الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الثانية عشرة:
أخذ الإماء بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
-:
حديث أنس بن مَالِك رضي الله عنه قَالَ: «كانَتِ الأمَةُ مِنْ إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ لِتَأْخُذُ بِيَدِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ» (رواه البخاري).
الجواب: مِنْ وجهين:
الأوّل: لماذا نتعلق بالمتشابه وعندنا القول المحكم لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ» (رواه البيهقي والطبراني في (المعجم الكبير)، وقال المنذري:«رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح» . وقال الهيثمي: «رجاله رجال الصحيح» .وصححه الألباني. (1)
الثاني: أن دلالة «لِتَأْخُذُ بِيَدِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» على المس غير واضحة؛ إذ ربما يراد بذلك الإشارة إلى غاية التصرف واللين، قَالَ الحافظ ابن حَجَر:«وَالْمَقْصُود مِنْ الْأَخْذ بِالْيَدِ لَازِمُهُ وَهُوَ الرِّفْق وَالِانْقِيَاد. وَقَدْ اِشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاع مِنْ الْمُبَالَغَة فِي التَّوَاضُع لِذِكْرِهِ الْمَرْأَة دُون الرَّجُل، وَالْأَمَة دُون الْحُرَّة، وَحَيْثُ عَمَّمَ بِلَفْظِ الْإِمَاء أَيّ أَمَة كَانَتْ، وَبِقَوْلِهِ «حَيْثُ شَاءَتْ» أَيْ مِنْ الْأَمْكِنَة.
وَالتَّعْبِير بِالْأَخْذِ بِالْيَدِ إِشَارَة إِلَى غَايَة التَّصَرُّف حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَاجَتهَا خَارِج الْمَدِينَة وَالْتَمَسَتْ مِنْهُ مُسَاعَدَتهَا فِي تِلْكَ الْحَاجَة عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا دَالّ عَلَى مَزِيد تَوَاضُعه وَبَرَاءَته مِنْ جَمِيع أَنْوَاع الْكِبْر صلى الله عليه وآله وسلم» (2).
تنبيه:
روى الإمام أحمد في المسند، وابن ماجه في سننه، وابن أبي الدنيا في التواضع
(1) مجمع الزوائد (4/ 326)، الترغيب (3/ 66)، السلسلة الصحيحة (برقم 226).
(2)
فتح الباري (10/ 490).
والخمول، وأبو يعلى في مسنده، وأبو الشيخ في أخلاق النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو نُعَيم في الحلية جميعهم من طرق عن شعبة بن الحجاج عن علي بن زيد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:«إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَتِهَا» .
هذه الزيادة التي فوق الخط «فَمَا يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا» لا تصح؛ قَالَ البوصيريُّ في (مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجة): «هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان» (1).
وضعّف إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على هذا الحديث من مسند الإمام أحمد بن حنبل.
(1) مصباح الزجاجة (4/ 230).
الشبهة الثالثة عشرة:
عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن تركب خلفه:
حَدِيث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالَتْ: «تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَالَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ ولَا مَمْلُوكٍ ولا شيْءٍ غَيْرَ ناضِجٍ وغيْرَ فَرَسِهِ، فَكنْت أعْلِفُ فَرَسَهُ وأسْتَقِي المَاءَ وأخْرِزُ غَرْبَهُ وأعْجِنُ، ولَمْ أكُنْ أُحْسِنُ أخْبِزُ، وكانَ يخْبِزُ جارَاتٌ لِي مِنَ الأنْصَارِ، وكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وكُنْتُ أنْقُلُ النَّوَى مِنْ أرْضِ الزُّبَيْرِ الّتِّي أقْطَعَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا والنَّوَى عَلَى رَأسِي فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ومَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ فَدَعانِي، ثُمَّ قَالَ: «إخْ إخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فاسْتَحْيَيْتُ أنْ أسِيرَ مَعَ الرِّجالِ، وذَكَرْتُ الزُّبَيْر وغَيْرَتَهُ ـ وكانَ أغْيَرَ النَّاسِ ـ فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى فَجِئْتُ الزبَيْرَ، فَقْلُتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وعلَى رأسِي النَّوَى ومَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أصْحابِهِ فأناحَ لِأَرْكَبَ فاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ:«وَاللهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كانَ أشَدَّ عَليَّ مِنْ ركُوبِكِ مَعَهُ» ، قالَتْ: حتَّى أرسَلَ إلَيَّ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ يَكْفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَنِي» (رواه البخاري ومسلم)(1).
