الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلم في صلاة الفرائض
الباب الأول في اختلاف العلماء فيما كان- صلى الله عليه وسلم يتعبد به- بفتح الموحدة- قبل البعثة هل كان بشرع من تقدمه أم لا
؟
قال العلامة ابن النّفيس [ (1) ] في رسالة تتعلق بالنبي- صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون النبي سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم غير منتسب أولا إلى ملة غير ملته، فلا يكون لا يهوديّاً ولا نصرانياً ولا مجوسيا ونحو ذلك، لأنه لو كان من أهل ملة- لكان عند دعواه النبوة دعا الناس إلى الدين الذي يحدثه كافرا عند تلك الملة لأنه قد يكون خرج عن دينهم فيكون عندهم مبتدعا كافرا وذلك مما يدعوهم إلى تنفير الناس عنه حتى ولو كان مقررا لدين تلك الملة، كما جرى بعيسى- عليه السلام مع اليهود، فكيف إذا نسخ دين تلك الملة وبدّله؟، فلذلك يجب أن يكون خاتم النبيين ليس منسوبا في أول أمره إلى ملة أخرى.
وقال القاضي: قد اختلف في حال نبينا- صلى الله عليه وسلم قبل العلم بأنه رسول الله، وقبل أن يوحى إليه، هل كان متبعا إلى عبادة ربه بشرع من شرائع الأنبياء قبله أم لا؟.
قال الجمهور: القاضي أبو بكر الباقلاني [ (2) ] وغيره من المحققين: لم يكن- صلى الله عليه وسلم متعبدا قبل البعثة بشرع من قبله.
[ (1) ] علي بن أبي الحزم القرشي، علاء الدين الملقب بابن النفيس: أعلم أهل عصره بالطب. أصله من بلدة قرش (بفتح القاف وسكون الراء. في ما وراء النهر) ومولده في دمشق، ووفاته بمصر. له كتب كثيرة، منها «الموجز- ط» في الطب، اختصر به قانون ابن سينا، و «فاضل بن ناطق» على نمط «حي بن يقظان» لابن الطفيل، و «بغية الطالبين وحجة المتطببين» و «شرح الهداية لابن سينا» في المنطق، و «المهذب» وغير ذلك. وكانت طريقته في التأليف أن يكتب من حفظه وتجاربه ومشاهداته ومستنبطاته، وقل أن يراجع أو ينقل. وخلف مالا كثيرا، ووقف كتبه وأملاكه على البيمارستان المنصوري بالقاهرة. ومات في نحو الثمانين من عمره. وورد اسمه في كثير من المصادر «علي بن أبي الحرم» والصواب «ابن أبي الحزم» بزاي ساكنة، كما بخطه. الأعلام 4/ 270، 271.
[ (2) ] محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر: قاض، من كبار علماء الكلام. انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة، وسكن بغداد فتوفي فيها. كان جيد الاستنباط، سريع الجواب. وجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بين يدي ملكها. من كتبه «إعجاز القرآن» و «الإنصاف» و «مناقب الأئمة» و «دقائق الكلام» و «الملل والنحل» و «هداية المرشدين» و «الاستبصار» و «تمهيد الدلائل» و «البيان عن الفرق بين المعجزة والكرامة» و «كشف أسرار الباطنية» و «التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والخوارج والمعتزلة» توفي 403 هـ الأعلام 6/ 176.
واحتجوا بأن طريق العلم بكونه- صلى الله عليه وسلم متّبعا في عبادة ربه قبل أن يوحى إليه بشرع النقل هو توارد الخبر على ألسنة النّقلة إلينا، وحجته: إنه لو كان ذلك قد وقع لنقل إلينا، ولو كان لنقل ذلك، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان نقله وعدم كتمه من مهم أمره وأولى ما احتفل به لكونه من سيرته ولقال به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا عليه ولم يؤثر شيء من ذلك فعلم أنه لم يكن، وأيضا لو كان متبعا لشرع من قبله لفخر به أهل تلك الشريعة ولاحتجوا باتباعه شريعة من قبله، حتى ادعى النبوة، ولم يرو شيء من ذلك أصلا.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد مع حكم العقل أن يكون متبوعا من علم من الأزل كونه تابعا له- صلى الله عليه وسلم إذ الأنبياء مأمورون بالإيمان به والنصرة له، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران 81] بنوا قولهم بامتناع إتباعه- صلى الله عليه وسلم شرعا قبل أن يوحى إليه، على طريقة التحسين والتقبيح العقليين، وهي طريقة غير سديدة، لبعد مسافتها من مأخذ الشّرع، ورفع قواعدها من شفا جرف هار.
والتعليل الأول وهو الاستناد إلى النقل أولى وأظهر.
وذهبت طائفة: منهم إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، إلى الوقفة في أمره- صلى الله عليه وسلم وجنحوا إلى ترك قطع الحكم فلم يحكموا عليه بشيء، إذ لم يحل لوجهين منهما العقل لتساويهما عنده في الإمكان، ولاستبان عند هذه الطائفة القائلين بالوقف في أحد الوجهين طريق النقل، لعدم تساويهما في الإمكان فلم يكن أحدهما أولى بترجيح على الآخر.
وذهبت طائفة أخرى إلى أنه- صلى الله عليه وسلم كان عاملا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله لبعد أن يكون متعبدا بغير شرع قبل بعثته، ثم اختلفت هذه الطائفة الثالثة: هل يتعين ذلك الشرع الذي زعموا أنه كان قبل أن يبعث عاملا به أم لا؟ فوقف بعضهم عن تعيينه، وأحجم- أي نكص فهمه وهاب الجزم بتعيينه لفقد ما يجسره عليه، وجسر بعضهم على التعيين وصمم عليه.
ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة، فيمن كان- صلى الله عليه وسلم يتبع دينه من الأنبياء، ويتعبد به قبل أن يبعث.
فقيل: آدم. وهو محكي عن ابن برهان، وقيل نوح، وقيل موسى. وقيل عيسى- صلى الله عليه وسلم عليهم- فهذه جملة المذاهب في مسألة تعبده- صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث والأظهر ما ذهب إليه القاضي ومن تبعه، وبعدها مذهب المعينين إذ لو كان شيء من ذلك لنقل إلينا، وأحطنا به خبرا، ولم يخف على أحد ولا حجة لهم من أن عيسى- صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء فلزمت
شريعته من كان بعدها، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى- صلى الله عليه وسلم فلا يلزم شريعته من جاء بعدها لعدم أمرهم باتباعها، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- دعوة عامة لكافة الناس إلا لنبينا- صلى الله عليه وسلم.
وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم كان على شريعة إبراهيم وليس له شرع متعبد به، وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم- صلى الله عليه وسلم وعوّل في إثبات مذهبه على قوله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل 123] فهذا قول ساقط مردود، ولا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.
وإنما المراد بهذه الآية: الاتباع في التوحيد. لأنه لما وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الآية بأنه ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فلما قال: اتبع كان المراد ذلك.
ولا حجة أيضا للقائل باتباعه شرع نوح- صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى 13] فحمل هاتين الآيتين، على اتباعهم في التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم في الآية الأولى- بأنه ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فلما قال: أن اتبع، كان المراد بذلك، بشهادة تفسير المشرّع في الآية الثانية الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من الرسل، بقوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي: دين الإسلام، الذي هو توحيد الله تعالى، وطاعته، والإيمان به وبرسله وكتبه وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون به المكلف مكلفا إلا المشروع الذي هو مصالح الأمم لاختلاف أحوالهم وتفاوتها المؤذن به قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. وقوله تعالى: أُولئِكَ أي الذين ذكروا من الرسل وغيرهم هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ أي بطريقتهم لا بطريقة غيرهم بشهادة الإضافة في الإيمان بالله وتوحيده، وأصول الدين اقْتَدِهْ دون الشرائع لاختلافها، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى.
بخلاف أصول الدين فإنّها هدى أبدا، وقد سمى الله تعالى في آية الأنعام في الأنبياء- صلى الله عليهم وسلّم- من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب- صلى الله عليه وسلم وعلى آبائه على قولة من يقول: إنه ليس برسول.
فدل الأمر باقتدائه بهداهم، أن المراد به أصول الشرائع لا الشرائع نفسها. وسمى جماعة من الأنبياء فيها شرائعهم مختلفة، لا يمكن الجمع بينها فدل اختلافها أن المراد بهداهم ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.
قال القاضي: وهل يلزم من قال: يمنع إتباعه- صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بشرع قبله هذا القول في سائر الأنبياء، فلا يكون أحد منهم قبل أن يوحى إليه بشرع قبله غير نبينا- صلى الله عليه وسلم أو
يخالفون بينهم فيه قبل أن يوحى إليهم أما من منع الاتباع عقلا، فيطرد أصله الذي هو منع عقلا في كل رسول بلا مزية.
وأما من مال إلى النقل كالقاضي أبي بكر فأيّهما تصور له وتقرر تبعه وعمل بمقتضاه.
ومن قال بالوقف فعلى أصله من الإحجام عن تعيين.
ومن قال بوجوب الاتباع قبل الوحي لمن قبله من الأنبياء يلزمه سياق حجته وإجراؤها في كل نبي، وأوضح بعضهم كلام القاضي في قوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً بأن المراد بهذه الآية: الاتباع في التوحيد كما تقدم، لأنه تعالى لما وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دلّ على أن المراد بالاتباع ذلك.
فإن قيل: أن النبي- صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك، وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد فيمتنع حمل قوله: اتبع على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
أجاب الإمام فخر الدين الرازي بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
وقد قال صاحب الكشاف ما لفظه: ثم في قوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ تدل على تعظيم منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم ملّته من قبل أن هذه اللفظة دلّت على تباعد النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله تبارك وتعالى بها. انتهى.
ومراده بالمدائح المذكورة في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
وقد تقدم لهذا مزيد بيان في الباب السادس.
قال شيخ الإسلام أبو زرعة العراقي في شرح تقريب والده على كلامه عند حديث بدء الوحي، وليت شعري كيف تلك العبادة وأي أنواعها هي وعلى أي وجه فعلها يحتاج ذلك إلى نقل ولا أستحضره الآن.
وقال شيخه شيخ الإسلام البلقيني في شرح البخاري لم يجيء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده- صلى الله عليه وسلم لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم «كان يخرج إلى حراء في
كل عام شهرا من السنة ينتسك فيه، وكان من نسك قريش في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.
وحمل بعضهم التعبد على التفكر وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع، وهي الانعزال عن الناس كما صنع إبراهيم- صلى الله عليه وسلم باعتزاله قومه، والانقطاع إلى الله تعالى،
«فإن انتظار الفرج عبادة، كما رواه ابن أبي الدنيا عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً،
وليضمّ إلى ذلك الأذكار» .
وعن بعضهم «كانت عبادته- صلى الله عليه وسلم في حراء التفكر. انتهى» .
قلت: وبهذا الأخير جزم سيدي أبو السعود كما رواه عنه في الزهر وقاله تلميذه الحافظ رحمه الله تعالى.