الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتجلى لأعيننا على أنه وحدة اليقين الراسخ وحقيقته، اليقين الذي تفرضه حقيقة الأشياء على كل الأنفس المستنيرة.
وإنا لنعلم كم تفرق الظروف الذاتية آراءنا الشخصية، وندرك إلى أي مدى تعمل هذه الظروف على تفرقها واختلافها غالبًا. وعلى هذا، فلو حدث في ظروف كهذه، يبذل فيها كل فرد جهده العقلي، تبعًا لطريقته الخاصة في التفكير، ومستقلًّا عن كل تأثير خارجي -لو حدث أن انتهى هذا الجهد إلى نفس الحل الذي انتهت إليه جهود الآخرين. فما ذلك إلا لأن هذا الحل قد تجلى من خلال الضمائر كلها في وضوح وصدق لا يقبلان المناقشة.
فعصمة الإجماع، التي هي موضوعنا هنا، ليست في حقيقة الأمر منسوبة إلى المفكرين أنفسهم، ولا إلى هذا النص الخاص، أو ذاك، مما يمكن أن ترفض صحته، أو يختلف تأويله وتفسيره، ولكنها تكمن في ذلك الرجوع إلى مجموع الوثائق القرآنية والنبوية الصحيحة، ودراستها دراسة ناضجة، وبناء عليها يؤسس مفكرونا ما يصدرون من أحكام.
رابعًا: القياس
على حين آمنت المدرسة الظاهرية، أو التفسيرية، بوجوب الاقتصار على المصادر الثلاثة السابقة:"الكتاب، والسُّنة، والإجماع" -فقد مضت المذاهب الأخرى -استنادًا إلى ما فعله صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى رأي أكثر تابعيهم- إلى مصدر رابع وأخير، أطلق عليه: القياس.
أيجب أن نعتقد أن نظريتهم هذه تنزع إلى أن تخلع على هذا النوع من التشريع صفة الاستقلال العقلي الذي سبق أن رفضناه بالنسبة إلى القرار الإجماعي، وبالنسبة إلى النبي نفسه؟
كلا
…
فهذا الاستدلال بمقتضى تعريفه نفسه يفترض وجود حالة نقيس عليها، تمثل بها الحالة الجديدة، وعليه فالحالة النموذج ينبغي أن يسبق ذكرها في القرآن، أو في الحديث، أو في الإجماع. وفضلًا عن ذلك
فإن الطابع المشترك بين الحالتين يجب: إما أن ينشئ1 علة التشريع، وإما أن ينطوي2 عليها. والمراد بالعلة: السبب الذي من أجله طبق حل الحالة الأولى.
وبناء على ذلك فإذا كان هذا الطابع المشترك قد عين صراحة في النص، أو اعترف به الإجماع، على أنه سبب وجود الحل الأصلي، فليس هنالك أية صعوبة، حتى من قبل المدرسة الظاهرية؛ لكي نجعل هذا الطابع دليلًا، بل شرطًا ضروريًّا وكافيًا للحكم الصادر من قبل، ومن ثم لا صعوبة أيضًا في تعميم هذا الحكم وتطبيقه أينما توفرت العلة الثابتة.
بيد أنه في الحال التي لا يمكن فيها استخراج هذا التعليل، أو هذه العلاقة السببية، إلا بواسطة جهد دقيق في البرهنة، قل أو كثر -أيجب في هذه الحال أن نعتد هذا التعليل بما يستقى منه من نتائج، مما تقتضيه روح الشريعة المنزلة؟
في رأينا أن الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن تشتمل درجات، ولكن سكوت المدرسة الظاهرية عنه لا يعد على الأقل مانعًا من إساءة استعمال بعض الفقهاء للحرية العقلية.
وبعكس ذلك مذهب المالكية، الذي مضى إلى ما هو أبعد من ذلك في الاتجاه المتحرر، مستندًا إلى ما حدث من أمثلة على عهد المسلمين الأوائل.
فالإمام مالك يوافق على هذه البرهنة القياسية، لا استنادًا إلى نص محدد فحسب، يضع نفس الحل لمشكلة محددة مماثلة للمشكلة المدروسة، بل كذلك استنادًا إلى الطرق العامة التي لجأت إليها الشريعة في مواضع لا تحصى، أقل شبهًا أو أكثر بما نحن بصدده، والتي تستخرج من مجموعها تلك الفكرة الثابتة التي تقول: إن هذا النوع من الخير هدف جوهري يسعى الشرع لتحقيقه بكل الوسائل الممكنة. فالحالة الجديدة حينئذ لا تقدم لنا سوى
1 انظر: قياس العلة.
2 انظر: قياس الشبه.
وسيلة أخرى يجب أن تستخدم عندما تفرض بدورها نفسها؛ لتحقيق هذا الخيرالنوعي الذي يسميه مالك: المصلحة المرسلة.