والشاهد من الحَدِيث قولها: «فَدَعانِي ثُمَّ قَالَ: «إخْ إخْ» لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ».
ربما يقول قائل: كيف يحملها خلفه، هي ليست محرمًا له، وربما يحصل نوع مسيس؟.
الجواب:
1 -
أنّ في دلالة مفهوم الحَدِيث احتمالًا؛ قَالَ الحافظ ابن حَجَر:
«قَوْله (لِيَحْمِلنِي خَلْفه) كَأَنَّهَا فَهِمَتْ ذَلِكَ مِنْ قَرِينَة الْحَال، وَإِلَّا فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون
(1)(غَرْبه) هُوَ الدَّلْو. قَوْله (وَأَعْجِن) أَيْ الدَّقِيق. قَوْله (وَكُنَّ نِسْوَة صَدْقٍ) أَضَافَتْهُنَّ إِلَى الصِّدْق مُبَالَغَة فِي تَلَبُّسهنَّ بِهِ فِي حُسْن الْعِشْرَة وَالْوَفَاء بِالْعَهْدِ. قَوْله (وَهِيَ مِنِّي) أَيْ مِنْ مَكَان سُكْنَاهَا.
قَوْله (فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: إِخْ إِخْ) كَلِمَة تُقَال لِلْبَعِيرِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُنِيخهُ (باختصار من فتح الباري).
- صلى الله عليه وآله وسلم أَرَادَ أَنْ يُرْكِبهَا وَمَا مَعَهَا وَيَرْكَب هُوَ شَيْئًا آخَر غَيْر ذَلِكَ» (1).
وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
2 -
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من (صحيح البخاري): «وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الْقِصَّة كَانَتْ قَبْل نُزُول الْحِجَاب وَمَشْرُوعِيَّته» (2).
ويؤيد ذلك رواية البخاري عن هِشَام بن عروة عن أَبِىه عَنْ أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِى بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى رَأْسِى، وَهْىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ» . وَقَالَ أَبُو ضَمْرَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِى النَّضِيرِ».
وقد أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير قبل نزول آيات الحجاب؛ فيكون أمر هذه القصة كله قبل نزول أحكام الحجاب (4).
3 -
الإرداف أحيانًا لا يستلزم المماسة كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الرد على الشبهة
…
الرابعة والسبعين (5).
فالحَدِيثُ ليس فيه خلوة، ولا نظر، ودلالة المماسة محتملة كما تقدم (6).
(1) فتح الباري (9/ 323).
(2)
نفس المصدر السابق.
(3)
نفس المصدر السابق.
(4)
انظر الاختلاط بين الجنسين أحكامه وآثاره، د محمد بن عبد الله المسيميري، د محمد بن عبد الله الهبدان (ص 191، 193).
(5)
انظر (ص517).
(6)
إشكال وجوابه في حديث أم حرام بنت ملحان، لعلي بن عبد الله بن شديد الصياح المطيري (ص 53 - 55).
الشبهة الرابعة عشرة:
حديث خلوة النبى صلى الله عليه وآله وسلم بامرأة من الأنصار:
عن أَنَسٍ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَكَلَّمَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» مَرَّتَيْنِ».وفي رواية عنه: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَخَلَا بِهَا فَقَالَ: «وَاللهِ إِنَّكُنَّ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ» . (رواه البخاري ومسلم).
الجواب:
أولًا: ليس في هذا الحديث دليل على جواز الخلوة المحرمة بالأجنبية كما يظن أهل الأهواء، وليس فيها دليل على الاختلاط المحرم، فغاية ما في الأمر أن تلك المرأة التى خلى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ربما كانت لها مسألة أرادت أن تستفتى فيها النبى صلى الله عليه وآله وسلم وتلك المسألة مما تستحيي من ذكره النساء بحضرة الناس، وكانت إجابة النبى صلى الله عليه وآله وسلم لها تقتضي أن يحدثها في جانب بعض الطرق حتى يسمع حاجتها، ويقضيها لها، وهذه الطرق من الأماكن العامة التى لا تخلو من مرور الناس غالبًا.
