير في سلوكنا، دون أن يكون لإرادتنا انبعاث حر، لتقبلهما أو لرفضهما. والقرآن يقرر على لسان الشيطان:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} 3. ويقول: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} 4.

4-

الإدانة القاسية للأعمال الناشئة عن الهوى، أو التقليد الأعمى، يقول القرآن:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 5. ويقول: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} 6.

1 لقمان: 34.

2 الشمس: 9-10.

3 إبراهيم: 22.

4 المدثر: 37-38.

5 الأعراف: 176.

6 الصافات: 69-70.

ص: 202

وهي أعمال غالبًا ما يمنحها الضمير العام صفة عدم المسئولية، أو يدمغها بمسئولية مخففة. ألسنا نرى أن هذه الصيغ، في تعددها، لا يستطيع أحد من أنصار الحتمية أن يقبلها، ولا يتردد أصلب المدافعين عن الاختيار الحر في أن يتقبلها؟

ولكن من الغريب أن هذا التشدد في حكم المسئولية، وهو الذي لا يريد أن يستخرج أي عذر صحيح من مصاعب أحوالنا الجوانية -سوف يفسح المجال منذ الآن لقدر كبير من التجاوز والعفو، عندما يحدث إكراه مادي، سواء أكان طارئًا من الخارج، كتهديد معتد، أم من كياننا العضوي ذاته، كضرورة الجوع.

ولهذا، لا يعتبر من باب الخطأ ما يقع فيه مؤمن متعرض لتعذيب الكفار، إذا ما وجد نفسه مضطرًّا إلى أن يكفر، حتى يتخلص من عدوانهم يقول تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1.

وذلك أيضًا هو الشأن حين تحمل ضرورة الجوع جائعًا على أن يأكل طعامًا محرمًا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

وكذلك يعفى عن الدعارة الشائنة، إذا أكره المرأة عليها مولى مستبد: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا

1 النحل: 106.

2 المائدة: 3.

ص: 203

عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌْ} 1.

والحق أن هذا الترفق لا يبلغ حد العفو عن القتل، والسرقة، وهتك العرض بالإكراه الخارجي، فهذه جرائم لا تقبل العفو، حتى لو ارتكبت تحت التهديد بموت مرتكبها. وليس لأحد حق في أن يستبيح حياة بريء لينقذ حياته، وأن يسرق أمواله، أو ينتهك حرمته، حتى لو اشترى امتناعه بدفع حياته.

ولكن إذا كان من المقنع أن يجب الإكراه الفواحش، كالزنا والكفر، فإن أمامنا مجالًا لنتساءل: لماذا هذا التغيير المفاجئ في الموقف، الذي يسلم للإكراه المادي أو العضوي بما رفض التسليم به للطبيعة النفسانية؟

علام إذن يعتمد هذا؟ وهل نحن أكثر سيطرة على حالات أنفسنا من سيطرتنا على قوانا المادية؟ أم ليس العكس أكثر احتمالًا؟ ألا يتطلب تقويم الطبع، والسيطرة على الهوى جهدًا لدى الغالبية من الناس أكبر مما يتطلب تحمل الجوع والألم؟ هذا فرض أول ينبغي استبعاده.

وكذلك فإن أحدًا لا يستطيع مطلقًا أن يفسر عدم المسئولية عن هذه الأعمال بسبب طبيعتها اللاإرادية، التي تجعلنا نفترض فيها إكراهًا مطلقًا، يضع الفاعل في حالة استحالة مادية لا تمكنه من أن يختار اتجاهًا آخر غير الذي يحمل عليه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان للرحمة التي تتحدث عنها النصوص معنى: فلا يغفر لأحد عمل لم يرتكبه هو، وإنما ارتكبه رجل آخر، مستخدمًا جسم الأول على أنه آلة، والحقيقة أن الأمر على عكس ذلك تمامًا: فإذا لم يكن الفعل قد حدث بموافقة الفاعل ولا لمجرد المتعة في مخالفة القاعدة، فإنه بالرغم من ذلك فعل إرادي ومقصود.

1 النور: 33.

ص: 204

والعقبة التي نصادفها، هيهات أن تخمد انتباهنا الأخلاقي، بل هي توقظ تفكيرنا، وتنشط إداركنا، وكل ما في الأمر أنها حين ترينا النتائج الشاقة التي تنتظرنا على طريق الواجب تحيد بنا لنتحاشى الخطر.

وإنا لنعتقد أننا نلمس هنا التفسير الحقيقي.

