الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة العاشرة بعد المائة:
إن الإمام مالكًا أباح الاختلاط
؟
قد يستدل دعاة الاختلاط بأقوال منسوبة لبعض العلماء المعتبرين، قد لا تصح عنهم أصلًا، وإن صحت فعند التأمل لا تجد فيها ما يؤيد قول دعاة الاختلاط، وعلى فرض صحة أنها تؤيد قولهم، فإنه إنْ كان لا يُحْتَجّ بأقوال وأفعال الصحابة إن خالفت أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهيه؛ فمَن بَعدهم مِن العلماء أولى، وقد نهى الأئمة عن اتباع أقوالهم إن خالفت الكتاب والسنة.
ومن ذلك قولهم إن الإمام مالكًا أباح الاختلاط؟
قَالَ يَحْيَى: سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِى مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ مَعَ غُلَامِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ:«لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مَا يُعْرَفُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ» .
الجواب:
أولًا: هذا القول للإمام مالك رحمه الله، ليس فيه إباحة للاختلاط، بل إجابة لسؤال عن المرأة تأكل مع غير ذي محرم، فقال: «لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ مَا يُعْرَفُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ
…
وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْلُوَ مَعَ الرَّجُلِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةٌ».
فأين إجازة الإمام مالك للاختلاط في هذه الفتوى؟ وقد اشترط رحمه الله أن يكون جلوسها مع الرجال معروفًا لا يستنكر، كأن تكون مع الأقارب أو الأرحام أو
(1) موطأ مالك (2/ 614)، وقال محققه: صحيح إلى مالك.
الأصهار ونحوهم بحضرة محارمها وهي متحجبة (1).
ومما قد يلحق بذلك ما قد يضطر إليه الناس للأكل في مكان فيه رجال ونساء ومعها أحد محارمها في السفر أو في مِنًى أيام الحج مثلًا، فتأكل وهي منتقبة كما تُضطر إلى فعله بعض النساء في عصرنا الحاضر، فمثل هذا لا يستنكر.
فكيف يُفهم عن الإمام مالك رحمه الله جواز أكل المرأة مع غير محارمها وقد قال: «أرى للإمام أن يتقدم إلى الصُّنَّاع في قعود النساء إليهم، وأرى ألا تترك المرأة الشابة تجلس إلى الصُّنَّاع» (2).
فإذا كان رحمه الله يمنع من مجرد جلوس النساء مع الرجال الأجانب في الطرقات، فكيف يبيح الأكل معهم.
ولا يُتَصَوَّرُ أن يقصد الإمام مالك ما يحدث في بعض البيوت من أكل النساء مع الرجال غير المحارم، مع كشف النساء لوجوههن، بل وغير وجوههن، بزينة وبغير زينة، مما ينتج عنه كثير من المخالفات الشرعية من النظر والإعجاب وتعلق القلب واللمس بل وأحيانًا الفاحشة، وهذا الواقع لا ينكره إلا مكابر.
إن من الإنصاف أن يُفهم كلام الإمام مالك في ضوء الواقع الذي كان يعيش فيه الإمام مالك رحمه الله حيث الأصل أن النساء محتجبات لا يراهن غير محارمهن، والاختلاط هو الاستثناء، ومن التعسف فهم كلامه في ضوء واقعنا المعاصر حيث الأصل اختلاط النساء بالرجال غير المحارم، والاحتجاب هو الاستثناء.
(1) الجهد وحده دون مستند شرعي في إباحة الاختلاط لا يكفي لإثبات الأحكام، علي أبا بطين، عضو هيئة التدريس بالكلية التقنية بالقصيم.
(2)
البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة لابن رشد القرطبي المالكي (9/ 335) تحقيق: د/ محمد حجي وآخرون.
إن احتجاب النساء عن الرجال الأجانب ظل هو الأصل حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين الميلادي عندما بدأ بعض المغرورين ينخدع بحركة ما يسمى (تحرير المرأة).
وإذا قرأت ما سطره علماء الحملة الفرنسية الصليبية على مصر، من وصف للمجتمع المصري في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر، وجدت أن ستر الوجه عند الخروج من المنزل، وعدم الاختلاط حتى داخل البيوت كان هو الأصل عند حكام البلاد وعامة الشعب.
