الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الجزاء
مدخل
…
الفصل الثالث: الجزاء
تتمثل العلاقة بين الإنسان والقانون لأعيننا في شكل حركة إقبال وإدبار، مكونة من ثلاثة أزمنة، ولقد كنا مع فكرة الإلزام ما نزال في نقطة البداية، ولكنا مع فكرة الجزاء، نجد أن دائرة هذه العلاقة الجدلية سوف تقفل، فهي الوحدة الأخيرة في ثالوث، وهي أشبه بالكلمة الأخيرة في حوار.
فالقانون يبدأ بأن يوجه دعوته إلى إرادتنا الطيبة: فهو "يلزمنا" بأن نستجيب لتلك الدعوة، وبعد ذلك وبمجرد ما نجيب بكلمة "نعم" أو "لا" -نتحمل بذلك "مسئوليتنا"، وأخيرًا وعلى إثر هذه الاستجابة يُقوِّم القانون موقفنا حياله، فهو يجازيه.
فالجزاء إذن هو رد فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون، وقد رأينا أن القانون الأخلاقي مطلب لا يقاوم لأنفسنا، وفرض صارم لضميرنا الجماعي، وهو في الوقت نفسه أمر مقدس لضمير الفرد في أكمل صوره وأقدسها، فمن هنا كان هذا الشكل المثلث للمسئولية، التي فرغنا من بحثها. ومن هنا أيضًا كان للجزاء ثلاثة ميادين، سوف ندرسها في هذا الفصل: الجزاء الأخلاقي، والجزاء القانوني، والجزاء الإلهي.
1-
الجزاء الأخلاقي:
كثيرًا ما يتساءل المرء عما إذا كان هناك "جزاء أخلاقي"، أو عن
إمكان وجود مثل هذا الجزاء، أليس هذان اللفظان متنافرين تمامًا؟ أليس إنكارًا لطبيعة القانون الأخلاقي المنزهة على الإطلاق -أن نقترح للنشاط الإنساني غاية أخرى، غير أداء الواجب لذاته؟
في رأينا، أن الاعتراض يقوم على نوع من الخلط المؤسف بين علم الأخلاق والنزعة الأخلاقية، بين مقتضى العدالة في ذاتها، والأهداف التي تنشدها الإرادة؛ وهما أمران متمايزان تمامًا، دون أن يتوازيا بالضرورة. ولسنا نرى في الواقع أية إحالة في أن يكون لقانون معين جزاء صارم دون أن يدعونا أن نتخذ من جزاءاته حافزًا لجهدنا، والقانون الفيزيولوجي "العضوي" يقدم لنا مثالًا على هذه الحقيقة: أليس جزاء الظروف الصحية التي أعيش فيها -موجودًا آليًّا في الصحة والمرض اللذين تسببهما، حتى عندما لا أفكر قط في هذه النتائج؟ فلماذا يكون الأمر على خلاف ذلك في القانون الأخلاقي؟ سوف تقول لي: إنه يُحرِّم عليك أن توجه نظرك إلى شيء آخر غير أمره المهيب -ليكن!! ولكن ذلك لا يمنع أنه يستطيع، بل ويجب، أن يحفظني من النتائج المختلفة، المنوعة التطبيق، حسب ما إذا كنت ألتزمه على تقوى، أو أرفض الخضوع له في نزق وطيش.
نعم، إن جزاء ضروريًّا، ومحددًا ينبغي أن يطبق في فكرة القانون ذاتها، وإذا كان القانون الأخلاقي لا يتضمن تنفيذه أو انتهاكه أية نتيجة لصالح الفرد الذي يفرض عليه أو ضده، فإن هذا القانون لا يكون باطل الأثر فحسب، بل متعسفًا وغير معقول؛ بل إنه لن يكون ملزمًا، أي: لن يكون هو ذاته.