فإن التفرقة بين مقاومة الأهواء وبين المنع الناشئ عن التهديد بالإكراه لا تستند فقط إلى أن الصعوبات هنا صعوبات ملموسة واضحة، أي: إن حدوثها وتضييقها لا يحتويان أدنى وهم، ولا يفترضان وجود أدنى مشاركة من جانبنا، كما هي أكثر الحالات وقوعًا في الأعذار الخلقية؛ ولكن هذه التفرقة تقوم بخاصة على أساس أن العاطفة والعادة تشدان إليهما الإرادة بكل بساطة دون مناقشة، أو تعليل، وإذا حدث تعليل فإنها لا تذكر سوى بواعث الاهتمام، والقيم الشخصية، وهي لا تذكر مطلقًا أسبابًا يعرفها القانون، على حين أن المرء أمام التهديد يتوقف، ويتردد، ويتأمل، من أجل الكشف عن حل. وعندما يخضع نهائيًّا، فهو لا يفعل ذلك إلا لأسباب أخلاقية أيضًا. أليس السبب في ذلك -حقيقة- هو أن حياتنا هي التي تواجه الخطر، مباشرًا أو غير مباشر؟ ومن ثم كان حفظ الحياة مطلبًا لغرائزنا، وأمرًا من أوامر الشرع الأخلاقي في آن. وإذن، فإن الذي يخل بواجب، خضوعًا لضرورة حيوية -يؤدي واجبًا آخر يصل في أهميته إلى أنه شرط لجميع الواجبات.

على أننا لا نخفي الطابع المبسط لتفسيرنا:

أولًا؛ لأن المقاصة لا تفهم إلا بين واجبات ذوات قيم متساوية، ومع أن الحياة هي الشرط في جميع الواجبات، فإنها لا تحتل القمة، بل هناك ما هو أعلى أو أدنى منها، وإذا كانت بلا أدنى جدال، أثمن من طعام محرم، فهل يمكن أن تكون كذلك إذا ما قورنت بصدق الإيمان، والإخلاص للعقيدة؟

ص: 205

إن بذل الرخيص من أجل الغالي واجب، ومن ثم فهو موضع للتقدير، ولكن فعل العكس مناقضة أخلاقية، وهو إذن مسئولية عن فعل الشر بشكل ما. ولفظة "عدم المسئولية" في كلتا الحالتين ليست هي الكلمة المناسبة.

ومن ناحية أخرى: إن الإنسان الذي يتقهقر أمام الخطر ليس متأكدًا دائمًا أن الإقدام قد يكلفه حياته، فقد يكون مبالغًا في توهم الخطر الذي يتعرض له، أو يكون قد أخطأ في تصور الباعث الحقيقي لعمله، وحتى لو افترضنا أن أصل قراره هو خطر محقق، فلعله بمجرد أن شرع في العمل ألفى نفسه فيه، واستمتع به في لذة لم يكن يدركها من قبل. فالواقع إذن أشد تعقيدًا من أن يطبق عليه إبراء خالص وبسيط، والحكم بعدم المسئولية لا ينبغي إذن أن يعني هنا البراءة، ولكنه رخصة. وبذلك ندرك عمق تعبير القرآن، عندما يتحدث في موضوع العفو والرحمة، ولكي يؤكد المفسرون هذا المعنى ذكروا أن التحمل والتضحية أجمل وأكرم، فقالوا:"والصبر أجمل"، كما يقول لنا القرآن الكريم:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} 1.

وكذلك يجب أن نستثني حالات لا تتسع سلطة الواجب فيها لأي عفو، وحيث ينبغي أن تتصدى حرية الإرادة لأي إكراه حتى لو كان تهديدًا بالموت، ومن ذلك حالة الإنسان الذي يجبر على أن يقتل، أو يقتل، أو حالة ذلك الذي أشرف على الهلاك من مخمصة، فلم يجد وسيلة، للحياة، غير أن يقتل شخصًا آخر ليقتات بلحمه، "وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل، بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك لم يكن له أن يقتل إنسانًا فيأكله"2. ذلك أن إنهاء حياة بريء أمر مقيت، لا يصلح التعلل بالمحافظة على حياتنا لإباحته؛ فلأن نموت خير من أن نقتل.

1 البقرة: 217.

2 ابن رشد، البداية 2/ 431.

ص: 206

وهكذا تبدو لنا الإرادة الإنسانية في علاقتها بأحداث الفطرة الداخلية، أو الطبيعة الخارجية -من خلال القرآن، حرة مستقلة. فهل يترتب على ذلك استقلالها المطلب ضرورة؟ وهل إذا جاز لنا أن نقول: إن أي مخلوق ليست لديه قدرة تكرهه، هو نفسه -أيجب أن نستنتج من هذا أن خالق الطبيعة ذاته لا وجود له في نشاطنا؟ إن هذا السؤال يعني أن المشكلة الميتافيزيقية أو بالأحرى: الإلهية، للقضاء الأزلي، تطرح أمامنا كاملة.

