المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌مدخل

- ‌ الوضع السابق للمشكلة:

- ‌تقسيم ومنهج

- ‌مدخل

- ‌الجانب العملي:

- ‌الجانب النظري:

- ‌ دراسة مقارنة:

- ‌النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن

- ‌الفصل الأول: الإلزام

- ‌مدخل

- ‌مصادر الإلزام الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: القرآن

- ‌ثانيًا: السُّنة

- ‌ثالثًا: الإجماع

- ‌رابعًا: القياس

- ‌خصائص التكليف الأخلاقي

- ‌مدخل

- ‌ إمكان العمل:

- ‌ اليسر العملي:

- ‌ تحديد الواجبات وتدرجها:

- ‌تنافضات الإلزام

- ‌كانت

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌المرحلة الثالثة:

- ‌فردريك روه

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثاني: المسئولية

- ‌مدخل

- ‌ تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

- ‌شروط المسئولية الأخلاقية والدينية

- ‌الطابع الشخصي للمسئولية

- ‌ الأساس القانوني:

- ‌ العنصر الجوهري في العمل:

- ‌ الحرية:

- ‌ الجانب الاجتماعي للمسئولية:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الثالث: الجزاء

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الأخلاقي:

- ‌ الجزاء القانوني:

- ‌نظام التوجيه القرآني ومكان الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌طرق التوجيه الكتابية:

- ‌نظام التوجيه القرآني:

- ‌النتائج غير الطبيعية "أو الجزاء الإلهي

- ‌الجزاء الإلهي

- ‌مدخل

- ‌ الجزاء الإلهي في العاجلة:

- ‌ الجزاء الإلهي في الحياة الأخرى:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الرابع: النية والدوافع

- ‌مدخل

- ‌النية

- ‌مدخل

- ‌ النية كشرط للتصديق على الفعل:

- ‌ النية وطبيعة العمل الأخلاقي:

- ‌ فضل النية على العمل:

- ‌ هل تكتفي النية بنفسها

- ‌دوافع العمل

- ‌مدخل

- ‌دور النية في المباشرة وطبيعتها

- ‌ النية الحسنة:

- ‌ براءة النية:

- ‌ النيات السيئة:

- ‌ إخلاص النية واختلاط البواعث:

- ‌خاتمة:

- ‌الفصل الخامس: الجهد

- ‌مدخل

- ‌جهد وانبعاث تلقائي

- ‌مدخل

- ‌ جهد المدافعة:

- ‌ الجهد المبدع:

- ‌الجهد البدني

- ‌مدخل

- ‌ النجدة:

- ‌ الصلاة:

- ‌ الصوم:

- ‌الصبر والعطاء، والعزلة والاختلاط:

- ‌ جهد وترفق:

- ‌خاتمة:

- ‌خاتمة عامة:

- ‌تنبيه:

- ‌الأخلاق العملية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: الأخلاق الفردية

- ‌أولًا: الأوامر

- ‌ثانيًا: النواهي

- ‌ثالثًا: مباحات

- ‌رابعًا- المخالفة بالاضطرار:

- ‌الفصل الثاني: الأخلاق الأسرية

- ‌أولًا: واجبات نحو الأصول والفروع

- ‌ثانيًا: واجبات بين الأزواج

- ‌ثالثًا: واجبات نحو الأقارب

- ‌رابعًا: الإرث

- ‌الفصل الثالث: الأخلاق الاجتماعية

- ‌أولًا: المحظورات

- ‌ثانيًا: الأوامر

- ‌ثالثًا: قواعد الأدب

- ‌الفصل الرابع: أخلاق الدولة

- ‌أولًا: العلاقة بين الرئيس والشعب

- ‌ثانيًا: العلاقات الخارجية

- ‌الفصل الخامس: الأخلاق الدينية

- ‌إجمال أمهات الفضائل الإسلامية:

- ‌فهارس الكتاب

- ‌فهرس الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌فهرس الأعلام والفرق والقبائل والأماكن:

- ‌قائمة المصطلحات الأجنبية والعربية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ الجهد المبدع:

ب-‌

‌ الجهد المبدع:

لنفترض الآن أن أحد ميولنا السيئة، أو كثيرًا منها، أو كلها -قد انزاح من وجودنا الأخلاقي، إننا نكون بذلك قد حققنا تقدمًا. وكلما تخلص حقل عملنا من أعشابه الضارة، أصبح أكثر قابلية للزراعة. ومع ذلك يجب ألا نظن أنه قد أصبح -للحال- صالحًا؛ لأن تنحية الاتجاهات الضارة ليس معناها خلق الاتجاهات النافعة بالضرورة.

