الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة السابعة عشرة:
اختلاط الرجال بالنساء في الطواف في الحج والعمرة
.
قالوا: لو كان الاختلاط محرَّمًا لما كان الحج والطواف مختلطًا.
الجواب:
أولًا: «مما فرضه الله على المرأة والرجل، الركن الخامس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، ولما كانت أعمال الحج والعمرة يتحد محلها للرجال والنساء، ولامصلحة من تغيير وقته أو فصل محله فإن في ذلك عنتًا لايخفى على المتأمل، لهذا اقتصر التشريع على وضع ضوابط لمن قصد هذا الركن من النساء، تكفل صيانة أعراضهن، وتمنع من اختلاطهن بالرجال قدر الإمكان، ومن ذلك أن الشارع لم يوجب على المرأة حجًا أو عمرة ـ إذا لزمها السفر ـ إلاّ إذا كان معها محرم، ثم جعل الشارع رخصًا لمن كانت معه نساء أوضعفة ليست لغيره، كالدفع من مزدلفة بليل.
ومن مراعاة المرأة قول طائفة من الفقهاء بجواز تأخير الرمي إلى بعد الغروب، بل إن الفقهاء ـ مراعاةً لأصل المنع من الاختلاط في الشريعة ـ استحبوا للمرأة ما لم يستحبوا للرجل من نحو طوافها بعيدة عن البيت، ورخصوا لها في تأخير طواف القدوم إلى الليل خشية الزحام.
ومن مراعاة بعض أمهات المؤمنين للأمر بلزوم البيوت ونبذهن الاختلاط، اكتفاؤهن بحجة الفريضة، وترك التطوع، وهذا مأثور عن زينب وسودة رضي الله عنهما.
ومن مراعاة أهل العلم للمنع من الاختلاط قول ابن جماعة في (منسكه الكبير): «ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم
سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة
…
» إلى أن قال: «نسأل الله أن يلهم ولي الأمر إزالة المنكرات» ، قال الهيتمي بعد أن نقله:«فتأمَّلْه تجِدْهُ صريحًا في وجوب المنع حتى من الطواف عند ارتكابهن دواعي الفتنة» (1).
ومن مراعاتهم للمنع من الاختلاط في النسك قولهم: لايستحب لها أن تزاحم الرجال لاستلام الحجر الأسود.
وقولهم: لاتقف المرأة على الصفا للدعاء إلاّ إذا خلا المكان عن مزاحمة الرجال، ويكون سنة في حقها إذا خلا المكان.
ومما سبق نخلص إلى أن الشارع حف الحج والعمرة بأحكام تكفل منع الخلطة المحرمة ومن ذلك اشتراط المحرم للمسافرة، ومع ذلك ندب المرأة إلى ترك مزاحمة الرجال، واستحب لها الفقهاء لأجل ذلك ما لم يستحبوه للرجال» (2).
ثانيًا: إن الإسلام لم يُبِح الاختلاط بين الرجال والنساء إذا خشيت معه الفتنة لا في الطواف ولا في غيره لما يترتب عليه من المفاسد المحققة، كالنظر المحرم وما يتبعه من منكرات، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنِّي أَشْتَكِي (3)، فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَقْرَأُ بِـ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)} (الطور: 1 - 2). (رواه البخاري ومسلم).
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «إِنَّمَا أَمَرَهَا صلى الله عليه وآله وسلم
(1) الفتاوى الفقهية الكبرى، لابن حجر الهيتمي (1/ 201 - 202.
(2)
بتصرف من (الاختلاط بين الواقع والتشريع، دراسة فقهية: علمية تطبيقية في حكم الاختلاط وآثاره)، جمع وإعداد: إبراهيم بن عبد الله الأزرق، (ص 29).
(3)
(أَنِّي أَشْتَكِي) أَيْ أَنَّهَا كَانَتْ ضَعِيفَة لَا تَقْدِر عَلَى الطَّوَاف مَاشِيَة.
بِالطَّوَافِ مِنْ وَرَاء النَّاس لِشَيْئَيْنِ:
أَحَدهمَا: أَنَّ سُنَّة النِّسَاء التَّبَاعُد عَنْ الرِّجَال فِي الطَّوَاف.
وَالثَّانِي: أَنَّ قُرْبهَا يُخَاف مِنْهُ تَأَذِّي النَّاس بِدَابَّتِهَا، وَكَذَا إِذَا طَافَ الرَّجُل رَاكِبًا، وَإِنَّمَا طَافَتْ فِي حَال صَلَاة النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لِيَكُونَ أَسْتَر لَهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح» (1).
وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من صحيح البخاري: «وَإِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَطُوف مِنْ وَرَاء النَّاس لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا وَلَا تَقْطَع صُفُوفهمْ أَيْضًا وَلَا يَتَأَذَّوْنَ بِدَابَّتِهَا» (2).
وقال الباجي في شرحه لهذا الحديث من (الموطأ): «وَأَمَّا طَوَافُ النِّسَاءِ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ فَهُوَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْبَعِيرِ فَقَدْ طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى بَعِيرِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ (3)، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اتِّصَالِهِ بِالْبَيْتِ لَكِنْ مَنْ طَافَ غَيْرُهُ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى بَعِيرٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِنْ خَافَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا أَنْ يَبْعُدَ قَلِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْبَيْتِ زِحَامٌ وَأَمِنَ أَنْ يُؤْذِيَ أَحَدًا فَلْيَقْرُبْ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِهَا أَنْ تَطُوفَ وَرَاءَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْبَيْتِ فَكَانَ مِنْ سُنَّةِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُنَّ وَرَاءَ الرِّجَالِ كَالصَّلَاةِ».اهـ.