فهذه حاجة طارئة، وليست كالاختلاط لساعات في العمل، أو الدراسة (1).
ثانيًا: ما اسم عنوان الباب الذى ذكر تحته الإمام البخارى هذا الحديث؟
الإجابة: «باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ» .
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذ العنوان من (صحيح البخاري): «أَيْ لَا يَخْلُو بِهَا بِحَيْثُ تَحْتَجِب أَشْخَاصهمَا عَنْهُمْ، بَلْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامهمَا إِذَا كَانَ بِمَا يُخَافِت بِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحْيِ الْمَرْأَة مِنْ ذِكْرِهِ بَيْن النَّاس.
(1) راجع: هل يقاس اختلاط التعليم والعمل على الاختلاط العابر؟ (ص78) من هذا الكتاب.
وَأَخَذَ الْمُصَنِّف قَوْله فِي التَّرْجَمَة (عِنْد النَّاس) مِنْ قَوْله فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث: «فَخَلَا بِهَا فِي بَعْض الطُّرُق أَوْ فِي بَعْض السِّكَك» وَهِيَ الطُّرُق الْمَسْلُوكَة الَّتِي لَا تَنْفَكّ عَنْ مُرُور النَّاس غَالِبًا.
قَوْله (فَخَلَا بِهَا رَسُول اللهِ) أَيْ فِي بَعْض الطُّرُق، قَالَ الْمُهَلَّب: لَمْ يُرِدْ أَنَس أَنَّهُ خَلَا بِهَا بِحَيْثُ غَابَ عَنْ أَبْصَار مَنْ كَانَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا خَلَا بِهَا بِحَيْثُ لَا يَسْمَع مَنْ حَضَرَ شَكْوَاهَا وَلَا مَا دَار بَيْنهمَا مِنْ الْكَلَام، وَلِهَذَا سَمِعَ أَنَس آخِر الْكَلَام فَنَقَلَهُ وَلَمْ يَنْقُل مَا دَار بَيْنهمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعهُ اهـ
…
وَفِي الْحَدِيث مَنْقَبَة لِلْأَنْصَارِ
…
وَفِيهِ سَعَة حِلْمه وَتَوَاضُعه صلى الله عليه وسلم وَصَبْره عَلَى قَضَاء حَوَائِج الصَّغِير وَالْكَبِير، وَفِيهِ أَنَّ مُفَاوَضَة الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة سِرًّا لَا يَقْدَح فِي الدِّين عِنْد أَمْن الْفِتْنَة، وَلَكِنَّ الْأَمْر كَمَا قَالَتْ عَائِشَة:«وَأَيّكُمْ يَمْلِك إِرْبه كَمَا كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَمْلِك إِرْبه» (1).
وقال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «هَذِهِ الْمَرْأَة إِمَّا مَحْرَم لَهُ كَأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُخْتهَا، وَإِمَّا الْمُرَاد بِالْخَلْوَةِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ سُؤَالًا خَفِيًّا بِحَضْرَةِ نَاس، وَلَمْ يَكُنْ خَلْوَة مُطْلَقَة وَهِيَ الْخَلْوَة الْمَنْهِيّ عَنْهَا» (2).
وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً» ، فَقَالَ:«يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ» ، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من (صحيح مسلم): «قَوْله: (خَلَا مَعَهَا
(1) باختصار من فتح الباري (9/ 331 - 332) وحديث عَائِشَة رضي الله عنها: «وَأَيّكُمْ يَمْلِك إِرْبه كَمَا كَانَ صلى الله عليه وآله وسلم يَمْلِك إِرْبه» رواه البخاري ومسلم.
(2)
شرح صحيح مسلم (16/ 68).
فِي بَعْض الطُّرُق) أَيْ وَقَفَ مَعَهَا فِي طَرِيق مَسْلُوك لِيَقْضِيَ حَاجَتهَا وَيُفْتِيهَا فِي الْخَلْوَة، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْخَلْوَة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذَا كَانَ فِي مَمَرّ النَّاس وَمُشَاهَدَتهمْ إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا، لَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهَا، لِأَنَّ مَسْأَلَتَهَا مِمَّا لَا يُظْهِرُهُ» (1).