وبفضل هذا المبدأ، استطاع هذا الفقيه أن يحل عددًا من مشكلات الأخلاق والشريعة في اتجاه جد أصيل، وإن اصطدم حينًا بنصوص الشريعة1
1 لنأخذ على ذلك المثال التالي: هل يجوز في حال الحرب أن نضرب في اتجاه جنودنا الذين أسرهم العدو، واستتر خلفهم ليضربنا ويحتل أرضنا؟ أم أن من الواجب -على عكس ذلك- أن نمسك عن الضرب رعاية للشرع الصريح الذي يمنعنا أن نستبيح دم بريء؟ والله يقول:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] .
يجيب الإمام مالك عن هذا السؤال مرجحًا الأخذ بأخف الضررين، ويعلل لذلك بأننا لو بقينا دون عمل، احترامًا لهذا العدد القليل من جنودنا، الذين جعلهم سوء الحظ درعًا للعدو. فإن بقية الجيش وهي الكثرة الكاثرة منه، قد تتعرض للهلاك، ثم لن ينجو أيضًا أسرانا من نفس المصير بعد ذلك. ولا ريب إذن في أن الشرع الإسلامي يقدم دائمًا إنقاذ الجماعة، ومصلحتها المشتركة والدائمة، على حياة الأفراد ومصالحهم العاجلة. ويختم حديثه بقوله: إننا مع احتياطنا للحفاظ على رجالنا -لا ينبغي أن نوقف الحرب، بل يجب أن نواصلها ولو أصيبوا من جرائها.
وإليك مثالًا آخر ذا طابع فقهي: هل للقاضي الحق في أن يأمر بحبس متهم في سرقة، دون أن يجد ضده دليلًا ماديًّا، أو شهادة، أو اعترافًا، على حين قد يكون في هذه الظروف غير مذنب؟ إن نص الشرع -كما نعلم- يمنع من الإضرار باليأس في أشخاصهم، أو أموالهم، أو أعراضهم، ما داموا لم يستحلوا حرامًا. ففي مسلم، كتاب البر، باب 10:"كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه". وفي البخاري، كتاب الحج، باب 126:"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام".
بيد أن الإمام مالكًا يعلل ذلك على الوجه التالي: بما أن من النادر أن يقر مجرم بجرمه، أو أن يرتكبه أمام شهود، أو أن يؤخذ في حال اقترافه للجريمة، فإن أكثر الجرائم سوف تمضي دون عقاب، إذا ما تمسكنا بهذه الأدلة الكاملة. وعليه، فمن المعلوم لنا أن الشرع قد عني عناية كبيرة بإقرار النظام الاجتماعي والحفاظ عليه، وأن يعمل بكل وسيلة على أن يؤمن لكل فرد مقدرته على أن يمارس حقوقه، على ملكيته. فلا بد لنا إذن من أن نلجأ إلى إجراءات أقل تشددًا، يخضع لها المتهم، لا لكي نغتصب منه مطلقًا اعترافًا بما لم يفعل، مجردًا من أية صحة، من حيث صادرًا عن إكراه، بل بأمل أن نحمل هذا المتهم على أن يرشدنا إلى دليل واضح. وجدير بالذكر في هذا المقام أن هذه المدرسة، ترى أيضًا أن مثل هذه الإجراءات لا تكون شرعية إلا بشرط أن تكون بداية هذا الدليل قد كشفت من قبل ضد المتهم.
على أننا مهما تعمقنا في مختلف تيارات الفكر التشريعي في الإسلام، فإن حقيقة معينة تظل ثابتة لا تقبل جدلًا، هي أن الغاية النهائية، وراء كل جهود الفقهاء ليست إلا التوصل إلى ذلكم المنبع الوحيد الذي يجب أن يستقي منه الناس جميعًا، من قريب، أو من بعيد: حكم الله، وهو الحكم الذي يسجله القرآن في المقام الأول مباشرة، ثم يأتي الحديث ليبينه ويحدده.
وإذا لم يرد الحكم في نص الكتاب أو السُّنة فإن القياس يحاول أن يكشف عنه في روحهما، وفي مفهومهما العميق. ويأتي أخيرًا دور الإجماع، محاولًا إدراك هذا الحكم في فحوى مجموعهما.