لقد قدمنا في مؤلف نشر من قبل بالعربية1، لمحة تاريخية عن هذا الموضوع، وحاولنا أن نعطي تمحيصًا نقديًّا لمختلف الأفكار التي اصطرعت في الفكر الإسلامي، وحسبنا أن نعيد هنا الخطوط البارزة لما عرض آنذاك.

ونشير أولًا إلى غموض مصطلح "القدرية predestinationisme" الذي قد يقصد به معنيان مختلفان، فهو بالمعنى المحدد الدقيق -النظرية التي تلغي إلغاء تامًّا كل نشاط إرادي فعلًا، يقوم به الإنسان. ولكن القدرية، بمعنى أوسع، تعني سبق العلم الإلهي فحسب. فإن الله قد خلق كل طاقات الكون وقواه، طبقًا لتدبير سابق، بما في ذلك ملكة إرادتنا، وهو يعلم مسبقًا كيف ستعمل كل من هذه القوى، وما الأحداث التي ستنتج عن نوع عملها، ولكن لم يقل لنا -إيجابًا أو سلبًا- إذا كان الله سبحانه يتدخل في تسيير هذه القوى كلها بمجرد أن توضع في إطار الحركة، وبهذا المعنى الثاني فقط يمكننا القول بأن الفكر العربي كله فكر قدري، ما خلا بعض الاستثناءات.

والواقع أننا لا نرى أثرًا للفكرة العكسية "التي تجرد أعمالنا من العلم الإلهي المسبق" في المرحلة السابقة على الإسلام، ولا بعد ظهور الإسلام؛ حتى

1 المختار، نشر بالقاهرة عام 1932.

ص: 207

بداية العصر الأموي. وفي عام 80 للهجرة، اتهم بالبصرة، رجل يقال له:"معبد"، كان يعتنق هذه الفكرة المتطرفة عن الحرية الإنسانية، وأعدم الرجل كمرتد، في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، ولم تلبث نظريته أن تبعته دون عودة، بيد أن هذه الحادثة قد أيقظت التفكير الفلسفي على المشكلة. ولم نلبث أن رأينا منذ بداية القرن الثاني الهجري ظهور فرقة المعتزلة "مع ظهور واصل بن عطاء، المتوفى عام 131 هـ"، وهي التي أخذت، ولو بطريقة مخففة نفس اللقب:"القدرية"1، الذي كان يقصد به النظرية القديمة المطرحة. وترى هذه الفرقة أن الله يعلم يقينًا في أي أمر سوف يستخدم الإنسان ملكاته، وقدرته الكاملة التي منحه إياها، وهو مع ذلك يتركه يفعل، تحت مسئوليته الكاملة، وهو ما اعترضت عليه فرقة القدرية، التي كان صاحبها "جهم بن صفوان"، من "ترمذ" فقد كان يرى أن العمل الإرادي لا يختلف عن العمل اللاإرادي إلا في الظاهر، ذلك أن الإنسان عاجز عن أن ينشئ أقل حركة، فهو بين يدي الله "كريشة تصرفها الريح".

ومع ذلك، فإن الفرقتين تنتميان إلى جانب المتشددين المسلمين وتستشهدان لدعم آرائهما بمجموعة من النصوص القرآنية. والحق أننا نجد في أصل هذه المناقشة تناقضًا أساسيًّا في فهم الصفات الإلهية، التي لا يتم كمال إحداها إلا على حساب كمال الأخرى. ذلك أن القرآن يعلن من ناحية:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 1، وإذا كان الحديث مطلقًا على هذا النحو، فليس أمام الإنسان سوى أحد أمرين، فإما أن يقنع بدور الآلة، وإما أن يمنح صفة شريك لله. ولكن ها هي ذي نصوص أخرى ليست أقل تأكيدًا، وهو تعلن أن الله

1 ربما كان إطلاق وصف "القدرية" على المعتزلة يعني النقيض، أي: من لا يقولون بالقدر، كما أطلق لقب "المحكمة" على رافضي التحكيم. "المعرب".

2 الزمر: 62.

ص: 208

سبحانه هو الموجود العادل بحق: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 2.

وفي هذه الظروف، لا يستطيع أحد أن يتصور أن الله سبحانه قد أقر شريعة الواجب الإنساني بما تستتبعه من مسئولية وجزاء -دون أن يكون قد ذود الإنسان من قبل بوسائل العمل، الضرورية لأدائه.

والحق أن القدريين -حين أرادوا أن ينقذوا مبدأ وحدانية الخالق- لم يصلوا إلى حد إنكار الشريعة الأخلاقية، أو أن يعزوا إلى من وضع هذه الشريعة بعض الظلم. ولكنهم كانوا يتصورون هذه الشريعة الآمرة على أنها رمز لقانون وصفي محض، ويتصورون الجزاء على أنه الأثر الطبيعي الناشئ عن نظام الأشياء.

