الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
الجانب الاجتماعي للمسئولية:
وإذن، فالشروط الضرورية، والكافية لمسئوليتنا أمام الله، وأمام أنفسنا هي: أن يكون العمل شخصيًّا، إراديًّا، تم أداؤه بحرية "أقصد دون إكراه"، وأن نكون على وعي كامل، وعلى معرفة بالشرع، أو القانون، فهل تظل هذه الشروط صادقة مقبولة بالنسبة إلى مسئوليتنا أمام المجتمع الإسلامي، الذي نظمه القرآن؟
لسوف نرى كيف يتجه الموقف القرآني إلى أن يتغير تغيرًا محسوسًا متى كان موضوعه المسئولية نحو الناس، وليس معنى هذا أن أي إنسان يستطيع أن يكون مسئولًا عن أي شيء، ولكن العلاقة بين الواقع الخاضع للحكم، والفرد المسئول تفقد هذه الدقة في التحديد على الفور، فلا تعود تقتضي هذه المجموعة من الشروط.
ومع ذلك، فإن علينا أن نفرق في المجال القانوني بين المسئولية الإصلاحية "المعروفة بالمدنية"، والمسئولية الجزائية "أو العقابية" فهذه الأخيرة تظل وثيقة الصلة بالمسئولية الأخلاقية بتحديدها وقصرها على الإنسان البالغ السوي، عندما يعمل عن قصد ونية.
لقد حاول بول فوكونيه paul fauconnet في دراسته الاجتماعية عن المسئولية، أن يبين أن هذا التحديد الدقيق الذي نجده في المجتمعات الأوروبية المعاصرة -هو من الناحية التاريخية ذو أصل قريب.
وقد بحث المؤلف أولًا الظروف التي يمكن لفرد أن يعد فيها مسئولًا على سبيل الافتراض، فأثبت بالوقائع "المأخوذة لا عن الشعوب البدائية فحسب، بل عن مجتمعات أكثر ارتقاء في التنظيم، وحتى وقت قريب من عصرنا" -
أثبت أن الأطفال والمعتوهين، وحتى الحيوانات والأشياء، كانت تعامل غالبًا على أنها مسئولة عقابيًّا، وكانت تدان بهذه الصفة.
وكتب المؤلف يقول: "فمسئولية الحيوان العقابية ليست ظاهرة بدائية، قد تمَّحي أمام الحضارة، بل إن العكس تقريبًا هو الصحيح، ولقد نجد هذه المسئولية في المجتمعات الثلاثة التي خرجت منها حضارتنا، في بني إسرائيل، واليونان، وروما"1؛ ولذلك وجدنا طبقًا لأوامر التوراة أن الثور القاتل يرجم، ولا يؤكل لحمه، وهذا الإجراء مطبق حتى لو أقر المالك بأنه مذنب، وعوقب بالموت2.
وقال لنا أفلاطون في "القوانين les lois ": "لو أن حيوانًا يقتل إنسانًا فإنه يقتل، ويرمى خارج الحدود، ولو أن شيئًا من الجماد يقتل إنسانًا فإنه يرمى كذلك خارج الحدود"3.
والأمر كذلك في روما ما قبل التاريخ، فقد كان الجزاء المعدل لنقل حدود الحقول واجب التطبيق على الثور، في الوقت الذي يطبق فيه على الإنسان4.
ولم يبلغ الجزاء العقابي للحيوان أقصى مداه إلا في أوروبا المسيحية بخاصة، حين ظهرت الدعاوى ضد الحيوانات -أولًا- في فرنسا، في القرن الثالث
1 انظر: Fauconnet، la Responsabilite، Etude de socio-logie، p. 59.
2 المرجع السابق.
3 المرجع السابق ص60-61.
4 المرجع السابق ص61.
عشر، ثم تفشت كبقعة زيت في وسط أوربا واستمرت حتى القرن الثامن عشر، بل حتى القرن التاسع عشر عند السلافيين في الجنوب1.
أما فيما يتعلق بالأطفال2 والمجانين3، فإن الضمير الإنساني لم ينظر إليهم دائمًا نظرة ظلم، بإخضاعهم لجزاء يتفاوت في خطورته، لا سيما في حالة قتل الإنسان أو الثأر الخاص الذي يستهدف أسرة بعينها.
ففي قانون الألواح الاثني عشر4 نجد أن مسئولية الطفل غير البالغ مخففة بالنسبة إلى بعض الجنايات، ولكنها ليست باطلة مطلقًا5، وقد وضع جميع الذين لم يبلغوا الحلم في هذا القانون على قدم المساواة، أما بعد الألواح الاثني عشر، فقد حدث تطور أعفى الأطفال الصغار، ولكن هذا التطور متأخر، وربما كان معاصرًا لهادريان hadrien6. وفي القرن الثامن عشر أيضًا أعدم طفل في الثامنة من عمره في إنجلترا، من أجل القتل أو الحريق7. وقد كان على القضاة في فرنسا أن يصدروا العقوبة العادية ضد المجنون، ثم يختص البرلمان بتخفيف هذه العقوبة، أو إلغائها، أما فيما يتعلق بجريمة الاعتداء على الذات الملكية فلا تخفيف فيها8. ومن هنا كانت النتيجة الأولى القائلة: بأن قصر العقوبة على الإنسان البالغ السوي يبدو نهاية ما بلغته حقبة من التطور، أخذت المسئولية خلالها تنحسر شيئًا فشيئًا9.