فالله سبحانه وحده هو إذن المشرع، وليس الآخرون سوى مقررين لأمره، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
بيد أننا لم نمس بعد أعمق الجذور في الإلزام الأخلاقي في القرآن، فنحن لم نفعل حتى الآن سوى أن نرد الشرع الأخلاقي الفطري إلى نوع من الشرع الإلهي المتضمن في كيان العقل الإنساني ذاته. ولقد سبق أن أشرنا إلى قصور هذا النور الجزئي "أي: نور العقل" عن أن يقدم شرعًا تتوفر فيه -في وقت واحد- صفات: الحسية، والكمال، والشمول. كما أشرنا إلى ضرورة اللجوء إلى سلطة أخرى من أجل الحصول على هذه الصفات الثلاثة، وهي سلطة تستطيع أن تنير للناس طريقهم على خير وجه، بوساطة تعليم إيجابي محدد، وإن كانت ذات طبيعة علوية.
هذه السلطة التي يجب أن تكون ذات علم مطلق، ونور أبدي -لا يمكن أن تكون شيئًا آخر سوى الوجود الكامل l'etre parfait.
ولقد انتهينا أخيرًا إلى أن رددنا جميع مصادر هذا الشرع الإيجابي إلى مصدر وحيد، وقصرنا جميع الأوامر إلى أمر واحد، ظاهر أو باطن، هو أمر الله.
على أن القرآن لا يقدم لنا هذا الأمر الإلهي على أنه سلطة مطلقة، مكتفية بنفسها لكي تكون في أعيننا أساسًا لسلطان الواجب، بل إن مما يثير العبرة في هذا المقام أن نلحظ -على العكس- العناية الفائقة التي التزمها هذا الكتاب في غالب الأحيان، حين قرن كل حكم في الشريعة بما يسوغه، وحين ربط كل تعليم من تعاليمه بالقيمة الأخلاقية التي تعد أساسه. ومن ذلك أنه عندما يدعونا أن نتقبل من أهلينا كل تسوية للصلح، حتى لو كانت في غير صالحنا يؤيد دعوته بتلك الحكمة:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 1، وعندما يأمرنا أن نوفي الكيل، ونزن بالقسطاس المستقيم يعقب على هذا الأمر بقوله {ذَلِكَ خَيْر} 2.
ولكي يسوغ قاعدة الحياء، التي تطلب من الرجال أن يغضوا أبصارهم، ويحفظوا فروجهم -نجده يسوق هذا التفسير:{ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} 3، وبعد أن يأمرنا بتبين السبب قبل أن نصدر حكمًا يقول:{أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 4.
وكذلك نجد الأمر الذي يقتضينا أن نكتب ديوننا، وآجال أدائها -مفسرًا بقوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} 5.
وإنه ليكفينا عن تعداد أمثلة الأوامر الخاصة، أن نرى الطريقة التي يدفعنا بها إلى التماس القيم الروحية، وكيفية توجيهه بصفة عامة، فضلًا عن عدد هذه الأوامر. قال تعالى:{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} 6. وقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى
1 النساء: 128.
2 الإسراء: 35.
3 النور: 30.
4 الحجرات: 6.
5 البقرة: 282.
6 المائدة: 100.
ذَلِكَ خَيْرٌ} 1. وقال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2.
وإنه ليشهدنا كذلك على المبدأ الأساسي الذي صدرت عنه الشريعة الإلهية كلها، حين صاغه فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 3.
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} 4.
وهكذا، فإن ما كنا نعتقد أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة المراجع، لم يثبت أنه الأخير. فالعقل الإلهي، في هذا المجال، أكثر تشددًا من العقل الإنساني. فهو لا يريد أن يتمسك بشكل حكمه، ويجعل منه المبدأ الأول للإلزام الأخلاقي، وإنما هو يلجأ بدوره إلى معيار آخر فيحيلنا إلى جوهر الواجب ذاته، إلى كيفية العمل، وإلى قيمته الذاتية.
فالأمر الإلهي يسوغ في نظرنا بتطابقه مع تلك الحقيقة الموضوعية، وهو بهذا التطابق يستحوذ على قبولنا؛ كما أنه يقيم على هذا القبول سلطانه الأخلاقي.
بيد أن هذا الطابع العميق الذي يؤلف جوهر العدل، والخير في ذاته لا يتسنى لنا أن نميزه بأنفسنا، دائمًا، وحيثما وجد فشأنه شأن كل جوهر، لا نراه مباشرة في حالة كماله، وإنما نلمحه لمحًا، بفضل ذلك الجزء من النور، المحدود في امتداده، وفي قوته، والذي نستمده من فطرتنا.
ليس هنالك إذن سوى نور واحد محض، وغير محدود، هو الذي يستطيع أن يضم هذا الجوهر كاملًا، وفي ثقة تامة؛ ولذا كان من حق المؤمنين أن يتخذوا من العقل الإلهي وسيلة الهداية الأخلاقية الكاملة، وإذن ففي فكرة القيمة يكمن المنبع الحق للإلزام، فهي عقل العقل، وهي المرجع الأخير للحاسة الخلقية.
1 الأعراف: 26.
2 البقرة: 269.
3 الأعراف: 28.
4 النحل: 90.