أما الأحرار الحريصون على الدفاع عن العدالة الإلهية -فإنهم -على العكس - لم يريدوا أن يرفعوا الإنسان إلى مرتبة الله، ولكن كان عليهم أن يقولوا بنوع من الاستثناء في فعل الخالق. ومن قبل قيد المنطق مدى هذه القضية:"كل ما يوجد مخلوق لله" علمًا بأن الله يوجد، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا لنفسه. فلماذا لم يحدث منطق التجربة -هو أيضًا- قيدًا آخر باستثناء الأفعال الإنسانية؟ فإذا ما دفعنا هذين التعليلين إلى أقصى مدى انتهينا -بعكس ما هو مشاهد- إما إلى إلغاء الإرادة الإنسانية، ومعها واقع الواجب، وإما إلى تحديد مجال فعل الإرادة الإلهية تحديدًا كبيرًا.

وقد حاولت مدارس أهل السنة -فيما بعد- وبفضل مبدأ الاشتراك، الذي قالوا به، أن توفق بين هذين المفهومين المتعارضين، فلا الإرادة الإنسانية، ولا الإرادة الإلهية، كلتاهما لا يمكن أن تتوقف في الأعمال

1 النساء: 40.

2 يونس: 44.

ص: 209

الإنسانية الموصوفة بأنها إرادية. إن الإرادتين تعملان في وقت واحد، وتشتركان في إنتاج أفعالنا، ولكن بطريقة مختلفة، ففعل الله فعل خالق، على حين أن الإنسان وهو يسخر قواه ويحشدها لا يفعل أكثر من أنه يتفتح للفعل الإلهي، حتى يتلقى منه العمل كاملًا.

لقد دارت المناقشة في النظريات التي ترفض كل ما عداها -كما نرى- حول الأعمال الظاهرة. وقد كان السؤال هو أن نعرف من هو خالق حركاتنا الخارجية، التي تسمى: الإرادية؟

-"إنه نحن"- كما أكده بعضهم، دون تدخل من الله.

-"إنه الله"- كما قال آخرون، دون مشاركة منا.

وكانت المدرسة الثالثة تعتقد أنها تمسك بطرفي السلسلة، حين تقول:"إنه الله، مع تدخل إرادتنا" بيد أن القائلين بهذا الحكم لم يلبثوا أن ميزوا الجانب الحقيقي في المشكلة، ووضعوه في المصطلحات التي تناسبه. فقد لاحظوا أن ممارسة الإرادة هو نفسه -حدث يقتضي بيانًا، فتساءلوا على الفور: من ذا الذي يوجه ويدبر إرادتنا؟ ولكي يجيبوا عن السؤال بهذه الصورة انقسموا إلى طائفتين:

القائلين بسبق القضاء، وهم تلاميذ أبي الحسن الأشعري "المتوفى في بغداد عام 324 هـ"، وخصومهم تلاميذ أبي منصور الماتريدي من بخارى "توفي عام 303هـ في سمرقند".

وهكذا عادت النظريات الجديدة إلى نفس الموقف المضاد، الذي تجادل حوله سابقوهم، بعد أن نقلوه إلى مجال الفعل الجواني فقط، وهنا أيضًا لم تقصر البراهين القرآنية من جانب وآخر. فعلى حين نجد القرآن في بعض المواضع ينسب إلى الإنسان القدرة على نفسه، ليتغير إلى شر، أو إلى خير،

ص: 210

نجد أننا إذا أخذنا بعض المواضع بحروفها فإنها تقر أن إرادتنا تشبه تمامًا قلبنا، وذكاءنا، فهذه كلها ليست سوى أدوات بين يدي الله، نوعًا من اللجام الذي يقودنا به كما يشاء، واقرأ في هذا قوله تعالى:{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} 1، وقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 2، وقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3، وقوله:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} 4.

ولا ريب أننا نستطيع أن نحاول تركيبًا في هذا المجال الجديد، والقرآن نفسه يقدم لنا مبدأ هذا التركيب، حين يعلن:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 5. فهو إذن حين يقرر أن الله هو الذي يحكم إرادتنا لا ينجم عن ذلك إبراء ساحتنا؛ لأن الله لا يفعل ذلك ابتداء مطلقًا، وإنما هو يجريه كنوع من الإجراء المقابل، أي: كرد على بعض الأشياء من جانبنا. وإذن، فسواء شعر قلبنا بالفرح أو بالانقباض لمعرفة الحقيقة، أو لممارسة الفضيلة، وسواء ضل عقلنا أو اهتدى، توجهت أحكامنا نحو الخير، أو نحو الشر -فإننا حين نقرر أن جميع هذه الآثار تحدث فينا بوساطة قوة عليا، وفوق الطبيعة، نجد أن سوابقها تصدر عن إرادتنا فنحن الذين بدأنا، بأن انفتحنا على النور، أو بأن تحولنا عنه:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 6. نحن الذين بدأنا بأن أضأنا عقلنا أو طمسناه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 7، حكمنا أهواءنا أو اتبعناها: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} 8.