ولذلك يجب ألا نبقى في حالة اللامبالاة، والحياد، حيال ما يجب غرسه، فبعد أن ننزع الأعشاب الضارة يجب علينا أن نبحث عن البذور الجديدة. فأما إذا التزمنا موقفًا محايدًا في هذا الصدد فإن هذا الموقف يكون ضد الأخلاق.

ولنفترض كذلك أن بعض الميول الصالحة الراسخة تحتل لدينا الآن المكان الأول، فتلك ولا شك خطوة جديدة، تجعلنا أكثر تأهلًا للأخلاقية، ولكنا لا نكون بعد في صميم أرضها.

في هذه المرحلة يتمثل الخير لنا على أنه الأجدر، أو الأفضل، ولكنا لم نترك بعد مجال النزوع. وشتان بين أن "ننزع" إلى شيء، وأن "نريد" هذا الشيء، فالعمل الأخلاقي الأول هو الإرادة، على وجه الخصوص. وليس المراد فقط إرادة "الخير" من حيث هو مفهوم عام، يحوطه الغموض وعدم التحديد، مما تحتويه العموميات، بل هو إرادة هذا الخير، أو ذاك، محددًا معرفًا بكيفه، وكمه، وغايته، ووسائله، ومكانه، وزمانه.

ولكن بأي معنى يمكن أن نتحدث هنا عن العمل النشط؟

نستطيع أن نميز "ثلاثة معان": فهو يتمثل "أولًا" في "بحث جاد" مستبعدًا كل تراخ، عن ذلك الحل المعين الذي يجب أن نأخذ به، فما

ص: 613

ينبغي أن نكل أمر تحديد موضوع إرادتنا إلى تصاريف الطبيعة الخارجية، ولا إلى حركات فطرتنا الداخلية. وليس دورنا الأخلاقي أن نقف متفرجين على ما يحدث أمامنا، أو في داخلنا، ولا أن ننقاد انقيادًا آليًّا للحواس، أو العواطف الجامحة. بل ينبغي على العكس أن نسمو فوق جميع الاعتبارات الباطنة والظاهرة، وأن ننظر من عل إلى كل الحلول الممكنة، لنجري اختيارنا واضحًا جليًّا، وذلك في الواقع هو الجانب الذي يختص بشخص الإنسان، كعامل حر، ومستقل، نسبيًّا.

وحتى لو أننا اخترنا هذا الحل أو ذاك من الحلول المقترحة دون أن نضيف إليه أي تعديل، فإننا حين نوافق عليه وندمغه بطابع شخصيتنا، أو -في كلمة واحدة- حين نتبناه، حينئذ فقط نستحق أن نعتبر أخلاقيًّا صانعي أعمالنا.

والقرآن الكريم، فيما خلا النصوص التي تذكرنا بواجباتنا الخاصة، ما زال يؤكد أهمية هذا الواجب العام الذي يضم كل الواجبات الأخرى، فهو يستثير همتنا دون تحديد، مستعملًا الفعل "عمل" في حالة اللزوم، ويصوغ لذلك أوامر وعظات يكررها، فيقول:{اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين} 2.

إن القدرية الاتكالية هي العدو الأول للأخلاق الإسلامية، ونحن ندعم رأينا في هذا الموضوع، بالواقعة التالية التي رواها أكبر اثنين من المحدثين "هما البخاري ومسلم". فقد روى البخاري عن محمد بن بشار، قال: حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة عن منصور والأعمش سمعا سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم: أنه كان في جنازة، فأخذ عودًا، فجعل ينكُت في الأرض، فقال: "ما منكم من أحد إلا كُتِبَ

1 التوبة: 105.

2 آل عمران: 136.

ص: 614

مقعده من النار، أو من الجنة". قالوا: ألا نتكل؟ قال: "اعملوا، فكلٌّ ميسر" 1، ثم تلا قوله تبارك وتعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2.

هذه الدرجة الأولية من الجهد لا بد منها للأخلاقية، فهي روحها وجوهرها، فمن وضع نفسه في الدرجة الأدنى من ذلك مباشرة، فإنه يتخلى ويتنازل عن كرامته كإنسان. ولكي نستعمل تعبيرًا من تعبيرات النبي صلى الله عليه وسلم نقول: إن عدم وجود هذه الدرجة الأولية لا يسمى ضعفًا، بل هو "عجز" حقيقي، وذلك وارد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة:"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"3.