1 المرجع السابق 63.
2 المرجع السابق 31.
3 المرجع السابق 41.
4 أول شريعة مكتوبة لدى الرومان، وضعها الحكام العشرة، الذين سنوا شرائع الرومان خلال القرن الخامس قبل الميلاد "450"، وقد نقشوها على اثني عشر لوحًا من البرونز. "المعرب".
5 المرجع السابق 34.
6 المرجع السابق 35، وهادريان إمبراطور روماني، ولد في إيطاليا "76-138م" وقد شجع الآداب والفنون، وأصلح الإدارة. واتجه إلى توحيد التشريع. "المعرب".
7 المرجع السابق 37.
8 المرجع السابق 42.
9 المرجع السابق 30.
ثم يمضي المؤلف بعد ذلك يبحث، في مجتمعات مختلفة، الظروف التي تتولد عنها المسئولية العقابية من حيث الواقع -فيعرض أمامنا تطورًا تاريخيًّا ثانيًا لهذه الفكرة عن المسئولية التي تحولت من كونها فكرة موضوعية في البداية، إلى فكرة ذاتية أكثر فأكثر. ثم نجده يختم بحثه قائلًا -بعد أن صاغ عدة تحفظات فرضتها الأحداث الملحوظة-: عندما يحتفظ الجزاء بصفات القصاص، أي: عندما يكون قودًا منظمًا أو بصفات الدية "wergeld"1، أو بصفات كفارة دينية. في هذه الظروف كلها يكفي العمل المادي الخاطئ وحده في خلق مسئولية المتهم الذي يتحملها، حتى لو كان ناشئًا عن إهمال، أو كان ذا صبغة عرضية عن طريق الصدفة المحضة.
ولا ريب أن مؤلفنا لكي ينتهي إلى هذه النتيجة العامة -كان عليه أن يدرس النظام العقابي خلال حقبة من التاريخ، وعلى جزء من سطح الأرض رحب الامتداد، يضم مجتمعات ذات تكوين متنوع إلى أقصى حد، ابتداء من القبائل الأسترالية، وقبائل شمالي إفريقية، حتى أوربا الحديثة، مارًّا بالصين، والهند البرهمية، وفارس، وبني إسرائيل، واليونان، والجرمانيين، والرومان، ومجموعة الشعوب المسيحية، حتى ليقول المؤلف: ولذلك وجدنا في نظام دراكون2 الذي بقي في أثينا حتى الغزو الروماني -أن عقوبة القتل الخطأ "اللاإرادي" كان النفي المؤقت3.
أما في أقدم القوانين الرومانية "قانون الألواح الاثنى عشر" فإن الضحية،
1 المرجع السابق ص117.
2 دراكون: مشرع في أثينا، في القرن السابع قبل الميلاد، وقد اشتهر القانون الذي وضعه بصرامة عقوباته. "المعرب".
3 المرجع السابق 110.
الذي يبتر له عضو من أعضائه، على إثر جناية غير متعمدة، كان يستطيع أن يجري القصاص، إذا لم يقبل1الدية:
وفي القانون الصيني كان القاتل بطريق السهو أو الصدفة يعاقب بالجلد مائة جلدة، وبالنفي2.
وفي التوراة عوقب القاتل غير العامد بنوع من النفي، ومن الممكن شرعًا لصاحب الدم أن يقتله لو أنه غادر منفاه قبل المدة المحددة3.
وفي القانون الكنسي كانت الكفارات القاسية تفرض خلال سنوات كثيرة للتكفير عن خطايا لا إرادية، ارتكبت بسبب الجهل4.
وفي إنجلترا، حتى أوائل القرن التاسع عشر لم يكن القاتل غير المتعمد يفلت من الإدانة -علاوة على مصادرة أمواله- إلا بفضل رحمة الأمير، ويبرز هذا الوضع الأخير أيضًا في القانون الفرنسي القديم5.
بيد أننا حين نستعرض دراسة على هذا القدر من الرحابة "لا تهتم بتحديد زمني، أو جغرافي، أو عنصري" -تبدو لنا ملاحظة تفرض نفسها علينا، فنتساءل: ما الفكرة التي سيطرت على هذا الاختيار للوثائق؟ ولماذا كان الاختيار لمجتمع دون آخر، ولعصر دون آخر، ولجزء من مقاطعة معينة دون آخر؟ وهل كان من عمل الصدفة أن نختار فارس، لا مصر وجزيرة العرب مثلًا؟ ولماذا اختيرت الهند البرهمية، دون غيرها؟
ويجيب المؤلف في مقدمته بأنه حدد حقل ملاحظاته، بحيث لا يشمل سوى مجتمعات أمكنه بالنسبة إليها أن يؤيد الأحداث بالوثائق المؤكدة.
1 المرجع السابق 113.
2 المرجع السابق 130.
3 المرجع السابق 107.
4 المرجع السابق 133.
5 المرجع السابق 35-136.