1 الأنعام: 108.

2 الأنعام: 125.

3 الدهر: آخر آية.

4 الأنفال: 24.

5 الرعد: 11.

6 الزخرف: 36.

7 المطففين: 14.

8 الأعراف: 176.

ص: 211

بيد أن الصعوبة إذا ارتدت إلى الوراء على هذا النحو لا تصبح ملغاة نهائيًّا؛ لأنه كلما ارتقينا في مراتب أعمالنا الجوانية يجب علينا أن نتوقف في كل خطوة لنسأل أنفسنا عما إذا كان هذا العمل إنسانيًّا محضًا، فهو إذن يتضمن حدًّا للفعل الإلهي، أو هو من خلق الله، فهو إذن لا يرجع إلى أي خطأ من جانبا.

ولو أننا فهمنا جيدًا موقف القرآن من مشكلة الاختيار الحر لوجدناه مناقضًا لموقف "كانت" على خط مستقيم. فالقرآن يضع مقابل حتمية "كانت" في نظام الظواهر -استقلال إرادتنا الكامل بالنسبة إلى أحداث الطبيعة.

أما في النظام الماهي المعقول l' ordre - noumenal، فإن هذا الاستقلال على العكس سوف يفسح المجال لتبعية مزدوجة، بل مثلثة، للإرادة الإلهية. فإرادتنا فيما يتعلق بفاعليتها -لا تصدر عن مساعدة العناية الإلهية فحسب، لكي تبلغ جهودنا غايتها، أو تقطعها عن آثارها. فالزوج الذي يودع جرثومة ولده الحيوية لا يكمل له خلقه، ولا ينفخ فيه الحياة:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} 1، والزارع الذي يجهز أرضه، ويبذرها لا يفلق الحب، ولا ينضره:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} 2.

وإرادتنا فيما يتعلق بوجودها في حيز القوة، كملكة اختيار بعامة، لا تصدر فقط عن الفعل الخالق الأولي، الذي ليس فعلنا -ليس ذلك كله فحسب، ولكن الطريقة الخاصة التي تحقق بها كل إرادة إنسانية ذاتها فعلًا -تخضع من وجوه كثيرة لسلطان الخالق، ولو أنها أوتيت الوسيلة التي تتخلص

1 الواقعة: 58-59.

2 الواقعة: 63-64.

ص: 212

بها من علم الله، وقدرته العلوية، لأصبح في ملك الله ممالك بقدر ما يوجد في العالم من كائنات عاقلة.

إن وحدة الكون تتطلب وحدة التدبير، وتبرهن عليها، ولن يأذن الله لمخلوقه أن ينقلب ضده، فكل ما يجري على عينه خاضع لرقابته. ولئن كان الشر الأخلاقي لا يتفق مع إرادته التشريعية، فما كان له أن يقف في وجه إرادته الخالقة، فيجب إذن على الأقل، ألا يصادف عمل إرادتنا عائقًا فوق الطبيعة؛ أي: إنه يجب أن يحصل من السماء على نوع من الإجازة والرضا، وذلك هو ما تفيده الآية الكريمة:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 1، والآية:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2. وهذا الكلام لا ينازع فيه أي إنسان يؤمن بوجود عناية إلهية. فلنتجاوز هذا الحد.

إن الله تعالى سبحانه -فضلًا عن هذه المساعدة السلبية بعدم الاعتراض- قد حاط "قدرتنا على الاختيار" بجهاز قوي ومعقد، تتفرع عنه كل قراراتنا،؛ وهذا الجهاز يتألف من العقل، والحواس، والنزعات، والجاذبية الحسية، والقيم الروحية، كما تتضمن تلك الرؤية الجوانية التي هي الضمير، وذلك النور البراني الذي هو التعليم الموحى أو غير الموحى. فكل قرار، حسنًا كان أو قبيحًا، أو أشبه بعملية إنفاق من ذلكم الكنز العظيم الذي أودعه الخالق رهن تصرفنا في الفطرة، جوانية وبرانية، والاتفاق على هذا الكلام أيضًا إجماعي.

ولكن ألا توجد، فضلًا عن هذا الجهاز العام الذي جعله الخالق في متناول كل إنسان -مساعدة خاصة يمنحها الله لبعض العباد، ويحرم منها الآخرين؟ وهل يتمتع الطيبون، والصالحون، والمصطفون من بين الناس بامتياز، أو

1 الأنعام: 112.

2 الدهر: 30.

3 والتكوير: 29.