تنبيه: ليس فى قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» مَرَّتَيْنِ ـ ما يطعن فى عصمته صلى الله عليه وآله وسلم فى سلوكه وهديه، لأن هذه الكلمة قالها النبى صلى الله عليه وآله وسلم جهارًا على ملأ من الناس لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس.
يدل على ذلك ما أخرجه البخارى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَبْصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نِسَاءً وَصِبْيَانًا مُقْبِلِينَ مِنْ عُرْسٍ فَقَامَ مُمْتَنًّا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ» .
وهو على طريق الإجمال، أى: مجموعكم أحب إلى من مجموع غيركم؛ فالكلمة إذن لم يَقُلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغازلًا للمرأة الأنصارية التى اختلى بها ليقضى حاجتها؛ كما يحاول أن يزعم ويستنتج أعداء الإسلام! وإنما قالها صلى الله عليه وآله وسلم، خطابًا لمجموع الأنصار.
وتأمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّكُمْ» ولم يقل «إنَّكِ» .
ومما يدل على ذلك أن الراوى للحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، سمع هذه الجملة:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» .وسمع كم مرة كررها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا كانت الكلمة مقصودًا بها المغازلة؛ فلِمَ جهر بها صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعها أنس؟!
ولِمَ لَمْ يُسِرّ بها حتى لا يسمعها أنس إن كان مقصودًا بها ما يزعمه أعداء عصمته صلى الله عليه وآله وسلم.
إن هذه الجملة: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» ، قالها المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم منقبة للأنصار، حيث جعل حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق:
(1) شرح صحيح مسلم (15/ 83).
«الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ» (رواه البخاري ومسلم).وفى رواية: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» . (رواه البخاري ومسلم)(1).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من (صحيح البخاري): «وَخُصُّوا بِهَذِهِ الْمَنْقَبَة الْعُظْمَى لِمَا فَازُوا بِهِ دُون غَيْرهمْ مِنْ الْقَبَائِل مِنْ إِيوَاء النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَنْ مَعَهُ وَالْقِيَام بِأَمْرِهِمْ وَمُوَاسَاتهمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالهمْ وَإِيثَارهمْ إِيَّاهُمْ فِي كَثِير مِنْ الْأُمُور عَلَى أَنْفُسهمْ، فَكَانَ صَنِيعهمْ لِذَلِكَ مُوجِبًا لِمُعَادَاتِهِمْ جَمِيع الْفِرَق الْمَوْجُودِينَ مِنْ عَرَب وَعَجَم، وَالْعَدَاوَة تَجُرّ الْبُغْض، ثُمَّ كَانَ مَا اِخْتَصُّوا بِهِ مِمَّا ذُكِرَ مُوجِبًا لِلْحَسَدِ، وَالْحَسَد يَجُرّ الْبُغْض.
فَلِهَذَا جَاءَ التَّحْذِير مِنْ بُغْضهمْ وَالتَّرْغِيب فِي حُبّهمْ حَتَّى جُعِلَ ذَلِكَ آيَة الْإِيمَان وَالنِّفَاق، تَنْوِيهًا بِعَظِيمِ فَضْلهمْ، وَتَنْبِيهًا عَلَى كَرِيم فِعْلهمْ، وَإِنْ كَانَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مُشَارِكًا لَهُمْ فِي الْفَضْل الْمَذْكُور كُلٌّ بِقِسْطِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ عَلِيّ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«لَا يُحِبّك إِلَّا مُؤْمِن وَلَا يَبْغَضك إِلَّا مُنَافِق» ، وَهَذَا جَارٍ بِاطِّرَادٍ فِي أَعْيَان الصَّحَابَة، لِتَحَقُّقِ مُشْتَرَك الْإِكْرَام، لِمَا لَهُمْ مِنْ حُسْن الْغِنَاء فِي الدِّين» (2).
(1) انظر: رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى ضوء السنة النبوية الشريفة، للدكتور عماد السيد الشربينى، المدرس بقسم الحديث وعلومه، كلية أصول الدين بالقاهرة، جامعة الأزهر.
(2)
فتح الباري (1/ 62).