بيد أن للجهد المبدع "معنًى ثانيًا"، وهو لا ينحصر في اختيار إرادي، أيًّا كان نوعه، بل في "اختيار صالح". ولا ريب أنه إذا كان بحثنا -على سبيل الافتراض- قد اتجه من قبل نحو الخير، فإن جميع الحلول التي نحصل عليها سوف تبدو لنا صالحة. ومع ذلك فليس كل ما يستهدف خيرًا هو بالضرورة صالح في ذاته، ومشروعية الغاية لا تعفي من مشروعية وسائلها، فلكي يكون الحل المتصور مقبولًا لا يكفي أن يستهدف الخير، بل يجب كذلك أن يستلهم الشرع، وأن يتطابق مع قواعده، في بنائه ذاته. ولقد

1 صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب 31. وفي حديث آخر:"اعملوا، فكل ميسر لما خلق له"، وقد خلط المؤلف بين الحديثين على ما في البخاري وكذا في مسلم، كتاب القدر، باب 1. "المعرب"

2 الليل: 5-10.

3 صحيح مسلم، كتاب القدر، باب 8، ونص الحديث:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". "المعرب".

ص: 615

يحدث في الواقع أن يكون أحد الحلول كافيًا جدًّا ليوصف بأنه صالح، وأن يكون حل آخر أقل من أن يستحق هذا الوصف.

ولنأخذ على ذلك مثال "الصدقة"، فلا شيء أوضح منها، ولا أكثر اشتراكًا بين جميع الضمائر، طالما حملت على معناها العام. ولكن متى طلبنا بدقة ما يريد كل فرد أن يصنعه بصورة حسية في هذا المجال، كيما يفي بتكاليفه -فإننا نقع في أكثر التعريفات تضاربًا؛ ذلك أن المساعدة المالية التي يريد المتصدقون أن يقدموها للفقراء قد تختلف، على ما لا يحصى من الدرجات، تبعًا لكرمهم، وابتداء من الفلس، إلى حد هبة الثروة بأكملها.

ولكن الشرع الأخلاقي، على الأقل في لغة الإسلام، لم يدع الأمور تجري في أعنة الفوضى، بل لقد أقر إجراء، وثبت حدودًا. فهو -من ناحية- قد أقر حدًّا أدنى معونة سنوية قدرها 2.5% من الثروة النقدية و5% أو 10% من المحصول "تبعًا لطريقة الري" وهو من ناحية أخرى قد جعل ثلث الثروة الكلية حدًّا أقصى، من حق الإنسان عند الوصية، أن يمنحه لآخر، من غير ورثته الشرعيين.

فواجب المؤمن محدد على هذا النحو: أن يتحاشى الطرفين المحرمين، فلا يقنع بقدر من المال أقل من الحد الأدنى الواجب، ولا يتجاوز الحد الأقصى المباح.

وإذا كان المجال هنا قد اهتم بالاعتبارات الكمية، فهناك مجالات أخرى تضع في الاعتبار الأمور التي تتصل بالكيفية، وبالهدف، وبالزمان، وبالمكان. وكلها شروط بنائية أو تحتمها الظروف، ويجب أن تتحقق لتنشئ ما قد تعتبره الأخلاق الإسلامية اختيارًا صالحًا. فالعمل الذي ينعدم فيه أحد هذه العناصر الجوهرية يسقط بنفس الأثر في حمأة الشذوذ.

ولقد نجد في هذه التنظيمات بعض الجور على الضمائر الفردية، بحيث لا تترك

ص: 616

شيئًا لاختيارها الحر، ولسوف نرى فيما بعد مدى حرية التصرف المتروكة لهذا الاختيار.

بيد أنه ليس من الصعب أن نلاحظ أن القاعدة لم تحل كل مشكلة، وهي لا تستطيع مطلقًا أن تحل كل مشكلة، وذلك حين لا نتجاوز الإطار المقيد للحد الأدنى المقبول.

ونعود إلى نفس المثال، لنجد أنه يبقى علينا أن نختار الأشخاص الذين لهم الحق كل الحق في مساعدتنا، والطريقة التي نعطيهم بها "وعلى سبيل المثال: سرًّا أو علانية"، وأن نراعي كذلك كيفية عطائنا، وبخاصة حين يكون عينيًّا.

وباختصار، كلما خضنا في التجربة الحسية وجدنا أن بديلًا يفرض نفسه دائمًا على اختيارنا، دون أن نخرج -مع ذلك- عن واجبنا الدقيق.