ص: 213

مساعدة مكملة لاختيارهم الحسن، على حين ترك الآخرون لمواردهم العامة؟

هنا يبدأ النقاش بين أهل السُّنة الذين يثبتون هذه المساعدة، والقدرية "معتزلة وشيعة" الذين ينكرونها مطلقًا. ويرى هؤلاء الأخيرون أن مثل هذا الامتياز سوف لا يكون متفقًا مع العدالة الإلهية، إذ لماذا نزن بوزنين؟ فكل ما يلزم للحكم الصحيح. والاتجاه الصائب يجب أن يكون، في وسع كل فرد، وعلى كل فرد أن ينظم هذه الثروة المشتركة، وأن يستغلها إلى أقصى حد، تحت مسئوليته الكاملة، ولخيره أو شره.

هذه الطريقة في النظر لها أساس من الحق، والواقع أننا لكي نصون عدالة السماء، يبدو لازمًا أن نقرر حدًّا أدنى من القدرة الإنسانية، الضرورية، والكافية لأداء واجبنا، وإثبات مسئوليتنا على أن يكون ذلك الحد الأدنى شاملًا، وموزعًا على سواء، ولكن لماذا نقف ضد البداهة باسم هذا المبدأ العام، وندعي أن الخالق قد خلق كل الناس في نفس الظروف المناسبة كيما يريدوا الخير، ويقصدوا إلى الحق؟

لا داعي لن نذكر بتنوع الصفات الوراثية، وآثارها المختلفة على أحكامنا وقراراتنا، وهو ما يستفاد أيضًا من قوله، صلى الله عليه وسلم:"الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة"1. وقوله: "إن فيك خصلتين

جبلك الله عليهما" 2.

ولكن القرآن يصنف الناس بصفة عامة، في آيات كثيرة، إلى طائفتين: الضالين، والمهتدين، وهو يضيف أن كلا الفريقين مدين بحالته الخاصة لمشيئة

1 وفي رواية للبخاري: كتاب بدء الخلق، باب 25، "قال: فعن معادن العرب تسألون، خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". "المعرب".

2 ورواية مسلم: كتاب الإيمان، باب 7:"وقال صلى الله عليه وسلم للأشج -أشج عبد القيس، واسمه المنذر بن عائذ-: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". "المعرب".

ص: 214

الله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} 1. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 2.

ولنذكر بخاصة أن القرآن ينص على أن الله يتدخل بطريقة إيجابية ومادية لدى عباده، في اللحظات الحاسمة، لكي يصرف عنهم الإغراءات السيئة:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} 3؛ وحتى يجنبهم السقوط في الفاحشة: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} 4، ولكي يقوي إرادتهم المترددة:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} 5. في هذه اللحظات الصعبة يفجر الله في أعينهم نورًا باهرًا يحمل إليهم مزيدًا من الوضوح: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} 6، فهو يزرع الثبات في القلب: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 7، {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 8، ويجعل الإيمان أجمل في أعينهم، وأحب إلى قلوبهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} 9، ويكره إليهم {الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} 10.

وقد لجأ المعتزلة لتفسير هذه النصوص إلى وسائل متعسفة ومتعثرة؛ لأنه إما أن يكون هذا التخصيص لا يعني شيئًا، أو أنه يعني أن العناية الخاصة التي يكلأ الله بها أصفياءه ليست هي نفسها، بل هي شيء آخر يختلف كمًّا

1 الحجرات: 17.

2 المائدة: 41.

3 يوسف: 34.

4 يوسف: 24.

5 الإسراء: 74.

6 يوسف: 24.

7 الفتح: 26.

8 القصص: 10.

9 الحجرات: 7.

10 الآية السابقة.

ص: 215

وكيفًا عن تلك الوسائل العامة التي يتخذها ليعلم الناس جميعًا واجباتهم، ويجعلها ميسرة بالنسبة إليهم.

وشبيه بهذا موقفك من رجلين يسألانك عن الطريق، فتعطي لأحدهما بيانًا بالطريق ليتبعه، وتركب الآخر في سيارتك. وكما قيل في الإنجيل:"إن كثيرين يدعون، وقليلين ينتخبون"1، فنحن نقرأ في القرآن أن الدعوةإلى دار السلام عامة، ولكن الهدى مقصور على أولئك الذين يشاء الله لهم الهدى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.

من أجل هذا عرفت الأنفس الكبيرة في كل زمان أن كل ما تفعله من الحسن ومن الأحسن، فهو من فضل الله، وأن عليها أن تلجأ دائمًا إلى مساعدته حتى يثبتها على هذه الطريق. وانظروا إلى موقف إبراهيم، وإسماعيل، وسليمان، وعيسى، وموقف أولئك الراسخين في العلم، إبراهيم وإسماعيل يقولان:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 3، و {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 4، وسليمان يقول:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} 5، وعيسى يقول:{وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} 6، والراسخون في العلم يقولون:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 7.

ولهذا تثق هذه الأنفس الكبيرة بفضل الله العلي، أكثر مما تثق بقواها.

1 إنجيل متى، الإصحاح 22، جملة 14.