ولكن، هل نحن أكثر اطمئنانًا لوثائقنا عن القواعد العرفية لقبائل إفريقية الشمالية منا عن النظم المكتوبة لمواطنيهم؟ وعن القبائل الأسترالية منا عن جيرانهم في جزر الهند الشرقية "أندونسيا"؟، وعن "الأفستا" أو "الفيدا"، أو قانون حمورابي منا عن القرآن؟، والحق أننا مندهشون مما حدث، من أن المؤلف على طول مسيرته من الصين إلى مراكش، ومنذ القرن السابع حتى الآن، قد سار في كل خطوة بمحاذاة مجتمعات إسلامية، دون أن يقف عندها، فكان كل همه أن يدور حولها ويتجاوزها. ومع ذلك، فإن دراسة هذه المجتمعات، التي لا تمثل عددًا يمكن تجاهله على سطح الكرة الأرضية، لا تحمل كثيرًا من الصعوبات أو التعقيدات، إنهم عدة مئات من ملايين الناس، لديهم توافق معين فيما يتعلق بقانونهم الأساسي، ويعيشوت تحت أعيننا، وقد عقدت أوروبا معهم علاقات اقتصادية وسياسية دائمة.
وربما كان "فوكونيه fauconnet" شخصيًّا على جهل بما يأمر به الشرع الإسلامي في هذا الموضوع، على الرغم من أنه أشار إليه إشارة غير مباشرة1.
وقليلًا ما يهمنا أن نعرف الدافع الذي حتم هذا الإغفال المقصود، لكنا نلاحظ فحسب أن النقص الخطير الذي نشأ عن هذا الإغفال يقدم إلينا النتيجتين اللتين أراد المؤلف تقديمهما في صورة قانون عام -على أنهما صادرتان عن استقراء غير كامل.
والواقع -من ناحية- أن قصر الجزاء العقابي على الإنسان البالغ السوي ليس ذا أصل حديث مطلقًا في العالم الإسلامي، فهو قديم منذ أكثر من
1 المرجع السابق 122، هامش1.
2 سبق ذكرنا لهذا الحديث.
ثلاثة عشر قرنًا، ولم يتحرك قيد أنملة منذ إقراره، فقد قال مؤسس الإسلام، صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر" 1، أي: إن الأطفال ليسوا مطلقًا مسئولين حتى يبلغوا سن الزواج، وكذلك المجانين حتى يستردوا عقولهم، فمن باب أولى الحيوانات التي قال فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"العجماء جُبارٌ"2. بل إن المدرسة الظاهرية لتمضي إلى ما هو أبعد من ذلك في تفسير هذه النصوص، فهي تتجه لا إلى تخليص هذه الكائنات من العقوبة المؤلمة فحسب، ولكن أيضًا إلى إعفاء مالك الحيوان من كل غرم على سبيل الجزاء، وكذلك من يحملون هم الأطفال، والمعتوهين3.
ومن ناحية أخرى، نجد أن تعميم صيغة فوكونيه الثانية -على الرغم من كل القيود التي أوردها- يبدو منهارًا أمام الشرع القرآني؛ لأن القرآن حين يأمر بالدية والكفارة في حالة القتل الخطأ -إنما يحمي القاتل الذي لا إرادة له من أية عقوبة بدنية.
وبصرف النظر عن القانون الروماني، الذي يبدو أن تطوره قد تحقق في هذا الاتجاه، ألم يكن من الواجب على الأقل أن يستثني المؤلف ذلك النظام الإسلامي الذي استبعد بضربة واحدة، وبدون تردد أو تحرج، جميع الضلالات المذكورة حول المسئولية العقابية؟
إن صياغة هذا التحفظ حول نتيجتي فوكونيه، المعممتين -معناه في نفس الوقت أننا نعترف للشريعة الإسلامية بصفتها الثورية، التي لا تدع نفسها للتفسير الطبيعي بوساطة السوابق التاريخية، اللهم إلا إذا افترضنا بلا داع
1 سبق ذكرنا لهذا الحديث.
2 انظر البخاري، كتاب المساقاة، باب 4، وكتاب الديات، باب 28. وفي صحيح مسلم، كتاب تحريم الدماء وذكر القصاص والدية: "العجماء جرحها جُبارٌ".
3 انظر ص191.
-في التاريخ العربي القديم، الذي لا ندري عنه شيئًا- تطورًا معينًا، كان الإسلام غايته: وهو ما يؤدي إلى تلك المناقضة القائلة بأن الصحراء العربية كانت متميزة بالطبيعة وأنها بدأت، وأنهت تقدمها الاجتماعي قبل الأوان، متقدمة في ذلك على بقية أجزاء الكرة الأرضية.
ولقد قلنا دائمًا من وجهة نظر الشريعة الإسلامية: إن المسئولية العقابية تبقى شبيهة بالمسئولية الأخلاقية، وهو قول صحيح في كثير من الوجوه، ومع ذلك فهي تتميز عنها بسمات جوهرية.
وأولها: أنه بالرغم من أن العمل الداخلي، والواقع الخارجي مختلطان في العقل بطريقة لا تنفصم، فيما يتعلق بأي حكم بالمسئولية، سواء أكانت أخلاقية أم عقابية، إلا أن العنصر المتحكم، أو مركز الثقل يغير مكانه تبعًا لوجهة النظر التي يؤخذ بها. فحركة الضمير هي التي تهمنا بصفة أساسية في مجال المسئولية الأخلاقية، وهي لازمة لها بصورة مطلقة.