فكل ما في الأمر هو أن نعرف فِيمَ يتمثل هذا الجزاء، الذي نصفه بأنه أخلاقي؟ ويجب بداهة أن نستبعد كل فكرة للثواب أو العقاب تؤثر في حواسنا الخارجية، إذ إن مثل هذه الجزاءات، فضلًا عن أنها لا يمكن أن
تسمَّى "أخلاقية"، فإنها كذلك ليست ضرورية، اللهم إلا إذا رجعنا بالفكر إلى عالم آخر، يصبح فيه السعادة والشقاء -كل على حدة- على توافق تام مع الخير والشر. ولكن ما دمنا بعيدين عن مجال الدين، فإن فكرة عالم كهذا غريبة عن الأخلاق الطبيعية، على وجه الإطلاق، وهي الأخلاق التي لا تتجاوز حدودها مجال الضمير الحالي، وعليه فكم من رذائل في هذه الدنيا توّجت بالنجاح!! وكم من فضائل رازحة تحت ضروب البؤس!! ولدينا من ذلك في كل يوم مزيد.
هل يجب أن نستبعد أيضًا، كما قد قيل -فكرة اللذة والألم، الباطنية المحضة؟ وهل ندم الضمير ورضاه من المشاعر الغريبة أيضًا عن الحياة الأخلاقية؟ أليس لهما أي حق في الوجود بقوة القانون؟
لقد قيل لنا: إن هذه المشاعر ليست -احتمالًا- سوى بقايا مصفاة لفكرة موضوعية عن المسئولية، وإذا لم يكن الندم خوفًا مبهمًا من العقاب، فإنه التوقع أو الرجاء1.
وإليك البرهان المقنع الذي روَّجوا له ضد هذه الاحتمالات، من أجل نفيها نهائيًّا من الميدان الأخلاقي، فإن هذه الحالات لا تتنوع بصورة ملحوظة من إنسان لآخر فحسب، بل إنها قد تختفي اختفاءً كاملًا في بعض حالات الفسق، فهي ليست إذن نتائج ضرورية للخضوع للواجب، أو لمخالفته، ومن ثَمَّ استنتجوا استحالة الجزاء الأخلاقي بالمعنى الصحيح.
ولكن، هل نحن متفقون على معنى الكلمات؟ إذا كان المراد بعبارة "القانون الأخلاقي" -هو الواجب في ذاته، القانون الموضوعي الذي يفرض على جميع الناس، مستقلًّا عن حالات ضميرهم، فمن الحق أن قانونًا
1 انظر: levy Bruhl. L'idee de la responsabilite، d III S I
كهذا يمكن أن يوجد، دون أن يؤدي في جميع الأنفس إلى هذه الحالات من الشعور بالراحة أو الألم، من الفرح أو الندم. غير أن إلغاء هذه الحالات الخاصة لا يؤدي إلى القضاء على جميع الحالات الداخلية التي يثيرها أداء الواجب أو انتهاكه. ولسوف نرى قريبًا أن كل سلوك، حسنًا كان أو سيئًا، ينشئ حالة داخلية تتناسب معه، وتكون عامة وضرورية.
فأما إذا كان المقصود بكلمة "قانون"، قاعدة يعرفها ويحس بها الإنسان، قانونًا يتصل بمعارفنا ومشاعرنا، فمن الواضح أنه بعد أن يباشر عمله لا يمكن لفكرة الواجب أن تظهر مرة أخرى على مسرح الضمير، دون أن تحدث فيه أصداء، تختلف في درجة عمقها، تعبر عن الرضا في حالة النجاح، وعن الألم في حالة الفشل. وإذا حدث على سبيل الافتراض أن الإنسان الذي فسدت أخلاقه لم يستشعر شيئًا من هذا، وإذا كان قد فقد معنى الخير والشر تمامًا، فماذا يمكن أن يقال سوى أن القانون لا يوجد بالنسبة إليه؟ وهكذا يمضي اللفظان معًا دائمًا؛ لأنهما لا ينفصمان إيجابًا وسلبًا.
هل معنى ذلك أننا نقف إلى جوار النظرية العامة، التي ترى في ندم الضمير ورضاه عقوبة أو مكافأة كافية للقانون الأخلاقي؟
هيهات، فإذا كان كل ما ننتظره من القانون كجزاء على موقفنا نحوه -هو أن يمتعنا أو يؤلمنا فيا له من مشروع صبياني!! إن المتعة والألم اللذين نحس بهما بعد أن نفعل خيرًا أو شرًّا، هما مع ذلك رد فعل لضميرنا على ذاته، أكثر من أن يكونا رد فعل للقانون علينا، فهما تعبيران طبيعيان عن هذا اللقاء، بين شعورين متلاقيين في ذوقنا الخاص، أو متضادين، أي: إننا تبعًا لتوافق شعورنا بالواقع أو تضاربه مع شعورنا بالمثل الأعلى -إما أن نتمتع بحالة من السلام والدعة، ناشئة عن هذا التوازن الداخلي، أي: عن اتفاقنا مع ذواتنا، لا سيما ونحن على وعي بهذه القوة التي منحت لنا كيما ندمج
أفكارنا في الأحداث؛ وإما أن نتألم لهذا التناقض، وذلك الضعف في قوانا -تألمنا من تمزق في كياننا.