وفي صحيح البخاري أن ابن جريج قال لعطاء: «كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟» ، قال: «لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ:
(1) شرح صحيح مسلم (9/ 20).
(2)
فتح الباري (3/ 480).
(3)
رواه مسلم، والْمِحْجَن بِكَسْرِ الْمِيم، هُوَ عَصَا فِيهَا تَعَقُّف (أي انحناء والتواء) يَلْتَقِط بِهَا الرَّاكِب مَا سَقَطَ مِنْهُ. (بتصرف من شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 55).
«انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ» .قَالَتْ «انْطَلِقِي عَنْكِ» ، وَأَبَتْ».
(حَجْرَة) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْجِيم بَعْدهَا رَاءٍ، أَيْ نَاحِيَة، قَالَ الْقَزَّاز: هُوَ مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ: نَزَلَ فُلَان حَجْرَة مِنْ النَّاس أَيْ مُعْتَزِلًا.
(اِنْطَلِقِي عَنْك) أَيْ عَنْ جِهَةِ نَفْسك (1).
وبهذا يتبين ما أمر به الإسلام، وما شرعه رب الأنام.
ثالثًا: ما يحصل الآن حول الكعبة ـ شرفها الله ـ من اختلاط بصورة مذمومة، مخالفة لما أمر به الشرع ليس دليلًا على الجواز، لأننا نأخذ ديننا من الوحيين لا من واقع الناس، وإذا اضطر الطائف للطواف مختلطًا بالنساء فعليه أن يتجنب ملامسة النساء، والنظر إليهن.
وما نراه الآن من اختلاط الرجال بالنساء في الطواف مخالف للشرع، والعلماء ينكرونه وكذلك رجال الحسبة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في الحرم حيث يحثون النساء على الطواف خلف الرجال ولكنهم يواجهون صعوبة كبيرة بسبب جهل بعض الناس وعدم تجاوبهم وبسبب اختلاف لغاتهم، وسبب آخر وهو الخوف من الضياع فتظل المرأة مع محرمها خشية الافتراق والضياع.
أما في حال الزحام الشديد في الحج وغيره ففصل النساء عن الرجال مستحيل!
والأصل هو طواف النساء خلف الرجال كما بينت الأدلة.
ومما سبق يتبين أن قياس الاختلاط في العمل وغيره على الطواف بالبيت الحرام فهو قياس مع الفارق، فإن النساء كُنّ يَطُفْنَ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الرجال متسترات، لا يداخِلْنَهُم ولا يختلِطْنَ بهم، وكذا حالهن مع الرجال في مصلى العيد، فإنهن كن يخرجن متسترات، ويجلسن خلف الرجال في المصلى، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب
(1) فتح الباري (3/ 480).
الرجال خطبة العيد انصرف إلى النساء، فذكّرَهن ووعظَهُن، فلم يكن اختلاط بين الرجال والنساء، وكذا الحال في حضورهن الصلوات في المساجد، كُنَّ يخرجْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بمُروطِهِنَّ، ويصلِّينَ خلف الرجال، لا تخالط صفوفُهن صفوفَ الرجال (1).
رابعًا: إن الطواف بوضعه الحالي ورغم مخالفته للشرع إلا أنه لا يقارن بما يدعو إليه دعاة الاختلاط في العمل والتعليم، فهناك فرق كبير بين اختلاط عابر للحظات، وفي أماكن مفتوحة، وأمام الناس ولا يعرف فيه الرجال النساء، ولا يتجرؤون على الحديث معهن، وبين اختلاط دائم بين نفس الأشخاص لساعات طوال يوميًّا (2) وفي أماكن مغلقة حيث يجالس فيها الرجل زميلته ويقابلها أكثر من مقابلته لزوجته، بالإضافة إلى احتمال حدوث الخلوة والاستغلال الجنسي من أجل العلاوات والترقيات والبقاء في الوظيفة!
إن تشبيه هذا الاختلاط بالاختلاط في الحج أو الأسواق لعجيب حقًّا ولا يبرره إلا فقدان قائله للقدرة على التمييز أو أنه أراد تضليل الناس بأي طريقة فلم يجد سوى هذا القول الواهي!
إن الاختلاط الذي نهى الله عنه ليس هو أن يوجد رجال ونساء في بلد واحد أو في موضع واحد فإن هذا أمر لايقول به عالم ولا عاقل.
فالحج يجتمع فيه الرجال والنساء، والطرقات يسلكها رجال ونساء، وإنما المنهي عنه اختلاط مخصوص تقع به الفتنة أو يخشى من وقوعها وهو الذي يسعى إليه دعاة الاختلاط، والذي لاقى المسلمون من آثاره أعظم الويلات في أزمنتهم الأخيرة.
(1) باختصار من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (12/ 164 - 165)، فتاوى موقع الشبكة الإسلامية، بإشراف د. عبد الله الفقيه، (رقم الفتوى: 22371).
(2)
راجع: هل يقاس اختلاط التعليم والعمل على الاختلاط العابر؟ ص 78 من هذا الكتاب.