فالعمل البدني المحض لا يمكن مطلقًا أن ينشئ مسئولية أخلاقية، والعمل الإرادي لا يمكن أن ينشئها إلا متجاوبًا مع نيته. وبعكس ذلك نجد أن العقوبة تعترض مقدمًا واقعًا خارجيًّا، وتستهدفه دائمًا. ذلك أن أشد النوايا سوادًا، كأشدها نقاء، كلاهما عاجز عن أن يفرض حكمًا بالمسئولية القانونية حين يكون مفردًا، غير مصحوب بتعبيره المادي.
وقد حدث في الحالات القصوى، أن العنصر المتفوق يمكن أن يصبح العنصر الوحيد، وهو أمر لا ريبة معه في الإطار الأخلاقي، وإذا ما اقتضى الأمر هنا إظهار الإرادة، فليس معنى ذلك أن القرار الذي اتخذ داخليًّا قرار قاصر في ذاته عن أن ينشئ الواقع الأخلاقي، ولكن، بما أن التنفيذ لا يحقق إلا امتداد القرار، والإبقاء عليه، وتعزيزه "كما يقيس من وجهة نظر
المشاهد درجة التصميم والفاعلية". فإن هذا التنفيذ يسبب بذلك مسئوليات جديدة، أو على وجه الدقة يدعم، ويفخم المسئولية المقررة من قبل1.
فهل نجد ما يقابل ذلك في الإسلام؟ وهل يمكن الحدث الموضوعي الخالص أن يستتبع العقوبة؟ لا شك أن الحكم العقابي -كما رأينا من قبل- يحتاج دائمًا أن يستند إلى عمل الإرادة المضاد للقانون، كيما يسوغ صفته الجزائية. ولكن هل لنا أن نفحص الأمر بنظرة أكثر دقة؟ حنيئذ سنجد أن القاضي عندما يستند إلى العنصر الشخصي باعتباره شرطًا ضروريًّا للإدانة -فإنه لا يفعل في الواقع سوى أن يفترض سوء النية لدى المتهم، مستنبطًا إياه من بعض الأمارات الخارجية، ومتخذًا لنفسه دائمًا وجهة نظر موضوعية، ذلك أن القاضي، حتى لو كان رسولًا، لا يدعي مطلقًا أنه يدرك أسرار الضمير مباشرة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 2
وأخيرًا، فإن نوعي المسئولية "العقابية والأخلاقية" يختلفان كذلك، بصورة أوضح في آثارهما، أكثر مما يختلفان في نقطة انطلاقهما. وإذا كان
1 لنذكر هنا فقط أنه في مجال الجزاء الإلهي يبدو أن الأخلاق الإسلامية تفرق هنا بين الفعل الحسن والفعل القبيح، فعلى حين يزيد تنفيذ الإرادة الطيبة في أجرها، ويضاعف لها المكافأة، نجد أن لحظتي الخطيئة لا تعدان عند الله سوى وجهين لعمل واحد فقط، قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] ، وروى البخاري في كتاب الرقاق، باب 30 "فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه". وانظر أيضًا في تفسير هذا الحديث، إحياء علوم الدين، للغزالي، جـ3 ص39 وما بعدها.
2 انظر حديث البخاري، كتاب الأحكام، باب 19.
الشر يكمن أساسًا في مبدأ الإرادة، فمن البدهي أن المذنب ينبغي أن تبرأ ساحته بمجرد تغييره لموقفه من القانون، ولسوف يكون بالفعل بريئًا في نظر الحكم الأعظم. ولقد أفاض القرآن وعودًا جميلة لأولئك الذين يرجعون عن ذنوبهم، فهل الأمر كذلك بالنسبة إلى الحدود التي تفرض في الحياة الدنيا؟ هل تكفي التوبة، والندم، والعدول عن الذنب لتخليص المذنب من العقوبة التي كان يجب أن يتعرض لها؟
لقد واجه القرآن بالنسبة إلى حالة واحدة هذا السؤال، وأجاب عنه بالإيجاب، وتلك هي حالة التمرد على العدالة بالقوة السافرة "الحرابة"، فتبعًا لخطورة الحالة -وقد ترك القرآن للقاضي أو المشرع أمر تقديرها- يستحق المحاربون حد الموت، أو تقطيع الأعضاء، أو النفي:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 ولكن يجب أن نلاحظ أن هذه هي الحالة الوحيدة في الشريعة الإسلامية، برغم النقاش الذي أثاره هذا النص بين الفقهاء2، فيما يتعلق بتحديد الحقوق التي تسقط بهذا الإعفاء.
1 المائدة: 33-34.