هذا التفسير النفسي الخالص لانفعالاتنا الأخلاقية يسير في انسجام مع النصوص، فالواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينظر إلى حالات النفس هذه على أنها ثواب يقتضيه سلوكنا، وإنما رأى فيها -عوضًا عن ذلك- ترجمة وتحديدًا للإيمان "الأخلاقي"، فقد روى أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك، فأنت مؤمن"1.
وفي حديث آخر -أن درجة شدة هذا اللوم الباطن تعكس صدق إيماننا، وتقيس درجته قياسًا دقيقًا، فنحن نشعر فعلًا بجسامة ذنبنا وخطورته على نحو متفاوت، تبعًا لدرجة شعورنا الحي بالتكليف، وهو قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يرى ذنبه فوقه كالجبل يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره"2.
ولكن، إذا كان الندم لا ينشئ جزءًا ثوابيًّا، ألا يمكن أن يعد بمنزلة جزاء إصلاحي؟
لا يحظى هذا الرأي بأكثر مما حظي به سابقه، فإن ما يعيد تثبيت القانون المنتهك ليس شعورًا معينًا، ولكن موقف جديد للإرادة: هو "التوبة". والندم ليس هو التوبة، بل هو تمهيد لها وإعداد فحسب، فعندما تخضع النفس للشر، يحدث فيها نوع من الصدع، وهي تجد -دون ريب- في حرارة الندم المؤلمة وسيلتها لتلتئم، وتقف من جديد مستجمعة، وتحمل
1 مسند أحمد عن طريق أبي أمامة 5/ 251، و252، و256، وهو أيضًا في المسند1/ 18 و26 من حديث عمر بن الخطاب، وهو في المسند 3/ 446 من حديث عامر بن ربيعة. "المعرب".
2 انظر: الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 49.
منذئذ أمانتها، مع مزيد من الطاقة والحماس. ومن المؤسف أننا لا نستغل دائمًا هذه الإمكانية المتاحة لنا. فليس من النادر، بل كثيرًا ما يحدث، أن تهبط هذه الهزة العابرة فجأة إلى درجة الصفر، وأن تخبو النار التي اشتعلت في بعض اللحظات بسرعة، فتصبح دون أثر في الإرادة، ودون غد في السلوك. وإذن فليست التوبة ثمرة ضرورية للندم، وهو لا يستتبعها كنتيجة مبدئية.
إن الندم أثر طبيعي للصراع، ولكنه ليس جزاء، أما التوبة فهي على عكس ذلك تمامًا: إنها ليست أثر طبيعيًّا، بل هي جزاء، وجزاء أخلاقي بالمعنى الحقيقي، يفترض تدخل الجهد، إنها واجب جديد يفرضه الشرع علينا، على إثر تقصير في الواجب الأولي:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} 2، وهي واجب ملح، وعاجل، حتى إنه لا يصادف إرجاء إلا عرضه لخطر زوال فائدته. وأول الأخطار يتمثل في أن استمرار الإرادة في موقفها الخاطئ ينشئ في كل لحظة خطأ جديدًا، والله يقول في صفة المتقين:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} 3، ورغبة الإنسان في أن يغتنم في حاضره كل الشهوات المتاحة، وأن يؤجل محو كل ذنوبه إلى أن يتوب توبة صادقة مع النزع الأخير -ليست سوى وهم باطل، فإن القرآن يؤكد:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} 4.
وبين التوبة العاجلة، والتشبث بالموقف المذنب هنالك الحل البليد، الذي
1 النور: 31.
2 التحريم: 8.
3 آل عمران: 135.
4 النساء: 18.