وأخيرًا فلنتناول "الدرجة الثالثة" من الجهد، فعندما نريد حل مشكلة أخلاقية يتمثل لأعيننا كثير من الحلول، كلها صالحة على وجه التحقيق، وقد يحدث غالبًا ألا يكون صلاحها بدرجة متساوية، فمنها ما تتوفر فيه الشروط الأولية للواجب، توفرًا كاملًا، ومنها ما هو أكثر أو أقل جدارة. و"البحث عن الأفضل" هو ما ينشده الجهد المبدع في درجته الثالثة، فهل هذا البحث عن "الأفضل" هو أيضًا مما تلح الأخلاق القرآنية في طلبه مثلما تلح في طلب "الخير" دون زيادة؟

من المحال علينا أن نجيب بالنفي، فالقرآن ما يزال في الواقع يدعو معتنقيه إلى هذا النوع من الجهد، ويوصيهم به، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

ص: 617

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} 1، وقوله:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2، وقوله:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} 3، وقوله:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون} 4. وهي آيات تريد أن تقول: إن الذين كان لهم التفوق الأخلاقي على الأرض سوف يكونون أول من يلقاهم الله يوم القيامة.

وأخيرًا، نقرأ في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القولة الجميلة:"إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها"5.

وعلى هذا النسق نجد مثالًا ملموسًا في واقعة تاريخية مشهورة، فنحن نعلم الظروف التي عزم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته على أن يثأروا من المشركين في مكة لأول مرة، أولئك الذين لم يقتصروا على أن أكرهوا المسلمين على ترك بلدهم، واستولوا على أموالهم وديارهم المهجورة، بل إنهم دأبوا على اضطهاد المستضعفين الذين لم يستطيعوا الهجرة.

وقد خطرت للمسلمين المهاجرين إلى المدينة وسيلتان لاستنقاذ إخوانهم المحتجزين بمكة، ولتحطيم كبرياء المعتدين، فإما أن يتصدوا لقافلة تجاراتهم لدى عودتها من الشام، وإما أن يأخذوا بزمام المبادرة فيلاقوا جحافلهم التي تفوق عدد المسلمين ثلاث مرات، والتي توفر لها الكثير من العدة والسلاح، وكانت قد سارت إليهم فعلًا، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، قائلًا:"إن الله وعدني إحدى الطائفتين، العير أو النفير"، وقد مال الاتجاه العام أول

1 الزمر: 17-18.

2 الزمر: 55.

3 المائدة: 48.

4 الواقعة: 10-11.

5 ذكر المؤلف هذا الحديث: "إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها" وأحال إلى الجامع الصغير للسيوطي 1/ 75، الذي نقلنا عنه النص كما أثبتناه. "المعرب"

ص: 618

الأمر إلى الحل الأقل خطرًا، والأكثر فائدة، ولكن الله عز وجل كان يريد أكثر الحلول تأثيرًا، وأعظمها شرفًا، وأقدرها على حسم النزاع بين الحق والباطل، وقد كان، وهو ما سجلته الآية الكريمة:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} 1.

وهكذا يدعو القرآن المؤمنين إلى أن يبتغوا في سلم الأعمال أسماها وأقواها تأثيرًا.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إلى أي مدى يطلب منا هذا الجهد الأرفع؟ وهل هو يطلب بنفس الصرامة المتمثلة في الدرجتين السابقتين؟

نعم، ولا ريب، عندما تكون إحدى القيم الرفيعة في خطر، ولا يوجد لصونها والمحافظة عليها من وسيلة أمام الإنسان إلا أن يجاهد بكل قواه، ويستنفد كل موارده.

وأعظم دلائل الإيمان -كما رأينا- هو التضحية التي يقدمها المؤمن عن طواعية وحرية، وهو بذل النفس -حتى النفس- من أجل المثل العليا التي تعلو عليها.

ولكن، هل من الممكن في الظروف العادية أن نجيب بالإيجاب، بكل دقته وصرامته؟

لا نظن ذلك؛ لأن معناه، أولًا، أننا نلغي فكرة الدرجة من تقديراتنا

1 الأنفال: 7-8.

ص: 619

الأخلاقية، وقد يصبح مجال العمل ضيقًا شديد الضيق، إلى حد ألا يسمح إلا بعمل واحد لا يختلف مطلقًا بالزيادة أو النقصان. ولسوف نجد أن الجهد الكريم الذي قد يقف على بعد خطوات دون الغاية المرجوة، سوف يوصم بنفس القدر من اللاأخلاقية التي يوصم بها أي عميل بليد، أو متوسط، أو ضعيف. بل إن الفضيلة نفسها سوف تكون مفهومًا خياليًّا، لا وجود له إلا في عالم الأساطير. ذلك، أنه إذا كان ما ندعوه بالممكن الأفضل يعني هذا الحد المحدود للقدرة الإنسانية فلسوف يختلط لا محالة بما هو فوق الإنساني، أو بالأحرى بما هو لاإنساني. فلكي يتأكد الإنسان من أنه استعمل كل قواه يصبح دليله الوحيد أن ينتحر باستهلاك نفسه. وبهذا نرى إلى أية استحالة يقودنا فرض كهذا.