ومما قالوه: «النساء في كل الظروف لا يخرجن مطلقًا سافرات الوجوه، بل يغطين وجوههن بالبرقع
…
ولا يدخل الرجال مطلقًا ـ فيما عدا بعض الأهل الأقربين ـ إلى مسكن السيدات
…
ولم يستطع الرحالة السابقون على الغزو أن يتعرفوا على أحوال سيدات الطبقة المسيطرة، وذهبت أدراج الرياح كل توسلاتهم اللحوح؛ فلم يكن عظماء مصر ليسمحوا لأحد بأن يتطلع إلى جمال زوجاتهم» (1).
فإذا كان هذا حال المسلمين في تلك القرون فما ظنك بالقرن الثاني الهجري الذي عاش فيه الإمام مالك في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانيًا: غاية ما يفهم من كلام الإمام مالك رحمه الله إجازة الإمام مالك أن تأكل مع الأقارب أو الأرحام أو الأصهار ونحوهم بحضرة محارمها وهي متحجبة، فهل يوجد مَحْرَم في الأماكن المختلطة في العمل والدراسة.
ثالثًا: إن كان دعاة الاختلاط يستدلون لدعواهم بفهمهم السقيم لكلام الإمام
(1) وصف مصر (1/ 64 - 65) تأليف ج دي شابرول، ترجمة زهير الشايب.
مالك رحمه الله فقد ورد عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ما يخالف ذلك، فقد قال العلامة السفاريني الحنبلي:«النَّظَرُ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ جُلُّ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَالنَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى جَمِيعِهَا فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه.قَالَ رضي الله عنه: «لَا يَأْكُلُ مَعَ مُطَلَّقَتِهِ، هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا فَكَيْفَ يَأْكُلُ مَعَهَا يَنْظُرُ إلَى كَفِّهَا، لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ» (1).
وقد تعلَّم المسلمون من الإمام مالك رحمه الله قوله: «إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه» (2).
وقد رَدَّ الفقيه المالكي القرطبي الإمام الحافظ ابن عبد البر (3) على الإمام مالك قوله، فقال في شرحه (للموطأ) (4) تعليقًا على قول الإمام مالك السابق:
«في كتاب الله تعالى شفاء من هذا المعنى؛ قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور:31)، كما قال:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور:30).وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِذِي مَحْرَم (5) وَلَا تُسًافِر امْرَأَةٌ
(1) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، للشيخ محمد السفاريني الحنبلي (1/ 97).
(2)
راجع أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها في (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشيخ الألباني، ص21 - 29).
(3)
هو الحافظ جمال الدين أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأديب الفقيه المالكي الشهير بابن عبد البر القرطبي، ولد سنة 368، وتوفي بشاطبة سنة 463، من تصانيفه: آداب العلم. الأجوبة المرعبة على المسائل المستغربة من صحيح البخاري.
(4)
المسمى: الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار.
(5)
لم أجده بهذا اللفظ، ولكن رواه البخاري بلفظ:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» ورواه مسلم بلفظ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَاّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» .
بَرِيدًا فَمَا فَوْقَهُ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» (1).
وقال جَرِيرِ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِى أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِى (2).
وقال لعليٍّ رضي الله عنه: «لَكَ النَّظْرَةُ الأولَى وَلَيْسَ لَكَ الأُخْرَى» (3).
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» .
ورواه البخاري بلفظ: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» . و «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَاّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ» . و «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلَاّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ»
ورواه مسلم بلفظ: «لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» و «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَاّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» .و «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلَاّ وَمَعَهَا أَبُوهَا أَوِ ابْنُهَا أَوْ زَوْجُهَا أَوْ أَخُوهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» و «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» .و «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ إِلَاّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ زَوْجُهَا» .و «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» .و «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» .و «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ إِلَاّ وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا» .
ولم أجده بلفظ: «بريدًا فما فوقه» .
لكن رواه ابن خزيمة وابن حبان بلفظ: «لَا تُسًافِر المَرْأَةٌ بَرِيدًا إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» ، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: إسناده صحيح، وكذا قال د. محمد مصطفى الأعظمي الأعظمي في تعليقه على صحيح ابن خزيمة.
ورواه أبو داود، والبيهقي، والحاكم، وابن عساكر بلفظ:«لا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ بَرِيدًا إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ يَحْرُمُ عَلَيْهَا» .
وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي.
وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (رقم 13258).
ولكنه في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، رقم 5727) قال:«ثم تبينت أن الحديث بلفظ «بريدًا» شاذ، والمحفوظ بلفظ:«. . . يوم وليلة. . .» .وحكم عليه بالشذود أيضًا في (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، رقم 567)، و (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان رقم 2710).
والبريد: المسافة بين كل منزلين من منازل الطريق، وهي أميال اختُلِف في عددها.