يتمثل في أن يأسف الإنسان على الماضي، ثم يؤخر إصلاحه إلى حين، وهنا مكمن الخطر؛ لأن القرآن ينص على أن مغفرة الذنب ليست إلا لمن يتوبون من فورهم، أو بعد قليل:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 1 {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 2. والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر هذا النص بحيث يوافق أجل التوبة فسحة الحياة، فقال: "إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد ما لم يغرغر" 3.
ولكن إذا كان أجل الحياة مجهولًا لنا، وهو غالبًا ما يحين، على حين غرة، فمن الحكمة أن نستبق الساعة، أعني: أن نكون دائمًا على أهبة السفر، وأن نحسب باستمرار حسابه، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي:"فمهما وقع العبد في ذنب، فصار الذنب نقدًا، والتوبة نسيئة، كان هذا من علامات الخذلان"4.
ونحن نقول: إن التوبة جزاء إصلاحي، ولكن، كيف نتصور أن موقفًا لاحقًا يمكن أن يصلح موقفًا في الماضي؟
إن كل شيء يتوقف على التحديد الذي نعطيه للكلمات، فإذا كانت الكلمة "يتوب" تعني: يأسف على الشر الذي اقترفه، ويعزم ألا يعود إليه -فإن ذلك لا يكفي بداهة لرفع آثار العمل المقترف، وعليه، فإن التوبة بهذا المعنى لا تؤدي وظيفتها الإصلاحية، في الأخلاق الإسلامية، ففي هذه الأخلاق يقصد "بالتوبة" في الواقع موقف للإرادة أكثر تعقيدًا، موقف.
1 النساء: 17.
2 آل عمران: 125.
3 مسلم، كتاب التوبة، باب 5.
4 الإحياء 4/ 45.
ينظر إلى الماضي، والحاضر، والمستقبل، ويتجلى في الأفعال، لا في اتخاذ خط سلوك جديد فحسب، ولكن أيضًا في إعادة تجديد البناء الذي تهدم، بصورة منهجية. وتعبير القرآن تعبير بناء جدًّا في هذا الصدد، فهو يضيف دائمًا إلى كلمة "تاب" كلمات أخرى مثل:{وَأَصْلَحَ} أو {وَأَصْلَحُوا} 1 أو قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 2؛ فهو مجموع من الشروط التي جعلها ضرورية لكسب الغفران الموعود.
وأول دليل على التوبة النصوح، هو الواجب الآنيّ المعجل، الذي بدونه تصبح فكرة التوبة متناقضة. هذا الواجب ينحصر في العدول السريع عن الذنب، أعني: إيقاف الشر الذي كان المذنب يوشك أن يجترحه.
ثم تأتي من بعد ذلك عمليتان إيجابيتان تكملان هذا الدليل، هما: إصلاح الماضي، وتنظيم مستقبل أفضل. وفكرة "الإصلاح" هي وحدها التي تبقى غامضة، لا يستطاع تحديدها كمفهوم له معنى وحيد، وهي تبدو لنا -في الواقع- تغير من طبيعتها تبعًا لنوع الخطأ الواجب إصلاحه.
فإذا كان الخطأ في واجب أهمل، وما زال الأمر به قائمًا، فإن الإصلاح ينبغي أن يتمثل في قضاء حقيقي، ذي طابع أخلاقي، فكلمة "أصلح" هنا تعني "تدارك" فالعمل الناقص يجب أن يعاد، ويؤدى بطريقة مناسبة، آجلًا أو عاجلًا، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} 3، ويقول:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 4، ولكن حين تكون الحالة شرًّا إيجابيًّا حدث فعلًا، فكيف نصلح ما لا يقبل الإصلاح؟ هنا يظهر معنى آخر للكلمة، فإن "أصلح" لن تعني "أعاد"، بل "عَوَّضَ"
1 البقرة: 160 والأنعام: 54، والنحل:119.
2 المائدة: 93.
3 الكهف: 24.
4 البقرة: 185.
وإذا كان مستحيلًا أن نبطل الخطأ في ذاته، فمن الممكن على الأقل أن نمحو آثاره، بأداء أفعال ذات طبيعة مناقضة، وها هو القرآن يعلمنا أن:{الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 1، وأن أولئك الذين {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2.