أما موقف القرآن فجد مختلف عن هذا. فهو من ناحية يجعل فكرة "الكمال" ما بين الانهماك غير المعقول، والجهد المتوسط.

وهو من ناحية أخرى، مع تشجيعه الناس على أن يطلبوا الأفضل، يزكي ويستر بلطفه أهل الصلاح الطيبين جميعًا، ضعفاء كانوا أو أقوياء. ومن أجل هذا وجدناه بعد أن يقيس المسافة بين المجاهد الذي يبذل نفسه وماله، والخالف الذي يبقى في المؤخرة، وبعد أن يعلن أفضلية المجاهد في قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} 1، إذا به يستدرك قائلًا:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2.

وهذه المقارنة ذاتها، بل ونفس التقدير، بين منفقَيْن، أحدهما بادر

1 و2 النساء: 95.

ص: 620

بالإنفاق في الظروف الشاقة، على حين جاء الآخر من بعد، عندما تضاءلت المشقات كثيرًا:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1.

ومن هنا ينبع قانون عام ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"2.

ومن هنا نفهم بسهولة لماذا تتغير لهجة القرآن، فهو حين يتحدث عن موقف عُدِمت فيه الطاقة كلية، وسيطر عليه تراخٍ عظيم التفريط، يكون التحريم صريحًا، واللوم عنيفًا، فأما إذ كان الأمر هنا أمر إهمال ضئيل وضعف نسبي بسيط، فإن الرحمة تبدو هنا مشروعة، وملائمة.

وهذا المبدأ في التدرج، الذي انطوت عليه نصوص لا تحصى، قد هدى العلماء والفقهاء المسلمين إلى ترتيب معاني الخير والشر متدرجة، بحيث أدى ذلك إلى تصنيف كل منهما في طائفتين رئيسيتين، وعلى هذا النحو فإن العمل الصالح يمكن أن يكون: إما تكليفيًّا صارمًا، وإما تفضيليًّا جديرًا بالاختيار، وكذلك في حالة العكس أي: العمل الخبيث، إما أن يكون محرمًا صراحة، وأما معيبًا فقط، غير مستحب.

وها نحن أولاء الآن نستطيع أن نجيب عن السؤال المطروح، فنحن باستعمالنا لهذه المصطلحات التي أصبحت مقبولة لدى الجميع نقرر أولًا أن البحث عن الممكن الأفضل، متى تجاوز منطقة محددة بالنسبة إلى كل واجب، والتي تعتبر تكليفًا مطلقًا -فإنه يدخل بذلك في مجموعة الخير النافلة.

1 الحديد: 10.

2 صحيح مسلم، كتاب القدر، باب 8.

ص: 621

ولعلنا نذكر حالة الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال:"الصلوات الخمس، إلا أن تطوع شيئًا". فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام؟ قال: "شهر رمضان، إلا أن نطوع شيئًا". قال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام. قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئًا، ولا أنقص مما فرضه الله عليَّ شيئًا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"أفلح إن صدق"1.

ثم إن كلمة "الأفضل" هنا لا ينبغي من ناحية أخرى أن تؤخذ على أساس أنها صيغة الحد الأعلى، بل على أساس المقارنة، فإن المستوى الذي يندب جهد كل إنسان إلى أن يبلغه مباشرة ليس هو الدرجة الحدية التي يتعين الوقوف عندها، بل كل الامتداد الذي يقع فوق التكليف، بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي هذا الامتداد المتراحب الذي يتسع لتنافس كل الناس، يدعى كل واحد منهم إلى أن يرتقي بالتدريج، من نقطة إلى أخرى، بحسب قدراته، ومع مراعاة ما بقي من تكاليفه.

هاتان الملاحظتان تسهمان من جانبهما في إبراز الصفة الرحيمة في هذه الأخلاق، فهما تضيفان إليها جانبًا جديدًا، فضلًا عن الجانب الذي تناولناه من قبل2.

وخلاصة القول: أن العناصر الثلاثة التي يتكون منها الجهد المبدع بأكمل معاني الكلمة هي: "الاختيار الإرادي"، و"الاختيار الصالح"، و"الاختيار الأفضل".