(2)
رواه مسلم.
(3)
لم أجده بهذا اللفظ ولكن رواه أبو داود والترمذي بلفظ: «يَا عَلِىُّ، لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . (وحسنه الألباني).
وهذا تفسير حديث جرير أنه أمره أن يصرف بصره عن النظرة الثانية لأن النظرة الأولى غُلِبَ عليها بالفجاءة.
ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمنه خير من زمننا هذا (1).
وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذاتِ مَحْرَم نظر شهوة يرددها.
وقال عاصم الأحول: «قلت للشعبي الرجل ينظر إلى المرأة لا يرى منها مُحَرّمًا؟» .
قال: «ليس لك أن تتبعها بعينك» (2).
قال أبو عمر (الإمام ابن عبد البر): «فأين المجالسة والمؤاكلة من هذا؟!!» .
قد جاءت رخصة في المملوك الوغد (3) وفي معاني من هذا الباب تركت ذكرها لأني لم أرَ من الصواب إلا أن يكون المملوك من غير أولى الإربة فيكون حكمه حكم الأطفال الذين لا يفطنون لعورات النساء وكم من المماليك الأوغاد أتى منهم الفساد» (4).
فالإمام ابن عبد البر بعد أن بَيَّنَ نَهْيَ الإسلام عن الخلوة وأمْرَهُ بغض البصر قال: «فأين المجالسة والمؤاكلة من هذا؟!!» ، أي فإذا كان النظر فقط محرمًّا، فكيف بالجلوس مع النساء والأكل معهن، واشترط أن يكون المملوك من غير أولى الإربة، وهم ممن لا حاجة لهم إلى النساء؛ حتى لا يحصل الفساد.
(1) وزمن الإمام ابن عبد البر خير بكثير من زمننا هذا.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في (المصنف) برقم 17216.
(3)
الوَغْدُ: الخفِيف الأَحمقُ الضعيفُ العقْلِ الرذلُ الدنيءُ وقيل الضعيف في بدنه، والوَغْدُ الصبيّ. (انظر: لسان العرب، مادة وغد).
(4)
الاستذكار (8/ 387 - 388).
وكيف يتمكن الرجل من غض بصره عن امرأة تأكل معه في نفس المكان ليس بينه وبينها حجاب، وكيف تتمكن هي من غض بصرها عنه، إن الأمر بغض البصر دليل على المنع من الاختلاط.
قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30 - 31).
قال الدكتور عبد الله ناصح علوان:
«
…
كيف نتصور غض البصر لكل من الرجل والمرأة وهما مجتمعان في مكان واحد؛ فالآية إذن في مدلولها تنهى عن الاختلاط وتحرمه» (1).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من حق الطريق: «غَضّ البَصَر» (رواه البخاري ومسلم).
فإذا كان غض البصر واجبًا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة مرورًا عابرًا، فكيف يأكل الرجل مع المرأة الأجنبية؟!
قال العلاء بن زياد: «كان يقال: لا تُتْبِعَنَّ نظركَ حُسنَ رداءِ امرأة؛ فإن النظر يجعل شهوة في القلب» (2).
رابعًا: هل يقول دعاة الاختلاط بجواز الخلوة بالمرأة الأجنبية استنادًا إلى قول الإمام مالك في هذا الأثر: «وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْلُوَ مَعَ الرَّجُلِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةٌ» !!!! ويخالفون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَاّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ» (رواه البخاري).
(1) تربية الأولاد في الإسلام (1/ 204).
(2)
مصنف ابن أبي شيبة، برقم (17215).
معنى الكراهة في كلام الأئمة:
إن من يتبعون الشهوات غالبًا ما يستدلون بزلّات العلماء، ولكن ليس لهم في كلام الإمام مالك ما يؤيد دعواهم، فمعنى كلام الإمام مالك رحمه الله تحريم الخلوة بالأجنبية وليس كراهيتها فقط.
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله: «وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح المتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبيلين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك.
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحًا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ويتحامون العبارة خوفًا مما في الآية من قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (النحل: 116)، وحكى مالك عمن تقدم هذا المعنى.
فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه، وما أشبه ذلك، فلا تَقْطَعَنّ على أنهم يريدون التنزيه فقط» (1).
ومما يوضح كلام الإمام الشاطبي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «باب مَا جَاءَ فِى كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الْحَائِضِ» ، وذكر فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِى دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم» (2) فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية؟!!
(1) الاعتصام (2/ 397، 398).
(2)
رواه الإمام الترمذي (135) وصححه الشيخ الألباني.