ومع ذلك، إن السُّنة قد ميزت هنا نوعين من الخطأ الواجب إزالته: الأخطاء التي تنتهك واجبًا شخصيًّا، ويطلق عليه: حق الله، وذلك كأن يعكف المرء على شهواته، عصيانًا لخالقه، والأخطاء التي تضر بحق الغير، ويطلق عليه: حق العباد، وفي الحقيقة: إن حق الله يوجد في جميع واجباتنا، إما في حالة خالصة، وإما مختلطًا بحق آخر إنساني. وعلى ذلك فإن جميع أشكال التوبة، على ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المشار إليها حتى الآن، ليست قادرة على محو كبائرنا، إلا من حيث هي انتهاك لتلك الشريعة المقدسة، فإذا استتبعت الجريمة -فضلًا عن ذلك- أضرارًا تلحق بإخواننا، فلن يتم إصلاحها إلا بإدخال عنصر جديد.
لقد أسفنا على ما اقترفنا من شر، ودعونا الله أن يغفره لنا، وعزمنا ألا نعود إليه، واستفرغنا طاقتنا في مقابلة الفعل السيئ بأعمال طيبة، كل هذا جميل، ومأمور به، وحبيب إلى الله، ولكنه يظل عاجزًا عن أن ينشئ توبة كاملة، إذ يجب أن نحصل على إبراء صريح ومحدود من أولئك الذين أسأنا إليهم، فضلًا عن الندم، والاهتداء. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له مظلمة لأحد، من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته،
1 هود: 114.
2 التوبة: 102-103.
وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" 1. فابتداء من الكذاب حتى القاتل، كل إنسان مذنب في حق الغير يجب أن يعترف، ويستسلم لضحاياه، ويخضع لأحكامهم، فإذا لم يستبرئهم في هذه الدنيا وجب أن ينتظر مقاصة ثقيلة، يقتضونها منه في الآخرة، كما أخبرنا رسول الله، وهي مقاصة ذات طابع أخلاقي، تتمثل في أن ينقل إلى حسابهم جزء من حسنات ظالمهم، فإذا انتهت حسناته قبل أن يستوفوا ما لهم، وهو "الإفلاس" كما عبر الرسول، فإن عملية عكسية تبدأ: يؤخذ من سيئاتهم فيوضع على كاهله. وذلكم أيضًا هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: "أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار" 2.
ولكي ندرك الأهمية الخاصة التي نعت بها الإسلام الإخلال بواجباتنا الاجتماعية، حسبنا أن نقرأ الحديث الذي يقسم الذنوب ثلاثة أقسام؛ فعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يترك، فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله، والديوان الذي لا يغفر الشرك، والديوان الذي لا يترك مظالم العباد"3.
1 البخاري، كتاب المظالم، باب10، وكتاب الرقاق، باب القصاص.
2 مسلم، كتاب البر والصلة، باب 15.
3 مسند أحمد 6/ 240 من طريق عائشة، ونصه:"الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا. وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} . وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها. فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فظلم العباد بعضهم بعضًا، القصاص لا محالة". "المعرب".
وقبل أن نترك مفهوم التوبة يبقى علينا أن نضيف ملاحظتين نجدهما في القرآن، أولاهما، أن الكفار الذين يدخلون في الدين الحق معفون من كل إجراء إصلاحي للماضي، كأنما كان لهذا التحول إلى الإيمان فضل تطهيرهم من جميع الذنوب التي سلفت، قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1.
وثانيتهما: أن تأثير التوبة النصوح، التي تحدث بشروطها المطلوبة، ما كان لينهار بسبب العودة المحتملة إلى الذنب، "وهو أمر ممكن، حتى مع العزم الشديد الآن"، فهي حالة عارضة، وعلينا أن نكرر جهودنا للإصلاح، دون أن نيأس أبدًا، والله سبحانه يقول:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 2، ويقول:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 3، ويقول:{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 4. والأحاديث أكثر صراحة في هذا الباب. ولنقرأ هذا الحوار الذي ورد به الحديث القدسي: "قال الشيطان: وعزتك يا رب، لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني"5.
ولكن، في أي صورة ما تمثلت التوبة، بالمعنى المركب الذي صورناها به، فإنها لا تنشئ سوى جزاء إصلاحي، يتطلبه منا الشرع، أفلا يوجد
1 الأنفال: 38.