2 على حين مد بعضهم هذا الإبطال إلى جميع الجزاءات المتعلقة بالحقوق العامة، التي ينتهكها العصاة المحاربون، بصرف النظر عن رد الأشياء التي ما زالت في أيديهم -يستثني آخرون أيضًا القاتل الذي لم تعف عنه أسرة الضحايا، وفريق ثالث يتحفظ أيضًا بالنسبة إلى جميع الأضرار التي لم يتنازل عنها أصحاب الحق فيها. وفريق رابع، ومنهم الإمام مالك، لا يخلعون على هذه التوبة سوى أهمية ضئيلة، ويعلقون بخاصة على أن هناك نوعية واستثناء في جزاء المحاربين "أعني تطبيقه على قطاع الطرق غير القتلة، أو اللصوص"، وترى هذه المدرسة الأخيرة أن المحاربين الذين يعودون إلى كنف المجتمع باختيارهم يستحقون أيضًا جميع العقوبات المتصلة بالحق العام العادي، وكذلك بالأحوال الشخصية، التي يطلق عليها: حق الله، ومثال ذلك عقوبة الخمر. "المؤلف".
وقد اعتمد المؤلف في تعديد هذه الأقوال على ما ذكره ابن رشد في "البداية 2/ 497"=
وقد لاحظ ابن حزم بحق أن الإمام الشافعي في مذهبه القديم الذي كان يعلمه في العراق -كان يعتقد أنه يستطيع تعميم هذه الحالة الخاصة، وأن يجعلها مبدأ عامًّا يقرر أن التوبة تجب الحدود، ولكنه حين جاء إلى مصر وأقام بها، وعرف من السنة قدرًا أفضل من ذي قبل تخلى عن هذه الفكرة، فعاد في مذهبه الجديد إلى النظرية العامة، التي تميز في هذا الصدد نوعين من المسئولية، تابعتين، كل على حدة، لنظامين إسلاميين مختلفين: أحدهما ينظم الحياة الدنيا، والآخر يخص الحكم العلوي في الآخرة. وبذلك تظل فاعلية التوبة في الإطار الديني، دون أن تتجاوزها بالضرورة إلى المجال الاجتماعي1.
=قال: "وأما ما تسقط عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله، وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة، وجميع حقوق الله من الزنا، والشراب، والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس، من الأموال والدماء، إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء، وفي الأموال بما وجد. والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده"، وبذلك يتضح أن المؤلف قد خالف فقط في ترتيب الآراء المختلفة، مع أنه قد أحال قارئه إلى نفس المرجع. "المعرب".
1 نص هذا الموضوع كما جاء في المحلى لابن حزم 11/ 152-158، بتصحيح من خليل الهراس:"قال أبو محمد: قال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة، وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي، قالها بالعراق، ورجع عنها بمصر. ثم نظرنا أيضًا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة، وهذا العذاب الأكبر، فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل، الذي هو الحد في الدنيا. وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا، وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر، إذ لم يوجب ذلك نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد، كالغصب، ومن قال لآخر: يا كافر، وكأكل لحم الخنزير، وعقوق الوالدين، وغير ذلك، وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب، بل فيها أعظم العقاب في الآخرة، فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة". وبذلك نرى أن المؤلف لخص وجهة نظر الفقه الظاهري في المشكلة، كما زاد كلام ابن حزم تفسيرًا". "المعرب".
والواقع أن السنة تقدم لنا حالات زنا، يتقدم المذنبون فيها ليقروا تلقائيًّا بجريمتهم، وليطلبوا بإلحاح تطبيق العقوبة عليهم، وعليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بعظمة هذه اللمحة منهم، وروعة القيمة في توبتهم -لم يتردد في أن يوقع عليهم الجزاء المنصوص عليه في الشرع، وكذلك الحال في كل اعتداء يرتكب ضد شخص الغير، أو ماله، أو عرضه، ثم يتوب المعتدي قبل أن يعاقب.
فالموقف الداخلي الذي كان يعتمد عليه في تجريم الفعل لا قيمة له إذن حين يكون المطلوب إيقاف الآثار السيئة التي حدثت من قبل، إذ تتدخل هنا بالذات اعتبارات مختلفة، فوق الاعتبارات الشخصية extra - personnelles هي التي تفرض الجزاء، أما الندم، والتوبة، والإرادة الطيبة التي عادت مرة أخرى، فربما تكفي لتحسين حال المذنب، وتأكيد احترامه للقانون، ولكنها لا تكفي لتهدئة المشاعر الأليمة التي أثارها المذنب لدى الأشخاص الذين انتهك حقهم المقدس في الحياة، وفي الأمن. سوف تضمن لنا هذه المعاني -على الأكثر- أنه لن يعود إلى الجريمة، ولكنها لا تستطيع أن تضمن أنه لن يكون قدوة تحتذى من أولئك الذين يعملون على اتباعه، وإذن فإن هناك ضرورة مزدوجة، خارج الأمر الأخلاقي، أو مبدأ العدالة المجرد، هذه الضرورة تفرض نفسها على أنها محتومة، وهي تنظر إلى الماضي وإلى المستقبل معًا وتتطلب تطبيق العقوبة، حتى عندما يصبح جانب المبدأ الأخلاقي مستوفى راضيًا بطريقة أخرى. هذه الضرورة المزدوجة هي -من ناحية- اقتضاء شرعي من الأفراد ذوي الشأن في العمل، وهم الذين أهينت مشاعرهم نتيجة الشر الحادث، وهي من ناحية أخرى: حفاظًا على النظام العام، وصيانة للمجتمع ضد العدوى الأخلاقية، حين لا يعاقب الشر بمثله، وتوقيًا من تشجيع الشر، إذا ما بقي المذنب دون عقاب.