1 البخاري، كتاب الحيل، باب 3.

2 انظر الفصل الأول، فقرة 3 ب.

ص: 622

والعنصر الأول هو روح الأخلاق بعامة، والثاني يقدم إلى كل من الأخلاق الخاصة نوعيتها المختلفة، مع مراعاة القواعد الخاصة بكل نوع، وأما الثالث فهو يصل أخيرًا لإتمام عمل الاثنين وإكماله.

وإذا كانت أغلبية المذاهب الأخلاقية تقوم على أساس مبدأ وحيد، هو "الواجب" أو "الخير"، فإن الأخلاق القرآنية هي إذن، وفي نفس الوقت "أخلاق واجب"، و"أخلاق خير". ولو أننا افترضنا أن الجهد بالمعنى الكامل للكلمة في متناول أيدي جميع الناس فإن هذه الأخلاق لا تبدو متشددة إلا بصدد الدرجتين الأوليين، فأما الدرجة العليا فإن اقتضاءها يصبح "نصحًا"، و"تشجيعًا".

والآن ندرك كيف يصبح من الممكن أن نقيم بين هذه المراحل الثلاث للجهد المبدع سلمًا من القيم الأخلاقية المتصاعدة. والتوازي "بين قوة الجهد والتصاعد في القيمة" وهو الذي كنا نرفضه بالنسبة إلى جهد المدافعة، نقبله هنا بكل رضًا فيما يتعلق بالجهد المنتج. ولكن لما كانت زيادة هذا الجهد المنتج مستفيدة طبيعيًّا من النقصان المشروع في جهد المدافعة، فإن نتيجتينا تتوافقان، وتؤكد إحداهما الأخرى. فهما في الواقع ليستا سوى ترجمتين لحقيقة واحدة بذاتها.

وفائدة هذا المفهوم أنه يعيننا على حل عدد من "المشكلات". فهو يسمح لنا "أولًا" بأن نُرضي الحرص المشروع للنظرية القائلة بأن "الجهد هو شرط كل قيمة أخلاقية". والواقع أن هذه النظرية تجد تسويغها في هذا الشعور بالحيرة الذي يصيب الضمير، حين يراد له أن يسلم للصالحين بثواب على أفعال لم يحققوا فيها جهدًا ولا انتصارًا، والمبدأ الذي تدافع عنه تلك النظرية مبدأ ممتاز، ولكنها فقط تطبقه تطبيقًا سيئًا، ومن ناحية

ص: 623

واحدة: إنها لا ترى أن النقص من ناحية مُعوَّض بالزيادة، وفيض الزيادة من الناحية الأخرى1.

والواقع أن هدف جهد القديس أو الصالح ليس: أن يتحاشى الكبائر، ويتحفظ من السقوط في "قاع" الأخلاق، بقدر ما هو: أن يتحاشى التوقف عند درجة من الكمال أية كانت، وأن يصعد دائمًا إلى أعلى، في الطوابق العليا.

فالأخلاق عند القديسين ليست حربًا، بل هي بالأحرى حياة، بكل ما تضمه الحياة من صراع في المسيرة وفي التقدم؛ ولذلك يشعرون أثناء فترات راحتهم القصيرة بأنهم منادون إلى أن يبدءوا العمل، وهذا النداء الباطن يرتدي في القرآن شكل دعوة صريحة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 2.

وهكذا يتضح أننا أبعد ما نكون عن القول بأن أي مخلوق، مهما كان، يمكن أن يُعفى نهائيًّا من الكفاح؛ بل إننا نرى كيف ينفتح أفق لا حد لرحابته أمام الأنفس الطاهرة المخلصة كيما تبذل جهدها. فحتى لو انتهت مقاومتنا ضد الأهواء المضادة للشرع، فإن علينا أن نقهر خمود المادة، وأن ننتصر على تثاقل الفطرة؛ كيما نحلِّق في آفاق تزداد على مر الزمن رقيًّا.

ومن هنا تنبع هذه النتيجة التي لم يسبق إليها أحد، والتي تبدو في الظاهر متناقضة: إن "القداسة" بدلًا من أن توضع خارج الأخلاق، سوف تكون -بالعكس- "الأخلاقية بأجلى معانيها". وتلك على

1 أدرك القشيري جيدًا فكرة هذا التعويض. "انظر: الرسالة، فصل الإرادة، ص92" ويأتي بعده بزمن طويل ابن عباد ليلاحظ ملاحظة مماثلة، بمناسبة المقارنة بين السالك المجذوب، والمجذوب السالك. "انظر: الرسائل ص40-41".

