الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يكن عمر وحده في هذا الموقف، بل كانت الأمة كلها تواجهه بشجاعة، وصبر، ومعالجة، حتى انجلت الأزمة، واستغنى الناس عن ربط الحجارة على البطون، ولم يسجل التاريخ حالة تذمر واحدة، أو حتى نكتة واحدة تشنع بسياسة الدولة، أو شكوى واحدة من اختفاء الخبز أو الإدام، بل إن الناس لم يزدادوا مع الأزمة إلا استمساكًا بأخلاقهم، وحرصًا على أداء واجباتهم، وصبرًا في البأساء والضراء وحين البأس.
ولقد أوقف عمر رضي الله عنه، فيما يذكر التاريخ، تطبيق حد السرقة آنذاك، ترفقًا بالمضطرين إليها من أجل الإبقاء على حياتهم، ومع ذلك لم يذكر التاريخ أن الجائعين تحولوا إلى لصوص، أو أن القادرين أصبحوا مستغلين أو محتكرين، فقد كانت أخلاق الجماعة الإسلامية أقوى من قَرص الجوع، وأمنع من أن تزلزلها أزمة تموينية.
في هذا الضوء الرباني نستطيع أن نقرر حاجة مجتمعنا العربي إلى ثورة أخلاقية تدعم الثورة الاشتراكية، وتعالج ما أحدثت من مشكلات اجتماعية؛ نتيجة عدم التوازن في حركة الإصلاح الذي تم حتى الآن.
إن أكبر خطأ وقع فيه دعاة الثورة الاشتراكية في الوطن العربي أنهم تصوروا الثورة وصفة طبية، تقتبس من أصحابها؛ ليتعاطاها المجتمع المريض في أي زمان ومكان؛ فإذا بكثير من الثوريين المتفلسفين يعكفون على استملاء التجارب والأدوية من الكتابات والمؤلفات الجاهزة، وتدور المطابع، وتكثر الكتابات الثورية، حافلة بالتنفخ والادعاء، ولو جاز تطبيق حد السرقة على اللصوص، لكان أول من يحق عليهم حدها أولئك السرقة الكاتبون، والمقتبسون، دون تمييز، الآكلون أفكار الناس بالخطف والتقليد!!
والحق أن الإصلاح الثوري نبات لا بد أن يتفجر من باطن الأرض
عن أشياء رحمة لكم، غير نسيان، فلا تبحثوا عنها" 1، ويذكر ابن حبان أن ظروفًا كهذه الظروف كانت مناسبة لنزول قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} 2.
هذا الاستبعاد للمبالغة والإفراط في "كيف؟ وكم؟ " من القواعد القرآنية -إجراءٌ اتُّخذ صراحة، كيما يتسنى لكل فرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية، بطريقة تختلف عن غيره. فهذا هو ما يتصل بالأخلاق العملية، والسمات العامة التي تحددها؛ فلنمض إلى الأخلاق النظرية:
1 حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، وللمؤلف هنا طريق أخرى "المعرب".
2 المائدة: 101- 102.
الجانب النظري:
وهنا يفارق منهجنا أيضًا المنهج العام؛ ذلك أن ما يهم غالبية علمائنا في المقام الأول هو الجانب الاقتصادي، أو الشرعي، ونحن بادئ ذي بدء، نركز اهتمامنا على المجال الأخلاقي؛ واضعين كل مسألة في المصطلحات التي تُصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين.
ونحن من ناحية أخرى نتخذ من القرآن ذاته نقطة انطلاق، بحيث كان دأبنا الدائب أن نستخرج منه الإجابة عن كل مسألة، بالرجوع المباشر إلى النص. وهنا تكمن الصعوبة؛ فإن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية، غير أن هنا سؤالًا مسبقًا ينبغي أن يطرح:
هل القرآن كتاب نظري؟ أم هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟
إن الفلسفة بالمعنى المألوف للكلمة هي عمل فكر منطقي، معتمد على مجرد ومضات الذهن الطبيعي، ينتقل فيه المفكر من حكم إلى آخر، بمنهج معين؛ للتوصل إلى إقرار نظام معين، قادر على تفسير الأشياء في عمومها، أو تفسير وضع معين لأحد هذه الأشياء. وبدهي أن هذا الجهد العقلي؛ وهذه الخطوة التدريجية -لا يتناسبان مع ضوء وحي، يغمر النفس دون بحث أو توقع، ويقدم لها على حين فجأة جملة من المعرفة، لا تسبق فيها المقدمات نتيجتها، ولا المقدم تاليه.
فليس القرآن إذن عملًا فلسفيًّا، بمعنى أنه ليس ثمرة فلسفة، وهو لا يستخدم طرق الاكتساب الفلسفي، بالإضافة إلى أنه لا يتبع كذلك طرق التعليم التي يتبعها الفلاسفة، وهي طرائق المنهج العقلي، التي تقوم على:"التعريف، والتقسيم، والبرهنة، والاعتراضات، والإجابات"؛ وهي كلها أمور متلاحمة دون جدال، ولكنها لا تؤثر إلا على جانب واحد من النفس، وهو الجانب العقلي، على حسين أن للقرآن منهجه الذي يتوجه إلى النفس بأكملها؛ فهو يقدم إليها غذاء كاملًا، يستمد منه العقل والقلب كلاهما، نصيبًا متساويًا.