بيد أن البون بين الجانب الأخلاقي، والجانب القانوني -يصبح شاسعًا، بمجرد انتقالنا من المسئولية العقابية إلى المسئولية المدنية.
ولا شك أن ذلك غير ناشئ عن أن الطابع الشخصي قد اختفى تمامًا، ولا عن أن النشاط الإرادي لم يعد شرطًا ضروريًّا في المسئولية، ليس هذا مطلقًا هو الموقف في الشريعة الإسلامية، ولا ينبغي أن يعترض علينا بمثال المغتصب الذي يستحل شيئًا لا يخصه ويستخدمه مخالفًا بذلك القانون، ثم يعتبر مسئولًا عن كل ما يحدث لهذا الشيء، حتى لو كان طارئًا، ووقع بمحض الصدفة. ذلك أن عمله الأولي -ما دام قد اتسم بسمة العدوان وسوء النية. فمن العادي جدًّا أن تكون جميع نتائجه الطبيعية داخلة فيه.
ولكن إذا ما نحينا هذه الحالة جانبًا، فإن كل مسئولية مباشرة تتطلب من جهة صاحبها تدخلًا إراديًّا معينًا فيما يسبب من ضرر. ولا فرق حتى الآن بين شروط المسئولية الإصلاحية المدنية، وشروط المسئولية الجزائية العقابية، فالحادثة التي تقع بواسطتنا، ولكن مستقلة عن إرادتنا، وبموجب قوة قاهرة "في مثل ما قد يحدث من تصادم سفينتين بسبب الريح، أو سقوط لاعب حتمه انقطاع الحبل الذي كان يمسك به مع رفيقه" -مثل هذه الحادثة لا يمكن أن تنشئ ضدنا أي إجراء تأديبي أو تعويضي، وحدث من هذا النوع يصبح هدرًا1.
وهكذا نجد أن الخلط الذي أشار إليه فوكونيه fauconnet في الشرائع الإغريقية والرومانية والعبرية
…
إلخ، بين الحالة العارضة، وحالة الخطأ بحسن نية -هذا الخلط لا موضع له في الشريعة الإسلامية، بل الأمر، على ما ذكرنا آنفًا، هو أن العمل الإرادي، ليس من الضروري أن يكون مقصودًا.
1 انظر: الأمير، المجموع جـ2 ص358.
وإذن، فعلى حين تفترض المسئولية العقابية النية المضادة للقانون، تمامًا كالمسئولية الأخلاقية، نجد أن المسئولية المدنية، سوف تكتفي بمجرد وجود الإرادة. وهنا يكمن أحد الفروق الرئيسية بين هذه المجالات المختلفة، فإذا كان الضرر الناتج عن الخطأ، أو الغفلة، أو عدم الحذق -لا يحتم أن يعزر صاحبه، فإنه يخضعه في مقابل ذلك لتكليف مالي لمصلحة الضحية.
وقد وضع القرآن التشريع الأساسي للقتل الناشئ عن الخطأ، فقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1. وقد مثلت السُّنة بهذا كل ضرر يرتكب عن غفلة، ضد نفس الغير، أو ماله. يقول ابن حزم: "ولا يختلف اثنان من الأمة في أن من رمى سهمًا يريد صيدًا، فأصاب إنسانًا، أو مالًا، فأتلفه، فإنه يضمن، ولو أنه صادف حمار وحشي يجري، فقتل إنسانًا، أو سقط الحمار إذ أصابه السهم، فقتل إنسانًا، فإنه لا يضمن شيئًا"2.
ومن هنا كانت المسئولية المدنية على الطبيب، أو كما يعبر حديث لرسول الله، صلى الله عليه وسلم -مسئولية من يمارس الطب ولم يكن من قبل معروفًا أنه طبيب، فقال:"من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن"3.
ومن هنا أيضًا -تبعًا لأغلب المذاهب- كانت مسئولية مالك الماشية الذي يهمل في حبس قطيعه أو حفظه، حين ينتج عن هذا الإهمال أن تهرب.
1 النساء: 92.
2 المحلى 11/ 3.
3 البداية، لابن رشد 2/ 454 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1966، قال: وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
…
وذكر الحديث.
الحيوانات، وتتلف حقول الجيران، وهي حالة معروفة كذلك في تاريخ ما قبل الإسلام، وأشار إليها القرآن في قوله تعالى:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 1.
أما مذهب الظاهرية، فيرى أن المسئولية التي تقع على عاتق الإنسان في حالة كهذه -هي ذات طابع أخلاقي- على وجه الخصوص، فهي تنحصر أولًا في تربية من لا عقل له، وترويضه، ثم في إجراءات للحماية، ذات فاعلية أكثر، بحيث تمنع عودة الأحداث المسببة للضرر2.
فهذه المدرسة تستبعد بصورة منهجية كل مسئولية قانونية غير مباشرة، سواء أكانت ناشئة عن فعل تلقائي، لكائنات غير مسئولة، "كالأطفال، والمجانين، والحيوانات"، ما دمنا لم نحرضهم على القيام به أم عن فعل الغير، حتى لو كنا رغبنا إليه أن يفعله، دون أن نكرهه عليه.