2 الأنفال: 33.
3 الزمر: 53-54.
4 الشورى: 25.
5 مسند أحمد من طريق أبي سعيد الخدري، ونصه: قال النبي، صلى الله عليه وسلم:"قال إبليس: أي رب، لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. قال: فقال الرب عز وجل: لا أزال أغفر لهم ما استغفروني". "المعرب".
أيضًا جزاء أخلاقي ثوابي، يمارسه فينا تلقائيًّا، على إثر الموقف الذي نتخذه منه؟
بلى؛ وهو سابق على الجزاء التكليفي الذي لا يفرضه علينا إلا لكي يوقف أثر هذا الجزاء العاجل، فإما ألا يكون للتكليف الأخلاقي معنى، أو يكون لممارسة الفضيلة، وهجر الرذيلة بعض الأثر الواقعي، الشعوري أو اللاشعوري، لصالحنا، أو ضد صالحنا؛ وبغير ذلك يصبح خضوعنا للشرع عملًا بلا جدوى، أمرًا من سيد مستبد، يدفعنا إلى أن نعمل من أجل الاستمتاع فقط بأنه يدفعنا إلى العمل. ولو كان الأثر المؤجل لطريقتنا في الحياة ينتهي إلى أن يمس حساسيتنا، برفق أو بقسوة، دون أن يغير ملكاتنا العليا تغييرًا عميقًا، فإن ذلك يكون أشبه بحال صاحب العمل، الذي يشغل ألف عامل، ثم لا يدفع إلا لأقلهم ذكاء!! كلا فإن هذا الأمر الداخلي الذي لا يقاوم، والذي يريد أن يسخر كل شيء فينا لطاعته: جسدًا، وروحًا، وملكات بالإدراك والتسليم، وقدرة على القيادة والتنفيذ، والذي يريد أن ينظم كل شيء، وأن يهدي كل شيء بطريقة معينة، دون أخرى -هذا الأمر إذا لم يكن مجرد نزوة-
فيجب أن يستهدف أكبر خير في وجودنا بأكمله، وأن يكون شرطًا فيه.
وإنا لنتساءل: هل خلق الإنسان من أجل القانون أو أن القانون هو الذي خلق من أجل الإنسان؟ وقد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأول، وتارة بالرأي الثاني، وفي رأينا أن كلا الرأيين يعبر عن جانب من الحقيقة، ونحن نصادف، هذه القولة، أو تلك في القرآن، فالله سبحانه يعلن من ناحية، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.
ويؤكد من ناحية أخرى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
1 الذاريات: 56.
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} 1، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} 2، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} 3، {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} 4.
فلنقرب ما بين هذين القولين، بحقيقتهما النسبية، ولسوف نحصل على الحقيقة المطلقة، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشرع "الذي هو عبادة الله" ولما كان الشرع قد وجد من أجل الإنسان، إذن فالإنسان قد وجد من أجل نفسه، والشرع غاية، ولكنه ليس الغاية الأخيرة، إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان، كما هو، ناشئًا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية، ومصارعًا من أجل كماله، وبين الإنسان كما ينبغي أن يكون، في قبضة الفضيلة الكاملة. أي: إنه حد وسط بين الإنسان العادي والقديس، بين الجندي والبطل.
والشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين، نحن نقطة بدايته، ونقطة نهايته، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض، ولكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء. ولنقتبس من القرآن صورته الديناميكية، فهذا أفضل من تلك الصور الساكنة والميكانيكية، فالقرآن في رمزين مشهورين يشبه الحق والباطل بشجرتين، فيقول:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} 5 -هذا التشبيه ينطبق على الصدق والكذب العمليين، كما ينطبق عليهما نظريين،
1 المائدة: 6.
2 الإسراء: 15.
3 العنكبوت: 6.
4 فاطر: 18.
5 الرعد: 29-31.
فالفضيلة المؤثرة خصبة نافعة، تنمي قيمتنا وترفعنا من عالٍ إلى أعلى، والرذيلة قبيحة وبلا غد، تجعلنا سطحيين، مبتذلين، بل إنها تنزعنا من الإنسانية.