2 يونس: 25.

3 البقرة: 128.

4 إبراهيم: 40.

5 النمل: 19.

6 مريم: 32.

7 آل عمران 7.

ص: 216

الخاصة: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} 3، ومن الدعاء المأثور:"الله رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، إنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة، وذنب وخطيئة، وتقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك".

ولذلك أخيرًا كانت صيغة، الدعاءالتي يدعو بها المسلمون ربهم في كل يوم، ومرات كثيرة في اليوم الواحد، منحصرة في أنهم -بعد أن يظهروا جهدهم الإنساني، ليخضعوه لإرادة الله وحده جل جلاله يلتمسون معونته على الفور، ليهدي خطاهم على الصراط المستقيم:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 4.

وإذن فمن الممكن أن نؤكد أن النصوص القرآنية تلتقي لتؤيد نظرية أهل السُّنة، التي تقرر أن هناك درجة أخرى من التبعية التي تتصف بها إرادتنا بالنسبة إلى إرادة الخالق، ومع ذلك فلسنا قادرين على أن نفعل ذلك إلا إذا صغنا على الأقل تحفظين أوحى إلينا بهما القرآن.

التحفظ الأول:

أن هذا الفضل الذي يمنحه الله سبحانه لبعض العباد، ويمنعه من دونهم لا يمكن أن يشتمل على محاباة، أو اعتساف، وعلى الرغم من أن بعض النصوص شديدة الإيجاز تنم إحيانًا عن نوع من الإرادية المفرطة:

1 يوسف: 33.

2 يوسف: 53.

3 الناس: 1-4.

4 الفاتحة: 4-5.

ص: 217

{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 -فإن الإرادة الإلهية تبدو منظمة في ذاتها، تبعًا لما يتطلبه علم وعدالة معصومين، فهي تتدخل لصالح من يستحق التدخل:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} 2، ولصالح من يعترف بالفضل:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِين} 3، والذي يتعطش لتلقيه، فيبدو قلبه أهلًا لاستقباله:{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 4.

أما الذين هم بعكس ذلك، قد أغلقوا الأعين عن النور، وسدوا آذانهم عن النصيحة الطيبة، فإن الله يذرهم في عماهم وصممهم؛ لأن القادر المقتدر لا يتدخل عبثًا مطلقًا:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين} {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} 6.

وموجز القول، أن الله لا يضل إلا الأشرار، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} 7، ولا يهدي غير من يرجع إليه:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب} 8.

والتحفظ الثاني:

أنه في كل هذه الظروف الإيجابية والسلبية لم يقل: إن الإرادة الإلهية تؤثر مباشرة على فعلنا الأخلاقي، وإنها تقيد الإرادة الإنسانية، أو تحل محلها، ذلك أن المنح الإيجابية لفضل الله تحتوي -بداهة- من المساندة قدرًا يحفظ جهدنا. إنها الأجنحة التي تساعد أنفسنا على التحليق. ذلك أن الله عز وجل ييسر لعباده المختارين المهمة تيسيرًا واضحًا، حين

1 النحل: 93، وفاطر:8.

2 الفتح: 26.

3 الأنعام: 53.

4 الفتح: 18.

5 الزخرف: 36.

6 الأنفال: 23.

7 البقرة: 26.

8 غافر: 13.

ص: 218

يريهم الأمور على ما هي عليه، وحين يحبب إلى قلوبهم الحقيقة، والفضيلة، ولكنه لا يؤدي المهمة بالنيابة عنهم؛ لأن الكلمة الأخيرة المنوطة بإرادتهم لم تصدر بعد.

وكذلك الحال حين يذر الله الظالمين يتخبطون في الظلماء، وهم في قبضة بعض الصعوبات، وذلك ليبحثوا عن المخرج منها بمجهوداتهم الخاصة، ولم يقل أحد: إن الله يقهر إرادتهم بالضرورة على أن تختار الجانب الأسهل.

والمسألة التي يبقى علينا أن نعرفها، والتي تفرقت المدارس الإسلامية بصددها بطريقة واضحة هي: عندما يطلب الله منا أن نستخدم قدرتنا على الاختيار، بعد أن يكون قد وضع رهن تصرفنا هذه الموارد العامة والخاصة -هل يتخلى الله عنا تمامًا؟ ألا يتدخل لمصلحة أي جانب؟ أم أنه يدخل هنا -دون علم منا- دافعًا معينًا علويًّا، ومباشرًا، وفوريًّا، في صورة مساعدة، أو ترك، أو دعم، أو قدر ضئيل من الطاقة، أو فعل لا يقاوم من باب الفضل أو الابتلاء، يوجه -على تنوع- مؤشر نشاطنا، ويحدد حركته في اتجاه أو آخر، دون أن نحدس به مطلقًا؟

تلكم هي المسألة التي لم يفصح فيها القرآن عن نفسه بطريقة واضحة، وكافية، بل يبدو أنه قد التزم من هذا الجانب نوعًا من الحذر المقصود، ذكر له الإجابة فيما بعد:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} .