ومهما تكن نتيجة هذا النقاش الثانوي، فإنه يكفي -لكي نكشف عن عنصر موضوعي في المسئولية المدنية، في الشريعة الإسلامية- أن نلاحظ أن
1 الأنبياء: 78-79.
2 عولجت هذه المسألة في المحلى في موضعين، أحدهما: عند الحديث عن القتل الخطأ، والضمان في الجزء العاشر 416 وما بعدها، والآخر: في الجزء الحادي عشر 7 و8 قال ابن حزم: "والقول عندنا في هذا أن الحيوان، أي حيوان كان، إذا أضر في إفساد الزرع أو الثمار فإن صاحبه يؤدب بالسوط، ويسجن إن أهمله، فإن ثقفه فقد أدى ما عليه، وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ولا بد، أو ذبح وبيع لحمه، أي: ذلك كان أعود عليه، أنفذ عليه ذلك". فقد شملت الإجراءات، على هذا النحو الأطراف الثلاثة: الإنسان الذي وقع به الضرر، والآخر مالك الحيوان، والحيوان أخيرًا، ومع ذلك فقد روعي جانب مالك الحيوان من حيث توفير أقصى النفع عند اتخاذ إجراءات التأديب والحماية، بعيدًا عن روح الانتقام. "المعرب".
الإنسان البالغ السوي "الطبيب مثلًا" مسئول ماليًّا عن الضرر الذي يحدثه مباشرة بوساطة نشاطه الإرادي، بشرط أن يكون مقصودًا، على أنه لا يتحمل من أجل هذا، لا تعزيرًا إنسانيًّا، ولا عقابًا إلهيًّا. ولا شك أن المسئولية الأخلاقية ليست مستبعدة هنا تمامًا، فإن الإهمال هو فعلًا نقص في الانتباه، وينبغي أن يعتد خطأ، أو نصف خطأ.
كيف نفسر من وجه آخر الكفارات التي أمر بها القرآن في حالة القتل اللاإرادي، أعني القتل الخطأ؟ 1.
1 لا ريب أننا نستطيع أن نفترض عند هذا الحد، وهذا الحد فقط -حالات يخطئ فيها القاتل طبيعة هدفه، على الرغم من كل الاحتياطات والجهود التي يستخدمها لتمييزه، وفي هذه الحالات. التي لا يفسر فيها الخطأ بالإهمال. لا يبقى في وسعنا أن نعتبر الجزاء كفارة خطأ، جسيم أو ضئيل، وحينئذ، نعتقد أن من الممكن تفسيره على أنه احتياط يستهدف المستقبل بدلًا من أن نعطفه نحو الماضي.
والخطأ منبع للشر، ولا ينبغي للشر أن ينتصر. والخطأ يولد في المجال الأخلاقي الرذيلة، كما يؤدي في المجال العقلي إلى التزييف، والرذيلة والتزييف هما النقيصتان اللتان تدنسان النفس، وتقللان طاقتها وطهارتها.
ولا ريب أن الخطأ حين يحدث لا يوجد شيء يمكن أن يفعل ضده، وعندما لا يكون قد حدث بعد فلا شيء يمكن أن يفعل لاستباقه، وخاصة حين نفترض أننا فعلنا كل ممكن إنسانيًّا لتفاديه، وإذن، فليس اقتدارنا على الصراع ضد الخطأ من حيث كونه حدثًا قد تم فعلًا. أو واقعًا تاريخيًّا عرضيًّا، ولكن إذا ظللنا ساكتين في مواجهة الشر الذي يحدثه الخطأ، فإن الشر سوف يعيد نفسه، ويتمادى، ثم هو بفضل العادة قد يوقظ فينا ميولًا سيئة، كانت حتى ذلك الحين نائمة. وهكذا يمكن أن يتحول العمل الذي تم من قبل على أساس من الغفلة، ليصبح عملًا حرًّا وإراديًّا. وإذن، فإذا كان للخطأ واقعه، فإن له كذلك غايته، فلم يوجد الخطأ من أجل أن يفرض نفسه علينا فرضًا استبداديًّا، ثم يحملها نتائجه المقدورة، وإنما وجد كيما يحرك فضولنا العقلي، وطاقتنا الأخلاقية، حتى نتجنب آثاره السيئة. وإذا كنا لا نستطيع أن ننفي الخطأ في ذاته. فإن لدينا مع ذلك الوسائل التي نحتاط بها من الاتجاهات الشريرة التي يعمل على خلقها، وكذلك من تكرار الغلطة على نحو كثير، وهو أمر قد يحدث في غيبة أي فعل مضاد.
إن رد فعلنا سوف يكون مؤثرًا بقدر ما يتمثل في أفعال إرادية قادرة على أن تلمس حساسيتنا، وأن تثبت في ذاكرتنا، وأن تحرك من جديد همنا الأخلاقي، وليس فيما يبدو من ندم عابر، أو اتهام رفيق بأنفسنا. وتلكم هي الحسنات التي ننتظرها من تضحية نرتضيها بحرية على إثر غلطة لم نتعمدها، في الحالات المحددة.