هل نريد بعض أمثلة، مما ساقه القرآن، وأثبت به أن ممارسة الخير والشر في مختلف صورهما تحدث أثرها في النفس الإنسانية؟ ها هي ذي عينة:
محاسن الفضيلة:
1-
الصلاة: وهي بالنسبة إلى أولئك الذين يؤدونها بروحها ذات وظيفتين أخلاقيتين: فهي لا تقتصر على كونها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، ولكن {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} 1، فهي تجعلنا روحيًّا على اتصال بالمنبع الشامل لجميع الكمالات.
2-
الصدقة: ولها أيضًا أثر مزدوج الفائدة: فهي "تطهر" النفس، حين تصرفها عن حرصها الزائد على الكسب، وهي "تزكي" نضارتها؛ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 2.
3-
والصوم، وللصوم كذلك دور تجنيبي: فهو يحفظنا من الشر، ويدفع عنا شرة الجوارح، ويجعلنا أقدر على أن نحترم القانون، وهو وسيلة إلى بلوغ "التقوى"{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} 3.
4-
الممارسة والحكمة: إن الأداء الدائم للأفعال الفاضلة يجعل الإنسان حكيمًا، شجاعًا في خصومته، كريمًا في رخائه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ
1 العنكبوت: 45.
2 التوبة: 103.
3 البقرة: 183.
هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} 1.
قبح الرذيلة:
1-
السكر: يقدم لنا القرآن الخمر، والميسر بقبح مزدوج، أعني أنهما يزرعان البغضاء والعداوة بين الناس، ويمنعان من ذكر الله، فقال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} 2، وهكذا أثبت الإسلام أن الخمر "أم الخبائث"3 و"مفتاح الشرور"4، والواقع أنه إذا ذهب العقل فأية سيطرة تكون لنا على أنفسنا؟
2-
الكذب: وإذا كان هناك فضائل ورذائل خصبة في الخير، وفي الشر الأخلاقي، بحيث تولد الفضائل الأخرى، والرذائل الأخرى بدورها، فيجب أن نحسب في هذا العدد: الصدق والكذب، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" 5، والله سبحانه يقول:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} 6. والقرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهو لا يكتفي بأن يخبرنا أن الكذب هو رأس الفساد، بل يقدمه لنا على أنه صفة النفس الكافرة، من حيث كان متنافرًا مع الإيمان "الأخلاقي". يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من
1 المعارج 19 - 24.
2 المائدة: 91.
3 انظر: جامع السيوطي 2/ 13.
4 ابن ماجه، كتاب الأشربة.
5 البخاري، كتاب الأدب، باب 69.
6 النحل: 105.
حديث عن أبي هريرة: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن"1.
فهو صلى الله عليه وسلم يمد هذا التنافر إلى جميع الكبائر والمحرمات الرئيسية، وعلى الأقل في لحظة ارتكابها، ففي هذه اللحظة يؤكد الرسول أن الإيمان يخرج من أعماق القلب، فلا يبقى منه لدى المجرم أو الفاسق سوى فكرة غائمة، كأنها ظل يحوم فوق رأسه:"إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، وكان على رأسه كالظلة، فإذا نزع عاد إليه الإيمان"2. ولكن لا داعي للإكثار من نصوص السُّنة، فإنها تمضي بنا بعيدًا، ولنعد إلى نص القرآن.
3-
السلوك، والقدرات العقلية: ليس يكفي أن يقال: إن الخير "يطهر" القلب، ويقوي الإرادة الطيبة ويدعمها، وإن الشر "يفسد" النفس، ويدنسها، ذلك أن أثرهما يذهب إلى ما هو أبعد، بما لهما من انعكاسات وأصداء، حتى في الذكاء. إن اضطراب الهوى يصدئ مرآة الفكر، ويشوه إدراكها للحقيقة:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3، على حين أن التوازن الناشئ عن الصلاح يجعل الإنسان قادرًا على تمييز الحق والباطل، والخير والشر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 4.
4-
النفس بأكملها: وهكذا تتلقى كل قوة من قوانا نصيبها من الجزاء الأخلاقي، فنفسنا بأكملها إذن هي التي نعمل على أن ننقذها، ونكملها، أو
1 البخاري، كتاب الحدود، باب 1.
2 الترمذي: ذكره ابن الربيع الشيباني في التيسير، كتاب اللواحق، باب 1.
3 المطففين: 14.
4 الأنفال: 29.