وهكذا يفارق التعليمُ القرآنيُّ التعليمَ الفلسفيَّ، سواء في المصادر، أو في المناهج. فهل هما يتفارقان كذلك في موضوعهما؟ وفي هدفهما؟
إن القول بهذا معناه أننا نقرر -بعلم أو بلا شعور- أن القرآن ليس كتاب دين؛ ذلك أنه مهما تكن الفروق بين الفلسفة والدين -والتي تتمثل في أن الأولى، تستمد منبعها من ارتياب العقل، على حين أن الدين يستمده من الضوء الكامل للوحي؛ أو أن كليهما قد ينقاد أحيانًا1 وراء سراب
1 نحن نتحدث هنا عن الدين بعامة، لا عن الأديان المنزلة.
التخيل، وأن أحدهما "وهو الفلسفة" ليس سوى معرفة محضة وبسيطة، والآخر اقتناع عميق، ومؤثر، وأخّاذ- مهما تكن الفروق بينهما فإن للفلسفة في جانبها الأسمى، وللدين في جميع أشكاله، موضوعًا مزدوجًا مشتركًا، هو: حل مشكلة الوجود؛ أصله ومصيره، وتحديد الطريقة الحكيمة والمثلى للسلوك، ولتحصيل السعادة.
بيد أن أفضل ما يدل على التشابه بين المادة القرآنية بخاصة، وبين الفلسفة -أن نلحظ أن القرآن حين يعرض نظريته عن الحق، وعن الفضيلة لا يكتفي دائمًا بأن يذكر بهما العقل، ويثير أمرهما باستمرار أمام التفكر والتأمل، وإنما يتولى هو بنفسه التدليل على ما يقدم، ويتولى تسويغه. وفضلًا عن ذلك، فإن طبيعة استدلالاته، والطريقة التي يسوق بها الدليل؛ قد اختيرت كلتاهما على وجه يفحم أعظم الفلاسفة دقة، وأشد المناطقة صرامة، في الوقت الذي تُلبى فيه أكثر المطالب واقعية، كما تروق أرقى الأذواق الشعرية وأرقها، وأبسط المدارك وأقلها.
فليس يكفي إذن أن نقول: إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة، وليدة التفكير الناضج، وعاشقة اليقين؛ ولا يكفي كذلك أن تقول: إنه يوافقها ويشجعها، وإنه يرتضي بحثها المنصف، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك: أنه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات، وفي الاستدلالات.
ولا ريب أن القرآن لا يقدم إلينا هذه الحقائق الأساسية مجتمعة، في صورة نظام موحد. بيد أننا نتساءل: إذا كان نظام كهذا لم يوجد كاملًا، أفلا يوجد في هذا الكتاب جميع العناصر الضرورية، والكافية لبنائه؟
الحق أنه لا مراء في أن القرآن مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره، ومبادئ السبب والغاية، وأفكار عن النفس، وعن الله
…
إلخ. وإن دراسة مثل هذا الموضوع لجديرة أن يخصص لها عمل مستقل.
فأما أن يكون ذلك الكتاب قد تحدث في الوقت نفسه عن أسس النظرية الأخلاقية -فذلكم هو السؤال الأول الذي طرحناه في دراستنا هذه، والذي خصصناه بأعظم قدر من جهدنا.
وإنا لنعتقد أن بوسعنا أن نعلن منذ الآن أننا قد وجدنا لهذا السؤال إجابة واضحة، وإيجابية تمامًا.
إن القرآن لا يكتفي في الواقع بأن يضع قاعدة السلوك، على وجه أكثر شمولًا وتفصيلًا، كما لم يفعله أي تعليم عملي، فقد وجدناه يرسي تحت هذا البناء الضخم قواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة. ولتطرح عليه مثلًا السؤال التالي:
على أي أساس ترتكز شريعة الواجب القرآني؟
ومن أي معين تستقي سلطانها؟
ولسوف يجيبك: بأن التمييز بين الخير والشر هو إلهام داخلي مركوز في النفس الإنسانية، قبل أن يكون شرعة سماوية؛ وبأن الفضيلة -في نهاية المطاف- إنما تتخذ مرقاتها من طبيعتها الخاصة، ومن قيمتها الذاتية، وبأن العقل والوحي -على هذا- ليسا سوى ضوء هادٍ، مزدوج لموضوع واحد، وترجمة مزدوجة لواقع واحد أصيل، تمتد جذوره في أعماق الأشياء.
واسأله بعد ذلك: عن صفات هذه الشريعة، وامتداد سلطانها؟
ولسوف يقول لك: إنها شريعة عامة، وأبدية، تكفل للبشرية مطامحها المشروعة، ولكنها تعترض بكل وضوح وتأكيد على شهواتها الجامحة، والمتحكمة.
وزد في سؤاله عن المسئولية الإنسانية، وعن شروطها، وحدودها، وعن الوسيلة الناجعة لكسب الفضيلة، وعن المبدأ الأسمى الذي ينبغي أن يحد الإرادة عن العمل؟