إن المسلم الذي كان سببًا غير متعمد في هلاك أخ له -يجب أن يعتق أخًا آخر رقيقًا، فضلًا عن التعويض المستحق لأولياء الدم. فإذا كان أحد الناس قد مات موتًا طبيعيًّا، فإنه سوف يأتي بمن يعوضه حين يدخل شخصًا آخر في الحياة الأخلاقية. فإن عدم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، والله سبحانه وتعالى يقول في هذا:
بيد أن هذه الغلطة السلبية، في الانتباه لا تؤدي إلى التجريم الإيجابي، والعقابي للعمل الخارجي، الذي تكفي صفته الموضوعية الغالبة لفرض الجزاء المدني.
وهذه حالة أخرى للخروج على المبادئ المقررة، وهو خروج ينهي التباين بين المسئولية المدنية، والأنواع الأخرى من المسئولية:
فعلى حين تحتفظ هذه الأنواع دائمًا بصفتها الفردية الدقيقة، نلمح فجأة عنصرًا يظهر في تعويض الأضرار الناجمة عن الخطأ وهو عنصر جماعي شديد القوة، يعمل على امتصاص الجانب الفردي. فهذا المسكين الذي تسبب في موت آخر، أو بتر عضو من أعضائه، أو جرحه، دون أن يريد ذلك،
1 النساء: 92.
هذا المسكين لا يفلت فقط من كل أنواع القود، بل إن التعويضات التي تقتضيها منه الضحايا لا يتحمل هو منها سوى جزء جد ضئيل؛ لأن هذه التعويضات سوف توزع -في الواقع- على مجموعة كبيرة من الناس، البالغين الأسوياء1، الذين يرتبطون معه عادة برباط من التعاون الطبيعي، أو الاتفاقي، والذين يشترك معهم كواحد منهم. فإذا عدمت هذه المجموعة التي تؤمن له راحة حقيقية من هذا الثقل، وجب على الدولة أن تفي بدلًا منه بهذه التعويضات.
ولقد نظن، من أول وهلة، أننا نشهد في هذا النوع من المسئولية مخالفات متكدسة، لكنا لو تأملناها من قريب للمحنا أن الجانب الجماعي لا يتدخل هنا إلا لكي يقلل إلى أدنى حد مساوئ موضوعية واقعية، ولو كان ذلك بتحديدها أو تخفيفها.
إن الطبيعة المركبة للعمل الخاطئ غير المتعمد تضعه -كما رأينا- وسطًا بين حالتين متطرفتين، هما: العمل المقصود، والحادث الذي يقع بطريق الصدفة المحضة، فإذا كان يشبه كلًّا منهما من جانب، فإنه يختلف عنه من جانب آخر. وإذن، فهو لا يحمل على جانب واحد أو آخر، ولا يمكن أن يعامل بنفس الطريقة، ونتيجة لهذا لا يصح أن يظفر بلا مسئولية كاملة، ولا أن يكون موضوع مسئولية كلية. فواقع الأمر أن النية السيئة معدومة، ومن العدالة أن يعفى من العقوبة. ومع ذلك، فإن وجود خطأ معين يميزه كثيرًا عن الحادث الاتفاقي "الذي وقع عرضًا وبطريق الصدفة"، "حيث لا مجال في الواقع إلا لمؤاخذة الطبيعة"، وهو ما يؤكد ضرورة نوع من الإصلاح الإنساني.
ولكن، ممن نقتضي هذا الإصلاح؟ أنفرضه كليًّا على الفرد؟
1 يطلق الفقهاء على من يتحمل الدية في هذه الحال اسم "العاقلة". "المعرب".
أليس معنى هذا أننا نوقع عقوبة مقصودة على خطأ غير مقصود، وبذلك توسع المسافة بين المسئولية الاجتماعية والمبدأ الأخلاقي؟ لقد كانت مشاركة الجماعة جد ملائمة حتى تهدأ ثورة الضمير.
وليس هذا في الواقع نوعًا من بعثرة مسئولية وحيدة، فإن المجتمع لا يمكن أن يوصف حقًّا بأنه متعاون، على أساس عمل تم بدون علمه، بل أن نسبته إلى الفرد أمر عسير، وهو "أي: المجتمع" على أية حال لم يشارك فيه بوصفه مجتمعًا. ولكن نصف المسئولية الذي يقع على كاهل الفرد، يتولد عنه بالنسبة إليه موقف تعيس لا يستحقه. ولما كان المجتمع مسئولًا عن الرفاهية النسبية لأعضائه، فما كان له أن يدع هؤلاء الأعضاء عرضة لبؤس غير متوقع، وهم الذين لم يكونوا صناعًا مريدين لبؤسهم الخاص. ولهذا يخصص باب من نفقات الدولة الإسلامية لأداء ديون الأفراد، حيث جعل هؤلاء المدينون من مصارف الزكاة، فقال تعالى:{وَالْغَارِمِين} 1.
وإذن فالتضامن الذي نراه هنا هو نوع من التعاون الخير، الذي يجب أن يتم في مواجهة الصعوبات، على سبيل التبادل بين الناس في المجتمع الواحد. ثم إن توزيع التعويضات أو الغرامات المذكورة لا يحدث بصورة ميكانيكية، على أساس التساوي العددي بين أنصباء المسهمين، بل يجب على العكس من ذلك أن نأخذ في اعتبارنا إمكانات كل فرد، لنفرض عليه نتيجة لذلك نصيبًا من شأنه ألا يرهقه2
1 التوبة: 60.
2 الأمير، المجموع 2/ 372.