2 الانشراح: 7-8.

ص: 624

ما نعتقد وجهة نظر القرآن، في قوله مخاطبًا النبي، صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1.

و"المشكلة الثانية" التي يمكن أن تحل، في ضوء المبدأ نفسه، هي مسألة معرفة ما إذا كانت "القداسة" تنتظم بدورها درجات؟

لا شيء يمنعنا من أن نجيب بالإيجاب، شريطة أن تكون جميع الدرجات داخل إطار الكمال، بأوسع معاني الكلمة.

وموقف القرآن واضح كل الوضوح في هذه النقطة، وإليك بعضًا من أقواله:

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 3.

ومع ذلك، فلنحذر أن نخلط هنا فكرتين متميزتين تميزًا تامًّا، وإن كانتا متصلتين من بعض الجوانب:"الأقل كمالًا" و"الناقص"، فغالبًا ما ينزلق الفكر تلقائيًّا من إحدى هاتين الفكرتين إلى الأخرى، ويمضي هكذا إلى حد أن يسيء تقدير رجل كامل، بمقارنته برجل أكثر كمالًا.

ولقد اعتنى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بتنبيهنا إلى هذا الموقف إزاء رسل الله، وتحذيرنا منه، فقال:"لا تخيِّروني على موسى" 4، وإذا كان القرآن

1 ن: 4.

2 البقرة: 253.

3 الإسراء: 55.

4 انظر البخاري، كتاب الخصومات، باب 1، وفي حديث آخر:"لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشقُّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقته الأولى". وهذا الحديث أوضح بيانًا، وأقل التباسًا من سابقه، في التعبير عن مناط النهي عن التخيير. "المعرب".

ص: 625

قد حكى على لسان المسلمين هذه المقالة الدالة على الإيمان: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 1 فإن هذا النفي ينبغي ألا يتوجه فقط إلي الفرق المتعلق بحدث الإيمان، أعني "الاعتقاد ببعضهم، والإنكار لآخرين منهم"، كما تدل عليه الآية الكريمة:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} 2، بل ينبغي أن ينصرف أيضًا إلى كل تفرقة تتجلى في تقدير يضفى على بعضهم، ويحرم منه آخرون.

ومن هنا، فيما نعتقد كان موقف القرآن، في أنه لم يتبع الترتيب التاريخي، فهو لا يسير على أي نظام محدد في تعداد الأنبياء، بحيث إن نفس الاسم، المنسوب إلى نفس المجموعة، لا يظهر دائمًا في نفس الموضع، على هذه القائمة.

وفي رأينا أننا حين نقرأ أسماءهم في أنساق متنوعة، فإن الهدف من ذلك إزالة الوهم بأن بينهم تدرجًا في المقام ثبت لهم جميعًا مرة واحدة، وقد يعد ذريعة إلى موقف غير مناسب حيال بعض منهم، أيًّا كان.

"ومشكلة أخرى أيضًا" هي مشكلة معرفة ما إذا كانت "القداسة" يمكن أن توجد مع "المعصية"؟ عن هذا السؤال يمكن أن نجيب بنعم، وبلا، تبعًا للتعريفات التي تعطى للكلمات.

فإذا كان المقصود بكلمة "معصية" معناها العادي، الذي يتمثل في عصيان متعمد، فلا مرية في أنه لا يمكن أن تكون موضوع حديث بالنسبة

1 البقرة: 285.

2 النساء: 149-150.

ص: 626

إلى من كلفتهم السماء بهدايتنا، إن عصمة هؤلاء الرجال، في الواقع، وفي الشرع، يجب ألا تكون موضع شك، لسبب جد بسيط، هو أننا على سبيل الافتراض يجب أن نقتدي بهم، والمعصية التي قد يقعون فيها ربما يقر في أذهاننا حينئذ أنها صارت "واجبًا" ولم تعد من قبيل "المحرم".

أما الأصفياء الذين لم يكلفوا برسالة إلى الناس، فعلى الرغم من أن عصمتهم ليست ثابتة "شرعًا" فإنها توجد في "الواقع" بصفة عامة. وإذا كان يحدث لهم أن يذنبوا، فما ذلك إلا على سبيل الندرة والشذوذ، الذي يحدث نتيجة نسيان، أو غفلة، بحيث منع ذلك مؤقتًا ضميرهم من أن يمارس وظيفته العادية، ولكنهم سرعان ما يرجعون إلى صوابهم، وفي ذلك يقول الله سبحانه:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 2.