ولهذا لم يقف المسلمون الأولون من السلف، والمعتدلون من الخلف، عند بحث كهذا، إذا يعدونه غير رشيد ولا مفيد، ويبدو لنا في الواقع أن المشكلة بهذه الصورة لا يمكن أن تحل حلًّا واضحًا بأية وسيلة من وسائلنا العادية، وبأنوار العقل وحدها، إذ كان من الواجب دائمًا أن نتذكر التناقض المذكور آنفًا، بين العدالة والقدرة الإلهية المطلقة. ولن تحلها كذلك التعاليم

ص: 219

الموحاة، بقدر ما تكون صامتة، أو محتملة لتفسيرين؛ ولن تحلها التجربة، إذ كان أحد طرفي العلاقة لا سلطان لنا عليه.

كيف نسوغ مسئوليتنا على فرض غير مستبعد نهائيًّا، وهو الفرض القائل بوجود نوع من التحديد، يتجاوز إرادتنا، مهما كانت درجة فاعليتها؟ إن كل ما يمكن قوله هو: أن الالتجاء إلى هذا التحديد واتخاذ وسيلة للتخلص من المسئولية لا يفيد في شيء، إذ إننا لا نعلم وجوده، ولا في أي جانب يتحقق إن وجد.

والحق أن مسألة الحتمية العلوية لا تطرح إلا لأجل نوع من الفضول العقلي، وبوساطته، وما ينشأ عنه لا يهم الجانب الأخلاقي، ولا الإيمان ولا التقوى.

فإما فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي بخاصة -وهو موضوع دارستنا- فإن ما تهم معرفته ليس هو ما يقع في الحقيقة، من مؤثرات تؤدي إلى حدوث الفعل، بل هو الطريقة التي يتصور بها الإنسان عمله، والعنوان الذي يعمل تحته، وفي كلمة واحدة: نيته وقصده. فلنفحص إذن ضميرنا في لحظة اتخاذ القرار. ألدينا في هذه اللحظة بعض هم بمعرفة ما إذا كان شعورنا الذي لا يتزعزع بحريتنا العملية يطابق واقعًا مطلقًا أو لا يطابقه؟ إن الاهتمام الذي نوجهه إلى موضوع عملنا لا يمتصنا امتصاصًا كاملًا فحسب، بحيث لا يدع مجالًا لأي هم من هذا القبيل، وكذلك المسألة المطروحة، قد لا يقتصر أثرها فقط على أن تجعلنا غير مبالين، وقد لا تغير شيئًا من موقفنا -ليس هذا فحسب، ولكن حتى لو ثبت الطابع الوهمي لإحساسنا، فلا بد أن يكون لنا شأن في القضية المقررة، فهل يكون القرار الذي اتخذناه غريبًا عنا في الواقع؟ وهل يكون هذا القرار موحى به أم مملى علينا، أو

ص: 220

مفروضًا بوساطة قوة مختفية لا نستطيع تحديد كنهها؟ وهل الله هو محركها الأول. لا أهمية لكل هذه التساؤلات إذ إننا بمجرد ما نلجأ -في لحظة ثانية، وبنية ثانية- إلى تبني القرار واعتماد تنفيذه، فإننا نصبح بهذا متضامنين مع فاعله الحقيقي. فإذا لم نكن السبب الأخلاقي للعمل في ذاته، جوهرًا، وصفة، فنحن هذا السبب على الأقل من حيث تكييف هذه الصفة؛ فليس بسبب أن الله قد "أراد" لنا أن "نريد" هذا أو ذاك، إننا قد أردناه في واقع الأمر؛ لأننا لا نقصد مطلقًا، أثناء عملنا، إلى أن يتخذنا الله سبحانه أداة لإنجاز إرادته المقدسة، ما دمنا لا ندري شيئًا عن هذه الإرادة الإلهية مقدمًا.

ولكنا -بغض النظر عن أي اعتبار آخر- نرتضي فقط، وبكل بساطة أن تكون تلك الإرادة في حسابنا الخاص، ونوقع بهذا التزامنا. وهكذا يصبح الإنسان مسئولًا، وهو يحقق ذاته بنفسه، كما يصبح مدينًا منذ جعل من نفسه كفيلًا.

وهكذا نفهم أن القرآن قد التزم أن يعلن مسئوليتنا أمام الله، في نفس الآيات التي يبدو فيها أنه يلحق الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية بصورة كاملة. قال تعالى:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1.

وإذن، فإن مبدأ المسئولية يظل في جميع الفروض مبدأ صحيحًا دون مساس.

1 النحل: 93.

ص: 221