فأما إذا أخذنا كلمة "المعصية" بطريقة أخرى، وحملناها على معنى لطيف، لا يعني سوى تأخير قليل، وتوقف مؤقت طارئ، في استيعاب القيم، فإن المعصية بهذا المعنى تتمثل في أن يأخذ القديس بحل حسن، أو حتى ممتاز في نظره، ومع ذلك، فإن هناك حلًّا آخر، ربما كان أفضل في الواقع. وعندما ينكشف له هذا الحل الأفضل أخيرًا، فإن الأسى والندم الذي يجده في نفسه حينئذ، يعدل ما يستشعره الرجل الصالح بعد أن يرتكب كبيرة.

وبهذا المعنى، اعتاد المفسرون أن يشرحوا لنا ألفاظًا مثل:"العصيان"

1 آل عمران: 135.

2 النساء: 17.

ص: 627

في قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} 1، و"الظلم" في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} 2، و"الذنب" في قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 3، وهي ألفاظ يصف بها القرآن أحيانًا الأنبياء، ولم ينج منها رسول الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم.

وهذه الألفاظ كلها، وهي التي تعني حين يوصف بها عامة الناس أشد الذنوب نكرًا، هي هنا ذات معنى بالغ اللطف، كالنسيان:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} 4، والخطأ:{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 5، أو حتى مجرد الانعكاس الطبيعي:{إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُون} 6، وهذه كلها أمور لا معنى لها في نظر العامة، ولكنها تتعرض لنوع من التضخيم في ضمير الصفي. ولقد قيل دائمًا بحق:"إن النبل ملزم""noblesse oblige".

والواقع أن القرآن يعملنا أن ذنوب الكبار ضعف ذنوب الآخرين: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} 8، على حين أن الذين يجاهدون حتى لا يقعوا في الكبائر تغفر لهم الصغائر برحمة من الله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} 10.

1 طه: 121.

2 النحل: 11.

3 الفتح: 2.

4 طه: 115.

5 التوبة: 43.

6 النمل: 10.

7 الأحزاب: 30.

8 الأحزاب: 32.

9 النساء: 31.

10 النجم: 32.

ص: 628

وهكذا نجد في القرآن لكل درجة من درجات الدقة مقتضياتها الخاصة، كما نجد فيه -لكي نبلغ مستوى الكمال الكلي- تصاعدًا لا ينتهي.

والحق أنه كثيرًا ما يحدث لدى كبار القديسين أن يحكموا على أنفسهم في سلوكهم العادي بأنهم أدنى من المرتبة العليا التي يطمحون إليها، ولما كان ماضيهم بالنسبة إلى حاضرهم كحاضرهم بالنسبة إلى مستقبلهم، ليست هذه كلها سوى مراحل من التقدم المستمر، فإن كل حالة سابقة تتمثل لهم على أنها مما يوجب الحياء حقًّا إذا ما قورنت بما يلحقها، وبهذا المعنى فسر كثير من الشراح الآية القرآنية التي تقول:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} 1، وفسروا بنفس الطريقة ما كان من همة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشاطه في الصلاة، وما كان من إلحاحه كل يوم، في رجاء عفو الله:"فعن أبي بردة قال: سمعت الأغر، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "يأيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" 2.

لقد درسنا فيما سبق فكرة القرآن عن الجهد، في جانبيها الدفاعي والهجومي، ورأينا كيف أن الجهد، في شكل أو آخر، وفي جميع الدرجات -هو أداة ضرورية للحياة الأخلاقية، سواء لإزاحة الشر، أو لأداء الخير، أو لبلوغ الكمال. والصراع شرط الإنسان، سواء لكسب الفضيلة، أو لحفظ الحياة:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} 3.

ولكن بحثنا حتى الآن قد انصب بصورة جوهرية على الجزء الباطني من الجهد، ويجب علينا الآن أن ندرسه في شكله الحسي. وإذن فماذا تكون القيمة الأخلاقية للجهد البدني في نظر القرآن؟

1 الضحى: 4، وقد ترجم المؤلف هذه الآية على المعنى الذي ساقها دليلًا عليه، فقال ما معناه:"والمستقبل خير لك من الحاضر"، والعبارة الفرنسية هي:"en verite، le future vaut mieux pour toi "o prophete" que le present". وواضح أن الترجمة لم تنقل الآية، وإنما عبرت عن وجهة نظر بعض المفسرين في بيانها. وذلك هو غاية ما يبلغه المترجمون لكتاب الله المعجز بيانه للأولين والآخرين. "المعرب"

2 صحيح مسلم، كتاب الذكر، باب 12.

3 البلد: 4.

ص: 629